السنة الرابعة / العدد الثالث عشر/ آب 2008 - شعبان 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

دعوة الإسلام حكمةٌ وسلام*

العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي

ملخص تاريخ الإسلام من بدء دعوته إلى حين انتشاره

إن بلاد العرب كانت على أقبح جانب من العبادة الوثنية الأهوائية، والعوائد القاسية الوحشية، وخشونة الظلم والجور، وإدمان الحروب والغارات.

قد امتازت كل قبيلة بجبروت رياستها، واستقلّت بعصبية قوميتها، حتى إن كل قبيلة اختصّت بصنم معبود، لئلا تخضع إلى قبيلة أخرى، واستمروا على ذلك أجيالاً متعددة تتراكم عليهم فيها ظلمات الوحشية. وضلالات الوثنية، وعوائد الظلم، وقساوة العداوة، والحروب المبيدة الفظيعة، بل كانت الدنيا بأسرها مرتبكة بين العبادة الأوثانية الصريحة، وبين التثليث وتجسيد الإله والسجود للأيقونات (الصور والتماثيل) وإن جرى لفظ التوحيد على بعض الألسن لفظًا بلا معنى، حتى إنك ترى معارف التوراة الدارجة في الإلهيات ناشئة من مبادئ وثنية يجب أن ينزّه عنها جلال الله.

وعند تراكم هذه الظلمات والضلالات، وهيجان براكينها الهائلة نبغ صاحب دعوة الإسلام والتوحيد الحقيقي (محمد)، وأعلن بين العرب بادئ بدء بدعوة الإسلام التي هي أثقل عليهم من الجبال، فدعاهم جهارًا إلى رفض معبوداتهم من الأوثان، وترك عوائدهم الوحشية، وإلى الخضوع لعدل المدنية، والتجمّل بالأخلاق الفاضلة والآداب الراقية، واستمر على هذه الدعوة في مكة نحو ثلاث عشرة سنة.

وفي السنة الثالثة من دعواه الرسالة أعلن بدعوته لعامة الناس إعلامًا تامًا، وصار ينادي بدعوته في جميع أيامه في المحافل والمواسم بجميل الموعظة، وقاطع الحجة، والإنذار بالعقاب والبشرى بالثواب، وحسن الترغيب والترهيب، وتلاوة القرآن، والإعذار بالنصيحة، لم يَهَبْ في دعوته طاغوتًا ولم يستحقر فيها صعلوكًا، يدعو الشريف والحقير والمرأة والعبد.

وقد آمن -في خلال هذه الدعوة- بدعوته الثقيلة على الأهواء من كل وجهة خلق كثير من أهل مكة وضواحيها من قريش وغيرهم، واحتملوا في سبيل ذلك أشد الاضطهاد والهوان، والجلاء عن الأوطان إلى الحبشة وغيرها.

فكم من شريف في قبيلته عزيز في أهله وقومه صار بإسلامه مهانًا مضطهدًا، وكل هذا لم يصدّ الناس عن الإسلام، إذ لا يصدّ الضعيف ما يقاسيه من العذاب ولا يصدّ الشريف العزيز ما يلاقيه من الهوان، يرون الإسلام هو العز والشرف والحياة والسعادة.

ففي السنة الخامسة هاجر إلى الحبشة من جملة المؤمنين اثنان وثمانون رجلاً من معاريف قريش وأتباعهم وذوي العزة، ومعهم مثلهم أو أكثر منهم من النساء المسلمات الشريفات، وبقي كثير من المؤمنين في مكة وغيرها، يقاسي أكثرهم سوء العذاب، وكل هذا لا يصدّ الناس عن إظهار الإسلام.

وقد أقبل على الإيمان بدعوة (محمد) وهو بمكة قبائل الأوس، والخزرج، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأسلم، وخزاعة. ولا يخفى أن محمدًا كان عزيز قريش من بيت سيادتها وعزها، تسمّيه قريش (الصادق الأمين)، يُودع عنده مشركو قريش والعرب ذخائرهم إلى حين هجرته، ومع ذلك كان يقاسي الأذى الشديد من المشركين، والاستهزاء والتكذيب لدعوته، والحبس مع بني هاشم في الشعب، وهو مع ذلك متمسّك بالتحمّل والصبر الجميل وهدو السلم، لا يفتر عن دعوته ونشرها، وبثّ تعاليمه الفاضلة، وحماية التوحيد وإبطال الوثنية.

حتى إذا اشتدّ عليه الاضطهاد وتعاقد المشركون على قتله، عزم على أن يقطع مادة الفساد ويحافظ على دعوة التوحيد والإصلاح، ويعتزل عن بلاده وهيجان المشركين للشر، فهاجر إلى المدينة لنشر دعوته، وجمع المسلمين في حماية جمعية واحدة، فانتظم له في هجرته -زيادة على من ذكرنا إسلامه- إسلام كثير من العرب بالطوع والرغبة، ومن جملتهم قبائل اليمن وحضرموت والبحرين، بل ما من قبيلة من القبائل التي حاربته إلا ويذكر التاريخ المعلوم أنّ أناسًا منها أسلموا بالطوع والرغبة، فمنهم من تجاهر بإسلامه ومنهم من تستّر به إلى حين.

حروب رسول الإسلام

وأما حروب رسول الإسلام فإن أساس التاريخ الذي يذكرها يقرنها بذكر أسبابها التي يعلم منها أنه لم يكن حرب من حروبه ابتدائيًا لمحض الدعوة إلى الإسلام، وإن جاز ذلك للإصلاح الديني والمدني، وتثبيت نظام العدل والمدنية، ورفع الظلم والعوائد الوحشية الجائرة القاسية، لكن دعوته الصالحة الفاضلة تجنبت هذا المسلك وسلكت فيما هو أرقى منه وهو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، كما جاء هذا التعليم الأساسي في الآية الخامسة والعشرين بعد المائة من سورة النحل المكية {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.

وقد استمرت سيرته الصالحة على ذلك، فكانت حروبه بأجمعها دفاعًا لعدوان المشركين الظالمين عن التوحيد وشريعة الإصلاح والمسلمين، ومع ذلك فهو يسلك في دفاعه أحسن طريقة يسلكها المدافعون، وأقربها إلى السلام والصلاح، يقدّم الموعظة ويدعو إلى الصلاح والسلام ويجنح إلى السلم، ويجيب إلى الهدنة ويقبل عهد الصلح، مع عرفانه بأنه المظفّر المنصور، وهاك ما ينادي به التاريخ من أسباب حروبه وغزواته.

حرب بدر وأسبابها

فأول حروبه المعروفة بعد هجرته هي حرب بدر، وكانت في السنة الثانية من الهجرة، وسببها أن المشركين من قريش اشتدّ اضطهادهم للمسلمين ومن يريد الإسلام بمكة، ومنعوهم عن الهجرة والفرار بدينهم، حتى ضيّقوا عليهم بقساوة الاضطهاد والحبس لكي يردّوهم إلى شرك الوثنية وعوائد الضلال، فإنهم عرفوا من سيرة (محمد) أنه لا يحب إثارة الحرب فزاد طغيانهم لمّا أمِنوا جانبه، فأراد أن يرهبهم بالقوة والمنعة، ويهدّدهم بالتعرض لسبيل تجارتهم إلى الشام، لكي تلجئهم الضرورة الاقتصادية وحاجتهم لتجارة الشام إلى الكفِّ عن ضلالهم في اضطهاد المؤمنين بمكة ومنعهم عن الهجرة والفرار بدينهم، فندب إلى ذلك بعض أصحابه، فنهض منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً على أضعف عدة، لم يكن معهم إلا سبعون بعيرًا يتعاقبون عليها وأسياف قليلة.

فقصدوا قافلة قريش المقبلة من الشام، فسمع بذلك رئيس القافلة أبو سفيان، وأرسل إلى مكة يستصرخ قريشًا لتخليصها، فخرجوا بعدة كاملة من الخيل والسيوف والدروع، وكانوا نحو ألف رجل، واتفق أن قافلة قريش نجت من أصحاب (محمد)، ولكن قريشًا لم يكتفوا بنجاة قافلتهم، بل قصدوا محمدًا وأصحابه اغترارًا بكثرة عددهم وقوة عدتهم، وقد منعهم عقلاؤهم عن قصد (محمد) فلم يقبلوا، حتى اجتمعوا مع المسلمين في مكان يسمى (بدرًا) وابتدأوا بالقتال، فانتصر المسلمون انتصارًا باهرًا وقتلوا من صناديد قريش سبعين وأسروا سبعين، ورجعت قريش إلى مكة بالانكسار.

غزوة بني القينقاع

ولما قدم (محمد) في هجرته إلى المدينة رأى أن موقع الإسلام والمسلمين بين اليهود في خطر، فإنهم كانوا محدقين بالمدينة، وهم بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، فكان أول أعمال (محمد) في هجرته أنه عاهد هؤلاء اليهود على السلم وأمانة الجوار وأن لا يكيدوا المسلمين ولا يخونوهم ولا يساعدوا عليهم عدوًا، ولكن بني قينقاع غدروا بعد وقعة بدر وصاروا يكاتبون المشركين، وأنشبوا حربًا بينهم وبين المسلمين، فغزاهم محمد وانتصر عليهم، فطلبوا النجاة بالجلاء عن بلادهم فسمح لهم بذلك.

حرب أحد

ثم تجمّعت قريش بعدتها وعديدها وغزوا (محمدًا) وأصحابه إلى المدينة في السنة الثالثة من الهجرة حتى وصلوا إلى مكان يقال له (أُحد) وهو يبعد عن المدينة بأميال يسيرة.

تأكيد العهد مع اليهود وجلاء بني النضير

ورأى محمد أن اليهود لا يكادون يثبتون على عهدهم، فقصدهم هو وأصحابه لتأكيد العهد وأخذ الميثاق منهم، فأبى بنو النضير، فعدل عنهم إلى بني قريظة، فأعطوه عهودهم مجددًا على أن لا يغدروا بهم ولا يساعدوا المشركين عليهم، فرجع عنهم إلى بني النضير وحاصرهم على إعطاء العهد، فاختاروا الجلاء عن بلادهم، فسمح لهم بذلك حفظًا للسلام بين البشر، فحملوا كل ما يقدرون على حمله، ونزل أكثرهم في (خيبر) لكي يكيدوا محمدًا عن قرب.

حرب الأحزاب

ثم جمعت قريش في السنة الرابعة من الهجرة جموعها منها ومن أحلافها من القبائل، وكذلك (غطفان) وأهل نجد، وتحزبوا على قتال (محمد) وأصحابه، وكان الساعي في هذا التحزب واجتماع غطفان وأهل نجد مع قريش على الحرب هم جماعة من يهود بني النضير الذين أجلاهم محمد ونزلوا خيبر، منهم آل أبي الحقيق وغيرهم، فقصدوا المدينة بجيش عظيم يعدُّ بنحو عشرين ألفًا، فخندق (محمد) على المدينة وحاربهم، وقد كانوا كاتبوا بني قريظة على الغدر بمحمد والنهوض إلى حربه، فخفّ بنو قريظة إلى الغدر ونقض العهد، وبدا منهم الاعتداء، فأرسل إليهم (محمد) حليفهم سعد بن معاذ رئيس الأوس مع جماعة من الأوس والخزرج فوجدوهم على أقبح الغدر، حتى صار بعضهم يغِير على بيوت المدينة ومجامع العيالات.

غزوة بني قريظة

وحينما انكسرت قريش وانحلّ جيش الأحزاب عطف محمد وأصحابه على الغَدَرة بني قريظة فحاصروهم، فجعل بنو قريظة حكمهم إلى سعد بن معاذ رئيس الخزرج لأنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام، وظنوا أن سعدًا يتساهل معهم، فوافقهم محمد على ذلك ولم يصمّم على حربهم، فحكم سعد بقتلهم فنفّذ حكمه في الغادرين، ولو أنهم اختاروا الجلاء إلى حيث يُؤمن غدرهم لسمح لهم (محمد) كما سمح لبني قينقاع وبني النضير، ولو شفع فيهم سعد لتركهم له، فإن المعلوم من حال (محمد) أنه كان يحبّ السلم وصلاح البشر والعفو إذا أمن من فساد عدوه، ولم ينصبغ العفو بصبغة الضعف والوهن.

حرب بني المصطلق

وفي السنة الخامسة أو السادسة صار بنو المصطلق يستعدون لحرب (محمد)، فغزاهم وظفر بهم.

صلح الحديبية

وفي ذي القعدة من سنة ست قصد محمد مكة للحج والطواف بالبيت ومعه من أصحابه نحو سبعمائة رجل، وقدّموا ذبائح العبادة سبعين بعيرًا، وجعلوا عليها علائم الهدي لكعبتهم ورسوم العبادة، لكي يطمئن أهل مكة بالسلم، فصدّه أهل مكة واستعدّوا لحربه وطلبوا رجوعه، فسمح لهم بما طلبوا وتساهل معهم بالصلح حسبما يقتضيه حبُّ السلم، ونحر في مكانه هديه للكعبة ورجع.

حرب خيبر

وإن بني النضير الذين نزلوا بعد جلائهم في خيبر وخضع لهم أهلها لم يزالوا يسعَون في حرب (محمد) وقطع أثره، وهم الذين سعوا في حرب الأحزاب ولم يزالوا على إثارة الفتن، فغزاهم في أواخر السنة السادسة، ففتح حصونًا لبني النضير، منها حصن ناعم، ومنها القموص حصن بني أبي الحقيق، ومنها حصن الصعب بن معاذ وباقي حصون خيبر، إلا حصنين (الوطيح، والسلالم)، فإن أهلهما طلبوا من (محمد) أن يسيِّرهم ويحقن دماءهم فسمح لهم بذاك.

فتح مكة

وقد كان في صلح الحديبية أن خزاعة دخلت في حلف (محمد)، وبني بكر دخلت في حلف قريش، فعَدَت بنو بكر وقريش على خزاعة بالحرب العدوانية، فجاء مستصرخ خزاعة إلى (محمد) فتوجّه في سنة ثمان بجيشه إلى مكة في عشرة آلاف بعدة كاملة، ولما خافت منه قريش وأحلافها وضعفوا عن مقاومته لم تحمله سوء أفعالهم على الانتقام منهم، بل دخل مكة بأرأف دخول وأكرم معاملة، فكأنه ساق إلى قريش جيش العفو وامتنان الرحمة وكرم الأخلاق.

حرب هوازن

ولما سمعت هوازن بفتح مكة جمعت جموعها لحرب (محمد)، فقصدهم وحاربهم وغنم أموالهم وذراريهم، فوفد رجالهم عليه بعد أن أسلموا في هزيمتهم طوعًا، فاسترحموه، فخيّرهم بين ردّ السبي وردّ الأموال، فاختاروا رد السبي، فاسترضى المسلمين في ذلك فأجابوه، فردّ السبي وكان نحو ستة آلاف ما بين امرأة وطفل وقد كانت ثقيف من جملة المنهزمين من جيش هوازن، فرجعوا إلى الطائف وتحصّنوا بحصونهم لحرب (محمد)، فوجّه إليهم بعض جيشه.

حرب مؤتة وحرب تبوك

وأما بعثه الجيش إلى الشام، حيث حاربوا جيش الروم والعرب والرومانيين في (البلقا) شرقي بحيرة لوط، ومسيره بجيشه إلى تبوك، فكان الداعي لذلك أن هؤلاء تظاهروا بالعداوة للإسلام و(محمد) واستخفّوا بحرمته، وقتلوا رسله الذين أرسل معهم كتبه لدعوة التوحيد، مع أن العادة المستمرة أن الرسول حامل الكتاب محترم لا يقتل، ولا يقتله إلا من تجاهر بالطغيان والعداوة لمن أرسله، فإنّ (محمدًا) كاتب ملك الروم في الدعوة إلى صلاح الإسلام وتوحيده الحقيقي حينما كان قيصر راجعًا مع جيشه من انتصاره على الفرس، فتجرأ شرحبيل الغساني على قتل الرسول حامل الكتاب، واستعدّ الروم وأتباعهم لعداء (محمد) وحربه، فاستعدّ لدفاعهم وعدم الخضوع لجرأتهم التي تهدّد دعوة التوحيد والإصلاح.

سراياه وتجريداته

وأما سرايا (محمد) وتجريداته فكلّها كانت دفاعية، يردّ بها كيد الغادرين ويدافع بها من يستعد لحربه، ويسعى في الفساد والبغي، ولم تكن فيها مهاجمة ابتدائية على هادئ مسالم كما يشهد بذلك معلوم التاريخ.

سيرة محمد في دفاعه

وقد كانت حروبه الدفاعية محدودة بالحدود الصالحة فيما قبلها وما بعدها، وكانت محدودة فيما قبلها بالدعوة إلى التوحيد الحقيقي ومدنية العدل، والكفّ عن عوائد الظلم والوحشية، ثم بالدعوة إلى الصلح وحفظ السلام، والمعاهدة والهدنة، ومحدودة في آخرها بقبول العدو لدعوة التوحيد والعدل، أو طلبه للصلح أو الهدنة.

وقد كان (محمد) في جميع ذلك يشدّد النهي عن قتل النساء والأطفال والمشائخ العاجزين والرهبان المعتزلين، وكان يجمع بين الرحمة وحقوق أصحابه المجاهدين، فيسمح برحمته بكل ما يسمح به أصحابه من السبي والغنائم، ويرعى للأسير الشريف حرمة شرفه، ويطيِّب قلوب الأسرى بلسانه وقرآنه، ويوصي أصحابه بهم ويرغّبهم في عتقهم، حتى إن العتق في شريعته من العبادات الواجبة في بعض الموارد... هذا ملخص سيرة (محمد) في دعوة الإسلام.

وأما المعروف من تاريخ العرب المدوَّن وحالهم الموروث الذي نشاهده، فهو أنهم أمة حرب وتحزب وشدة طغيان وتعصب، وقد كانوا في عصر الدعوة الإسلامية قبائل فوضى، لا تصدّهم عن طغيانهم وظلمهم سلطة سياسة ولا قانون حكومة، بل كانت كل فرقة تدافع عن نفسها بنفسها، فليس من الممكن في العادة أن تستقيم بينهم دعوة صالحة تضاد عبادتهم وعوائدهم، وترفض وثنيتهم وأوثانهم، وتهدّد تحزبهم الوحشي وفوضويتهم وعصبية رياستهم العدوانية، وتلوي أعناقهم إلى الخضوع إلى عدل المدنية وناموس السلام ما لم تكن تلك الدعوة معتزّة بقوة دفاعية.

دعوة المسيح

وأما دعوة المسيح في بني إسرائيل فلم يكن فيها ما يبهظهم في أصول ديانتهم وعباداتهم وناموس شريعتهم، بل كان أساس دعوته هو الحثّ على لزوم التوحيد وحق العمل بالشريعة وحفظ وصايا التوراة، والتعليم بمكارم الأخلاق وحسن العدل، وهذا مما يرتاح له نوع بني إسرائيل، ولم يكن في دعوة المسيح إلا أنها كانت تتعرض لرياء الكهنة والكتبة وجبروتهم في الرياسة الدينية، وأكلهم الدنيا باسم الدين، وهذا أيضا مما ترتاح إليه نفوس العامة.

ولكن لمحض ذلك قامت قيامة الكهنة والكتبة وأنصارهم، وجرى من أعمالهم مع المسيح والمؤمنين به ما تسمعه من التاريخ والأناجيل من أنواع الاضطهاد، مع أن قدرتهم كانت محدودة بالسياسة الرومانية، لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا إلا بالمحاكمة والتطبيق على قوانين السياسة بالاستعانة بالكذب وشهادة الزور، وبذلك صالوا على المسيح والذين من بعده من أصحابه.

فكيف حال الدعوة الإسلامية التي سمعت حالها مع العرب والوثنيين المتوحشين الذين شرحنا لك حالهم، فهل يمكن في العادة أن تستقيم بدون دفاع؟ وهل يصح في حكمة الإصلاح الديني والاجتماعي أن لا تعتز هذه الدعوة بالدفاع؟ وهل يجوز أن تسلم أمرها بالوهن إلى التلاشي بعدوان أضدادها.

يتبع =

ـــــــــــــــ

* اختير هذا النص من كتاب [الرحلة المدرسية] للعلامة الشيخ محمد جواد البلاغي ، بتصرف.

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث عشر