العدد الثاني / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الحوزات العلمية سلوكًا ومنهجًا وغاية

الشيخ حسن عبد الساتر*

{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}([1])

الحمد لله، وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين، وبعد:

فقد كان بودي أن أكتب شيئًا عن الحوزات وتاريخ منشئها وتطورها، وأن التعليم الحوزوي بدأ أول ما بدأ في المسجد، فكان هو المدرسة الأولى، وكان الأستاذ الأول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان القرآن الكريم كتاب التدريس الأول.

وبعد انتقال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)إلى الرفيق الأعلى، تناوب على إدارة هذه المدرسة والتدريس فيها علي وأبناؤه الأئمة المعصومون(عليهم السلام)، وعبر العصور، رسخ التعليم الحوزوي في كثير من عواصم البلاد الإسلامية وأطرافها، وتنوّع وتطوّر سيّما في عهد الصادقين(عليهما السلام)، رُغم كل الظروف والأحداث والمؤامرات التي استهدفت ثقافة الأمّة الإسلامية ووجودها على أيدي اليهود وأعداء الأمّة التاريخيين، وبعض المرتدّين والمنافقين من بني أميّة وبني العباس وأشباههم.

ولئن اضطرت الحوزات العلمية هذه -في مثل بُخارى، وتركيا، والقدس، وبعلبك، والشام، وبغداد، والكوفة، والبصرة، ومن ثمَّ الأزهر، والزيتونة، والقرويين، وغيرها- إلى التسليم أمام الغزو الأجنبي الوافد، ومدّه الثقافي، فإن حوزاتنا العلمية، خاصّة حوزات قمّ، وخراسان، والحلّة، والنجف، والكرك، وميس، وجزين، وأمثالها مما كان منتشرًا هنا وهناك، وقفت أمام هذا المدّ الثقافي، وقاومته بكلّ أشكال المقاومة، حتى تكاد لا تخلو واحدة منها من شهيد، وما الشهيد الأول والشهيد الثاني والشهيد الصدر إلا أمثلة في العصور المتأخرة يُقاس عليها العصور المتقدّمة، حتى كانت الوقفة المشرّفة لحوزة قمّ المشرفة، حيث وقفت بوجه هذا الغزو، وقاومته، حتى انتصرت، وأقامت دولة الإسلام، وبذلك أعطت لطلب العلم والحوزات العلمية في العالم روحًا جديدة، ودفقًا من الحيوية والحياة.

وفي نفس الوقت الذي تعتزّ فيه حوزاتنا العلمية بأصالتها وعراقتها عبر القرون، فإن المحور العلمي في مناهجها العلمية ثابت، وهو القرآن الكريم، وسنّة المعصوم الشريفة، كما أن مواد هذا المنهج ووسائله تتجدّد مع الزمن، ويأخذ منه المشرفون على حوزاتنا كل جديد ومفيد، سيّما المواد التي يحتاج إليها طلبتنا الأعزاء في ثقافتهم، وعملهم، ومسؤوليّاتهم العلمية في المستقبل المنظور.

ولكن رغم هذا الموجز، أحببت أن أسجل [ملاحظة]، و[كلمة]، في هذا العدد من "مجلة حوزة" طالما كانت ترجمة صادقة، وامتدادًا للحوزة الأمّ في النجف الأشرف.

أما الملاحظة:

فإنها وإن كانت مفردةً تاريخية، لكن طالما سجل لنا التاريخ أخطاءً أضحت لتكرارها وشياعها من المسلمات، أضحى "الهضام بن الجحاف"، ومئة وخمسون صحابي مختلق من أبطال الإسلام، وبها صار فلان وفلان وفلان من ركائز الإسلام، وبها صار علي بن أبي طالب(عليه السلام)مجهولاً، وبها صار الحسين بن علي(عليه السلام)من الخوارج عن الإسلام، فقتل بسيف جدّه، وبها صار الإمام الصادق(عليه السلام)لا يقاس تقوىً وعلمًا ونزاهةً بسمرة بن جندب، وبها صار عدم الإيمان بفلان وفلان وفلان ... على حدّ الشرك بالله، وكذلك إذا لم تأكل من بصل عكا!.

والمفردة الخطأ هي مقولة الرسالة التي حملها أبو ذر "رضوان الله عليه" إلى الشام وبيروت والصرفند وميس الجبل.

بينما يسجّل هذا التاريخ -كما يراه كثير من  المؤرخين([2])- أن أول من نشر التشيّع لعلي وأهل بيته(عليهم السلام)في بلاد الشام، بما فيها بعلبك، وجبل عامل، وفلسطين، إنما هم قبيلة همدان التي جاءت لتفتح بعلبك عندما عصيت على الفتح الإسلامي، بقيادة عبيد الله بن الجراح، حيث كتب للخليفة الثاني بذلك، فاستشار الخليفة عليًا(عليه السلام)، فنصحه الإمام(عليه السلام)بأنه إن كان ولا بد فعليك بهمدان، وهكذا كان، فجاءت همدان وعلى رايتها سليم بن قيس الهمداني، فضربت خيامها على روابي بعلبك، ثم افتتحت المدينة وقلعتها، حصن أهلها، وما زال إلى يومنا هذا نقرأ فوق أهم أبوابها مكتوبًا (باب همدان)، يقول المؤرخون: ومن وجود همدان، وقد أكملت مسيرة فتح بلاد الشام بما فيها جبل عامل، انتشر التشيّع وأُسّس له.

ومن الواضح أن بين دخول همدان إلى بعلبك وما بعدها إلى وصول أبي ذر "رضوان الله عليه" دهرًا يزيد على أكثر من عشرين سنة، فإن أبا ذر إنما جاء إلى بلاد الشام في نفيه الأول في آخر خلافة عثمان، إذن فقد دخل أبو ذر هذه البلاد وهي مزروعة بالتشيع والشيعة هنا وهناك، وعلى امتداد هذا الخط، إذن فهو أحد أساتذة هذه الحوزة المنتشرة من بعلبك إلى فلسطين، وقد سقى هذا الزرع هو، ومن قبله، ومن بعده، حتى اكتمل شكله الحالي بالولاية الكاملة الواضحة لمحمد وأهل بيته(عليهم السلام).

ولعل نسبة تشيعنا لأبي ذر "رضوان الله عليه"، يراد بها أن تخرج به من الجماعة الإسلامية، كما هي المحاولة في نسبة تشيعنا تارة لعبد الله بن سبأ، وأخرى -المضحكات المبكيات- للجاحظ صاحب كتاب العثمانية، وأخرى لرجل من فارس، وما عشت أراك الدهر عجبًا، وما يدريك، فإن الوهم إذا تكرر أضحى حقيقة كما تقول الحكمة الهندية، وأمثالها كثير، كما تقول الحكمة الجاهلية.

وأما الكلمة :

فهي، أنه يخطئ من يظن أن العمل الإسلامي داخل حوزاتنا أو مؤسساتنا الإسلامية الأخرى، هو فعاليات فكرية في بثّ التعاليم الإسلامية ودحض ما عداها فقط، كما أنه ليس بفعاليات عملية في أوامر هذه المؤسسات والقيام بواجباتها فقط، ولا هو حماس عاطفي في حبّ الإسلام ووحدة المسلمين، وضرب الكفر والكافرين فحسب، إنما هو كل هذا مجتمع في النفس، يتفاعل معها، ويظهر إلى الخارج على شكل السلوك الصالح مستندًا على العقيدة الإسلامية، ومستندًا إلى إدراك مراقبة الله تعالى، ومستندًا إلى الاقتداء بمحمد وآله الطاهرين المعصومين(عليهم السلام)، وهذا السند هو الضمان لنيل رضوان الله تعالى، وهو الضمان إلى الارتقاء إلى نوال النصر من الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}([3])، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ}([4])، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}([5])، فلنتأكد من أنفسنا، هل إننا نجاهد في الله؟ هل إننا نعمل الصالحات؟ هل إننا ننصر الله؟ فليكن هذا دأبنا، ولنعلم أيضًا أن هذا الكلام غير مفروغ منه كما لعله يتبادر إلى ذهن العاملين للإسلام لأول وهلة، وإنما هو كلام أساسي، لأن الله تعالى قد أخبرنا أن النفس أمارة بالسوء، وعليه: فلا يجوز أبدًا التهاون في محاسبة النفس، ووزن الأفعال الخاصة والعامة بميزان الإسلام شريعة وعقيدة، ومن هنا فالأعمال الصغيرة والكبيرة الصادرة من النفس، ينبغي أن تكون متّحدة الهدف، الغاية والواسطة فكرة من نوع واحد، فأداء الأمانة، والمحافظة على الموعد، والصدق في المعاملة، وصلة الرحم، وبرّ الوالدين، -ولو كانا فاجرين-، ومساعدة المحتاج، وأمثال هذا مما هو أصولٌ موضوعية في بناء الجسم الإسلامي، نهتم به كالاهتمام بالجهاد في سبيل الله ونشر دين الله، حيث إن هذا كلّه جهاد في سبيل تحصيل رضى الله، فلا نقول: إن هذا أمر لا ضرر عام فيه، وهذا أمر لا أهمية له، بل الكل مطلوب ومهم {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}([6])،{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}([7])، وما عدا هذه من الأفكار الضارّة، هو بمثابة نوافذ وفتحات ينفذ ويتسرب منها الشيطان إلى النفس، وعليه: فلا يجوز الاتكال على الغير في نشر الأفكار الإسلامية، وإفهامها وإيصالها إلى الناس، فلا ينبغي أن يقول العامل المسلم مثلاً: إن هذا الأمر لا يعنيني ما دام أنه لا يوجد مسؤول يحاسبني، إذ قد ورد عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام)ما مضمونه: إن العبد يصدر عن أفكار وأعمال كثيرة كلها يقع في عين الله.. فانظر كيف ينبغي أن تكون في عينه تعالى، فإنك إن لم تره فهو يراك.

نسأل الله بمحمد وآله التوفيق لكم ولنا كما نسأله حسن العاقبة. 

انتهى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  رئيس المحاكم الشرعية الجعفرية- بالتصرف.

([1]) المجادلة من الآية 11.

([2]) راجع (ستة أبطال فقهاء) - فصل: [الفقيه حسين بن عبد الصمد] / للشيخ جعفر المهاجر.

([3]) العنكبوت من الآية 69.

([4]) النور من الآية 55.

([5]) الحج من الآية40.

([6]) آل عمران من الآية 195.

([7]) الزلزلة من الآية 7.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الأول     أرشيف المجلة     الرئيسية