السنة الخامسة / العدد الخامس عشر/ حزيران 2009 - جمادى الآخرة 1430هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الأذان وحقوق الجيران

الشيخ إبراهيم الأنصاري

 

تزاحم الأذان وحقوق الجيران

جرى الكلام في بعض المحافل العلمية عن مسألة تزاحم الشعائر الدينية مع بعض الحقوق الفردية، مثل كون الأذان أو الشعائر الحسينية أو غيرهما مما يتأذى بها بعض جيران المسجد لكونه مريضًَا عصبيًا أو نفسيًا يتضرر به أو لغير ذلك، وقد أصرَّ بعض الفضلاء على تقديم حق المتضررين ومنع الأذان وغيره من الشعائر، ولم يلتفت إلى مرجحات باب التزاحم، ولا مرجحات تزاحم الحقوق ورعاية الأهم والمهم وإنما نظروا إلى حق المريض وأوجبوا مراعاته ولو بتضييع حقوق الأصحاء من جهات أكثر وأهم.

فطلب مني بعض الأفاضل أن أشير إلى وجوه الخطأ في هذا الرأي الجديد، فأشرت إليها في ضمن مقدمات سبع قصيرة.

وقبل البحث أشير إلى نكتة واضحة احتياطًا ، وهي أن المراد من المقال الدفاع عن مطلق نشر الأذان بالمكبرة في نفسه ، ولا نتعرّض للموارد الخارجة عن المتعارف الذي يؤذي الأصحاء فضلاً عن المرضى ، أو يشتمل على خصوصية أزيد من الأذان المتعارف ، مثل نشر الأدعية والقرآن طويلاً قبل أذان الصبح أو غير ذلك من الأمور الخارجة عن الأذان المتعارف في هذا الزمان .

المقدمة الأولى: السيرة المستمرة

إن الاهتمام بآراء أهل العلم وكبار العلماء والفقهاء والفلاسفة وغيرهم سيرة عامة لجميع العلماء والعقلاء، فتراهم في أول كل مسألة علمية يتعرضون لآراء العلماء ويناقشونها مع أدلتهم ولا يتساهلون في أمرهم، ولا يسرعون إلى مخالفتهم إلا إذا التفتوا إلى تحقيق علمي خفي عليهم مع نهاية الاحتياط.

وإما إذا كان الدليل الذي اعتمد عليه الفقيه المتأخر مذكورًا في كتبهم، أو كان أمرًا بديهيًا لا يحتمل غفلتهم عنه، فالعدول عن رأيهم حينئذ لأجل أمر بسيط أمر منكر.

كما في مسألة الأذان، فإن رفع أصوات الأذان بين المؤمنين وكون بعض الأفراد من المرضى وغيرهم يتضررون كان أمرًا شايعًا في طوال التاريخ من زمن النبي (ص) إلى زماننا هذا، ولو اكتفينا بما رأيناه لكفانا.

فقد كان أذان حرم السيدة المعصومة والمسجد الأعظم في قم يدوّي في أكثر شوارعها وأزقتها وبيوتها، بما فيها من مرضى أعصاب وقلب ونفس وغيرها، على مرأى ومسمع، بل تحت إشراف المراجع العظام كالسيد البروجردي، والخميني، والكلبايكاني، والتبريزي، واللنكراني، والوحيد، وغيرهم إلى يومنا.

وفي النجف الأشرف كان أذان حرم أمير المؤمنين بمرأى ومسمع من السيد محسن الحكيم، والخوئي، والسيستاني، والسيد محمد سعيد الحكيم، وغيرهم.

وفي لبنان كان أذان المكبرات في زمن السيد شرف الدين، والسيد موسى الصدر، والشيخ محمد تقي الفقيه وغيرهم.

فهل يحتمل أن مسألة وجود بعض المرضى ممن يسمعون الأذان كان أمرًا دقيقًا وعميقًا خفي على هؤلاء المراجع؟ مع انه واضح للعوام والخواص، أو أنهم جميعًا كانوا ولا يزالون يداهنون في أحكام الله تعالى ويتساهلون بها.

والآن في الجمهورية الإسلامية العتبات المقدسة كلها بيد العلماء، وكذا في النجف الأشرف، فلو تمّ هذا الدليل لمنعوا من إذاعة صوت الأذان من المكبرات، فهل يحتمل غفلتهم عن وجود المرضى في النجف وقم ومشهد وغيرها حاشا ثم كلا ، بل نحن حفظنا شيئًا وغابت عنا أشياء.

المقدمة الثانية: وجوب استمرار الشعائر وحفظها

إن الشعائر الدينية يختلف حالها عن التكاليف الفردية، ففي التكاليف الفردية إذا تزاحم في حق شخص عمل واجب مع عمل مستحب ترك المستحب لأجل الواجب، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إذا أضرّت النوافل بالفرائض فارفضوها([1]).

ولكن الشعائر الدينية فيها جهتان :

جهة فردية : وهو أن زيدًا مثلاً هل يشارك في الشعائر الحسينية أو لا؟ وأنه هل يذهب إلى زيارة كربلاء أو لا؟ وهذا لم يختلف العلماء في عدم وجوبه سوى الشاذ منهم.

وجهة اجتماعية : لكونها من شعائر الشيعة، ومما يتوقف عليه بقاء التشيّع واستمراره، فما ورد في مزار الشيخ المفيد، وابن قولويه وغيره، من الفتوى بوجوب زيارة الحسين   (عليه السلام) عملاً بالروايات التي اعتمدوا عليها يحمل على هذه الجهة، أعني الوجوب الكفائي لحفظ أصل الشعيرة .

وكذلك الأذان، إذ نرى أنه يوجد خلط بين الحكم الفردي والحكم الكفائي له، حيث لا يقول أحد بوجوب الأذان على نحو الوجوب العيني على كل أحد، ولكنه واجب كفائي، يجب على الحاكم الشرعي نصب المؤذن وتعيين رزق له، كما يجب إقامة الشعائر الحسينية حسب الإمكانات ورعاية الأجواء.

وقد أفتى الجميع بأنه لو لم يوجد حاجّ في سنة من السنين، يجب على ولي أمر المسلمين تجهيز جماعة معتدّ بها لإقامة مراسم الحج، وهذا لا ينافي اشتراط وجوبه الفردي بالاستطاعة، وكذا سائر الشعائر حيث تجب إقامتها على ولي الأمر أو المسلمين وجوبًا مستمرًا في كل سنة، وأما وجوبها على خصوص كل فرد فلم يلتزم به أحد، وكذلك الأذان وذلك لتوقف التذكير بالصلاة ونشر أجواء الإسلام والروحانية عليه.

المقدمة الثالثة: تزاحم الحقوق وتزاحم الأحكام

إن تزاحم حقوق الأفراد لا ربط له بمسألة تزاحم الأحكام التكليفية، بل كل حق اجتماعي ثابتٍ لشخص أو مجتمع أو مذهب يجب احترامه ويحرم مزاحمته، بدون نظر إلى أنه واجب أو مباح، فمرور السيارات في الشارع حق شرعي وقانوني لهم في النهار وبعض الليل، وإن كانوا خرجوا للتفرج والتنزّه، ولا يجوز منعهم بحجة أنه ليس واجبًا من أجل وجود مرضى أعصاب أو قلب، أو مرضى نفس وإن كثروا.

وكذلك الشعائر الدينية حقّ اجتماعي لكل دين أو مذهب، فصوت ناقوس المسيحيين وأذان المسلمين والشعائر الحسينية للشيعة حق يثبته أهل كل دين ومذهب في عرفهم وشرعهم ، بل القوانين الوضعية لا تعارضهم في ذلك في أكثر البلدان ، اللهم إلا ما كان منها علمانيًا متشددًا على ما ينقل .

المقدمة الرابعة: تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة

لا يوجد في العالم عمل إصلاحي لا تراه جماعة معينة مزاحمًا لمصالحها، ولا يروج عمل خير نافع عند العقلاء إلا وهناك فرد أو أفراد يعتبرونه شرًا وضارًا في حقهم بل قد يكون ضارًا بهم واقعًا.

ولكن يوجد تطابق بين العقل والعرف والشرع على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وعلى ترويج الخير النافع للعباد والبلاد وإن تضرر منه فرد أو أفراد، فقد سبقهم جميعًا أمير المؤمنين  (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر حيث قال: إن سخط العامة يجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة)([2]).

وهذا الحديث يفسر لنا كلام رسول الله  (صلى الله عليه وآله) حيث قال (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) حيث إن بعض الذين يعيشون في آفاق ضيقة يلتفتون إلى الضرر والإضرار الشخصي أو الجسماني عند التزاحم، ولا يلتفتون إلى الضرر النوعي أو غير الجسماني والمادي، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يبيّن أنه عند تزاحم الضرر الشخصي مع العمومي يقدم حق العامة ويسقط حق الخاصة بالمقدار الذي يزاحم الحق العام.

ويؤيده العقل الحاكم بوجوب تقديم الأهم على المهم، إذ لا ريب في أهمية حق المسلمين ككُلٍّ وتقدُّمها على حقوق أفرادٍ قليلين يتأذون من صوت الأذان لأجل مرضهم، كما أن هناك من يتأذى من الأذان بدون مرض، بل إنّ من في قلوبهم مرض قد يلتذّون بكل صوت حلال أو حرام إلا صوت الأذان فإنه يزعجهم.

ويؤيد ما ذكرنا فتاوى كثيرة لفقهائنا في موارد تزاحم المصالح العامة مع مصالح الخاصة، منها ما إذا اقتضت مصلحة البلد فتح شارع يبدأ في مكان خاص ، فإن كل بيت يقع في مسير هذا الشارع يجوز هدمه مع ضمان  قيمته، سواء رضي صاحب البيت أو لم يرض، ونظائر هذا كثير.

والحاصل أن إقامة الطقوس الدينية وشعائرها -التي منها الأذان- من أهم الحقوق الاجتماعية والفردية لكل فرد أو مجتمع إنساني، وليس حقًا شخصيًا خاصًا، بل حق عام لكل معتقد بهذا الدين، وسلبه ومنعهم منه إضرار عام بهم وسلب لحريتهم الدينية في إقامة شعائرهم، فإذا تعارض مع الضرر الخاص بفرد أو أفراد يحكم العقل والشرع والعرف بتقديم الحق الاجتماعي العام على الحق الشخصي الخاص.

المقدمة الخامسة: تقديم المصلحة الدينية على الدنيوية

روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) شعر هو ( الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار)([3]).

معناه أنه عند تزاحم الضرر البدني والجسماني مع ضرر الجاه وكرامة  الإنسان الترجيح مع الثاني، فيجب قبول الضرر الجسماني لدفع العرضي بأن يجعل شخصه فداء لشخصيته وعرضه، وفي المصراع الثاني يقول إنه إذا تزاحم الضرر المستلزم للعار والذي يمسّ بكرامة الإنسان وشخصيته الاجتماعية مع الضرر على دينه يقدم  الثاني، ويجعل شخصيته وجاهه الاجتماعي وعرضه فداءً لدينه، كما فعل هو (عليه السلام) حيث أعرض عن دنياه وجاهه الدنيوي ، بل عرّض نفسه للقتل والتمثيل ، وعِرضه من النساء والأطفال للسبي فداء لدين الله وحفظًا لشرعه .

ومما يؤسف له أن هناك من لا يفهم من الضرر إلا المادي، وأما الضرر الديني الذي هو أهم من كل ضرر فلا يهتم به أصلاً، وذلك لأن من جملة الحقوق الثابتة في جميع الأعراف عند جميع العقلاء (الحرية الدينية) حتى إن الأمم المتحدة أقرّت بها ، وأقرّت بأن إقامة شعائر أي دين أو مذهب سواء كان أذانًا أو شعائر حسينية أو ناقوس النصارى وغيرها حق قانوني يكون المنع عنها إضرارًا أو خيانة، فإذا تزاحم مع حق آخر يقدم عليه.

المقدمة السادسة: شرائط الزمان والمكان

إذا سألنا الذين سنّهم فوق الستين -خصوصًا إذا عاشوا في بلاد خالية من السيارات والمعامل ونحوها- سوف يشهدون بأن صوت الأذان في ذلك الوقت بدون المكبر كان صداه أبعد وانتشاره أوسع من صوت المكبر في زماننا، وأنا أذكر دقيقًا بأن صوت مؤذن قريتنا كان يسمع في قرية بعيدة عن قريتنا بمقدار فرسخين، ولكن سواء كانت هذه الدعوى مقبولة أم لا فلا إشكال أن إقامة الشعائر تتغير حسب الأعراف الزمانية والمكانية، فكما أن الخطباء قديمًا كانوا يخطبون بلا مكبرة والآن معها، وكذا بعض أئمة الجماعة ينتشر صوتهم عبر المكبرة، وكذا المواكب الحسينية حيث أنها كانت بلا مكبرة والآن معها، كذلك الأذان الإعلامي فإنه الآن مع المكبرة مثله قديمًا بدونها بلا تشبيه، نظير تبدّل أصوات الدواب من الخيل ونحوها بأصوات الطيارات والسيارات وأبواقها، فالإزعاج من المكبرة مثل الإزعاج من أصوات السيارات وغيرها، مما صار جزءًا من حياتنا اليومية، ومنعها لأجل وجود المريض ونحوه مرفوض عند جميع العقلاء والعلماء، فلا يخطر ببال أحد الحديث عن منع الناس من استعمال هذه الآلات المزعجة دفعًا للضرر عن المرضى ونحوهم، ولكنك تجد الكثيرين من ضعاف الإيمان أو خصوص بعض المتضررين يلهج بوجوب منع الأذان وإخفاء صوته.

المقدمة السابعة: تقديم ما لا بدل له عند التزاحم

ذكر الأصوليون جميعًا قديمًا وحديثًا خصوصًا أتباع مدرسة الشيخ النائيني أن من جملة مرجحات باب التزاحم كون أحد المتزاحمين له بدل دون الآخر، سواء كان البدل عَرْضيًا مثل الكفارات الثلاث، أو طوليًا مثل التيمم بالنسبة إلى الوضوء، حيث حكموا بتقديم ما لا بدل له على ما له بدل، إما لأنه لا تزاحم هنا، أو لتقديم ما لا بدل له على الآخر.

وفي المقام الأذان الشعاري لا بدل له لأنه ينتفي بتركه، والأذان بدون رفع الصوت بحيث يسمعه أهل البلد ليس أذانًا شعاريًا، وكذا الأذان بدون المكبر ليس أذانًا إعلاميًا في زماننا ، إلا أنه يجب أن يصل إعلامه إلى كل أو أكثر البيوت أو المحلات التي هي في محيط هذا المسجد ، لا خصوص جيرانه ، وإلا لم يكن أذانًا إعلاميًا .

بخلاف المريض العصبي أو النفسي أو ما شابه ذلك، فإنه يمكنه إدخال القطنة في أذنه أو يسد الأبواب ونحو ذلك مما يخلصه من صوت الأذان أو تحمله له كما يتحمّل أصوات السيارات أو غيرها.

حصيلة البحث

النتيجة أن الأمر إذا دار بين إيذاء المسلمين وإضرارهم بإسقاط الأذان من مكبراتهم ومحاربة شعارهم هذا باسم الدفاع عن بعض المرضى على خلاف سيرة المتشرعة ومرتكز أذهانهم، وبين الإبقاء على هذا الشعار وإن نتج عنه بعض الضرر والأذية لهؤلاء المرضى، فنقدّم الحق العام للمسلمين بإبقاء شعارهم وعدم إسقاط الأذان من المكبرات، مع أنه يمكن للمرضى التخلص من هذا الضرر بسدّ أبوابهم أو سدّ آذانهم أو غير ذلك من الطرق، أو يتحملوا هذا الأذان كما يتحملّون أصوات السيارات والطائرات وغيرها، علمًا بأن وقت الأذان هو وقت قصير نسبيًا، بدلاً من إيذاء الكلّ وإضرارهم بالمنع من شعائرهم المذهبية الدائمة وسلب حريتهم الدينية.

والمهم أن مسألة وجود المريض وتأذّيه لم يكن أمرًا دقيقًا أو خفيًّا يغفل عنه العقلاء طوال السنين ويلتفت إليه البعض أخيرًا حتى يكون عدم صدور هذه الفتوى منهم لخفاء منشأه عليهم ، كما أن الاعتراض على الأذان من البعض بذريعة تأذّي المرضى ونحوه كان موجودًا قبل حدوث المكبر ، ولكن لم يكن يعتني به العلماء والعقلاء إلا بقولهم للمعترض: حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

([1]) نهج البلاغة : 3/221-279.

([2]) نهج البلاغة خطب نهج البلاغة ، الشيخ محمد عبدو : 3/86.

([3]) كلمات الإمام الحسين، الشيخ الشريفي : 1/495.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس عشر