العدد الحادي عشر/ خريف 2007م  / ذو الحجة 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تأويلات الإرهاب ووقائع التاريخ

د. علي الشامي

في الصفحة الأولى من كتابه [قراصنة وأباطرة الإرهاب الدّولي في العالم الحقيقي] الصادر سنة 1986، ينقل المفكّر الأمريكي [نعوم تشومسكي] الرّواية التالية:

[يروي القدّيس أوغسطين قصّة قرصان وقع في الأسر على أيدي الإسكندر الأكبر الذي يسأله: كيف تجرؤ على تعكير صفو البحر؟ كيف تجرؤ على تعكير صفو العالم بأجمعه؟ فردّ عليه القرصان بقوله: لأنّني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فإنّهم يدعونني وحدي لصًّا، أما أنت فتفعل ذلك بأسطول كبير ولذلك تدعى امبراطورًا...]

تصلح الدّلالة العميقة لهذه الرّواية كمدخل لقراءة ظاهرة الإرهاب في التّاريخ وفهم ما يحيط بها من التباسات وإشكاليات.

وفي مرحلة تاريخية متأخّرة جدًا، أي معاصرة، انبثق [الإرهاب] بقدرة قادر، واندرج في سياق تأويل مقيم ومألوف لكلّ حدث استثنائي يخترق شبكة المصالح وموازين القوى، بحيث تسقط عليه نعوت وتعريفات وأهداف وأيديولوجيات، تأخذ كلّ واحدة منها وُجهةَ تأويلٍ خاصة، وكأنّما الإرهاب قد سقط على العالم من[فراغ]، بدون أسباب وذاكرة ووقائع مُعاشة. وبالتالي، يهبّ السّياسيون والمفكرون والإعلاميون إلى تعبئة هذا الفراغ بما يتناسب مع سياسات ومصالح وأفكار من كلّ حدب وصوب.

ويزداد الحدث تعقيدًا إذا كان على شاكلة الإرهاب الذي أصاب الولايات المتّحدة الأمريكية في الحادي عشر من أيلول عام 2001، لا سيما وقد أعقبته تأويلات شتّى، من نوع الاستثنائي أو التّأسيسي، لمرحلة تاريخية جديدة أو علّة وجود العنصرية العرقية والدّينية...

وفي حين أنّ هذه التّأويلات تنتمي إلى خطاب [غربي] تقليدي تجاه كلّ حدثٍ يهدّد سكينة الهَيمنة والنّهب، فإنّ ما حدث في نيويورك وواشنطن، وتداعياته في أفغانستان وبقية العالم، يحتاج إلى سبر أغوار هذه التّأويلات بهدف إدراجها في سياق الواقع الحقيقي للعالم الذي هبط عليه الحدث الإرهابي بما يشبه خوارق الأفلام في عالم [هوليوود] الخيالي واللامعقول؟ وهي[خوارق] قد لا تكون كذلك مرئية من منظار الوقائع التاريخية، حيث يجسّد الإرهاب -وكلّ ما يدخل في معناه- ممارسةً للعنف السّياسي بهدف التّرهيب أو القتل الجزئي أو الإبادة والمجازر، وهي ممارسة محفورة في تاريخ الصّراعات بين البشر، اعتمدها الأقوياء دائمًا، ولجأ الضّعفاء إليها في كلّ مرّة لم يترك لهم فيها الأقوياء خيارًا سوى الفناء أو متابعة الحياة على هامش التاريخ...

بيد أنّ مواجهة التّأويلات بالوقائع تحتاج إلى بحث تاريخي عن أصلِ وفصلِ الإرهاب بعد أن أصبح منفصلاً، بصورة انتقائية، عن أنماط أخرى من العنف، وبات موضوعًا للدّراسة والتّعريف والتّحليل والتّأريخ، وقد أشبعه [الغربيون]، أكثر من غيرهم، درسًا وتوثيقًا وتمحيصًا، وفي ميادين العلوم الإنسانية كافة.

يرجع أصل وفصل الإرهاب، كمصطلح وممارسة، إلى التّاريخ الأوروبي الحديث، وفي حين أنّه كمصطلح لغوي، تعود جذوره إلى اللّغة اللاتينية، ومنها إلى اللّغات الأوروبية الأخرى، فإنّ أوّل توصيف له أفرزته الثّورة الفرنسية الكبرى عام 1789. ووفق ما جاء في دراسة [بوغدان زلاتاريك] Bogdan Zalataric ، فإنّ الإرهاب ظهر لأوّل مرّة في ممارسات [روبسبيد] ورفقائه خلال المرحلة الأولى من الثورة الفرنسية 1789-1794.

وقد أكّد هذا التّوصيف قاموس الأكاديمية الفرنسية عند وصفه عهد [روبسبيد] بـ[نظام عهد الترهيب]. وكذلك قاموس أكسفورد للغة الإنكليزية الذي عرّف مصطلح الإرهاب بأنّه [حكم بواسطة التّهديد كما وجّهَه ونفّذه الحزب الموجود في السّلطة في فرنسا إبّان ثورة 1789-1794].

وكأنّما الثّلاثة والأربعون ألف حكم إعدام التي قامت محكمة الثّورة الفرنسية بتنفيذها بحق معارضيها تقطع مع تاريخ سابق بدون عنف وإبادة وحروب؟

ومع ذلك يظهر الإرهاب [أوروبيًا] في أصله اللّغوي وفصله السّياسي- التاريخي، بالرّغم من أنّه، كممارسةِ عنف لغاية سياسية، يغوص أكثر في أعماق التاريخ، وبما أنّه عمل يهدف إلى إرهاب الآخرين -الأعداء أو المسالمين- فإنّه يحتلّ مكانة مرموقة في تاريخ العنف والصّراعات والحروب، قد تكون بدايته منذ قتل [قابيل] [هابيل]، مثلما قد تكون نهايته مؤجّلة إلى حين يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

وفي حين يندرج الإرهاب في تاريخ العنف الإنساني المتبادل، وتحدّد القواميس مسقط رأسه، باللّغة والاسم والمكان والزّمان والفعل، فإنّ الكمّ الهائل من النتاج المعرفي الغربي حول الإرهاب يكشف جهدًا مقصودًا لحصر الإرهاب في ممارسات [الآخرين]، وتحديدًا في العرب والمسلمين؟ وذلك بالرّغم من أنّ فعل التّرهيب لم يرد في القرآن الكريم سوى مرّة واحدة بمعنى إرهاب أعداء الله والمؤمنين، وسبع مرّات بمعنى مخافة الله وحده، وبالرّغم من أنّ الحديث الشّريف شدّد، مرارًا وتكرارًا، على عدم التّعرض بأيّ أذى لغير المحاربين من الرّجال، كالأسرى والأطفال والنّساء والشّيوخ.

بالرّغم من كلّ ذلك، فإنّ حصر الإرهاب بالإسلام يتجاوز وقائع التاريخ ويعتمد على التّأويلات الموصولة بسياسات وأفكار تتّخذ من محاربة الإرهاب، والإرهاب الإسلامي على وجه التّخصيص، وسيلةً لغايات أخرى وثيقة الصّلة بالمصالح وموازين القوى...

انطلاقًا ممًا تقدّم، تغدو علاقة الإرهاب بالتاريخ محكومة بالزاوية التي ينظر من خلالها المؤرّخ إلى كل ممارسة للعنف موصوفة بالإرهاب، بحيث ينقسم التاريخ ويضيع التّعريف والتّوصيف وسط جدليّة التّنديد بإرهاب الضّعفاء من قبل الأقوياء، ولجوء الضّعفاء للعنف للتّخلص من إرهاب الأقوياء...

وهذا ما يفسّر الجدل السّائد حول حاجة العالَم إلى تعريف واضح ومشترك للإرهاب، مثلما يفسّر إصرار [الأقوياء] على فرض تعريفهم للإرهاب والّذي تتّخذ له عبارة الرّئيس الأمريكي السّابق [جورج بوش الأب] القائلة بأنّ الإرهابيين هم أولئك [الذين يطلقون النّار علينا وعلى قِيَمنا...] .

وبهذا المعنى كان رجال تنظيم [القاعدة] مقاتلين من أجل الحريّة، كما وصفهم الرّئيس الأمريكي[ ريغان] أثناء الدّعم الأمريكي لجهادهم ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. ومثلهم [المناضلون من أجل الحريّة]، وهي عبارة تردّدت كثيرًا على لسان [ريغان] نفسه في مديحه لأعمال [الكونترا] الإرهابية في نيكاراغوا.

أمّا [مناحيم بيغن]، فلم تلاحقه السّلطات البريطانية بتهمة الإرهاب سنة 1946 إلا عندما أطلق النّار على البريطانيين.

أمّا منظمات الإرهاب الصّهيونية التي ارتكبت عشرات المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، فإنّها ظلّت بمنأى عن شُبهة الإرهاب؟

وعندما كان [الفيتكونغ] يطلقون النار على الجنود الأمريكيين للدّفاع عن وطنهم، كانت صفة [الإرهاب] ملازمة لهم تمامًا مثلما كانت الطّائرات الأمريكية تُبيد المدنيّين الفيتناميين، وبعشرات الآلاف، تحت شعار مكافحة الإرهاب الفيتنامي...

ويعلّق [تشومسكي] على حضر تهمة الإرهاب بالّذين [يطلقون النار علينا] قائلاً:

[... خلال الأعوام المئتين الأخيرة، عمدنا، نحن الأمريكيين، إلى طرد سكان البلاد الأصليين، أو إلى إبادتهم خصوصًا، ويبلغ عدد هؤلاء بضعة ملايين، وقد انتزعنا نصف مكسيكو، ونفّذنا أعمال سلب في جميع أنحاء المنطقة، في الكاريبي وأمريكا الوسطى، وما يتجاوزها أحيانًا، لقد غزونا هاواي والفيليبيين، وقتلنا مئات الآلاف من الفيليبين جرّاء ذلك. ومنذ الحرب العالمية الثانية، وسّعت الولايات المتّحدة أطر نفوذها في جميع أنحاء العالم بأساليب لست مضطرًّا إلى وصفها، لكنها لطالما كانت تقتل الآخرين، ولطالما كانت المعارك تتمّ في مكان آخر، ولطالما كان الآخرون هم الّذين يتعرّضون للقتل...].

وقد ذكر الدّكتور [محمود شكري] في كتابه الوثائقي الهام حول [الإرهاب الدّولي]، الصادر في بيروت سنة 1991، تصريحًا نادرًا لديبلوماسيٍّ أمريكي، تعليقًا على ردّة الفعل الإسرائيلية بعد عمليّة [ميونيخ] سنة 1972، حيث نقلت مجلّة christian science monitor في مقالة بعنوان [أشكال وأقنعة الإرهاب]، في الصّفحة 20 من عددها الصادر في 14 أيلول 1972، تصريحًا للسّفير الأمريكي [تشارلز يوست] والّذي يقول فيه:

[... إنّنا نستبعد من تعريف الإرهاب تمامًا الغارات الثأرية الإسرائيلية على المخيّمات الفلسطينية في لبنان وسوريا في الأسبوع الماضي، والتي أسفرت بالتّأكيد عن مقتل عدد من الأشخاص الأبرياء عن بِكرة أبيهم والتي من المحتمل أنّها خلقت مجموعة جديدة من الإرهابيين بين أقاربهم وأصدقائهم. فهل كان ذلك عملاً إنسانيًا حكيمًا؟ الواقع أنّّه يوجد، بالطّبع، مقدار كبير من النّفاق بشأن موضوع الإرهاب السّياسي. فنحن جميعًا نُدينه لدوافع أخلاقية ويستثنى من ذلك حينما نقوم نحن بأنفسنا أو يقوم أصدقاؤنا بالاشتراك فيه، عندها نتجاهله أو نتغاضى عنه أو نلصق به نعوتًا مثل: تحرير، أو دفاع عن العالم الحرّ، أو شرف وطني لنجعله يبدو على غير حقيقته...].

وفي تصريح أمريكي آخر، يظهر [الإرهاب] في صورة ممارسة مكشوفة للعنف السّياسي جاهرت باعتمادها الدّولة التي تقود اليوم [حرب العالم ضدَّ الإرهاب].

ففي مقابلة مع مجلّة [نوفيل أوبسرفاتور] الفرنسية، يسأل الصّحفي الفرنسي مستشار الأمن القومي في عهد [كارتر]، [زبخينو بريجنسكي] قائلاً:

[هل تعرف أنّ ذلك معناه أنكم أعطيتم السّلاح للإرهابيين الذين أصبحوا أعداء لكم؟... إنّكم خلقتم بذلك صورة الإسلام الإرهابي].

وكان مستشار الأمن القومي، مهندس [الجهاد] الإسلامي ضد الرّوس، في منتهى الصّدق والصّراحة حين أجاب قائلاً:

[أيهما أفضل للغرب: انهيار الإتّحاد السوفياتي، أو ممارسة الإرهاب بواسطة بعض الجماعات الإسلامية؟ أيّهما أخطر على الغرب: طالبان أو الاتّحاد السوفياتي؟]

ومع ذلك يسألونك عن الإرهاب، عن أصله وفصله ومسقط رأسه وتاريخه وتعريفه، وهي أسئلة تشبه المتاهات، ولن يجيب عليه سوى ميزان القوى، وليس الباحثون والقواميس ووثائق التاريخ...

وحتى عندما استخرج [اليكس شميد] Alex Schmid، في كتابه الصادر عام 1988، بعنوان [الإرهاب السّياسي]، تعريفًا للإرهاب يتضمّن ما ورد في 109 تعريفات لهذا النّوع من العنف السّياسي، فإنّ تعريفه سقط تحت ضربات الإصرار على حصر تعريف الإرهاب بما يتلاءم ومصلحة الأقوياء، وبالتالي فإنّ تاريخ الإرهاب هو التاريخ الذي يكتبه الأقوياء ويفرضونه على العالم.

لذلك يكتشف المرء عند بحثه عن موضوع الإرهاب على شبكة الإنترنت حقيقتين واضحتين:

الحقيقة الأولى، تظهر من خلال الاهتمام المتأخّر بظاهرة الإرهاب، حيث يظهر التاريخ المكتوب عن الإرهاب منذ نصف قرن فقط. ووفق ما جاء في دراسة [شميد] المذكورة آنفًا، فقد صدر أوّل كتاب عن الإرهاب سنة 1950، وصدر كتابان عام 1960، ولغاية عام 1965 لم يصدر سوى ثلاثة كتب، ثم بدأ رواج الكتب الخاصة بالإرهاب منذ بداية السّبعينيات حيث بلغ عددها تسعة كتب عام 1975، و22 كتاب بين 1976- 1980 ووصلت إلى 5831 كتاب وبحث خلال السّنوات الممتدّة من 1980 إلى 1987.

وتظهر الحقيقة الثانية، من خلال كثافة الدّراسات الغربية عن الإرهاب، وكأنّما الإرهاب، في توصيفه وتعريفه وتأريخه قد أصبح حقلاً معرفيًا خاصًا بالغرب. ولم تكن مجرّد[ مصادفة] أن يبدأ اهتمام الغرب بدراسة الإرهاب منذ حادثة ميونيخ عام 1972، إذ تشكّلت العملية التي قام بها الفلسطينيون ضد إسرائيليين، وفي قلب أوروبا، حافزًا لكتابة تاريخ الإرهاب، بوصفه عملاً ضد الإنسانية والقانون الدّولي وإهمال تاريخ إسرائيل الذّي توحّد بالإرهاب منذ ما قبل ولادتها إلى يومنا هذا.

وقد تمّ إحصاء 6000 كتاب وبحثٍ ومقالٍ عن الإرهاب منذ حادثة ميونخ، إضافة إلى تأسيس مراكز أبحاث ومجلات ونشرات دوريّة متخصّصة في مجال الإرهاب وذلك منذ مطلع الثمانينات، وتصدر هذه كلّها عن مفكّرين غربيين وفي اختصاصات متعدّدة، وترتبط جميعها أو معظمها بهيئات حكومية سياسية وأكاديمية وأمنية، كانت رؤيتها، ولا زالت، صاحبة الكلمة الفصل في المؤتمرات الدّولية والتّحالفات والاتّفاقيات الإقليمية والدّولية الخاصة بمحاربة الإرهاب.

وتتوارى خلف هاتين الحقيقتين حقيقة ثالثة كامنة فيهما، والتي يمكن ملاحظتها بسهولة أثناء كلّ قراءة موضوعية لقسم كبير من الدّراسات الغربية حول الإرهاب، حيث نكتشف أنّ الإرهاب صفة ملازمة لكل عنف يطال الغربيين وحدهم، بالدّرجة الأولى، ويطال حلفاءَ لهم بالدّرجة الثانية. بل يمكن الجزم بأنّ هذه الدّراسات وحدها هي التي اكتشفت الإرهاب وقد منحته وثيقة ولادة وتاريخ وهوية وقابلة قانونية...

وللمزيد من التّوضيح، نأخذ تاريخ خطف الطائرات، على سبيل المثال وليس الحصر، فقد تمّ توصيف كلّ عملية اختطاف لطائرة مدنية يقوم بها أفراد ينتمون إلى تنظيمات تخوض كفاحًا مشروعًا من أجل التّحرّر وتقرير المصير بأنّها عملية إرهابية، ويتم تجاهل كلّ عملية أخرى، من نفس النّوع، إذا كان القائمون بها يدورون، بشكل أو آخر، في فلك الولايات المتّحدة الأمريكية وحلفائها. وقد وصل الأمر بعدد من الكتّاب، وخاصّة الأمريكيين، من أمثال [ليزلي غرين]، إلى تأريخ خطف الطائرات باعتباره اختراعًا [فلسطينيًا]؟

بيد أنّ الوقائع التاريخية تفضح الانتقائية والتّأويلات معًا. ذلك أنّ أول عملية خطف لطائرة مدنية قامت بها دولة إسرائيل في كانون الأوّل عام 1954 عندما أرغم سلاح الجوّ الإسرائيلي طائرة مدنية سوريّة على الهبوط في مطار [اللّد] بهدف مقايضة ركّابها المدنيين بعدد من الجنود الإسرائيليين، كانت القوات السّورية المسلّحة قد اعتقلتهم داخل الأراضي السّورية أثناء مهمّة تجسّس، وقد صرّح رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك، [موشي دايان]، بمشروعية هذا العمل والغاية منه.

وبديهي القول أنّ سادة العالم الحرّ تفهّموا هذا العمل مثلما أهمله الباحثون في تاريخ الإرهاب؟!

وحدثت العملية الثانية سنة 1956 عندما أعترض سلاح الجوّ الفرنسي طائرة مدنية مغربية كان على متنها الرّئيس الجزائري [أحمد بن بللا] ورفاقه في جبهة التّحرير الوطني الجزائري حيث تمّ اعتقالهم وسجنهم.

وقد تفهّم سادة العالم الحرّ هذا العمل وتجاهله المؤرّخون.

وكانت الباحثة [الونا أيفاز] قد وضعت قائمة بعمليات خطف الطائرات ونشرتها سنة 1984، ونجد في هذه القائمة أن أول عملية خطف طائرة مدنية قام بها الفلسطينيون، هي العملية التي حدثت بتاريخ 23 تموز 1968 ضد طائرة تابعة لشركة [العال] الإسرائيلي، تأتي في المرتبة السابعة والخمسين، ويلفّ صمت مشبوه كلّ عمليات خطف الطائرات الأخرى، بما فيها تفجير الطائرات المدنية بركابها وطواقمها، ويجري التّعتيم عليها وخطر التّداول بها، لا سيّما إذا كان القائمون بها معارضين لنظام [كاسترو] في كوبا والذين بدأوا هذا النّوع من الأعمال منذ 1960، بل وفي حالات أخرى قاموا بتفجير الطائرة المدنية في الجو ومقتل جميع ركابها، كما حدث للطائرة الكوبية التي انفجرت في الجو بواسطة قنبلة موقوتة في تشرين الأوّل عام 1976... أو إذا كان القائمون بها من المنشقّين عن الاتّحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، حيث منحت الولايات المتّحدة الأمريكية حق اللّجوء السّياسي لخاطفي طائرة سوفياتية في تشرين الأوّل 1985 ورفضت تسليمهم رغم مقتل مضيفة روسية وجرح عدد من أفراد طاقم الطائرة. أو حادثة اختطاف طائرة مدنية هنغارية قام بها منسّقون تشيكوسلوفاكيون في 29 آذار 1989 وحصلوا على حق اللّجوء السّياسي!

ويمكن تعداد حوادث أخرى ذات بُعد سياسي صريح قام بها غير العرب والمسلمين.

وبالرّغم من أنّ العرب والمسلمين لم يباركوا يومًا عمليات من هذا النّوع، وبخاصة إذا كانت تُعرّض حياة المدنيين للخطر، وبالرّغم من أنّ هؤلاء كانوا أقلّ الفئات مشاركة في خطف الطائرات، إلا إنّهم، وحدهم، نالوا نصيبهم من تهمة الإرهاب وضاعت هوية الآخرين في وسائل الإعلام.

وكم كان [تشومسكي] محقًا عندما قال: [... فأعمال العرب وحدها ترسّخ على أنّها نكبات الإرهاب الشّريرة].

وفي هذا السّياق يندرج تأويل الإرهاب الذي أصاب الولايات المتّحدة الأمريكية في عقر دارها بوصفه بداية تاريخ جديد. ويبدو أنّ [الجديد] في هذا التّأويل يكاد يكون محصورًا في [عقر دارها]، أمّا التّاريخ الحقيقي فقد حافظ على قديمه مع تجديد وسائله ، وهو ما ترويه الوقائع حيث يحتل الإرهاب مكانته الطّبيعية كجزء من الأحداث التاريخية الموصوفة بالعنف والقتل...

وتقوم علاقة الإرهاب بالتاريخ على مفارقة ظاهرة، ففي حين أنّ مصطلح الإرهاب حديث التّداول والتّوثيق والتّوصيف، إلا أنّه لازم العنف منذ أن كان للعنف تاريخ، وضاع في تفاصيله إلى أن وجد مؤرّخ ما ضرورة تمييزه وتخصيصه، وعليه، تظهر مفارقة الإرهاب والتاريخ في اللّحظة التي يرى طرف ما أنّ العنف المتساقط عليه يدخل في تاريخ الإرهاب، والعنف الذي يمارسه هذا الطّرف نفسه ضدّ الآخرين لا يدخل في تاريخ الإرهاب.

وتكفي مقارنة النّظرة الأمريكية لإرهاب تنظيم [حماس] بنظرتها لإرهاب منظّمة [الكونترا] في نيكاراغوا لتأكيد هذه المفارقة.

وبما أنّ الإرهاب، من حيث هو، ترويع وتهديد وقتل وإبادة، كان ولا يزال واحداّ من أهّم الوسائل التي يلجأ إليها الغالبون بمواجهة المغلوبين، فإنّ تاريخ الإرهاب يصبح رواية أُحادية لكل عنف يقوم به الضّعفاء ضد الأقوياء، بصرف النّظر عما إذا كان هذا العنف يستهدف المدنيين أو العسكريين، أو كان نضالاً مشروعًا من أجل الحرية والعدالة وحق تقرير المصير...

وطالما أنّ القوي هو الذي يفرض تعريفه للإرهاب، فإنّ التاريخ الذي ترويه الوقائع يوثق إرهاب الأقوياء ويجعله حكرًا عليهم. وكما قال [تشومسكي]، في مقالته المنشورة في جريدة النّهار بتاريخ 19 كانون الأوّل 2001، فإنّ الإرهاب [هو سلاح الأقوياء. وإنّه لخطأ تحليلي في غاية الخطورة أن نقول، مثلما هو شائع أنّ الإرهاب هو سلاح الضّعفاء. فعلى غرار أساليب العنف الأخرى، إنّه سلاح الأقوياء في تشكّل رئيسي، بل في تشكّل ساحق...]

ومنذ أنّ كتب [ماكيافيللي] إلى [أميره] قائلاً أنّه ينبغي على [الغالب أن يقوم بارتكاب أعمال القسوة كلّها دفعة واحدة]، ورفع شعاره الشّهير: [من الأسلم أن تكون مرهوبًا، لا محبوبًا] .

ومنذ أن كتب [هوبز] في كتابه [التّنين] أن[الشّرف هو أي شيء نملكه، أو أي شيء نفعله، أو أية صفة نتصرّف بها، ويكون دليلاً على القوّة وعلامة عليها... فالسّيطرة والانتصار أمران شريفان، لأنّنا نحصل عليهما بالقوّة...].

ومنذ أن باشر [الغرب] نهضته كانت هذه [النصائح] حاضرة في وقائع التاريخ لأحداث تروي [قصّة الحضارة] الغارقة في [الوحل والدّماء] كما يقول [ديورانت].

ولم تعدّل خطوات الغرب في الحضارة في أواليات القوّة والعنف، وكأنّما القوّة وحدها تختصر الخطاب والفعل والتاريخ .

وعلى منوال دعوة [ماكيافيللي] و[هوبز]، نسجت [جين كيركباتريك]، مندوبة الولايات المتّحدة الأمريكية إلى الأمم المتّحدة في عهد [ريغان]، مضامين محاضرتها التي ألقتها أمام أقطاب السّياسة الأميركية في شباط 1982، والتي أصبحت معروفة بـ[وثيقة كيرباتريك] لجهة غناها بالإرشادات والتّوجيهات الخاصّة بضمان السّيطرة الأمريكية على العالم، حيث قالت في خاتمة المحاضرة - الوثيقة:

[إنّ استعمال القوّة جزء لا يتجزّأ من عملية صنع التاريخ. وباستثناء الحرب النّووية، فإنّ واجبنا أن لا نخاف من ممارسة القوّة لحماية المصالح الأمريكية...].

وقد شهد العالم في السّنوات والقرون الفاصلة بين هذه الدّعوات إرهابًا شموليًا أبرزته الوقائع وأخفقت التّبريرات والـتّأويلات في طمس فداحته. ذلك أنّ أصحاب [القلوب المفتوحة] الذين [يجودون على الغريب بكلّ ما ملكت أيديهم]، كما يصف [كولومبس] السّكان الأصليين للقارة التي اكتشفها، أو غزاها، لا فرق، تعرّضوا لإبادة شاملة بدون مبرّر أو أخلاقيات من أي نوعٍ. وفي أقلّ من قرن واحد فتك الأوربيون بملايين البشر المسالمين والأبرياء وأصحاب الأرض الشّرعيين...

وبعد إبادة هؤلاء بدأ تاريخ تعريضهم بإبادة بشَرٍ آخرين. فكان الموت والقتل مصير ملايين الأفارقة المسالمين الذين جرى استرقاقهم في أكبر عملية استعباد في التاريخ... وفي الفترة الممتدّة من 1939 إلى 1945، أودت الحرب العالمية الثانية بحياة أكثر من ستين مليون إنسان معظمهم من المدنيين الأبرياء.

تختزل هذه الوقائع الثّلاث التاريخ الحقيقي للإرهاب والعنف، وقد قام به الأقوياء في حروبهم للسّيطرة على الآخرين، الضّعفاء والمسالمين. ولم تكن هذه الوقائع طارئة على مجرى التاريخ، فقد سبقتها أهوال وأعقبتها أخرى، من فلسطين وفيتنام إلى نيكاراغوا وأفغانستان، وإلى حيث يستقرّ القوي على قراره بعد أن جعل العالم على ما كان عليه بالأمس، وعلى ما هو عليه اليوم وفي المستقبل القريب.

وبهذا المعنى، يملك الأقوياء إرادة إخراج الإرهاب من التاريخ ، تمامًا مثلما يملكون رغبةً ومصلحة في أن يبقى التاريخ مشبعًا بالقوّة والإرهاب، لاسيما وأنّهم، أي الأقوياء، يملكون، إضافة إلى الثروة والمعرفة وأسلحة الدّمار الشامل، كلّ الوسائل الكفيلة بترهيب الآخرين وإرغامهم على الخضوع.

وأكثر من ذلك، فينتج الأقوياء ثقافة خاصّة بالإرهاب، إرهابهم، لتبريره وتشريعه وضرورته للحفاظ على طريقة الحياة ومصادر الطاقة والأسواق المفتوحة وأرض الميعاد...

وعندما يتمرّد أصحاب الحقّ والأرض تنهال عليهم نعوت الإرهاب وتجعله وقفًا عليهم وحدهم.

وقد حلّل المؤرّخ الأميركي [كافين رايلي] في كتابه [الغرب والعالم]، جذور ثقافة العنف في المجتمع الغربي، والأمريكي بشكل خاص، حيث تعمل الثّقافة على توجيه [العدوانية] نحو شعوب وأديان أخرى.

[وقد عمد مجتمعنا الغربي على توجيه عدوانيّتنا على وجهات دينية وتجارية. وما أسهل أن تتحوّل من الصّلوات إلى الصّولات والافتراس، أو من الغارة إلى التّجارة] .

ويتابع [رايلي] قائلاً: [... وفي الوقت نفسه الذي يتيح لنا تراثنا الثقافي التنصّل من تبعة العنف، نكافئ العسكريين أبطال الحروب المقدّسة والسّماسرة الذين [يفتكون بالآخرين]. لقد خلقنا تكنولوجيا يمكننا بواسطتها القضاء على مجتمع العسر والموت والعنف والفتك إذا شئنا، ولكننا لا زلنا في جانب منّا رواد الحدود، وفي الجانب الآخر، رومانًا وفايكينغ وصليبيين...].

* * *

أعلى الصفحة     محتويات العدد الحداي عشر