العدد العاشر / 2007م  / 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإمامان العسكريان(ع)

قراءة في عصرهما، ودورهما في مواجهة الأحداث

الأستاذ حسن جابر

إطلالة على واقع التاريخ

مما لا شك فيه أن التصدّي الموضوعي لكتابة التاريخ ليس من الأمور السهلة التي تُتناول كيفما اتفق، حتى مع وجود العصبيات والعواطف والميول التي تلغي عدالة الراوي أو الناقل أو المؤرّخ.

وغالبًا ما كانت تتم عملية التعرّض للتاريخ بشكل افتراضي، وأحيانًا موجّه لخدمة سياسيات الحكّام، وتحت تأثير الأهواء الحزبية والعصبية.

وكم من المؤرخين راح "... يكتب تاريخه بمجموع عواطفه، وسائر مرتكزاته، وبخاصة في الحوادث التاريخية التي تقترن بخلافٍ بين جماعتين..."([1]).

وعمليًا حينما نريد استلهام تاريخنا الإسلامي نجده على صورة ما تقدّم، لماذا ؟

... "لأن الأشخاص الذين كانوا يعيشون تلك الأزمنة، إنما عاشوها بصفتها حياة عادية، لا يُعيدون فيها النظر ولا يتعمّقون بأسبابها ونتائجها..."([2]).

في ظل هكذا أجواء من التأريخ تمَّ التعرّض لسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيته (عليهم السلام)، فوُضع (صلى الله عليه وآله) في دائرة زمنية محدّدة من التاريخ، ورافق ذلك محاولات مغرضة ومتعمّدة لجعل الأئمة (عليهم السلام) في دائرةِ التنازعِ على الحكم، فلما لم يستطيعوا الحصول على حظّ وافرٍ من التأييد والدعم أُبعدوا وأُقصوا عن ساحة عملهم لقلّة خبرتهم وحنكتهم في التعاطي الميداني على كافة المستويات وبخاصة السياسية والعسكرية.

وهمَّ بعض المؤرخين لفصل الأدوار التي اضطلع به أئمتنا (عليهم السلام) وتمييع نُبل الأهداف التي سعوا لترسيخها وتثبيتها في الأمة لتصبح جزءًا من شخصيتها الرائدة، كأمة وسطًا.

ورأى البعض من المغرضين في الإمام الحسن (عليه السلام) إنسانًا متثاقلاً عن الجهاد يركن لشروط معاوية مخالفًا سياسة أبيه في الشجاعة، وفي الحسين (عليه السلام) مثالاً حيًّا لعليّ في الاستبسال والإقدام، مع ما كلّفه ذلك نفسَه وأهلَ بيته والأصحاب.

مع كل ذلك ورغم ارتفاع الأبواق من قصور وبلاط السلاطين للنيل منهم (عليهم السلام) وما رافق ذلك من حملات متتالية لإسقاط عنفوان ما للأئمة في نفوس مواليهم ومحبّيهم، تمهيدًا لفصلهم عن قواعدهم الشعبية الآخذة بالاتساع والتأييد، إلا أن تلك المحاولات جميعها باءات بالفشل والنكوص والاندحار أمام ثبات أئمتنا (عليهم السلام) وصمود الأتباع.

غاية البحث

على ضوء ما تقدّم أردنا تسليط الضوء - ضمن طيات هذه العجالة المتواضعة - على حياة إمامينا العسكريين (عليهما السلام)، وإبراز ما اضطلعا به من دور تجاه الدعوة (التجربة) الرائدة، وحفظها بصلابةٍ وعلوّ همة كبيرين، وقد عبّرا (عليهما السلام) في حياتهما - على قصرها الزمني - عن سلسة انتصارات على قوى الأمر الواقع وإحراج سلاطين الجور وإفحامهم في أكثر من موقع وفي أكثر من حوار، ثم اتجها (عليهما السلام) لحفظ القاعدة الرسالية وإدارة شؤونها عن كثب، وحفظ الدين وصيانته من عمليات الدسّ والانحراف بأساليب شتّى.

الاتجاه العام لدور الإمامين العسكريين (ع)

على الرغم من أن الإمامين العسكريين (عليهما السلام) عاشا في ظروف سياسية واجتماعية مفعمة بالتعقيدات والملابسات، مما حَدَا بحكّام عصرهما إلى زيادة المراقبة والضغط عليهما، ومحاولة عزلهما وإقصائهما (عليهما السلام) عن مجال تحمّلهما للمسؤولية وقيادة الأمة، إلا أنهما استطاعا (عليهما السلام) تحصين الرسالة بوجه كل تردّيات الانزلاق والانحراف عن المبادئ والقيم الرسالية.

وقد نجح إمامانا العسكريان (عليهما السلام) في إيقاد حركة المواجهة التغييرية، وخلق جيل متصدّ داخل الأمة، للحفاظ على نقاء وصفاء التجربة، وضمان استمرار هذا الخط ليبقى طليعة التصحيح لاتجاه الأمة والسير بها نحو أمانها، ولأن إمامينا (عليهما السلام) مثّلا بشكلٍ دائم خط المعارضة الصامدة ضد أجهزة الانحراف، فقد تمثّلت مواقفهما بأمرين:

1- توليهما الدائم لمنصب الإمامة ، واعتبارهما باستمرار - ولو نظريًا - في موقع رئاسة الدولة .

2- قيامهما المستمر بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإصلاح في أمة جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) نتيجة الظلم والانحراف والحروب الجائرة والمصالح الشخصية التي سببت في أغلبها بؤسًا اقتصاديًا وتخلّفًا اجتماعيًا مؤسفًا([3]).

هذه المواقف لدى إمامينا (عليهما السلام) كانت تثير المخاوف لدى السلطات، مما زاد في عمليات الضغط والمراقبة والتطويق لهما، ومحاولات فصلهما عن قواعدهما ومؤيديهما، حتى وصل الأمر إلى تدبير المؤامرات للاعتداء على حياتهما والعمل على قتلهما.

دور الإمامين العسكريين (ع) في حفظ الدين وصون الرسالة

أ - خصائص عصر الإمامين العسكريين (ع):

(1) انتقال عاصمة الخلافة العباسية من بغداد إلى سامرّاء بأمر من المعتصم، وكان ذلك نتيجة سوء سلوك وأخلاق الموالي مع الناس([4])، فقد سيطر الموالي (أتراك - مغاربة وفراغنه) - في العاصمة الجديدة - على مصير الخلافة والخلفاء، وتحكّموا بالوضع، حتى بات الخليفة ألعوبة بأيديهم، يُعزل أو يُقتل ساعة يشاؤون، مما أضعف هيبة الخلافة، فتوالت عمليات الانفصال عن الدولة العباسية ونشوء دويلات متعددة، قامت على أطراف وتخوم الدولة العباسية، خاصة عندما تتوفّر للوالي أسباب الانفصال من مالٍ ورجال.

وقد برزت آنذاك الدولة الطولونية (256-292هـ)، وبعدها الدولة الإخشيدية (323-334هـ) في مصر، والدولة الفاطمية (296-487هـ) في تونس، ثم نقل الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله العاصمة إلى مصر سنة 362هـ، والدولة الحمدانية في حلب (333-392هـ)، وانتهت الصلة الوثيقة التي كانت تربط الدولة العباسية بدول الأطراف، والتي تناحرت طمعًا بالتوسّع والاستئثار.

وقد تعاقب على حكم سامرّاء عدد من خلفاء بني العباس، وهم:

المعتصم - الواثق - المتوكّل - المنتصر - المستعين - المعتز بالله - المهتدي - المعتمد على الله - والمعتضد بالله.

(2) ومن خصائص هذا العصر : حدوث أعمال شغب وفتنٍ في بغداد على يد الشاكرية الذين استعظموا وهالهم قتل المتوكل، فنادوا بالنفير، وفتحوا السجون، وأحرقوا أحدَ الجسرين([5]).

وما حدث أيام المستعين العباسي حين سار إلى بغداد ليقمع شغب الأتراك والموالي([6])، وشغب الجند الذين طالبوا بأرزاقهم ورواتبهم.

(3) سياسة اللهو والترف والمجون التي اعتمدها معظم الخلفاء، مما أفقد الناس ثقتهم بملوكهم وولاتهم، وتثاقلوا عن نصرة الدولة، فخسر المجتمع عناصر قتالية كانت تذود عن حياضه، فأصبحت الدولة لقمة سائغة لكل غازٍ ومحتلّ.

(4) ثورة القرامطة ذات النزعة الاشتراكية في البحرين، والذين أغاروا على بلاد الشام وغزوا مكة، ونقلوا الحجر الأسود إلى بلادهم، وهدّدوا الخلافة العباسية والولاة والأمصار([7]).

(5) ثورة الزنج (جنوب العراق)، وهم طائفة من عبيد إفريقيا قادهم رجل فارسي يسمى علي بن محمد من أهالي طالقان، أثاروا القلق والرعب في حاضر الخلافة العباسية ودامت ثورتهم الجامحة أكثر من أربع عشرة سنة في المستنقعات بين البصرة وواسط، وانضمت إليهم جماعات من العبيد الهاربين من القرى والمدن المجاورة تخلّصًا من حالتهم([8]).

(6) النزاعات المذهبية والصراعات الدينية ، حيث برزت الفرق الكلامية والمدارس الفلسفية، فأفرزت مذاهب متنوعة، فكفّر كل فريق الآخر ومارس الاضطهاد بحقّه مما أضعف الدولة المركزية وحوّلها إلى دويلات متناحرة لا تقوى على الصمود ودفع العدوان.

ب - الحقد العباسي في مواجهة الإمامين العسكريين (ع)

(1) كانت الدولة العباسية تعاني الضعف والوهن، نتيجة لما واجهته سابقًا، وكان ذلك منذ بداية عهد المعتصم حتى عهد المعتضد بالله، جرّاء ما مارسه الأتراك (أخوال المعتصم)، والذين استعان بهم لقمع الحركات الثورية وقوى المعارضة، فقويت شوكتهم، وأصبحوا فيما بعد كل شيء في الدولة (كما ذكرنا سابقًا).

وبالرغم من ذلك لم يثن العباسيين ولم تمنعهم تلك المشاغلات العامة - داخل وعلى أطراف الدولة - من التنكيل بالإمامين العسكريين (عليهما السلام) وملاحقتهم وبثّ أحقادهم تجاههما (عليهما السلام).

... "وكان من المتوقّع وفي هذا الجو من ضعف السلطة أن يخف الضغط والإرهاب على الإمام العسكري (عليه السلام) وأصحابه، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، بل زادت موجة الإرهاب والضغط وبلغت أوجها على يد الخليفة المعتمد.."([9]).

(2) القيام بحملات المطاردة والاضطهاد والتدمير لكل أثر من آثار موالي آل البيت (عليهم السلام) ومشايعيهم .

(3) محاولات عزل الإمامين العسكريين (عليهما السلام) عن قواعدهما الآخذة بالاتساع والتأييد شيئًا فشيئًا، وقد تمثّل ذلك باستقدام الخلفاء للإمامين العسكريين (عليهما السلام) إلى سامراء ليكونا تحت الرقابة الصارمة ورصد تحرّكاتهما وتحرّكات الذاهب والآيب.

(4) كبس دار كل من الإمامين (عليهما السلام) وتفتيشها بشكل دائم عقيب كل وشاية أو معلومة تأتي للخليفة عن نشاطهما (عليهما السلام)، وسرعان ما كانت تبوء هذه المحاولات بالفشل، لعدم وجود أيّ دليل يدينهما (عليهما السلام)، وسرعان ما يعود الهدوء والتظاهر بالاحترام والتقدير لهما (عليهما السلام).

وكان لما يُظهره كل من الإمامين (عليهما السلام) من لا مبالاة ورباطة جأش عند عمليات الكبس، الأثر البالغ في تبديد مخاوف السلطات، وقد برز ذلك مع الإمام الهادي (عليه السلام) عندما كان يرشدهم إلى غرف الدار مسرجًا لهم الضياء، موحيًا لهم أنه لا يملك أيّ نشاط مريب وغريب([10]).

ج - دور العسكريين (ع) في مواجهة الأحداث

(1) حفظ الدين من عمليات الدرس والانحراف والافتراء التي مارسها الوضّاعون الذين لازموا الحكّام والملوك، واصطنعوا لأنفسهم الهالات، وقد ساعدهم على ذلك الحُكّام ليتحوّلوا إلى مجموعة مستزلمين وموتورين (مرتزقة) وألبسوا -تقمّصًا - لبوس الدين وأسبغت عليهم ألقاب العلم والعلماء والرواة ... الخ، لتحصين حكومات الضلال والفساد والجور، وتقييد الناس بأحاديث الصبر ولزوم أمر الجماعة والحكام وإن أفسدوا، تمهيدًا لسقوط الأمة ولتتحقق رغبة (لأتأمر عليكم) وبعدها (فلا خبرٌ جاء ولا وحي نزل).

(2) توعية الأمة وإرشادها إلى منابع الدين الأصيل.

(ما جاءكم عنا فاعرضوه على القرآن، فإن وافقه فخذوه، وإن لم يوافقه فاتركوه)، الحديث كما أُثر عن الإمام الصادق (عليه السلام).

وقد عمل الإمامان (عليهما السلام) على صياغة شخصية الأمة وتحصينها لمقاومة التيارات الفكرية والتي تُشكّل خطرًا على الرسالة، ولضربها في بدايات تكوّنها... "وقد استهدف أئمتنا (عليهم السلام) الحفاظ على تواتر النصوص عبر أجيال عديدة حتى تُصبح في مستوى الوضوح والاشتهار، تتحدّى كل مؤامرات الإخفاء والتحديد، وقد شكّل الأئمة (عليهم السلام) بمجموعهم وحدة مترابطة الأجزاء ليواصل كل جزء من تلك الوحدة الدور للجزء الآخر ويكمّله"([11]).

(3) فضح زمرة الزنادقة والمنحرفين وعلماء البلاط وتعريتهم أمام الرأي العام، حيث كانوا يُستقدمون لإحراج الإمامين العسكريين (عليهما السلام) في محضر عام.

... "وقد تمثّل ذلك بطلب المتوكّل من ابن السكيت بإحراج الإمام الهادي (عليه السلام) بمسألة عوصاء، إلا أن الإمام (عليه السلام) يخرج ظافرًا من التحدّي، حتى يحي بن أكثم يطلب من المتوكل عدم توجيه أي أسئلة للإمام الهادي (عليه السلام) لأن في إظهار علمه تقوية للرافضة على حدّ قوله"([12]).

وقد ردّ الإمامان (عليهما السلام) على كل شبهات الملاحدة الرائجة في مجتمعهما([13]).

(4) الحفاظ على النُّخب الرسالية الملتزمة، والكتل المؤمنة بهما (عليهما السلام) وحمايتها، "... وإسعافها بأساليب الصمود في خضم المحن وارتفاعها إلى مستوى الحاجة الإصلاحية، إلى جيش عقائدي وطبقة واعية"([14]).

والتعامل معهم بالترميز أحيانًا كثيرة لمنع شلّهم وإبعاد خطر التصفية عنهم وتزويدهم بالخطط، وأمرهم بالصمت عند أيّ حدث غير طبيعي حتى يستقر الوضع على ما كان عليه.

... "تلك التوجيهات التي تشكّل حجر الزاوية في تأجيج نار الإيمان ونور الإخلاص وعاطفة العقيدة عند أصحابهما ومواليهما وزرع روح التضحية والجهاد فيهم"([15]).

(5) الرضا الضمني عن الأثر الإيجابي الذي تحدثه بعض الحركات الثورية التي كانت تقوم في مواجهة الحكّام مع عدم الاشتراك بها، أو حتى الدعوة إليها، لأنه - وحسب قناعة العسكريين (عليهما السلام) فإن تلك الثورات غالبًا ما كانت تدفعها العاطفة، ويقودها الاندفاع، وظروف انتصارها - على المستوى العسكري - غير مؤاتية، وإن كان قيامها ضروريًا من أجل تحريك ضمير الأمة، وإيقاظ إرادتها، وتحصينها في وجه الانحراف المزمن المتفشّي بين ظهرانيها، وإبعاد خطر الانهيار القاتل عنها، إذ لا بد بين الحين والآخر من عملية تذكير من خلال المشاغلة العسكرية من ناحية، والتي كان يقودها الثوار، والممانعة الفكرية التي قادها الإمامان العسكريان (عليهما السلام) وجيلُ المفكرين النخبوي الذي ربياه عقيدة وفكرًا وجهادًا وإخلاصًا.

وقد قامت في عهد الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) ثورات علوية عديدة وشعارها (الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله).

ولم يذكر التاريخ بأن أيًّا من الإمامين (عليهما السلام) قد دعم تلك الثورات علنًا أو أمر برفدها، وإن كان يقوم بسند المخلصين منهم من خلال تعاليمه التي كانت تؤثر في القواعد المؤمنة.

ولعلّ تلك الثورات العلوية هي ما كان يقضّ مضاجع الحكّام ويهدد بإسقاط دولتهم ، فسعوا لإجهاضها وبثّ الرعب في نفوس الثائرين، والمبالغة في أساليب الترهيب والقتل لمنع قيام أي حركة مقاومة لاحقًا.

... "فترْكُ الأئمة (عليهم السلام) إذن العمل المسلح بصورة مباشرة ضد المنحرفين، لم يكن يعني تخليهم عن الجانب الاجتماعي من قيادتهم، وانصرافهم إلى العبادة، وإنما كان يعبّر عن اختلاف صيغة العمل الاجتماعي التي تحددها الظروف الموضوعية، وعن إدراك معمّق لطبيعة العمل التغييري وأسلوب تحقيقه"([16]).

وهذا الإمام العسكري (عليه السلام) كان إزاء بعض الأحداث يقف موقف المراقب دون تصريح إيجابي أو سلبي، كما فعل مع صاحب ثورة الزنج، لما ارتكبته ثورته من القتل والسلب والسبي، والإمام بطبيعة الحال كان يرفض هذه الأعمال، لكنه آثر الصمت كي لا يعتبر تصريحه تأييدًا ضمنيًا للدولة العباسية، ولا يخفى أن هذه الثورة وغيرها كانت تضعف الدولة، وبالتالي من أَبْدَهِ نتائجها تخفيف الضغط على جبهة الإمام العسكري (عليه السلام).

د - العسكريان (ع) والتمهيد لغيبة المهدي (عج)

أولا: معنى الغيبة

الغيبة: البعد والتواري، ويقال أوحشتني غيبة فلان([17]).

الغيب يعني الخفاء، ما وراء الستار، أي الشيء الذي غاب عن حواسنا وخرج عن دائرة الإدراك الحسي([18]).

وغيبة الإمام المهدي (عج الله فرَجَه) تأتي بهذا المعنى، أي تواري الإمام (عليه السلام) عن المشاهدة والظهور، بمقتضى الأمر الإلهي، حيث لا ظهور إلا بعد أن يأذن المولى تعالى ليقيم دولة الله في الأرض، ومسألة المهدي (عجل الله فرَجَه) في الإسلام - وخاصة عند الشيعة - هي الإنقاذ المرتقب على مستوى البشرية جمعاء والعروج بها على سلّم الرقي والصلاح والأمن.

إن مهمةً على هذا المستوى من الأهمية، تناط بها عملية تغيير واسعة، تحتاج إلى مزيد من التهيئة والإعداد على كافة المستويات سواء النفسية والمادية والاجتماعية، ..."حيث إنها حادث قليل النظير في تاريخ البشرية، ويحتوي إلى حد كبير على عنصر غيبي خارج عن حدود المحسوس والمعتاد"([19]).

ثانيًا: التمهيد للغيبة

... " إن الإمامين العسكريين (عليهما السلام) يعلمان بكل وضوح تعلّق الإرادة الإلهية الأزلية بغيبة ولدهما، لأجل أن يكون مذخورًا لإقامة دولة الحق وتطبيق العدل الإسلامي على الإنسانية والأخذ بيد المستضعفين في الأرض.. يبدّل خوفهم أمنًا، يعبدون الله لا يشركون به شيئا"([20]).

الأمر الذي يظهر حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الإمامين العسكريين (عليهما السلام) في التمهيد لغيبة ولدهما، وتحضير الذهنية العامة لدى قواعدهما، وخاصة لدى خواص الموالين والأصحاب، والتخطيط للأمر وإحاطته بالكتمان والقدسية الكبيرين.

وكانا (عليهما السلام) يعلمان أن عليهما القيام بجهد مضاعف خاصة في مجتمع سوادُه الأعظم متكوّن من عناصر مشدودة إلى انحراف مزمن وثقيل، ولكنهما (عليهما السلام) كانا يعلقان الآمال على مسبقات ذهنية، وقاعدة فكرية - لموضوع غياب المهدي (عجل الله فرَجَه) - أرساها الخلف من الأئمة (عليهم السلام) عمن سبقهم وصولاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا ما هيأ الأرضية الصالحة للسير بالفكرة، والتي تشكّل بحد ذاتها - ولمجرد ذكرها - صدمة إيمانية لأفراد المجتمع الإسلامي، فالأمر بحاجة إلى مؤونة زائدة وقوة من الإرادة والعزيمة.

إذًا هي فكرة معقدة، بحاجة لترويضٍ وإفهام هادئين خاصة لتوقفها على موقفين وطريقتين متقابلتين في العمل:

- سلبية، تتمثّل في التعاطي مع الدولة والأجهزة المتسلّطة، وذلك بإخفاء الفكرة وإبعاد خطر ملاحقتها وتصفيتها.

- إيجابية، متمثّلة بإبلاغ الفكرة للأجيال، وأسلوب الإعلان عن ولادة الإمام الحجة (عجل الله فَرَجَه)، وبالتالي الإيمان بوجوده.

 وغالبًا ما كان يقتضي أمر الإبلاغ والإعلام الإبهام والغموض حتى يصل الأمر إلى عدم حليّة ذكر اسمه (عجل الله فرَجَه) حرصًا على عدم تسرّبه إلى الجهاز الحاكم.

فقد وردت عن الإمام الهادي (عليه السلام) أحاديث عديدة بهذا الصدد:

منها: ( ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده، قال الراوي: فقلت: وكيف ذلك يا مولاي ؟ قال: لأنه لا يُرى شخصه ولا يحلّ ذكر اسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلئت جورًا وظلمًا).

ومنها: قوله (عليه السلام): (فأنّى لكم بالخلف بعد الخلف)([21]).

فالغموض والإبهام هنا ضروريان لمصلحة الإمام (عجل الله فرَجَه) حتى عن الخواص، فالمقتضى هنا هو الإيمان به وبوجوده وهو الثاني بعد الهادي (عليه السلام) وهو معنى (الخلف بعد الخلف).

وليقين إمامينا العسكريين (عليهما السلام) باختلاف الصبر والصمود عند مواليهم أمام عوامل التهويل والترهيب من الجهاز الحاكم، فقد استدعى ذلك منهما (عليهما السلام) الحذر في شمول الشرح وإيضاح الأمر أكثر، حفاظًا على المهدي (عجل الله فرَجَه)، وضمانًا لبقائه بعيدًا عن عيون السلطة وحفظًا لمواليهما وخاصتهما من خطر ما قد يترتب عليهم من ضعف تحمّل ضغوط تلك الأجهزة من إغراءات وتهديد، وبالتالي تسريب بعض المعلومات عنه (عجل الله فرَجَه) مما قد يسهّل أمر ملاحقته واعتقاله (عجل الله فرَجَه)... مع علمنا ويقيننا المطلق باستحالة ذلك بحقه (عجل الله فرَجَه)، لرعاية المولى له، وحفظه من كل سوء مذخورًا بتأييد إلهي لليوم الموعود، وللدور الذي سيقوم به (عجل الله فرَجَه) لبناء الإنسانية وقيادة الحكومة الإلهية العالمية، ولكن أبى الله سبحانه إلا أن تجري الأمور بأسبابها .

كما اقتضت الحكمة بإخفائه، ومنع ذكره علنًا حتى على كثير من الموالين، لما يخشى عليهم، وهذا ينسجم مع دور الأئمة (عليهم السلام) جميعًا في مسألة الحفاظ على شيعتهم ورعايتهم الدائمة لهم من كل بؤس وشرّ، ودفعًا لأي عدوّ متربص بالرسالة وأنصارها.

.. هذا، وقد اتخذ الإمامان العسكريان (عليهما السلام) موقفًا يمهّد للغيبة من خلال احتجابهما عن الناس إلا عن الخواص، وكانت تتمّ عملية التواصل مع الأمة عن طريق المراسلة والمكاتبة للإجابة على كافة الاستفسارات والتساؤلات.

ولا يخفى ما لهذه العملية من أهمية بالغة وإيجابية متقدّمة.

وخاصة أخذ واستلام الأحكام الشرعية من غير المعصوم مباشرة، وبذلك تتم عملية التمهيد لعمل المرجعية أيضًا في الأمة الوسط.

خاتمة البحث

لم يكن مقصودنا من هذا البحث المتواضع العرض الموسّع لتجربة إمامينا العسكريين (عليهما السلام)، لكننا أردنا في هذه العجالة الإضاءة على بعض مرتكزات العمل الديني والسياسي والاجتماعي لديهما (عليهما السلام) وإبراز ما قاما به تجاه الفكر الشيعي عبر التاريخ من إيجابيات كبيرة في رسم السبل أمام التابعين بشكل متقدّم، وهما (عليهما السلام) استطاعا خوض غمار تجربتهما كجزء من التجربة العامة المتسلسلة من بدايتها في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وصولاً إليهما باعتبارهما حلقات الوصل لعصر ما قبلهما وما تلاهما حتى خروج القائم (عجل الله فرَجَه) تمهيدًا مباركًا لقيام العدالة العالمية وبناء مرتكزات قيامها، لا بل والتأثير المباشر في بلورتها.

وكان البعض يرى في التشيّع ظاهرة طارئة في المجتمع الإسلامي أفرزتها الأحداث وردّات الفعل المتعاقبة عبر التاريخ، بداية من يوم السقيفة وإقصاء الإمام علي (عليه السلام) عن دوره، مرورًا بواقعة كربلاء، وصولاً إلى ما قام به آل مروان وبنو العباس من ظلم وقتل بحق أئمة الهدى (عليهم السلام) والعترة الطاهرة.

… "حتى بلغ البعض توصيف الإسلام اللاشيعي وإعطائه صفة الأصالة على أساس الكثرة والانتشار، والإسلام الشيعي صفة الظاهرة الطارئة ومفهوم الانشقاق"([22]).

إن قراءة عادلة في ما قام به أهل البيت (عليهم السلام) في الحفاظ على التجربة الرسولية الرائدة وتتميم دورها في نشر الرسالة وأحكامها وكشف اعوجاج وفساد السلطات الجائرة وإظهار ألاعيبهم وبطانتهم وبيان كذب وسوء سيرتهم وعلانيتهم للقاصي والداني، توضّح كيف أن هذا الفكر الرسالي الأصيل قد وضع حدًا للوضّاعين وصدّ مدارس الاجتهاد في مقابل النص، وأغنى الحضارة والحياة بمفاهيم العلم الجامع الشامل، وصولاً إلى تهيئة القاعدة الجماهيرية وشحنها بمؤونة ثورية رافضة لواقع ديني مأزوم، حتى شكّلت هذه التعبئة نواة العمل الرافض والثائر على الحكام والملوك، وبأشكال متنوّعة وأساليب مختلفة.

وقد شكّلت غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرَجَه) الظاهرة والحدث الأبرز في حياة الإمامين العسكريين (عليهما السلام) فأعدّا لها وقاما بتهيئةِ ذهنيةِ القاعدة الرسالية لتقبّلها، والتعايش معها، والتعبّد بالانتظار الفاعل والمؤثر والمؤسس لدولة الإمام (عجل الله فرَجَه).

فعن الباقر (عليه السلام): (يخرج بعد غيبة وحيرة، لا يثبت فيها على دينه إلا المخلصون، المباشرون لروح اليقين، الذين أخذ الله ميثاقهم بولايتنا، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه)([23]).

وعن الرسول (صلى الله عليه وآله): (أفضل أعمال أمتي، انتظار الفرج)([24]).

ولا يخفى على ذي لبّ مدى الاطمئنان الذي تبعثه مثل هذه الأحاديث في ذات المنتظِر المؤمن بالإمداد الغيبي القادم عبر المُخلِّص مما يشعر بوجود مستقبل يرى فيه قيام دولة الحق وزهوق دولة الباطل، فيصدق الله وعده لعباده الصابرين المنتظرين.

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}([25]).

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([26]).

انتهى

ــــــــــــــــــــــ


الهوامش

[1] - تاريخ الغيبة الصغرى، محمد الصدر، ص 26، دار التعارف، ط 1982.

[2] - المصدر السابق، ص26.

[3] - المصدر نفسه، ص20 -21.

[4] - المروج: 3/465 ؛ الكامل في التاريخ: 5/236.

[5] - الكامل في التاريخ: 5/333 ؛ تاريخ الغيبة الصغرى، محمد الصدر، ص61.

[6] - الكامل في التاريخ: 5/321 ؛ تاريخ الغيبة الصغرى، محمد الصدر، ص61-62.

[7] - تاريخ الإسلام، د.حسن إبراهيم حسن: 3/210، مكتبة النهضة المصرية 1964.

[8] - المصدر السابق: 3/209.

[9] - الأئمة الاثنا عشر، عادل الأديب، ص235، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1985م.

[10]- المصدر السابق، ص227.

[11]- أهل البيت (ع) تنوّع وأدوار ووحدة هدف، محمد باقر الصدر، ص142، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

[12]- المناقب: 3/507.

[13]- انظر : الاحتجاج:2/251-260.

[14]- أهل البيت (ع) تنوّع وأدوار ووحدة هدف، محمد باقر الصدر، ص148.

[15]- تاريخ الغيبة الصغرى، محمد الصدر، ص207.

[16]- بحث حول الولاية، محمد باقر الصدر، ص96.

[17]- المعجم الوسيط في اللغة العربية: 2/667، باب غاب، طبعة المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، تركيا، اسطنبول 1960م.

[18]- نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ، مرتضى مطهري، ص57، دار التوجيه 1980.

[19]- تاريخ الغيبة الصغرى، محمد الصدر، ص211.

[20]- المصدر السابق، ص209.

[21]- المصدر نفسه، ص162.

[22] - بحث حول الولاية، محمد باقر الصدر، ص11.

[23] - يوم الخلاص، كامل سليمان، ص184، دار الكتاب اللبناني 1982.

[24] - المصدر السابق، ص191.

[25] - الأنبياء105.

[26] - القصص5.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد العاشر