العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الحديث عن التجديد يتم في نقطتين:

النقطة الأولى: في بيان مواقع التجديد.

النقطة الثانية: في بيان البراهين التي سيقت وأقيمت على ضرورة التجديد.

النقطة الأولى: في بيان مواقع التجديد.

التجديد له مواقع ثلاثة: 

التجديد في نفس الحكم.

التجديد في طرق الحكم.

التجديد في صياغة الحكم.

فالموقع الأول: هو التجديد في نفس الحكم:

وأطروحة التجديد في نفس الحكم طرحها كثيرٌ من الأقلام المعاصرة, سواءً منها الأقلام المحسوبة على الفكر العلماني أم الأقلام المحسوبة على الفكر الإسلامي, والكلام هو في ما هو المقصود من التجديد في نفس الحكم.

نقول: إن أصحاب هذه الأطروحة يقسمون المفاهيم الدينية إلى قسمين:

أ ـ معتقدات ب ـ  قوانين.

فالمعتقدات: وهي مجموعة من المفاهيم التي يدين ويعتقد بها الإنسان المسلم (كالتوحيد والنبوة والمعاد) وهذه لا بحث فيها, وليست داخلة ضمن أطروحة قسم التجديد.

والقوانين: هي عبارة عن الأحكام التشريعية التي جاء بها النبي المرسل(صلى الله عليه وآله) وهذه القوانين أيضاً تنقسم إلى قسمين: قوانين تعبدية, وقوانين معللة.

القوانين التعبدية: وهي القوانين التي لم يتوصل الذهن لاستكشاف مناطها أو استكشاف علتها, ولنفترض كثيراً من أحكام العبادات من هذا القبيل (وجوب الصلاة, تحديد أعداد الصلوات, وجوب الصيام) هذه أحكامٌ غيبية, أحكامٌ تعبدية لم يصل العقل إلى استكشاف مناطاتها أو عللها بشكل واضح, وهذه أيضاً لم تدخل ضمن التجديد.

ب ـ وأما القوانين المعللة: وهي القوانين التي استكشف العقل مناطها أو علتها: إما من خلال قرينة لفظية كقوله تعالى:{... فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى... }([2]) وكذا في قوله تعالى في حرمة الربا وهو  {... وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ...}([3]) فقد علل حرمة الربا بنفي الظلم وهذا حكمٌ معلل, وكذا في قوله تعالى في حجية خبر الثقة كما يذكر علماء الأصول وهو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}([4]).

فعندنا قسمٌ من القوانين معللة, فإما أن يكتشف الذهن علتها من خلال القرائن اللفظية, وإما أن يكتشف الذهن علتها من خلال المرتكزات ومن خلال  القرائن السياقية والحالية مثلاً: ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) قال بعض الفقهاء: لا موضوعية للبينات ولا موضوعية للأيمان ونحن نفهم بمقتضى المرتكزات العرفية أن استخدام البينات والأيمان إنما هي طرقٌ لرفع الخصومة والمنازعة؛ وبالتالي فمثلُ هذا الحديث يشمل كل طريقٍ عقلائي رافع للخصومة ومستوجب لحل المنازعة وإن لم ينص عليه النبي (صلى الله عليه وآله).

النتيجة: إن التجديد في الحكم يقصد به التجديد في هذا القسم من الأحكام, ألا وهو الأحكام المعللة التي استكشفنا علتها من خلال قرائن لفظية أو من خلال قرائن سياقية أو من خلال قرائن إرتكازية. هذه المساحة هي مساحة التجديد وهي الأحكام المعللة. وهذه الأمثلة التي أذكرها لا يعني أنني أتبناها بل أذكرها من باب المثال وسيأتي مناقشتها.

فالتجديد بثلاثة أنواع: إما بالحذف أو بالتضييق أو بالتوسعة.

1 ـ النوع الأول: وهو التجديد بالحذف: مثلاً؛ ما يصر عليه الكثير من العلمانيين من أن جعل القرآن الكريم شهادة المرأة نصف شهادة الرجل  يقولون إن هذا الحكم معلل, وتعليله بمعرضية شهادة المرأة للضلالة فالمرأة في معرضية الضلال ﴿... فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى...}([5]) بما أن هذا الحكم معللٌ بمعرضية الضلال, فلو فرضنا في زماننا هذا أن هذه العلة انتفت, حيث أصبحت المرأة نتيجة تنورها ونتيجة ثقافتها ونتيجة تقدمها في موقعها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أصبح احتمال الضلال في المرأة كاحتمال الضلال في الرجل تماماً, أي أصبحت معرضية المرأة  للضلال كمعرضية الرجل للضلال, فحينئذٍ أي موجب لجعل شهادتها نصف شهادة الرجل مع أن الرجل والمرأة تساويا من حيث العلة وتساويا من حيث الملاك؟, هذا هو التجديد بالحذف.

2 ـ النوع الثاني: التجديد بالتضييق: مثلاً لنفترض حرمة الربا كما أفتى فقهاء المسلمين إلا ما قام النص على استثنائه, نحو ما ورد من (أن لا ربا بين الوالد وولده), (وليس بيننا وبين أهل حربنا ربا نأخذُ منهم ولا نعطيهم) وأمثال ذلك من المخصصات, يقال: إن ملاك تحريم الربا هو الظلم {... وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ...}([6]) فالعلة والمناط في حرمة الربا أن الربا مستلزمٌ للظلم, فلو فرضنا انتفاء هذا المناط لم يكن الربا مستلزماً للظلم، مثلاً: لم تكن العملة تعيش تضخماً في الأزمنة السابقة والقرون السابقة لذلك كان أخذ الفائدة الربوية للمائة بالمائة وعشرة ظلماً لأن أخذ الفائدة من دون جهد ومن دون بذل طاقة يعدُ أكلاً للمال بالباطل فيكونُ ظلماً, أما في زماننا هذا حيث تعاني العملة تضخماً بمرور الوقت, حينئذٍ إذا أخذ المقرض من المقترض فائدةً يتدارك بها تضخم العملة.

يعني مثلاً أقرضهُ مئة ألف دولار, وأنا أشخص أن مئة ألف دولار لمدة خمس سنوات قادمة سوف تنقص قيمتها الشرائية نتيجة تضخم العملة إلى ما يساوي ألف دولار فأنا من الآن أقول له (أقرضك مائة ألف بمائة وألف وآخذ الفائدة الربوية تداركاً لتضخم العملة أو تداركاً لما يحتملُ من تضخم العملة) فهذا لا يكونُ ظلماً بل محافظة على مالية المال المقترَّض.

إذاً: بما أن المناط في حرمة الربا كون الربا مستلزماً للظلم فلا محالة تنتفي الحرمة عند انتفاء هذا المناط عندما لا يكونُ أخذ الفائدة الربويةِ ظلماً.

3 ـ النوع الثالث: وهو التجديد بالتوسعة: كما مثلنا به حيث ورد عن الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) (إنما أقضي بينكم بالبيناتِ والأيمان) نحنُ لو اقتصرنا على حرفية النص لقلنا بأن الرافع للخصومة إما بينة وإما يمين, وأما إذا استكشفنا ملاك هذا الحكم من خلال المرتكزات العرفية, ومن خلال المرتكزات العقلائية وقلنا: إنما كانت البينة واليمين طريقاً لحسم النزاع ولرفع الخصومة باعتبار أنهما أمارتان عقلائيتان للوصول إلى الواقع, فأيُ أمارةٍ عقلائيةٍ أخرى يمكن أن تحل محل اليمين أو تحل محل البينة؟ مثلاً تشريح جثة القتيل لاكتشاف الجريمة ودراسة بصمات الأصابع لاكتشاف الجريمة, وغير ذلك من الأمارات العقلائية التي تعدُ أمارةً وطريقاً للوصول إلى الواقع حينئذٍ تندرج هذه الأمارات تحت قوله (بالبينات) لأنها مصداقٌ للبينة فإن البينة ما يوجب البيان والوضوح, وضوح الواقع وبيانه.

إذاً: فنحن من خلال مرتكزاتنا العرفية نوسع ضوابط القضاء ونوسع طرق القضاء لما يشمل الطرق العقلائية التي توجب البيان والوضوح من حيث الوصول إلى الواقع, إذاً: هذا هو التجديد في الحكم.

التجديد في الموقع الثاني: وهو التجديد في طريق الحكم:

وهو عبارة عن الأدوات التي يستخدمها الفقيه من أجل تحديد الحكم الشرعي من قبيل علم الأصول وعلم الرجال, فعندما نقول التجديد في طريق الحكم فقصدنا واضح هو التجديد والتطوير في أدوات الاستنباط التي يستخدمها الفقيه من أجل الوصول إلى تحديد الحكم الشرعي.

وهنا أذكر أمثلة لم تطرح سابقاً وهي كأمثلة لتجديد أدوات الاستنباط, وهي محلٌ للبحثِ والنقد, فأقول:

1ـ المثال الأول: التفكيك والتمييز بين الظهور الذاتي والظهور الموضوعي:

فقد ذكر السيد الشهيد الصدر (قده) في أصوله وكذا بعض الأعلام المعاصرين: أن هناك ظهوراً ذاتياً وهناك ظهوراً موضوعياً وأن موضوع الحجية هو الظهور الموضوعي وليس الظهور الذاتي, هذا هو المقدار الذي ذكره السيد الصدر (قده) وحينئذٍ لا بد لنا أن نعقد بحثاً, حول ما هي  المناشئ العقلائية لتحقيق الظهور الموضوعي كي نميز بها الظهور الذاتي من الظهور الموضوعي, فهنا نحتاجُ إلى بحثٍ أصوليٍ يتركز على استقراء المناشئ العقلائية التي تساهم في خلق وفي تحقيق الظهور الموضوعي الذي يكون مناطاً للحجية مقابل الظهور الذاتي الذي لا قيمة له في مجال الحجية.

2 ـ المثال الثاني: تقويم القرائن, فعندما تفتح أي كتاب فقهي ككتاب المستمسك أو التنقيح للسيد الخوئي (قده) أو غير ذلك من الكتب الفقهية, تجد أثناء الكلام يقول (هذا بمقتضى قرينة مناسبة الحكم للموضوع) أو  (هذا بمقتضى قرينة السياق) فهذه الأمور لم تبحث في الأصول بل يواجهها الطالب أثناء مباشرته للكتب وليس لها ذكرٌ في كتب الأصول, فهنا نحتاج إلى بحوث جديدة في هذا الباب, فمثلاً: مناسبة الحكم للموضوع ما هو المرجع في تحديد مناسبة الحكم للموضوع؟, فمناسبة الحكم للموضوع قد تنتزع من مرتكزات متشرعية وقد تنتزع من مرتكزات عقلائية وقد تنتزع من أحكام عقلية بديهية.

يتبع =

ـــــــــــــــــ

([1]) محاضرة ألقاها سماحة السيد منير الخباز بتاريخ 22 / ربيع الأول ـ 1425 هـ في قاعة منتدى جبل عامل الإسلامي/ قم المقدسة.

*  أستاذ في الحوزة العلمية.

([2]) البقرة: 282.

([3]) البقرة: 279.

([4]) الحجرات: 6.

([5]) البقرة: 282.

([6]) البقرة: 279.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية