السنة السادسة / العدد السابع عشر/ حزيران 2010 - رجب 1431هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

التحرك في سبيل الله وأساليب التغيير

الشيخ أكرم جزيني

 

مقدمة

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([1]).

يحمل هذا الخطاب -الوارد بمناسبة الإعداد لغزوة تبوك- في مستهلّه عتابًا للمؤمنين المتثاقلين، ثم ترتفع وتيرة الخطاب لتصل إلى مستوى التهديد بالعذاب، وإسقاط المتثاقلين عن الاعتبار، وقد تدرَّج البيان عبر نقاط ثمان وهي:

1 - توجيه الخطاب للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.

2 - الأمر بالتحرك في سبيل الله: {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.

3 - التنديد بالتخاذل: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}.

4 - الاستفهام بشكل إنكاري: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}.

5 - التحقير لمتاع الدنيا: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ}.

6 - التهديد بالعذاب الأليم: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

7 - إسقاط المتخاذلين عن القيمة والاعتبار: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}.

8 - بيان أن التخاذل لا يعود ضرره على الله بل يعود على المتخاذلين أنفسهم: {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

ويمكن تكثيف أو اختزال هذه النقاط الثمان بعنوانين، نستعرضهما عبر فصلين، الأول: (الأمر الإلهي بالتحرك)، والثاني: (موانع التحرك).

الفصل الأول: الأمر الإلهي بالتحرك

النفر والتحرك في سبيل الله

إن النفر والتحرك وإن كان واردًا بمناسبة غزوة معينة، إلا أن ذلك لا يعني انحصار الأمر بها، فإن كل تحرك ينسجم مع تعاليم السماء يُعدُّ تحركًا في سبيل الله، ولا فرق بين أن يكون تحركًا نحو سوح الجهاد، أو تحركًا نحو بناء المجتمع الإسلامي الفاضل، أو نحو بناء النفس وتهذيبها، أو نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نحو الإصلاح في المجتمع.. فإن كل هذه العناوين هي مصاديق بارزة لسبيل الله..

ومن أبرز مصاديق التحرك في سبيل الله في وقتنا الحاضر هو التحرك نحو التغيير باتجاه الفضيلة والاستقامة والسلوك الكريم في مجتمع تغلغلت فيه فنون الفساد، وتموّهت بملابس الحضارة..

وللتغيير طرق وأساليب متنوعة تتفاوت نمطًا وفاعلية، فمنها ما هو قليل التأثير ومنها ما هو ذو فاعلية عالية.. وهي تتراوح ما بين هذه الأساليب الثلاثة:

الأسلوب الأول: الدعوة المباشرة

بمعنى أن تتوجه إلى الفعل مباشرة، فتطلب من الآخر القيام بالفعل الفلاني أو ترك الفعل الفلاني، فتقول له -مثلاً- يجب عليك أن تصلي.. تصوم.. تزكي.. تتصدق.. تصل أرحامك.. تتعاطف مع الضعفاء والمقهورين.. ونحوها، أو تقول له لا تكذب.. لا تسرق.. لا تؤذِ.. لا ترمِ الأوساخ في الشارع.. وأمثال ذلك.. وهذا الأسلوب من التغيير سطحي جدًا وقليل الجدوى..

الأسلوب الثاني: غرس القناعات

بمعنى أن تتوجه إلى ما وراء الفعل.. أن تنفذ إلى القناعات الفكرية للطرف الآخر، لتقنعه بأن الكذب -مثلاً- أمر منكر وهو يقلب الحقائق ويزوِّر العلاقات الاجتماعية، والكذاب كالسراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب.. أو تقنعه بأن السرقة تسقط مناقبية الإنسان، وتوجب له الهتك والإهانة... أو تقنعه بأن إلقاء الأوساخ في الشارع ذنب أعظم من ذنب إلقاء الوسخ في بيت الجار، لأن بيت الجار ملك لشخص واحد والشارع ملك للجميع.. وهذا الأسلوب من التغيير أعمق من الأول وأثبت، لأنه يدخل فيما يُنتج الأفعال، يدخل في تشكيل وصياغة القناعات.

الأسلوب الثالث: خلق الأجواء

بمعنى أن تتعدى حدود الفعل، وحدود صياغة القناعات، لتصل إلى مرحلة خلق الأجواء والمناخات التي تتناسب وتنسجم مع الأفكار والقناعات التي تريد من الآخر أن يطبقها عمليًا، فبدلاً من أن تقول له لا تسرق، وبدلاً من أن تقنعه بقبح السرقة، هيِّئ له جوًا مناسبًا يحافظ فيه على عفة نفسه كما يحافظ فيه على حقوق الآخرين..

إن صناعة الأجواء تساهم وبشكل فعَّال في صياغة القناعات، وتزيد في تنامي الرغبات بممارسة الأعمال المنسجمة مع تلك الأجواء، ففي شهر رمضان -مثلاً- نجد أن الصيام أخف وطأة من الصيام في غيره لأن الجو هو جو صيام.. كما أن الرغبة في الصلاة والدعاء تزداد في شهر رمضان لأن أجواءه أجواء صلاة ودعاء..

وفي القرى الهادئة، التي تتحلّق فيها البيوت حول المساجد، نجد أن ممارسة الصلوات فيها تأتي بشكل عفوي خفيف الوطأة، لأن أجواء الصلوات تنسجم مع تلك الأجواء الهادئة، بخلاف أجواء المدن الصاخبة..

هذا من ناحية العبادات.. وأما من ناحية التصرفات والسلوكيات الاجتماعية فإن الأمر لا يختلف إطلاقًا.. فعندما تدخل -مثلاً- إلى بيت مرتب نظيف لدرجة لافتة، تشعر بأنه من غير المسموح توسيخه، انطلاقًا من جو النظافة الذي تراه.. وكذلك عندما تمر في شارع نظيف تشعر بالذنب فيما لو ألقيت ورقة أو (محرمة) من نافذة سيارتك، لأنك -حينئذ- تشعر بمخالفة الجو العام القائم..

وهذا الأسلوب من التغيير أي أسلوب خلق الأجواء أهم من الأسلوبين الأولين لأن الفرد يشعر بضرورة الالتزام والتكيف مع الأجواء حتى ولو كانت قناعاته لم تتشكل بعد..

في الطرف المقابل: أساليب تحطيم الأفراد والمجتمعات

كما أن التغيير باتجاه الفضيلة له أساليبه الخاصة، كذلك فإن التغيير باتجاه الرذيلة وتحطيم القيم الفردية والاجتماعية له أساليبه الخاصة أيضًا، وهي أيضًا ثلاثة على غرار الأساليب السالفة الذكر..

فتارة تغري الإنسان بالفعل القبيح، فتقول له -مثلاً- اذهب واسرق..

وأخرى تزرع فيه القناعة بالسرقة، فتقول له كما أن الكبار يسرقون فللصغار أيضًا الحق بالسرقة.. ثم تسوق له الأدلة التي تقنعه بمشروعية السرقة في مجتمع يسرق كباره حياة صغاره..

وثالثة تخلق له أجواءً ومناخات تتناسب وتدعو إلى السرقة، وذلك كانعدام الرقابة وقلة أو انعدام المحاسبة، واقتسام ثروات البلد بين المتنفذين، وتجويع الرعية وإفقارهم..

نعم إن الإفقار دافع قوي لخلق أجواء السرقات والتعدي على أملاك الآخرين..

يُنقل أن شخصًا دخل إلى دار جاره ليسرق منه ما يتقوّت به بعدما أخذ الجوع منه مأخذه، فلما دخل أخذ يصارع نفسه، وما لبث أن صاح: يا أهل الدار في بيتكم حرامي قوموا وألقوا القبض عليه..

فقام صاحب الدار مسرعًا وسأله: أين الحرامي؟

فقال الرجل: ها أنا ذا.

فقال له جاره: ما الذي دفعك للسرقة ؟

قال الرجل: الكف الفارغ، والبطن الجائع!!

فبكى جاره واعتذر منه، لأنه بات شبعانًا وجاره جائع، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): (ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع)..

نعم بكى واعتذر لأنه لم يلتفت لجوع جاره !! فكيف بمن يجوعون اليوم شعبًا بكامله، ثم يحمِّلونه مسؤولية ما يسرقون، ويفرضون عليه وبشكل قهري أن يؤدي لهم التحية والإكرام..

وليست السرقة فحسب هي ما يشين مجتمعنا اليوم، فهي ليست إلا مجرد عمل واحد من أصل عشرات الأعمال القبيحة التي باتت تشكل سمة المجتمع.. فمن السرقة، إلى الكذب، إلى الغدر، إلى الخيانة، إلى التزوير، إلى الغش، إلى الفجور، إلى القتل، إلى العلاقات المحرمة.. إلى الفساد بكافة صوره..

تحريم صناعة أجواء الفساد 

عند التأمل في موارد الأحكام الشرعية التحريمية، نجد أن تلك الأحكام كما تُصبُّ على الأفعال المستبطنة للمفاسد، فإنها تُصب أيضًا على الأفعال التي تساهم في خلق وصناعة أجواء الفساد.

فإشاعة الفواحش -مثلاً- وإن لم تكن بحد ذاتها ارتكابًا للفواحش إلا أنها تساهم في خلق وصناعة الأجواء الملوثة التي تُغري بارتكابها، والشريعة المطهرة كما نهت عن ارتكاب الفواحش نهت أيضًا عن إشاعتها، قال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}([2]).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (التبجح بالمعاصي أقبح من ركوبها)، وقال (عليه السلام) أيضًا: (لا وزر أعظم من التبجح بالفجور)([3]).

وهذا التنديد بالمتبجحين بمعاصيهم تظهر منه روح التصدي لكل ما يساهم في خلق وصناعة أجواء الفساد.

كما أن من بين الأحكام الشرعية التي تظهر منها أيضًا روح التصدي لما يساهم في خلق وصناعة أجواء الفساد والتي نذكرها على سبيل المثال لا الحصر:

- الأمر بالمبادرة الفورية إلى النهي عن المنكر عند رؤيته: (من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه..)([4]).

- الترخيص باغتياب المتجاهر بالفسق، فإنه يساهم في إسقاط هذا المتجاهر، وبالتالي فإنه يساهم في منع تفشي حالة الفسق التي يتجاهر بها هذا الفاسق المتمرد على أحكام الله تعالى.. 

- التنديد بالصمت عن المنكر، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أوحى الله إلى جبرائيل وأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفار والفجار.

فقال جبرائيل: يا رب أخسف بهم إلا بفلان الزاهد، ليعرف ماذا يأمره الله فيه؟

فقال: اخسف بفلان قبلهم.

فسأل ربه فقال: يا رب عرّفني لمَ ذلك وهو زاهد عابد؟!

قال: مكّنت له وأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، وكان يتوفر على حبهم في غضبي.

فقالوا: يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لَتًأْمُرُنّ بالمعروف، ولَتَنْهُنَّ عن المنكر، أو ليعمنَّكم عذاب الله، ثم قال: من رأى منكم منكرًا فلينكر بيده إن استطاع، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره([5]).

الأمر باجتناب الخمر والميسر أعم من التحريم

قال  تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([6]).

إن الاجتناب في هذه الآية الكريمة يتطلب الابتعاد الكامل، يعني الابتعاد عن ذوات الأفعال، والابتعاد عن أجوائها أيضًا، فمعنى الاجتناب كونه في جانب غير جانبها، وعليه فكما لا يجوز شرب الخمر بحد ذاته، لا يجوز أيضًا الجلوس على مائدة يُشرب عليها الخمر، وإلا لم يتحقق عنوان الاجتناب، وكذلك الحال بالنسبة للميسر (أي القمار)، وللأمكنة التي يُلعب فيها القمار، فإنه لا يتحقق الاجتناب إلا بالابتعاد عنها وعن أجوائها.

وعليه فالأمر بالاجتناب أعمّ وأشمل من التحريم المجرد، لامتداده إلى المنع من إشاعة أجواء شرب الخمر ولعب القمار، فضلاً عن تحريم ذوات الأفعال.

وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ملعون ملعون من جلس على مائدة يُشرب عليها الخمر([7]).

ورق اللعب

وبهذه المناسبة نستطرد في حديثنا للإشارة إلى أن ورق اللعب ليس مجرد آلة قمار بل هو سيد آلات القمار، وعلامة سيادته أنه يستطيع أن يدخل إلى أي مكان يريد (كما هو حال السيد في قصره)، بينما بعض آلات القمار لا تستطيع الدخول إلا إلى أماكن محدودة، فالروليت -مثلاً- لا تستطيع الدخول إلا إلى الكازينو بينما ورق اللعب يدخل إلى غرف الجلوس، وغرف النوم، ووسط الدار، وأعلى السطح..

والورق في نفس الوقت صنارة متينة للشيطان الذي يتدرج في اصطياد فرائسه عبر خطوات متوالية، لكونه لا يستطيع أن يحوِّل سلوك إنسان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دفعة واحدة، وإنما يحرفه شيئًا فشيئًا، فيغريه -مثلاً- بالتسلية بورق اللعب، وتكون هذه التسلية هي الخطوة الأولى في رحلة الانحراف، نعم إن الشيطان لا يغري بالفعل مباشرة، ولا يتحكم بالقناعات، ولا يخلق الجو، ولكنه يزرع بذرة الفساد فتفرِّخ، وهنا لابد أن نلاحظ الآثار التي ينتجها ورق اللعب:

- إهمال في الواجبات الشرعية: كتأخير الصلاة عن أوقاتها..

- إهمال في الواجبات الأخلاقية: تجاه الأهل والأصدقاء والمجتمع ككل..

- التقصير في المسؤوليات: تجاه الأسرة والزوجة والأطفال..

- ترك الصلاة، خاصة الصبح منها عندما تكون السهرة طويلة..

- إزعاج أهل بيت الشخص المستضيف للعب الورق (وقد يكون مرغمًا)..

- الكلام القبيح أثناء اللعب..

- الانفعال والغضب وانتفاخ الأوداج ودخول الشيطان في العروق..

- الشتائم التي يتفكه بها اللاعبون، وخاصة عند الانتصارات أو الهزائم..

- إزعاج للجيران وإقلاقهم..

- التأخر عن دوام العمل..

- الانجرار لمصاحبة ذوي السمعة السيئة والتخلق بأخلاقهم..

- تأهيل اللاعب للدخول في أندية القمار عندما يصبح ذا خبرة..

- إذا تطورت مراحل اللعب ووصلت إلى أندية القمار، يعتاد اللاعب على الكسب السريع، وبالتالي في صورة الربح يتخاذل عن السعي والعمل والكدح لتحصيل المعيشة، فيصبح غير منتج، وإن خسر يحاول الاستعاضة عن كسبه السريع بكسب سريع آخر عبر السرقة ونحوها..

إذن ظاهرة اللعب بالورق تساهم في خلق جو بعيد عن التدين، وفي جعل المجتمع متخلفًا وغير منتج.

الفصل الثاني: موانع التحرك

التثاقل إلى الأرض سببه التعلق بالمصالح الدنيوية

إن العنصر الأساسي المؤدي إلى التخاذل والالتصاق بالأرض عند الدعوة إلى النفر هو التعلق بالمصالح الدنيوية التي تخدع وتفتن، ولذا نجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول في دعائه لأهل الثغور: (وأَنسِهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون..)([8]).

ولو أننا نعرف قيمة المصالح الدنيوية -مهما جلَّت وعظمت- أمام الآخرة ودوامها وما أعده الله لعباده في تلك الدار، لوجدنا أن الدنيا تضؤل بالمقارنة والموازنة مع الآخرة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ثم يرفعها فينظر بمَ ترجع)([9]).

وقال (صلى الله عليه وآله): ما لي والدنيا، إنما مثَلي ومثل الدنيا كمثل راكب قام من القيلولة في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها([10]).

تحويل المادة الجامدة إلى طاقة متحركة

قال تعالى: {..فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}([11]).

إن المادة الثقيلة التي تمسكها بيدك، عندما تتركها تسقط إلى الأرض وتستقر عليها، ولكن عندما تتحول تلك المادة إلى طاقة فإنها تتحرك وترتفع..

والحياة برمتها تسير على هذا المبدأ، مبدأ التحول إلى طاقة، ولولا ذلك لتوقفت عجلة الحياة...

فالسيارة والطائرة لا تتحرك إلا بعد تحول البنزين من مادة إلى طاقة.. والرصاصة لا تنطلق إلا عند تحول مادة البارود إلى طاقة.. والصاروخ لا ينطلق إلا بعد تحول المادة الدافعة إلى طاقة.. وهكذا..

وكذلك الحال بالنسبة للإنسان، فإنه يمتلك صنفًا متميزًا من الطاقة يتمثل في العزيمة والهمة العالية.. وما الأمر بالنَّفْرِ الواردُ في الآية المباركة إلا دعوة من الله لنا لتفعيل تلك الطاقة، كي نتحرك وننطلق في سبيل الله.. في سبيل الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعًا..

نعم هو دعوة من الله لنا كي نتحرك في نفس الاتجاه الذي مشى فيه الأنبياء، ونخطو في إثرهم، ونشعر بالانتماء إليهم، وهم الأدلاء على السبيل.. الأدلاء على النهج ببعديه: السماوي المرتبط بالله، والأرضي المرتبط بخدمة عيال الله..

وإذا ما وصلنا إلى الشعور بالانتماء إلى الأنبياء، نشعر عندها بالعزة التي يمنحها الله لرسله وللمؤمنين، العزة التي تتوهج فتتضاءل أمامها مشاعر الانتماء إلى الفئات الفلانية، أو الوظائف الفلانية، أو النقابات الفلانية، أو إلى المسؤولين الفلانيين الذين قد تتملكهم حالات من الغرور الكاذب، ولكن سرعان ما يتلاشى ويذهب جفاءً..

ولكي تتلمس تلك الطاقة الكامنة التي غرسها الله في أعماقك يكفيك أن تشد قبضة يدك، وتنادي (يا الله) أو تقول (يا علي).. أو تلطم على صدرك، وتصرخ (يا حسين).. لتشعر بدفق تلك الحرارة وهي تتفجر من أعماق كيانك، وتترجم عمليًا كلمة: (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبدًا).

نعم لقد فجَّر الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته وشهادته طاقة متدفقة في داخل قلب كل مؤمن بخط الحسين وثورة الحسين الخالدة..

لقد فجَّر طاقة تدفع نحو الجهاد، نحو مقارعة الظالمين، نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نحو التصحيح، نحو التغيير إلى الأفضل، نحو الإصلاح في أمة محمد (صلى الله عليه وآله)..

نعم، إن الأمر بالنفر هو أمر بتفعيل تلك الطاقة الكامنة في كل واحد منا، فإن من لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.. يعني تدوسه الأقدام.. يعني يرضى بحياة الذل غير المسموح بها، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): إن الله فوَّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يذل نفسه، ألم تسمع قول الله عز وجل {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}([12]).

إلقاء الحجة والحث على التحرك

كفى نومًا.. كفى سباتًا.. كفى خنوعًا واستسلامًا.. ينقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لما نزل عليه الوحي ترك كل راحة وكان يدأب ليل نهار في العبادة والعمل، حتى أشفقت عليه خديجة فقالت له: يا رسول الله ألا تستريح ؟! ألا تنام ؟! فقال (صلى الله عليه وآله): لقد مضى عهد النوم يا خديجة([13]).

وينقل الأصبغ بن نباتة صورة عن حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث كان يصل الليل بالنهار والنهار بالليل، وبعد يوم شاق مضنٍ يعود أمير المؤمنين (عليه السلام) برفقة الأصبغ إلى الدار، يقول الأصبغ: فنمت في الدار وذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى غرفة من غرف الدار، ولم يكن النوم قد غلبني بعد، وإذا بي أرى الإمام (عليه السلام) ينزل من الدرج وهو منحن من شدة الإرهاق والنعاس، وكان يستند بيده الكريمة إلى الحائط، فظننت أن الإمام يريد شيئًا، فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا تريد؟ قال الإمام (عليه السلام): أريد أن أصلي لربي ركعات. قلت: يا أمير المؤمنين قبل قليل جئت إلى الدار، وما نمت إلا قليلاً، فكيف تقوم ؟ ألا ترحم نفسك ؟! ألا تستريح ؟!  فقال الإمام (عليه السلام): يا أصبغ كيف أنام ؟! إن نمت النهار ضيعت رعيتي! وإن نمت الليل ضيعت نفسي([14])!

وختامًا، لا بد من الجد والعمل في سبيل إصلاح الذات والمجتمع، حتى لا نندم يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. 

فقد جاء في الحديث الشريف أن الإمام الصادق (عليه السلام) سئل عن قول الله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}([15])؟ فقال (عليه السلام): إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنتَ عالمًا؟ فإن قال نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه. فتلك الحجة البالغة([16]).


([1]) سورة التوبة آية 38 39.

([2]) سورة النور آية 19.

([3]) ميزان الحكمة ج2 ص 994 / نقلاً عن غرر الحكم.

([4]) مستدرك الوسائل ج12 ص 192.

([5]) وسائل الشيعة ج11 ص 406.

([6]) سورة المائدة آية 90.

([7]) وسائل الشيعة ج 16 ص 401.

([8]) الصحيفة السجادية في دعائه لأهل الثغور.

([9]) روضة الواعظين للنيسابوري ص 440.

([10]) المصدر السابق.

([11]) سورة النساء آية 95.

([12]) سورة المنافقون آية 8.

([13]) السبيل إلى إنهاض المسلمين ص 111.

([14]) نفس المصدر ص 112.

([15]) سورة الأنعام آية 149.

([16]) أمالي الشيخ المفيد ص 228.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع عشر