تمهيد
تُمثّل أسباب النزول نصوصًا نقليّة تحكي
نزول الوحي، وقد شغلت الباحثين -بما هي سياقات ثقافيّة
وتاريخيّة واجتماعيّة تحيط بالنصّ القرآنيّ- على مرّ
العصور، وذلك في إطار تعاملهم مع نصّ المصحف ومحاولة بيان
مسائله وتدبّر قضاياه،
فكان
لها حضور بارز
امتدّ
بامتداد علم التفسير، حتّى اشتهر أنّه لا غنى للمفسّر
عنها، وعدّوا العلم بها من شروط التفسير وفهم القرآن().
وقد بدأ حديث أسباب النزول في مرحلة مبكرة
من مراحل التاريخ الإسلاميّ، فقد كان ذلك مقارنًا للدعوة
والرسالة، أي مقارنًا لأولى نفحات الوحي، ثمّ واصل رحلةً
امتدّت عصورًا، وقد اتّخذ خلالها أشكالاً متعدّدة، شكّلت
جذور هذه المسألة.
من هنا لا يمكن -من الناحية المنهجيّة- عزل
بحث أسباب النزول عن إطاره التاريخيّ،
فالحصول على إجابات وحقائق جديرة بالثقة في نطاق أسباب
النزول، يتوقّف على وضع البحث في إطاره التاريخيّ الذي
امتدّ قرونًا من الزمن.
وفي هذه المقالة نتابع أولى الاهتمامات
بهذا الباب -من خلال دراسة حركة الرسول (صلى الله عليه
وآله)-،
ونتأمّل في طبيعة هذا الاهتمام، على أن يكون ذلك مناسبة
لتقصّي التطوّرات التي رست عليها أسباب النزول خلال مراحل
لاحقة -إذا وفّقنا الله تعالى-،
معتقدين بأنّ هذه الوقفة تجعل الصورة أسلم
وأوضح، وتُلقي بظلالها على البحث بمختلف مستوياته، وتحدّد
كثيرًا من معالمه.
عقبات البحث التاريخي
لا يخفى على القارئ العقبات التي تنتظر
بحثًا تاريخيًّا لم تمسّه يد التحقيق ولم يُطرق بشكل
منهجيّ ومستقلّ من قبل، وقد مضى عليه أكثر من عشرة قرون من
عمر الزمن، ممّا جعل بعضَ دارسي أسباب النزول المعاصرين
يرى عدم تيسّر الكلام في تاريخ أسباب النزول؛ "إذ لا توجد
-على حدّ علمنا- ولو دراسة واحدة اعتنت بتاريخ أسباب
النزول، سواء عند القدامى أو عند المحدثين (...)، وفضلاً
عن ذلك نفتقد اليوم الوثائقَ القديمة التي يمكن أن تدلّ
على تاريخ أسباب النزول والهيئة التي كان عليها، خاصّة في
الأطوار الأولى من تشكّله"().
ونحن وإن عشنا صعوبات البحث التاريخيّ
وعوائقه، ولكنّنا لا نسلّم بأنّ البحث فيه يمثّل مهمّة
مستحيلة بناءً على افتقاد الوثائق؛ وذلك لوجود مادّة قابلة
للتحليل بين أيدينا، وتتمثّل بنصوص النبيّ (صلى الله عليه
وآله) والصحابة، وهذه النصوص، بعد وضعها في ظرفها
التاريخيّ -الاجتماعيّ- الثقافي المناسب، تمثّل نماذجَ
تستحقّ الدراسة والتحليل، لذا سنستنطقها على أمل أن نعرض
على القارئ شريطًا تاريخيًّا لهذه المسألة، ليعيش أسبابَ
النزول في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله).
عمليّة الرصد
تشكّل حركة النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
علامةً مهمّة تشير إلى وضعيّة وحقيقة أسباب النزول، إلا
أنّ الإشكال يقع في وجود حركة ترتبط بالأسباب يمكن للباحث
أن يرصدها في ذلك العصر، حيث
يرى عددٌ من الباحثين، أنّ النبيّ(صلى الله
عليه وآله) والصحابة لم يعتنوا بأسباب النزول؛ إذ : "من
المسلّم به أنّ الرسول وصحابته لم يكن لهم اهتمام بأسباب
نزول القرآن (...)، ولم تكن هناك حاجة إلى الخوض في أسباب
النزول؛ بما أنّ الدواعي إليه لم توجد بعد"()،
و"الاهتمامات الأولى بعلم أسباب النزول ظهرت مع مشاغل
التابعين، فقد أخذ هؤلاء بعض المعطيات التاريخيّة
المتعلّقة بعدد من الآيات من أفواه الصحابة"()،
ويجزم البعض بأنّه
"لم يرد عن الرسول (صلى الله عليه وآله)
أنّه لفت الأنظار إلى عِلم أسباب النزول ولا طلبه، ولم
توجد آيات وأحاديث بهذا الخصوص"()،
ويعتقد الكثيرون أنّه ربما ظهرت إرهاصات أولى لبحث أسباب
النزول إلا أنّ الأهمّ أنّ الرسول(صلى
الله عليه وآله)
والصحابة لم يقوموا بتظهير الصورة بأيّ شكل من الأشكال،
والسبب في ذلك يعود إلى أنّ
الصحابة كانوا معاصرين لنزول القرآن فاكتفوا بما شاهدوه من
أسباب النزول، واقعًا تحت نظرهم، من غير أن يولوا ذلك
الأمر اهتمامًا خاصًّا يمكن أن يشكّل معطىً للبحث في باب
أسباب النزول().
لكنّ هذه الآراء لا تصمد طويلاً إذا ما
تقصّينا جنبات
التاريخ
الذي رفدنا بمجموعة من الوثائق التي تدحض تلك المزاعم،
فقد
سجّل حقائق مغايرة تمامًا لما ذكروه في هذا المجال، ويمكننا
أن
ندرس ذلك من خلال بيان دور النبيّ(صلى الله
عليه وآله) في بثّ روح الحماس لتتبّع أسباب النزول من جهة،
واهتمام الصحابة بها من جهة أخرى.
ولا بدّ أن نلتفت إلى أنّ الحديث في هذه
المرحلة -أي في زمان
وعصر
الوحي-، ليس حديثًا في روايات أسباب النزول، بقدر ما هو
حديث عن ارتباط نزول الآيات بالأسباب، وبيان كيفيّة تعاطي
الرسول
(صلى الله عليه وآله)
والمجتمع من حوله معها، وما التعرّض للروايات في هذه
المرحلة إلا ضمن الدائرة التي تصبّ في هذا الهدف.
أوّلاً: حركة النبيّ (صلى الله عليه وآله)
إذا رجعنا
إلى
سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والنصوص التي
وصلتنا عنه،
فإنّنا
نجده (صلى الله عليه وآله) يعمد إلى لفت
الأنظار إلى أسباب النزول بأساليب متعدّدة وفي مختلف
المناسبات:
1- وقفات الرسول (صلى الله عليه وآله) عند أسباب النزول
أولى بوادر اهتمام الرسول
(صلى الله عليه وآله)
تتبدّى في الوقفات المتكرّرة له عند أسباب النزول، فقد
كان النبيّ
(صلى الله عليه وآله) يبيّنها
مرارًا لأصحابه وسائليه، وقد
تمّ ذلك في أكثر من مناسبة، وبصيغٍ
متفاوتة:
منها
ما
ورد
في قضيّة عويمر بن ساعدة العجلانيّ، في سبب
نزول الآية:{والذين يَرْمونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَداءُ إِلا أَنْفُسهُم...}():
حيث
طلب الرسول
(صلى الله عليه وآله)
من عويمر أن يأتي بأهله ليبيّن أحد أسباب النزول
قائلاً:
"ائتني بأهلك فقد أنزل الله فيكما قرآنًا"().
وكما في مسألة الظهار، حيث شكَت امرأة إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) زوجها الذي ظاهَرَها():
فطلب منها الرسول (صلى الله عليه وآله) أن
تأتي بزوجها فقال له: "قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي
امرأتك قرآنًا وقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ..(إلى
قوله)..وإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ
غَفُورٌ}()"().
كذلك في سبب نزول الآية:
{فَإِذا
أَمِنْتُم فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلى الحَجّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدي...}()،
بعد أن سأله سُراقة بن مالك بن جَعْثم المُدلجيّ: يا رسول
الله، هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟
فقال (صلى الله عليه وآله): "بل للأبد إلى
يوم القيامة -وشبّك بين أصابعه- وأنزل الله في ذلك قرآنًا"
وقرأ الآية().
وقريب منه
الذي
ورد عنه (صلى الله عليه وآله) في الآية:
{وَيَسْتَفْتونَكَ
قُلِ الله يُفْتيكُم فِي الكَلالَة}()،
بصيغة: "إنّ الله أنزل وبيّن ما لأخواتك وهو الثلثين"().
وكذا في قصّة عبد الله بن أبي أمية، قبل أن
يَقبل الرسول (صلى الله عليه وآله) إسلامه، حيث قال (صلى
الله عليه وآله) لأخته أم سلمة التي جاءت متوسّطةً له عنده
(صلى الله عليه وآله): "هو الذي قال لي:{لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعًا}..إلى قوله:..
{وَلَنْ
نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا
نَقْرَؤُهُ}()"().
وذكر السيوطيّ في سبب الآية الكريمة
{وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا...}()،
أنّه بعد أن ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله) لصحابته مقام
شهداء أحد في الجنّة، وقولهم: "يا ليت إخواننا يعلمون ما
صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، قال الرسول (صلى الله
عليه وآله): "فأنزل الله هذه الآيات:
{وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا...}"().
هذا وقد نُقلت لنا روايات متعدّدة عن أهل
البيت (عليه السلام) يركّز فيها الرسول(صلى الله عليه
وآله) على أسباب نزول الآيات وفي مناسبات أكثر أهميّة، وقد
أغفل ذكرها أهل العامّة؛ من ذلك خطبة الرسول (صلى الله
عليه وآله) يوم الغدير، والتي أوردها الفتّال النيسابوريّ
في كتابه "روضة الواعظين"، وذكر فيها ثماني آيات مشفوعةً
بأسباب نزولها()...
وما يمكن أن نخلص إليه من خلال هذه الأحداث
التي ينقلها التاريخ، أنّ وقفاتٍ متكرّرة قد عمد إليها
النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
عند أسباب النزول، معبّرًا عن ذلك بمختلف الصيغ، ممّا
يجعلنا نعتقد بأنّ حسّ الارتباط بأسباب النزول،
قد أوقده
الرسول (صلى الله عليه وآله) في الصحابة
منذ
السنين الأولى من عمر الدعوة الإسلاميّة
ومع النفحات الأولى لنزول الآيات.
2- الاهتمام بأعلام النزول
أبدى النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
نوعًا آخر من تركيز ارتباط الآيات القرآنيّة بأسباب
النزول، وذلك حينما
كان يُبرز اهتمامًا
خاصًّا
بأعلام النزول، إذا ما نزل فيهم القرآن
مدحًا()،
فيبيّن سبب النزول مثنيًا على صاحبه.
منها ما اشتُهر في مختلف كتب التفسير
وأسباب النزول، في قوله تعالى:
{..إِنَّ
الله يُحِبُّ التَوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِين}()،
حيث كانت عادة القوم الاستنجاء بثلاثة أحجار، وقد استنجى
رجل من الأنصار بالماء، لعدم استغنائه بالحجارة، فبعث إليه
الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقال له: "هنيئًا لك، فإنّ
الله عزّ وجلّ قد أنزل فيك آية:
{إنَّ الله يُحِبُّ التَوَّابِين ويُحِبُّ
المُتَطَهِّرِين}، فكنت أوّل من
صنع ذا..."().
وورد أنّ رجلاً من الأنصار حضر عند النبيّ
(صلى الله عليه وآله) معبّرًا عن مدى حبّه له بحيث لا يطيق
مفارقته، وسأله عن حال الجنّة، وأنّه هل سيُحرم من رؤيته
أو أنّ ثمّة سبيل لرؤية الرسول (صلى الله عليه وآله) مع
أنّ مقامه (صلى الله عليه وآله) يكون في أعلى عليّين؟
فنزلت على أثر ذلك الآية:{وَمَنْ
يُطِعِ الله وَالرسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَبِيِّينَ وَالصدِّيقِينَ
وَالشُهَداء وَالصَالِحِين وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا}()،
فدعا النبيُّ (صلى الله عليه وآله) الرجلَ فقرأها عليه،
وبشّره بذلك().
كما ورد بعد مبيت عليّ (عليه السلام) في
فراش الرسول (صلى الله عليه وآله)،
ثمّ
لحوقه مع النساء به(صلى الله عليه وآله)في
هجرته إلى المدينة، فإنّه لمّا وصل علي(عليه السلام) بهم
إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال له(صلى الله عليه
وآله): "إنّ الله سبحانه قد أنزل فيك وفي أصحابك قرآنًا"
وتلا عليه الآيات الأواخر من سورة آل عمران:
{الذِينَ
يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعودًا}..إلى
قوله.. {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَاد}()"().
وورد في قصّة إيثار أمير المؤمنين (عليه
السلام) المقداد على نفسه حيث أعطاه الدينار الوحيد الذي
لديه، أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) بحث عن عليّ (عليه
السلام) فلمّا وجده قال له: "أما أنّ جبريل قد أنبأني
بذلك، وقد أنزل الله فيك كتابًا:
{وَيُؤْثِرونَ
عَلَى أَنْفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَة...}()"().
ومثل ذلك ما ورد في آية التطهير عن عليّ
(عليه السلام) قال: "دخلت على رسول الله (صلى الله عليه
وآله) في بيت أمّ سلمة، وقد نزلت عليه هذه الآية:
{إِنَّمَا
يُرِيدُ الله ليُذْهِبَ عَنْكُم الرجْسَ أَهْلَ البَيْت
وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيرًا}()،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عليّ، هذه الآية
نزلت فيك وفي سبطيّ والأئمّة من ولدك"()...
فنحن نجد حرصًا عند النبيّ
(صلى الله عليه وآله) على الاهتمام بأعلام
النزول، وهذا يظهر جليًّا من خلال إبرازهم عبر التهنئة أو
البحث عنهم ثمّ إيراد سبب نزول الآيات في جوٍّ يُشيع حالةً
من الإلتفات لدى المجتمع، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ
على سعي الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى ربط الآيات
القرآنيّة بالأعلام الذين نزلت فيهم، ممّا يدفع الناس إلى
إقامة ارتباط أوسع في مجال أسباب وأعلام نزول الآيات.
على أنّ الذي عاب هذا الباب في الفترات
اللاحقة هو اختفاء عدد كبير من الأسباب المرتبطة بالأعلام،
ففي الكتب المشهورة المصنّفة في أسباب النزول، نفتقد
كثيرًا من أسباب نزول مجموعة كبيرة من الآيات نعلم يقينًا
بأنّها مرتبطة بأعلام كما يظهر من سياقها بشكل واضح، ممّا
يضطرّ الباحث إلى التنقيب عنها في مختلف المصادر، فيما
الذي اشتهر منها لدى مختلف العلماء نادر، وهو ما يرسم أكثر
من تساؤل!
يتبع =
|