العدد الحادي عشر/ خريف 2007م  / ذو الحجة 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

السّلفية بين المصطلح والواقع

د . خضر محمد نبها

 

1- تحديد مصطلح السلفية:

يقول المتكلّم والمحدّث الإمامي الكبير هشام بن الحكم (ت 179 هـ): "أول شغب الرّجل تعلّقه بالألفاظ"([1]).

وخوفًا من هذه المشاغبة لا بدّ أولاً من تحديد مصطلح" السّلفية" والقصد منه، لأنه قد يتبادر إلى الذهن أن المقصود من"السّلفية" هم "أهل السنّة"، وهذا خطأ فادح، فـ"السلفية"ليست مذهبًا إسلاميًا محددًا، كما يرى د. محمد سعيد رمضان البوطي، بل هي مرحلة زمنية مباركة، محصورة "بالقرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة"([2]) وقد عبّر عنها" بالخيرية"، انطلاقًا من حديث منسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهم"الصحابة" ومن ثم مع من يليهم من"التابعين" وهؤلاء جميعًا هم السلف الصالح([3]).

الانتقائية في تطبيق المصطلح

إذن"السلف الصالح" هو الذي اشتق منه مصطلح السلفية، والسلفيون هم أتباع "السلف الصالح"، وبناءً عليه، فالشيعة سلفيون لأنهم أتباع الصحابة الأخيار وتابعيهم من أسلافهم([4])، وكذلك الأحناف، والشوافع، والمالكية، والحنابلة جميعهم من"السلفية".

ولكن عندما نتأمل في المقصود من "السلفية" عند أعلام السلفيين نجدهم انتقائيين لأنهم يستثنون من السلف الصالح"الخوارج والروافض والمرجئة، والجهميّة، والمعتزلة وسائر الفرق الضالة([5]) بنظرهم، ويحددون"السلف الصالح" بـ"الأئمة الأربعة، والسفيانيين، والليث بن سعد، وابن مبارك النخعي، والبخاري، ومسلم وسائر أصحاب السنن"([6]) ولكن هذا التعريف "للسلفية" لا يستقيم، لأنّ من ذكروهم كان فيما بينهم خصومات إلى حد التكفير، فهذا الإمام أحمد بن حنبل يرى أن الإمام أبا حنيفة كان من المرجئة([7])، والمرجئي ضال منحرف ومبتدع([8])، وقد كفّرته باقي الفرق([9])، وهو يقول بخلق القرآن([10])، وكل من يقول بخلق القرآن فهو جهمي، وكل جهمي في نظر الحنابلة وإمامهم كافر.

وكيف نفهم تأييد أبي حنيفة لثورة محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، حيث كان على بيعته ومن جملة شيعته حتى رفع الأمر إلى المنصور فحبس إلى الأبد حتى مات في السجن([11]). وفي الوقت عينه، نجد الإمام أحمد بن حنبل لا يقول بالخروج على طاعة إمام زمانه، وهو موقف أصحاب الحديث بشكل عام، فكيف نفهم "سلفية الإمام أبي حنيفة" مع "سلفية الإمام أحمد بن حنبل"؟! ولن أذكر صراعات وتحاسد وتلاعن وتكفير أصحاب الحديث فيما بينهم، كما عبّر عنها المحدّث ابن قتيبة الدينوري([12])، وما ذكره عبد الله بن حنبل في كتابه "السنّة"([13]). وأما المعتزلة الذين تمّ إخراجهم من تعريف"السلفية"، فإن الحسن البصري، وهو تابعي ومن أقطاب السلف لدى "السلفيين"، فإنه عندما سئل عن عمرو بن عبيد، رأس المعتزلة، أجاب سَائله قائلاً: "لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته"([14]).

وكان "أبو الوفاء ابن عقيل، وهو أحد كبار المحدثين والفقهاء والحنابلة السلفيين يعظّم المعتزلة ويترحّم على الحلاج([15])، وأما الرافضة الذين أخرجوا من"السلف الصالح" فإن كان المقصود بهم عند "أعلام السلفيين" الشيعة الإمامية، فإن هذا مردود، ولا حاجة لإثبات كون الشيعة الإمامية من أتباع الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وعلى رأسهم الإمام علي (عليه السلام) وولديه الحسنين (عليهما السلام) فهم من كبار الصحابة، وأولادهم (عليهم السلام) من كبار التابعين.

ونستخلص مما سبق، أن مصطلح" السلفية" إن كان يقصد به فترة زمنية محددة ومخصوصة بمرحلة"السلف الصالح" فسيدخل ضمن هذا المعنى الشيعة والسنّة حتمًا ، وهذه تسمية مباركة لفترة زمنية ماضية كما مرّ.

2-"السلفية" والأئمة الأربعة من السنّة":

 ولكن في يومنا هذا من هم هؤلاء "السلفية"، وهل لهم مذهب خاص في الأصول والفروع يميّزهم عن باقي الفرق الإسلامية ؟

في الواقع لا بدّ من التمييز ما بين "السلفية" و "مذاهب الأئمة الأربعة" من أهل السنة، فإن هؤلاء أصولهم الاعتقادية هي: الأشعرية، والماتريدية، وفروعهم الفقهية هي: المالكية، والحنفية، والحنبلية، والشافعية.

وأما "السلفية" فإن أصولهم الاعتقادية هي "تعاليم ابن تيمية"، وفروعهم الفقهية ترجع إلى "الحشوية من الحنابلة".

مراحل السلفية

المرحلة الأولى:

إن هذه" السلفية" -وكما هي اليوم- ظهرت في القرن الرابع الهجري، وكانوا من الحشويين من الحنابلة وزعموا أن جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيا عقيدة السلف، وحارب دونها، ويصفهم ابن عساكر الدمشقي (ت 571 هـ): "بأنهم طائفة من الحنابلة تغلو في السنّة، وتتدخّل فيما لا يعنيها حبًا للخوض في الفتنة"([16])، ويبرئ ابن عساكر الإمام أحمد بن حنبل منهم ويرى بأنه "لا عار على أحمد رحمه الله من صنيعهم"([17])، بل "ابتلي أحمد بهم لأنهم أصحاب سوء، كما ابتلي الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ببعض تلامذته الذين غلوا به"([18]).

إذن، هذه الطائفة تتصف بالغلو والفتنة، وهذا الغلو هو "الحشو"، فلذلك يقول الصفدي: "والغالب في الحنابلة الحشوية"([19]).

المرحلة الثانية:

وظلت هذه الطائفة في نوم عميق، من القرن الرابع الهجري إلى القرن السابع للهجرة، حتى جاء (ابن تيمية) وأيقظها من نومها، فأعلن "الحشو" كالتشبيه والتجسيم([20])، وأشعل الفتن، فقضى على طائفة من المسلمين في جبل لبنان بفتواه الشهيرة، ومات في السجن لكثرة اعتراضاته ومخالفاته، حتى أطلق عليه ابن بطوطة في رحلته لقب "الفقيه ذي اللوثة"([21])، أي أن في عقله شيئًا، واللوثة بالضم مسّ جنون، وذلك في قصة معروفة عن ابن تيمية.

المرحلة الثالثة:

وبعد (ابن تيمية)، نامت (الحشوية الحنبلية) في رقاد طويل ما يزيد عن خمسة قرون من الزمن، ولكنها قامت من رقادها الطويل تنفض عنها غبار الزمن، مستعيرة لقب "السلفية" للتضليل والتمويه على عامّة الناس عمومًا، وأبناء الصحوة الإسلامية خصوصًا، وذلك على يد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة.

رأي علماء السنة بالسلفية

وقد تنبه لذلك طائفة من علماء أهل السنة فبادروا لإعلان ذلك، وتنبيه المسلمين كافة من خطر انتشار عقائد وأفكار هذه الفئة المخربة والمشاغبة، والتي سطّر لها التاريخ الإسلامي صفحات سوداء في الماضي، من إشاعة الفتن المذهبية، يقول ابن خليفة عليوي، وهو عالم أزهري: "لقد ظهرت في بلادنا الشامية طائفة تدعو إلى السلفية ونهجها إعتناق العقيدة الحشوية الحنبلية وتبديع أهل السنّة والجماعة"([22]).

ويتابع الشيخ الأزهري: "أما انتم أيها"الحشوية الحنبلية" في البلاد الشامية فكفاكم شن الغارات على أهل السنّة والجماعة بعاديات الأهواء، وكفاكم شموخًا بأنوفكم حتى السماء"([23])، وقامت"الحشوية الحنبلية" أو "السلفية الجديدة" بأعمال شنيعة في عصرنا الحاضر، وقد يصح عليها تسمية "الإرهابية"، بمعنى العنف والرعب، فقتلوا المسلمين وكفّروهم([24])، كما فعل أسلافهم من الحشوية الحنبلية في القرن الرابع الهجري في فتنة "المقام المحمود"([25])، وهدموا قبر النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة والصحابة في المدينة([26])، وغزوا كربلاء وسرقوا ما في مشهد الإمام الحسين (عليه السلام) من كنوز ومجوهرات وتحف جمعت خلال قرون طويلة من الزمن([27])، ويحاولون اليوم في العراق الجريح أن يبثوا الرعب والفتنة والقتل المذهبي بين طوائف العراق، وبحق يستحقون لقب "التكفيريين الجدد" أو "الإرهابيين".

وباختصار، "السلفية" أو "الحشوية الحنبلية" مرت بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: في القرن الرابع الهجري، على يد بعض اتباع الإمام أحمد بن حنبل، وهو براء منهم، وهم الحشوية الحنبلية، وهم المؤسسون الحقيقيون للسلفية الجديدة.

المرحلة الثانية: في القرن السابع الهجري، على يد ابن تيمية حيث أيقظها، وبثّ من خلالها الفتنة والتكفير.

المرحلة الثالثة: في القرن الثاني عشر الهجري على يد محمد بن عبد الوهاب، في نجد، وتمّ استغلال هذه الدعوة فقامت الفتن، وهدم منبر النبي (صلى الله عليه وآله) وقبور الأئمة والصحابة، وأُلغي إحياء المولد النبوي، وتستغلّ هذه الدعوة اليوم لإحياء (فكرة التكفير) في المجتمعات الإسلامية، وهذا هو الخطر الكبير الذي تعانيه الأمة.

3- "السلفية الحشوية التكفيرية" و "السلفية التنويرية":

 يبقى أنه لا بدّ من التمييز ما بين "السلفية التكفيرية" و "السلفية التنويرية" التي تحدث عنها المؤرخون والمفكرون من العلمانيين والقوميين بشقيهم الماركسي والليبرالي" من مفكري عصر النهضة، لأنهم يقصدون بذلك زعماء الحركات الإسلامية الكبرى التي ظهرت في العالم الإسلامي، أمثال الشيخ محمد عبده المصري وأستاذه جمال الدين الأفغاني ومن سار على نهجهما كأبي شعيب الدكاكي والعربي العلوي، والزعيم علال الفاسي، وهؤلاء من المغرب الأقصى، أما في الجزائر فعرف الشيخ ابن باديس كداعية سلفي تنويري، وفي تونس نشر تعاليم السلفية التنويرية سالم بو حاجب وطاهر بن عاشور، أما حركة الإخوان المسلمين التي ظهرت بدءًا في مصر فيمكن القول بأنها قامت على أساس تبنّي المبادئ السلفية([28]). والسلفية التي دعا إليها هؤلاء المصلحون الكبار، ومن تبعهم بعد ذلك أمثال محمد إقبال في الهند، والإمام الخميني (قده) في إيران، والمودودي في باكستان، تعتبر (سلفية تنويرية) تدعو المجتمع الإسلامي للأخذ بقيم الرسالة الإسلامية في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والمدنية كشرط للنهوض العام والشامل، ومواجهة الاستعمار، ومعالجة التراث الفكري والديني الإسلامي معالجة عالمية، والاستفادة من أحسن وأفضل ما أنتجه العقل الاسلامي في الماضي، وتدعو إلى الانفتاح ومعرفة مقومات الحضارة الغربية المعاصرة للاستفادة من ايجابياتها، وغيرها من المبادىء والدعوات.

ولا شك أن الدعوة إلى هذه القيم الفكرية والحضارية، وغيرها والتي عرفت بها "السلفية التنويرية" هي على النقيض تمامًا مما تدعو إليه سلفية "الحشوية الحنبلية" أو بالأحرى "التكفيريون الجدد"، فإن هؤلاء تكفيريون، قتاليون، أصحاب فتن وتفرقة، أما "السلفية التنويرية" فإن الدعاة إليها بنّاؤن، حواريون، إصلاحيون، أصحاب حوار وتلاق.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

[1]- التوحيدي: الذخائر والبصائر، دار صادر ، بيروت ، ج7/75، 225.

[2]- د. محمد سعيد رمضان البوطي: السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، دار الفكر، دمشق، ص9.

[3]- السيد محمد الكثيري: السلفية بين أهل السنة والإمامية، دار الغدير، لبنان، ط2، سنة 2004،ص 23.

[4]- راجع حول هذا الأمر: علي حسين الجابري: الفكر السلفي عند الشيعة الاثنا عشرية.

[5] - د. محمود عبد الحليم: السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص11.

[6] -م. ن.

[7] - الأشعري: مقالات الإسلاميين ، طبعة محمد محي الدين عبد الحميد ، 1/202.

[8] - الذهبي: ميزان الاعتدال 1/ 426. وابن حجر: لسان الميزان، بيروت، 2/142.

[9] - البغدادي: الفرق بين الفرق ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، ط 5 ، 1982م، ص 128.

[10]- م. ن ؛ وأيضاً الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/312. وأيضاً الشهرستاني: الملل والنحل 1/81.

[11] -الشهرستاني: الملل والنحل، دار المعرفة، لبنان 1/158.

[12]- ابن قتيبة الدينوري: الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة،دار الكتب العلمية، لبنان،لا ط ، لا سنة،ص 12.

[13]- عبد الله بن أحمد بن حنبل: السنّة، دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، سنة 1985، ص. 227،228.

[14]- د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب،الدار المصرية للطباعة والنشر،لبنان، لا ط، لا سنة،ص. 497.

[15]- مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي: النهج الأحمد في تراجم أصحاب أحمد،عالم الكتب، لبنان، ط2،سنة 1984، ص. 37.

[16]- ابن عساكر: كذب المفتري، دار الفكر المعاصر، لبنان بالاشتراك مع دار الفكر، دمشق، ط2، سنة 1399 هـ، ص. 163.

[17]- م . ن.

[18]- م . ن.: قال ابن عساكر: حدثنا... قال: سمعت ابن شاهين يقول: رجلان بليا بأصحاب سوء: جعفر بن محمد وأحمد بن حنبل" ص 164.

[19]- م . ن.

[20]- راجع: صائب عبد الحميد: ابن تيمية حياته وعقائده، دار الغدير، لبنان، لا ط، لا سنة.

[21]- ابن بطوطة: رحلته ص95 وذكر القصة ابن حجر في الدار الكامنة 1/154.

[22]- ابن خليفة عليوي: هذه عقيدة السلف والخلف في ذات الله تعالى، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق، لا ط، سنة 1979 م ، ص.7.

[23]- م . ن.

[24]- السيد محمد الكثيري: السلفية بين أهل السنة والإمامية (مرجع سابق).

[25]- م . ن.

[26]- م . ن.

[27]- م . ن.

[28]- الموسوعة الفلسفية العربية: المجلد الثاني، مادة السلفية، ص. 737.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الحداي عشر