السنة الرابعة / العدد الرابع عشر/ كانون أول 2008 - ذو الحجة 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

التضليل الإستشراقي

الخيّام نموذجًا

الأستاذ أكرم محمد نبها

الاستشراق صفةٌ مرتجلةٌ تدلّ على الاتجاه نحو الشرق لدراسة وجوه الثقافة فيه من: لغة وأدب وتاريخ وفقه وعلوم، على حدِّ قول د. عمر فروخ.

إن الباحثين لا يتفقون على تاريخ محدد لبدء الاستشراق، فمنهم من يرى أنّه بدأ في القرن العاشر ومنهم من يقول أنه بدأ في القرن الحادي عشر ومنهم من يذهب إلى أنه بدأ في القرن الثاني عشر حيث تمّت فيه لأول مرَّةٍ ترجمة "معاني القرآن" إلى اللغة اللاتينية،... وهذا الخلاف دفع (د. مصطفى السباعي) إلى القول : "لا يعرف بالضبط من هو أول غربي عُني بالدراسات الشرقية، ولا في أي وقت بالتحديد كان ذلك([1])".

وفي سنة 1873م عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس ثم تتالت المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات حول الشرق وآدابه وحضارته، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنقل إلى أوروبا حيث بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلد !!...

ينقسم الاستشراق إلى قسمين كبيرين:

1- الاستشراق الإيجابي، وهو استشراق ذو خلفيّة علميّة بحتة، امتاز بالعمق والموضوعيّة، وهاتان الصفتان لازمتا الاستشراق الألماني بالعموم، فعمل أصحابه على جمعِ ونشر فهرسة للمخطوطات العربية، من أمثال: فلوجل (1802) الذي وضع "المعجم المفهرِس لألفاظ القرآن الكريم" و"المعجم المفهرِس لألفاظ الحديث النبوي"، و"معجم شواهد العربية"، ونشرَ "كشف الظنون" لحاجي خليفة، وكتاب "الفهرست" لابن النديم، ووضعَ فهرست المخطوطات العربية الموجودة في فيينا... والمستشرقون الألمان رفدوا المكتبة العربية بأمّهات الكتب، وكانت بحقٍّ مؤلفاتٍ رائدةً أفادَ منها المحققون العرب كـ"الكامل" للمبرد، و"تاريخ الطبري"، و"بدائع الزهور" لابن أياس، و"مقالات الإسلاميين" ، لأبي الحسن الأشعري، ومؤلفات ابن جنّي... وإن ننسَ فإننا لا ننسى أعمال المستشرق الألماني الكبير (كارل بروكلمان) وكتابه "تاريخ الأدب العربي"، ويبقى لهذا المستشرق فضل السّبق في التعريف بالتراث العربي الإسلامي المخطوط في جميع مكتبات العالم([2])، وعليه، فإنّ الاستشراق الألماني لم يرتبط بأهداف سياسية أو دينية أو استعمارية، وإنما غلبت عليه الروحُ العلمية والإنصاف والموضوعية، وشملت اهتماماته فروع المعارف الشرقية من: آداب ولغة وتاريخ وجغرافيا وفنون... والاهتمام بعلم الببليوغرافية وفهرسة المخطوطات وتصنيف وتحرير المعاجم العربية([3]).

2- الاستشراق السّلبي، وهو استشراق كان ذا خلفية تبشيرية دينيّة تنصيريّة، هذه الصفات لازمت جزءًا كبيرًا من الاستشراقين الفرنسي والإنكليزي، وقد استفاد منه المستعمرون، فمن الناحية الفكرية يرمي هذا الاستشراق إلى تشويه الإسلام، وحملِ المسلمين على النفور من دينهم كما سيأتي في بحثنا عن الخيام. (يقول) الدكتور عبد الرحمن الميداني: "إنّ للمستشرقين وسائلَ فكرية مختلفة يتبدّى من خلالها خطرُ الاستشراق على الأمة الإسلامية، ومُجمل هذه الوسائل هدفها:

ـ التّشكيك وإلقاء الشّبهات والمغالطات.

ـ تزيين الأفكار البديلة.

ـ افتراء الأكاذيب([4])".

ويكفي للتدليل على ما تقدّم أن نستشهدَ بادّعاء المستشرق (شاخت) بأنّ "الشريعة الإسلامية ليست شريعةً منزّلة بل هي جماع ما كان لدى العرب من أعراف".

إنّ إبعادَ المسلمين عن دينهم وسلخهم عن هويّتهم الإسلامية، هو دأب المستعمرين والمستشرقين العاملين على تنفير المسلمين من دينهم، وتشويه التاريخ الإسلامي، والتّشكيك به، وبذا يقول (د. عبد الرحيم عثمان): "أنّ أبرزَ هدفٍ للمستشرقين هو إضعافُ مُثل الإسلام، وقيمه العُليا من جانب، وإثبات تفوّق المُثل الغربية وعظمتها من جانبٍ آخر، وإظهار أيّ دعوة للتّمسك بالإسلام بمظهر الرّجعيّة والتّأخر([5])".

إنّ التعصب الأعمى دفع بعض المستشرقين إلى أن يفتروا الكذب على الدّين الإسلامي، وعلى علمائه الأفاضل، فأحالوا حسناتِه سيّئاتٍ، وشوهوا حقائقه الناصعة، فخانوا بذا أمانة العلم، فهم غير أحرياء بأن يُنسبوا إلى العلم، ويُنظموا في سلك العلماء.

ومن أجل التّدليل على هذا التّضليل الاستشراقي نقدّم نموذجًا تطبيقيًّا، وهو الحكيم العارف عمر الخيّام من خلال ما نُسب إليه من رباعيات.

عمر بن إبراهيم الخيام النّيسابوري (408 أو443هـ-515 أو517هـ)، وعرفه الغربُ من طريق رباعيّته، والرباعيات نوعٌ من الشعر يقسِّمُ فيه الشاعرُ قصيدتَه إلى أقسام، في كلٍّ منها أربعةُ أشطرٍ مع مراعاة نظامٍ معين للقافية في هذه الأشطر.

يُقسمُ هذا البحث إلى قسمين وخاتمة، في الأول نرسم صورة الخيّام كما جاءت في المصادر الإسلامية المعاصرة للخيام أو القريبة من عصره، وفي الثاني نرصدُ صورة الخيام كما رسمها الغربيون، ثم نصل إلى خلاصة.

وقبل أن أشرع في البحث أقدّم نموذجًا لرباعيات الخيام، تعريب الشاعر المصري (أحمد رامي([6]))، ونموذجًا آخر تعريب الشاعر العراقي (أحمد صافي النّجفي([7]))، ونلاحظ أنّ هذه الرباعيات تحمل مضمونين مختلفين، أحدهما يظهر فيه الخيام الزّاهد المؤمن الصوفيّ ، والآخر يظهر فيه الخيام المتهتّك العابث المنكر للبعث، مع الإشارة إلى أن معاني الإيمان والكفر، الزهد والتهتك موجودة في تعريب الشاعرين أحمد رامي وأحمد صافي النجفي.

الرباعيات بتعريب أحمد رامي:

(1)
 

إن تُفصل القطرة ُمن بحرها
ففي مـداهُ مُنتهى أمرِها
تقاربتْ يـا ربّي ما بيننا
مسافةُ البُعد على قدرها
 

(2)

يـا عالـم الأسرار علمَ اليقين
يـا كاشفَ الضّرّ عن البائسين
يـا قابلَ الأعذار عُـدنا إلـى
ظلّـكَ فـاقبلْ توبـةَ التّائبين

 

الرباعيات بتعريب أحمد صافي النّجفي:

(1)
 

دعْ عنكَ حرصَ الوجودَ واهنَأ
إنْ أحسنَ الـدّهرُ أو أسـاءَ
واعبثْ بشعْرِ الحبيبِ واشربْ
فـالعمرُ يمضي غـدًا هَبـاءَ
 

(2)
 

ما شهِدَ النّارَ والجنَانَ فتىً
أيُّ امرئٍ من هناك قد جـاءَ
لـم نـرَ ممّا نرجو ونحذَرُه
إلاّ صفاتٍ تُحكى وأسـماءَ

 

عمر الخيّام في المصادر الإسلامية

يقول الوزير (نظام الملك([8])) في بعض مذكّراته "...جاءني عمر ووعدّته أن أدخله في خدمة السلطان (بناءً على عهدٍ كان بيننا) فبادرني بقوله: بربِّكَ لا تفعل، وإنّ خير ما تجودُ به على صديقك القديم أن تضمنَ له العيش في ظلّكَ الوارف، مكفيًا مؤونة الكسب، ومتفرّغًا لخدمة العلم والفلسفة، وممارسة الحكمة والفضيلة...".

قال النّظّام السّمرقندي([9]) في كتابه (جهار مقاله)، والذي ألّفه حوالى سنة 550 هـ، وهو أقدم مصدر لتاريخ الخيّام: "... سمعتُ حجّةَ الحق عمر يقول: سيكون قبري في موضع تنتشر الأزهار عليه كلّ ربيع.. ثمّ هبطتُ نيسابور سنة 530 هـ، فقيل لي إنّ ذلك الرجل العظيم قد مات.. وغلبني البكاء لأنّني لم أكن أعرف له ندًّا بين الرجال".

عرّف البيهقيُّ([10]) عمرَ الخيّام "بالإمام وحجّة الحقّ، إنّه تلو ابن سينا في أجزاء علوم الحكمة([11])، وقال الشهرزوري([12]) في كتابه (نزهة الأرواح) الذي كتبه حوالي سنة 600هـ: "كان عمر الخيام تلو ابن سينا في علوم الحكمة".

وقال القفطيُّ([13]) في كتابه (تاريخ الحكماء) الذي ألّفه في سنة 640هـ: "عمر الخيام إمام خرسان، وعلاّمة الزّمان، يعلم علم اليونان، ويحثّ على طلب الواحد الدّيان([14])".

وقال زكريا القزويني([15]) في كتابه (آثار البلاد وأخبار العباد) الذي ألّفه سنة 674 هـ: "نيسابور يُنسب إليها من الحكماء عمر الخيام، وكان عارفًا بجميع أنواع الحكمة...".

ونقل القمّيُّ : "أنّ الخيّام كان أحد الحكماء الثمانية في عصر السّلطان جلال الدين ملكشاه".

ويقولُ أهلُ الترجمة عن قاضي القضاة (أبو المعالي) "حكيم، فقيه، شاعر، صوفيّ أخذ عن عمر الخيام".

ونقل (آغا بزركـ الطّهراني) أنّ (للشيخ الرئيس ابن سينا خطبة اسمها) التّمجيد والتّوحيد (أوّلها: سبحان الملك الجبّار الواحد القهّار... شرحها الحكيم العارف عمر الخيام([16])).

وكما نلاحظ، فإنّ المؤرّخين والمحقّقين العرب والمسلمين، القريب منهم من عصر الخيام والبعيد، يقولون أن الخيام هو: الإمام، الحجة، تلو ابن سينا، علامة الزّمان، الحاثّ على طلب الواحد الديان، الحكيم العارف...

عمر الخيّام كما صوّره الغربيون

تناول الغربيون عمر الخيام الشاعر من خلال رباعياته التي نظمها شعرًا بالفارسية، ولعل السيد (توماس هيد) هو أوّل مَن لفتَ الانتباه إلى رباعيات الخيام في سنة 1700م، ثمّ ترجمها ترجمةً حرفيّة (المسيو نيقولاس) سنة 1818م، وكان يقول : "إنّ عمر الخيام صوفيّ"، وفي سنة 1859م ترجمَ الشاعرُ الإنكليزيّ (إدوارد فيتزجيرالد) رباعيات الخيام عن نسخة موجودة في مكتبة (بودليان) في أكسفورد، ويعود تاريخ نسخها إلى سنة 865هـ.

لم يهتمْ أحدٌ من الإنكليز بذاك النّوع من شعر الرباعيات، فكسَدَتْ عند الناشر اللّندني (كارتش)، وهبط ثمنها إلى بنسٍ واحدٍ. ولسببٍ غير معروف (وسوف تعرفه) تحرّك جمعٌ من الشعراء النّقاد والمثقّفين الإنكليز ونظّموا حملةً أظهروا فيها المقام الرفيع للرباعيات بين الآثار الأدبية، هذه الدّعاية الضّافية المركّزة جعلت النّسخة الواحدة للرباعيات ترتفع من بنسٍ واحدٍ إلى ستّين جنيهًا إنكليزيًّا!! وَاكَبَ جنونُ الطلبِ هذا على نسخ الرباعيات قيامَ الشاعر الإنكليزي (إدوارد فيتزجيرالد) سنة 1868م بإخراج طبعة ثانية من الرباعيات مؤلّفة من مائة رباعية ورباعية، وبقيت قيمة هذه الرباعيات في ارتفاعٍ مستمرٍّ...

بعد الانتهاء من العمل على مضمون الرباعيات ورفعها إلى المقام الرفيع بعدما كانت مغمورة لا يعيرها أحدٌ انتباهًا، انتقل العمل إلى مَنْ نُسبت إليه هذه الرباعيات، عنيتُ عمر الخيام، فقام بعض المستشرقين بحملة من أجل اتهام صاحب هذه الرباعيات المزعومة والتشكيك بدينه وأخلاقه وعقائده، فكتب الأديب الفرنسي (تيو فيل جوتيه) مقالاً عدّ فيه عمر الخيام "أكبر نموذج للمفكّر الحرّ في العصور الوسطى".

وتساءل المستشرق (أرنست رينان) في مقالٍ له "هل كان عمر الخيام صوفيًّا متعمّقًا أو صاحبَ متعةٍ مجدّفًا؟؟"

هاتان النّظرتان الاستشراقيّتان تؤشّران بوضوح إلى الهدف المرجو، فحرّية الفكر عند الخيام، برأي (جوتيه)، تتمثّل في جرأته على الله، وتشكيكه في الدين والبعث والنشور، ودعوته إلى التّمتع بالحياة الدنيا بعيدًا عن كل ضابط دينيّ أو أخلاقي. وسؤال (رينان) ليس بريئًا، وإنّما هدفه أن يثير الغبار من حول إيمان عمر الخيام للوصول إلى الهدف المنشود، فكلّ مَنْ يقرأ ترجمة (فيتزجيرالد) لا يخامره الشّك أن الخيامَ صاحبُ متعةٍ، مجدّفٌ متهتّكٌ، لا أنّه صوفيٌّ متعمّق !

إنّ هذه الرباعيات التي ملأت الدنيا وشغل صاحبها الناس قد بلغ عددها أكثر من (1200) رباعية، ولو قُدّر لأحدٍ أن يُعمّر مائةَ عامٍ، ويغيّرَ كلَّ يومٍ دينَهُ وآراءَهُ لما كان بإمكانه أن يأتي بهذا الكمّ الكبير من الآراء المُتضاربة.

هذا الكمُّ الضخمُ، من الرباعيات، أوّلُ مَنْ وجّه إليه النّقد كان الباحث والمستشرق الرّوسي (جوركوفسكي) سنة 1897م، فقد أثبتَ أنّ كثيرًا من هذه الرباعيات، سواءٌ أكانت مؤمنةً صوفيّةً أم مجدّفة متهتّكة، هي ليست للخيام وإنما هي لعددٍ كبير من شعراء الفرس قد أحصى منهم أكثر من أربعين كالعطّار والرومي وحافظ وغيرهم، وما أكثر المؤمنين، وما أكثر دعاة الإلحاد في كلّ زمان ومكان، وما أكثر المنتحلين والوضّاعين!!

وفي سنة 1904م أكّدَ الباحث الدانمركي (أرنور كريستين سان) أصالةَ أربع عشرة رباعيّة فقط للخيام، ويؤكّد ذلك عودتنا إلى المصادر والمراجع التي ذكرت رباعيات الخيام، حيث نجد مخطوط (مؤنس الأحرار في دقائق الأشعار) لمحمد بن بدر الجاجرمي، والمدوّنة عام 741هـ قد ذكرت ثلاث عشرة رباعية في فصل مستقلٍّ باسم الخيام، والباحثون يعتبرون هذه الرباعيات الثلاث عشرة هي خيّاميّة أصيلة لا يرقى إليها الشّك، وكلّها تحمل مضامين إيمانيّة صوفيّة.

صحيحٌ أنّ هناك رباعيات فارسيّة تمَّ الكشفُ عنها تفوحُ من جنباتها رائحة الخمور والقيان، وتشكّك بالبعث والنّشور، وتجسّدُ قمّة الفسق والفجور، ولكنّها قطعًا ليست للخيام، وإنّما ألصقها بالخيام بعض المستشرقين، وساعدهم على ذلك الشاعر الإنكليزي (فيتزجيرالد)، حيث أخذ المضامين المؤمنة القليلة للخيام، والمضامين الكثيرة جدًّا المجدّفة الفاسقة لغيره، وغزلها شعرًا إنكليزيًا ضافيًا، ولم تعُدْ هذه الرباعيات بمضمونها للخيام ولا لغيره وإنما أصبحت لهذا الشاعر الإنكليزي (رباعيات فيتزجيرالديّة)، "محلاّة بصور ملوّنة منقوشة وكتابات مُتقنة كلّ الإتقان سُمّيت (Life echoes) أي أصداء الحياة([17])"، وعندما تُرجمت إلى العربية كانت تحملُ سمومَ الشّكِّ والتّجديف والتّشويه واللهو والعبث، فسرت في جسد الأمّة شيطانًا خبيثًا...

دعا (فيتزجيرالد) المسلمين باسم عالمهم الأكبر وشاعرهم الأخطر إلى تعاطي الخمور ومغازلة النساء من دون حياء، وملازمة السّرور والغناء، وحثّهم على الإباحية والزّندقة، فكانت هذه الرباعيات (الفيتزجيرالديّة) المنسوبة إلى الخيام توافق عقيدة المدنيّة الغربية الحديثة وذوقها وأخلاقها ومفاهيمها ولا توافق عقيدة الخيام وذوقه وأخلاقه ومفاهيمه...

وإذا عرفنا أهدافَ بعض المستشرقين، المرتبطة بالمستعمر والمبشّر، في تشويه صورة الإسلام وتشكيك المسلمين في دينهم، أصبح من السّهل تفسير هذا الاهتمام البالغ بتلك الرباعيات الفاجرة المنحرفة عن الدين والقيم الأخلاقية، ومن ثم نسبتها إلى عالم فاضلٍ عارفٍ ربّانيّ حكيم بهدف تهشيم العقيدة الإسلاميّة، والذّابّين عنها، يقول (مبشر الطرازي) في كتابه (كشف اللّثام عن رباعيات الخيام) : "إنّ خواصَ الغربيّين ممّنْ لهم علاقة بالتّبشير وجدوا في هذه الرباعيات (المنسوبة إلى الخيام) بُغيتَهم المنشودةَ في الطعن بالدين الإسلامي، والاستهزاء بتعاليمه المقدّسة، مستندين في ذلك إلى مقولاتٍ مختلقة مزعومة نُسبت إلى رجلٍ عظيم من عظماء الشرق، وعالم من علماء الإسلام، وإمامٍ من أئمّة المسلمين، فاستفادوا من ترجمة هذه الهذيانات باسم فلسفة الخيام".

على ضوء ما تقدّم، نجزمُ أنّ جُلَّ ما تُرجم من رباعيات هي ليست للخيام، ويؤيّدُ ذلك قول المؤرّخين والمُحقّقين، والأهم من كلّ ذلك عقيدة الخيام، ونحن بذلك لا ننكرُ شاعرية الخيّام، قال الشهرزوري: "له أشعارٌ حسنة بالفارسية والعربية"، ولم يقل له أشعار خسيسة رخيصة، وعليه، يمكن أن نخرجَ بقاعدة نحدّد من خلالها رباعيات الخيام من غيرها وهي:

كلّ رباعيّة تحملُ معنىً ساميًا هي للخيام، وكلّ رباعية تحمل معنىً خسيسًا فهي ليست له.

وكيف يمكن لحكيمٍ قال عنه العلماء: "إنّه مجدّد المائة الخامسة" أن يكون خليعًا معاقرًا لدنان الخمرة مواظبًا على مجالس اللهو والغناء، وهذا ما أشار إليه الباحث الإيراني (صادق هدايت 1902-1951) إنّ الرباعيات المُستهترة المنسوبة إلى الخيام هي فاقدة للانسجام المعنويّ والتّركيبي، وفيها آراء مُتناقضة متضاربة، وهذا الاضطراب يمكنُ مُشاهدته حتى في أقدم مجموعة رباعيات، في تلك الموجودة في مكتبة "بودليان" بأكسفورد، ثمّ إنّ مقارنة هذه الرباعيات بتلك المدوّنة في كتاب (مؤنس الأحرار) نجدُ أنّ هذه المجموعة الأخيرة تتميّزُ بنمطٍ تفكيريٍّ واحدٍ وأسلوبٍ محدّدٍ، لذا يمكن الجزم بانتسابها إلى الخيام".

خلاصة القول، إنّ الشاعر الإنكليزي (فيتزجيرالد)، ومن ورائه المستشرقون والمستعمرون والتنصيريون، قد تضافرت جهودهم وأوهموا المشارقة والمسلمين أن مَنْ يُفترض به أن يكونَ أمينًا على دينهم يعاقرُ الخمرة ويتهتّكُ ويعربدُ ويفعل الأفاعيل، إذن، فلا حرجَ عليكم أن تُقلّدوا علماءكم وتتّبعوا فلسفتهم في الحياة!! فهلاّ تنبّه العربُ والمسلمون لمثل هذه التّشويهات والخزعبلات الهادفة، وخاصة تلك التي تغزو المسلمين في هذا العصر عبر الفضائيّات الناطقة بالعربيّة والعبريّة !

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) محاضرة للدكتور مصطفى السّباعي، الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم.

(2) أسماء وأعمال المستشرقين في هذه الفقرة مصدرها: إسماعيل أحمد عمارة، المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية، دار حنين، عمان.

([3]) هذه لائحة بأسماء بعض من المستشرقين الألمان مأخوذة من المصدر السابق:

فيشر، هانزفير، شراكل، أولمان، فلوجل، إيفالد فاجنر، كارل بروكلمان، يوهان فوك، مارتن هارتمان، فريدريش روجار، يوليوس فلهوزن، تيودور نولدكه، ليتمان، برجستراشر، شاده، شاخت (والأسماء الأربعة الأخيرة مارسوا التدريس في جامعة القاهرة).

([4]) د. عبد الرحمن الميداني، أجنحة المكر الثلاثة.

([5]) د. عبد الرحيم عثمان، معالم الثقافة الإسلامية.

([6]) أحمد رامي: شاعر وروائيّ مصري (1892-1981)، كتب الرواية، وترجم العديد من مسرحيات (شكسبير)، وهو أوّل مَن عرّب رباعيات الخيام عن الفارسية.

([7]) أحمد صافي النّجفي: شاعر عراقي (1895-1976)، ترك حوالى عشرة دواوين شعرية، عرّب رباعيات الخيام مبوّبة بحسب القافية على حروف المعجم.

([8]) نظام الملك (408هـ -485هـ)، أصله من نواحي طوس، وزير حازم عالي الهمّة، وهو الذي أنشأ المدرسة النّظاميّة، له (أمالي نظّام الملك في الحديث). الأعلام: خير الدين الزركلي، ج2، ص202.

([9]) محمد بن عمر بن علي المعروف بالنّظام السمرقندي، له من التصانيف (جهار مقاله) أي "أربع مقالات".

([10]) البيهقي: أحمد بن علي بن محمد البيهقي (470هـ-544هـ)، أصله من نيسابور، لغوي، عالم بالقراءات.

([11]) الأعلام: خير الدين الزركلي، ج5، ص38.

([12]) محمد بن محمود الشهرزوري، كان حيًّا سنة 687هـ، إشراقي حكيم ، له (نزهة الأرواح وروضة الأفراح)، وهو من قسمين: أولهما في تاريخ الحكماء قبل الإسلام، والثاني في تاريخ الحكماء بعد الإسلام. (معجم المؤلفين: عمر كحالة، ج11، ص320 ؛ الذريعة: آقا بزرك الطهراني، ج4، ص142).

([13]) القفطي: علي بن يوسف القفطي، مات سنة 646هـ، له (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) ويقال له: تاريخ الحكماء.

([14]) الأعلام: خير الدين الزركلي، ج5، ص38.

([15]) زكريا القزويني: (605هـ-682هـ) مؤرّخ جغرافي، ولد بقزوين له (آثار البلاد وأخبار العباد).

([16]) آقا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 2، ص 202.

([17]) الأعلام: خير الدين الزركلي، ج5، ص38.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع عشر