العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

مفهوم العزّة في القرآن الكريم

الشيخ حسن الرميثي*

إذا استقرأنا الآيات الشريفة في القرآن الكريم الوارد فيها كلمة (العزة)، نجد أنها تطلق على معانٍ كثيرة:

منها: أنها حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب، قال تعالى {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا}([1])، أي يطلبون من الكفار القوّة والغلبة والمنعة، فإن الغلبة والمنعة من الله سبحانه وتعالى.

ومنها: العزيز، وهو الذي يقْهِر ولا يُقهر، قال تعالى {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}([2])، وقوله تعالى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}([3])، وقوله تعالى {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}([4]) أي غلبني.

ويقابلها الذُّل بضم الذال، وهو ما كان عن قهر، يقال: ذلّ يَذِّلّ ذُلاً.

ومنها: الشدّة،كما في قولهم أرض عزاز أي صلبة وشديدة، ومنه قيل عزّ عليّ أن يكون كذا، أي شدّ عليّ وصعب، كما في قوله تعالى في سورة التوبة {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}([5])، أي صعب عليه عنتكم، وهي بهذا المعنى يقابلها الذِّل بكسر الذال أي اللين والسهولة، قال تعالى {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}([6]) أي سهلت، وقال أيضًا {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً}([7]) أي منقادة غير متصعبة، وقد وردت بهذا المعنى في بعض الأخبار كما في الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (خير نسائكم الولود الودود العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها)، أي الليّنة السهلة المطيعة التي ليست شديدة ولا صعبة مع زوجها كما كانت شديدة وصعبة عند أهلها، وليس المراد من الذليلة هنا بمعنى الهوان والاستخفاف أي الذُّل بالضم، فإنه بهذا المعنى مذموم مرغوب عنه، وليس من اللائق به سبحانه وتعالى أن يأمر به، إذ كيف يمكن أن يريد الله للزوجة أن تكون مهانة ومستخفًا بها وذليلة، وقد أعزّها الله تعالى وكرّمها، وعليه  فالمراد ما عرفت،  أي أن تكون مع زوجها ليّنة سهلة مطيعة ليست بالمستعصية، ومن المعلوم أن العزّة بالمعنى الذي ذكرناه دائمًا تكون ممدوحة،كما أن الذُّل بالضم دائمًا مذموم كما لا يخفى على من لاحظ الآيات الشريفة والأخبار الوارد فيهما  لفظ (العزة) و(الذُّل) بالمعنى المذكور، إلا في موردين في القرآن الكريم، قيل إن الله سبحانه وتعالى مدح الذُّل -بالضم- فيه:

الأول: قوله تعالى في سورة الإسراء {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}([8])، فالله سبحانه وتعالى طلب من الولد أن يكون كالمقهور للوالدين، وهذا استثناء من كلية ذمّ الذّل، ولا عيب في ذلك، فإن قاعدة أن كل ذُّل -بالضم- مذموم ليست من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص، بل مثلها مثل كثير من القواعد القابلة للتخصيص، هذا بناءً على قراءة (الذّل) بالضم كما هي فعلاً في الكتاب العزيز.

وأما بناء على قراءتها بالكسر كما في بعض القراءات، فتكون حينئذٍ بالمعنى الثاني أي كن لينًا ومنقادًا لهما، بمعنى: بالغ في التواضع والخضوع لهما قولاً وفعلاً، وهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه، إذا ضمّ فرخه إليه، فكأنه سبحانه وتعالى قال (ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير)، والمعروف أن العرب إذا وصفت إنسانا بالسهولة وترك الإباء قالوا: (هو خافض الجناح)، نعم ورد في صحيح أبي ولاد تفسير للآية الشريفة أخرجها عن الاستدلال بها للحكم الشرعي الإلزامي وألحقها بالآداب، قال أبو ولاد: (سألت ابا عبد الله(عليه السلام)عن قول الله عزّ وجل {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}([9]) ما هذا الإحسان، قال: الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئًا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين)، إلى أن قال: ({وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}([10]) قال: لا تمد عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقّة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدّم قدّامهما)، ولا إشكال أن ظاهر الرواية هو الحمل على الآداب، وعليه فلا يمكن الاستدلال بالآية الشريفة على الحكم الإلزامي كما أشرنا إليه.

المورد الثاني: قوله تعالى في سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.. الآية}([11])، هذا بناء على كون الذُّل بالضم، أي أن المؤمن يكون كالمقهور بالنسبة لأخيه المؤمن، فقيل إن الله سبحانه وتعالى مدح الذّل هنا إذا كان ذلك فيما بين المؤمنين.

ولكن الإنصاف -والله العالم-: أن الذّل في الآية الشريفة بالكسر بمعنى الليونة ضد الصعوبة، فالمراد بقوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}([12]) أي رحماء على المؤمنين غلاظ شداد على الكافرين كما في قوله تعالى في سورة الفتح {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}([13])، ومن المعروف أن الفرق بين قولك (قوم أذلّة) وقوم أذلاء، هو أن الأول يستعمل بمعنى اللين والانقياد، والثاني بمعنى الهوان والاستخفاف، وقد ورد في الآية الشريفة بلفظ (أذلّة) كما تقدم.

ومن جملة المعاني التي استعملت فيها لفظ (العزّة) هي الحميّة والإنفة المذمومة كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }([14]).

وقد يطلق لفظ(العزة) ويراد منه نقيضه، كما في قوله تعالى في سورة الدخان {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }([15])، فكأنه قيل (إنك أنت الذليل المهين)، إلا أنه قيل على هذا الوجه للاستخفاف به والله العالم.

ثم إن العزة بالمعنى الأول لله سبحانه وتعالى ذاتية، فهو عزيز بذاته مالك للعزة، قال تعالى في سورة الصافات {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}([16])، فإضافة الربّ إلى العزّة يفيد اختصاصه تعالى بها، فهو منيع الجانب على الإطلاق، فلا يذلّه مذلّ ولا يغلبه غالب ولا يفوته هارب، ولا يملك أحد العزة بذاته إلا الله سبحانه وتعالى، والعزّة في غيره عرضية آتية منه سبحانه، فهو المعطي لها، قال تعالى في سورة آل عمران {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء}([17]).

ومن جملة الأسباب التي بها يعطي الله العزّة للإنسان: التقوى، كما في الحديث  الشريف عن النبي(صلى الله عليه وآله):(من أحبّ أن يكون أعزّ الناس فليتق الله)، كما أن من جملة أسبابها عفّة النفس عما في أيدي الناس كما في الحديث الشريف عنه(صلى الله عليه وآله): (عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس).

 ثم إن العزة تارة يمدح بها، وأخرى يذمّ:

فالأولى: كقوله تعالى في سورة المنافقين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}([18])، وهذه هي العزّة الحقيقية الباقية والدائمة.

والثانية: كقوله تعالى {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}([19])، وفي الواقع: أن العزة في الكافر بمعنى التعزّز، وهي في الحقيقة ذلّ كما في الحديث الشريف عن النبي(صلى الله عليه وآله):(كل عزّ ليس بالله فهو ذلّ)، وعلى هذا حمل قوله تعالى {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}([20]) أي ليتعزّزوا بهم، بمعنى: ليتمنعوا به من العذاب.

وأما العزة الحقيقية فهي من الله تعالى كما في قوله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}([21])، أي من أراد أن يُعز فيحتاج أن يكتسب منه تعالى العزّة لما عرفت أن العزّة في غيره تعالى عرضية مكتسبة منه تعالى.

هذا وقد يعتقد بعض الناس أن المال والجاه يجلبان العزّة للإنسان، ولكنه اعتقاد مبني على أساس باطل، فمتى كان المال سببًا للعزّة ! بل من يتتبّع الحوادث التي تحصل في المجتمعات يكاد يجزم بأن جماعة كثيرة من أصحاب الأموال الطائلة فاقدو العزّة، بل هم أذلاء، وبالمقابل نجد أن كثيرًا من الفقراء أعزّاء، وما هذا إلا لكونهم يملكون أسباب العزّة والتي أهمها التقوى كما أشرنا إلى ذلك سابقًا.

وفي الواقع إن النسبة بين الغنيّ والعزيز عموم وخصوص من وجه، فقد يكون غنيًّا وليس عزيزًا، وقد يكون عزيزًا وليس غنيًا، وقد يجتمعان، وينعكس هذا الأمر على الأنظمة والدول أيضًا، فبعض الدول وإن كانت غنيّة من حيث المال إلا أنها فاقدة للعزّة، وذلك لهيمنة بعض القوى عليها التي سلبتها إرادتها وعزّتها، ولا يخفى أن القوّة والجهاد في سبيل الله تعالى من أسباب العزّة، ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة هود {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}([22])، وفي خطبة الصدّيقة الشهيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)التي هي في الواقع من روائع الخطب التي نقلها إلينا المؤرخون: (فجعل الله الإيمان تطهيرًا لكم من الشرك) إلى أن قالت(عليها السلام): (والجهاد عزًّا للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنفاق).

ولنختم كلامنا بما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)أنه قال: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه في مجلسه سبحان ربّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين.

والحمد لله رب العالمين.

___________________________
 

*  أستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) النساء من الآية 139

([2]) العنكبوت من الآية 26.

([3]) الأنعام من الآية 18 والآية 61.

([4]) ص23.

([5]) التوبة128.

([6]) الإنسان من الآية14.

([7]) النحل من الآية 69.

([8]) الإسراء24.

([9]) البقرة من الآية 83 وفي عدّة آيات أخر.

([10]) الإسراء من الآية 24.

([11]) المائدة من الآية 54.

([12]) المائدة من الآية 54.

([13]) الفتح من الآية 29.

([14]) البقرة206.

([15]) الدخان49.

([16]) الصافات180.

([17]) آل عمران من الآية 26.

([18]) المنافقون من الآية 8.

([19]) ص2.

([20]) مريم81.

([21]) فاطر من الآية 10.

([22]) هود91.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية