السنة السادسة / العدد الثامن عشر/ كانون أول 2010 - محرم : 1432هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

زيف اللغة الملونة

د. علي شريعتي نموذجًا

"القسم الثاني"

الشيخ مصطفى يحفوفي

 

المقدمة

تناولتُ في مقالة سابقة([1]) ظاهرة استخدام اللغة الملونة في النصوص ذات الطابع الفكري، وبيّنت جانبًا من مزالق هذه اللغة متخذًا من بعض كتابات د. علي شريعتي نموذجًا تطبيقيًا يوضّح القضية ويدلل على المقصود.

وقد ذكرتُ هناك أن الغرض من تلك المقالة لم يكن يتعلق بمناقشة آراء شريعتي ونظرياته، ولا بالكشف عن المعلومات الخاطئة والمضللة التي اشتملت عليها مؤلفاته، وإنما كان همّي الأول فيها هو تحذير القارئ حين يُقبل على قراءة النصوص المكتوبة بلغة ملونة وعبارات مثيرة، لكي يقرأ بأناة وتبصّر، فلا يشغله جمال البلاغة عن تدبّر الحقيقة، ولا يُلهيه سحر البيان عن ترصّد البرهان. ورجوت من الله تعالى أن يوفقني إلى كتابة مقالة ثانية تتناول بشيء من التفصيل بعض أفكار شريعتي، وتكشف عن جانب من معلوماته الخاطئة التي يبني عليها نتائجه ويعلل بها آراءه.

وها قد تحقق بحمد الله رجائي فجاءت المقالة الحالية لتستكمل جانبًا مما كنت قد أجَّلتُه في المقالة الأولى.

ولكن لما كان يستحيل أن تتسع مقالة واحدة، بل ولا حتى سفر كبير للتصدي للمعلومات الخاطئة والأفكار الواهنة التي تعجّ بها كتب شريعتي، لذلك وجدت أن لا مناص لي عن الاكتفاء بعرض بعض النماذج مما يضيء على القضية وينبّه على البقية.

وبين الخيارين اللذين كانا متاحين أمامي للقيام بذلك، فضّلتُ خيار انتخاب هذه النماذج من كتاب واحد من كتب شريعتي بدل انتخابها من كتبه المختلفة، وذلك لكي أُيسّر للقارئ الرجوع إلى مصادر الكلام، وأسهّل عليه عملية إصدار الأحكام، خصوصًا وأنني في المقالة السابقة كنت قد فعلت العكس، فنوّعت الكتب التي استقيت منها النماذج المطروحة هناك.

والكتاب الذي اخترته ليكون محورًا لهذا البحث هو كتاب "معرفة الإسلام"([2]) والذي يُعدّ واحدًا من أشهر كتب شريعتي، ومن أهم مؤلفاته التي عبّر فيها عن أفكاره([3])، حتى أن قناعته كانت تزداد رسوخًا مع الأيام بالأفكار المطروحة فيه، ولذلك تجده يقول: ((وأنا أشعر أنه كلما تقدّم بي الزمن وانهالت عليّ انتقادات أكثر، كلما ازدادت قناعتي رسوخًا بصحة الأفكار الواردة في الكتاب المذكور))([4]).

ويجدر بنا قبل الانطلاق إلى ما أردنا عرضه من نماذج أن نبيّن الغرض الذي قصد إليه شريعتي في كتابه "معرفة الإسلام"، وذلك لكي نضع هذه النماذج في سياقها المناسب ونفهمها فهمًا صحيحًا، وقد نصّ شريعتي على الغرض من كتابه المذكور بالقول: ((يجدر بي التذكير من أن الهدف من وراء هذه المحاضرات هو إبراز الوجه الحقيقي للإسلام واستيحاء مقاصده الأصلية))([5]).

ويقول أيضًا: ((يمثل الكتاب الحالي خطوة أولى تخطوها اللغة الفارسية في طريق التعرّف على الإسلام بأسلوب علمي منهجي تحليلي))([6]).

ولننطلق الآن إلى مطالعة نماذجنا الموعودة على ضوء الغايات السابقة التي حدّدها شريعتي لكتابه.

النموذج الأول:

مما لا شك فيه أن تبيان طبيعة المنهج الذي يعتمده القرآن الكريم في عملية المعرفة يشكّل عنصرًا هامًا من عناصر معرفة الإسلام، وهذا ما حَدَا بشريعتي إلى طرح تصوّره حول المنهج القرآني، فقدّم لذلك بالحديث حول مناهج التفكير المتداولة عمومًا، واستعان لتوضيح كلامه ببعض الأمثلة والمقارنات، وقد كان من الطبيعي أن يعرّج أثناء ذلك على الفيلسوف اليوناني أرسطو، ويذكر منهجه في المعرفة والاستدلال.

ونحن من جهتنا سوف نخصّص النموذج الأول لمعالجة المعلومات التي يوردها شريعتي حول أرسطو ومنهجه، وسنخصّص النموذج الثاني لمناقشة التصوّر الذي يتبنّاه حول المنهج القرآني في المعرفة.

ولنقرأ فيما يرتبط بالأمر الأول النص التالي لشريعتي والذي يقول فيه:

((هناك -عمومًا- منهجان للتفكير عالميًا، الأول منهما يهتم بالأمور الكلية والمجرّدة والمسائل العقلية النظرية، والآخر خلاف ذلك.

والمفكر الذي يعتمد المنهج الأول في التفكير لا يرى نفسه بحاجة إلى التجربة ومشاهدة الجزئيات أو التعرّف على الأشياء في بيئتها الخارجية أو المختبرية. إنه يجلس مع نفسه يفكر في حقيقة الوجود التي تتحكّم بطرق التفكير والاستدلال العقلي ويسعى للكشف عنها، ومن ثم ينظر إلى ما حوله من خلال تلك القواعد والقوانين المكتشفة. أرسطو يذهب إلى أن الكليات هي أُسّ التفكير المنطقي وأساسه ولا ضرورة لأن تُدرس أحوال أفراد البشر وصنوفهم، بل يعتبر أن ما توصّل إليه ذهنيًا هو قضية كلية بديهية وأن (الإنسان حيوان ناطق) دون الحاجة إلى دراسة الأشخاص بصورة مباشرة))([7]).

بهذه الصورة يقدّم لنا شريعتي أرسطو ويعرض علينا منهجه في التفكير والمعرفة، وهي لَعمري صورة مشوّهة تخون الحقيقة وتخطئ الواقع. فإذا كان أرسطو يذهب إلى أن الكليات هي أُسّ التفكير المنطقي أو أُسّ جانب من التفكير المنطقي -إذا ما أردنا الدقة- فإن ذلك لا يجعله في صفّ من لا يرون أنفسهم بحاجة إلى التجربة ومشاهدة الجزئيات...

ولا يسعنا هنا دراسة علاقة المنطق بالكليات، وما إذا كان يصح استغناء القواعد المنطقية عن هذه الكليات والاستعاضة عنها بالجزئيات وحدها دون الحاجة إلى التجريد والتعميم. وإنما كل الذي يهمنا الآن هو محاولة التعرّف بشكل صحيح على منهج أرسطو وعلى موقفه من التجربة ومشاهدة الجزئيات.

يقول "ول ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة": ((وهو -أي أرسطو- يرى أن الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن القوانين العامة ليست إلا أفكارًا معمّمة، وأنها ليست فطرية بل تكوّنت من مشاهدات للأشياء المتماثلة، فهي مدركات وليست أشياء))([8]).

ويقول بعد ذلك: ((وينتقد -أي أرسطو- المتقدمين الذين صوّروا الكون أو وضعوا نظرياتهم عنه من خيالهم بدل أن يمضوا الوقت الطويل في الرصد والتجارب بصبر وأناة. ومثله الأعلى الاستدلال المنطقي (...) ولكنه يقرّ بأنه إذا أريد تجنّب الوقوع في خطأ المصادرة على المطلوب وجب أن يسبق القياس استقراء واسع يجعل قضيته الكبرى مرجّحة، وهو وإن كان في رسائله الفلسفية يضلّ في بيداء الاستدلال، يمجّدُ الاستقراء ويجمع في كتبه العلمية ذخيرة طيبة من الملاحظات المحدودة الدقيقة، ويسجّل في بعض الأحيان تجاربه هو أو تجارب غيره من العلماء. وقصارى القول أنه رغم أغلاطه واضعُ أساس الطريقة العلمية، وأول من نظّم التعاون في البحث العلمي))([9]).

فأرسطو إذًا يجعل الاعتبار الأول للحواس، ويعتمد التجربة والاستقراء، وهو واضع أساس الطريقة العلمية، على الرغم من ضلاله في رسائله الفلسفية في بيداء الاستدلال -على حدّ تعبير ديورانت-، وعلى الرغم مما يقع فيه من أغلاط، فإن ما ضلّ فيه وما ارتكبه من أخطاء لا يلغيان كل ما أبدعه على مستوى المنهج العلمي، ولا يسوّغان لشريعتي أن يجعله في صف من لا يرى نفسه بحاجة إلى التجربة ومشاهدة الجزئيات، أو التعرّف على الأشياء في بيئتها الخارجية أو المختبرية.

بل العكس هو الصحيح، فأرسطو كان يهتم اهتمامًا بالغًا بالملاحظة والتجربة، ولذلك كان يستعين بتلاميذه على جمع المعلومات القيّمة عن الحيوان والنبات في بلاد بحر "إيجه"، وكان يعتذر عن اهتمامه بتلك الأشياء الصغيرة بالقول: (( ليس في الأشياء الطبيعية ما يخلو عن الأعاجيب، وإذا ما احتقر إنسان التفكير في الحيوانات الدنيا فإن عليه أن يحتقر نفسه))([10]).

بل الأمر أبلغ من ذلك بكثير، حتى أنه ليمكننا القول: إن خير ما يتجلّى به نبوغ أرسطو هو إبداعه في الميدان التجريبي، ومن أمثلة ذلك تجربته التي أجراها على جنين الدجاجة والتي يصوّرها على النحو التالي:

((أجر إذا شئت هذه التجربة: إيت بعشرين بيضة أو أكثر، واجعل دجاجتين أو أكثر ترقدان عليها. ثم خذ منها بيضة كل يوم، ابتداء من اليوم الثاني إلى أن تفقس واكسرها وافحص عنها... ففي حالة الدجاجة العادية تستطاع رؤية الجنين أول مرة بعد ثلاثة أيام... فيظهر القلب في صورة نقطة من الدم، ينبض ويتحرك كأنه قد وهب الحياة، ويخرج منه وعاءان بهما دم يسيران في تلافيف، وغشاء يحمل خيوطًا رفيعة دموية من أنابيب الوريدين، ويحيط بجميع أجزاء المح (الصفار)... وبعد عشرة أيام يُرى الفرخ بجميع أجزائه واضحًا كل الوضوح))([11]).

هكذا هي حال أرسطو إذًا مع الحسّ والتجربة، ونحن وإن كنا لا ننكر ما ارتكبه من الأخطاء في ميدان العلوم الطبيعية، ولكنه من واجبنا أيضًا أن لا ننسى بأننا نتحدث عن رجل يبعد عنا أكثر من عشرين قرنًا، وأنه ابن زمان لم يكن من المستطاع فيه [أن ترقى العلوم فوق الحد الذي وصلت إليه على يديه إلا بعد أن مَدّتها الاختراعات بأجهزة وآلات أوسع مدىً وأدق في الرصد والقياس]([12]).

وبناء على ما سبق يتبيّن لنا أن أرسطو في منهجه لم يقتصر على الأمور الذهنية دون غيرها من عناصر الواقع، كما صوّره شريعتي، بل الحق أنه أولى الطبيعة والواقع فائق عنايته، ولذلك يصفه "جو ستاين غاردر" بالقول:

((كان أبوه طبيبًا معروفًا وعالمًا... مما يساعدنا بداية على فهم المشروع الفلسفي للابن.

فقد ركّز اهتمامه على الطبيعة الحية، وبهذا لم يكن فقط آخر فيلسوف في اليونان، بل أيضًا أول عالم أحياء في أوروبا (...) وإذ نمضي إلى أبعد من ذلك، نقول إن أفلاطون قد أدار ظهره لعالم الحواس، ليذهب إلى ما وراء كل ما يحيط بنا (كان يريد أن يخرج من المغارة، أن يرى عالم الأفكار الخالد!).

أرسطو فعل العكس تمامًا. لقد انحنى على يديه ورجليه ليدرس الأسماك، والضفادع، الورد والبنفسج.

لم يكن أفلاطون يستعمل إلا عقله -إن أردت- بينما استعمل أرسطو حواسه أيضًا)) ([13]).

بذا يظهر خطأ المعلومات التي يدلي بها شريعتي حول منهج أرسطو، وهذا يقودنا إلى السؤال: هل من المقبول أن تبتني محاولة التعرّف على الإسلام -بأسلوب علمي منهجي تحليلي- على معلومات زائفة تخون الواقع وتظلم الآخرين؟! وهل يدعونا السّعي إلى فهم طبيعة المنهج القرآني والإعلاء من شأنه إلى إغفال الحقيقة والتجنّي على الغير؟! كلا... ثم كلا... إن الإسلام يدعونا للتثبت قبل الحكم ويأبى علينا أن نبخس الناس أشياءهم.

النموذج الثاني

تعرّفنا في النموذج الأول على تصور شريعتي لمنهج أرسطو، وبيّنا زيف معلوماته وخطل آرائه المرتبطة بهذا الفيلسوف العالِم. وقد آن الآوان لكي نتعرّف -كما وعدنا- على تصوّره لمنهج القرآن الكريم، لنرى كيف سيكون حاله في هذا المجال.

يبيّن لنا شريعتي طبيعة المنهج القرآني -بحسب فهمه- فيقول: ((القرآن بأسره، اهتمامٌ بالجزئيات، وتعاطٍ مع الأمور الحسية من طعام وإبل وأرض وأمم سالفة وكواكب ونجوم، وشمس وقمر وتين وزيتون ونون والقلم وما يسطرون.

إن جميع الموارد التي أقْسَم بها القرآن هي أمور جزئية مادية وحسية واقعية، ولا يوجد مورد واحد يُقسم فيه القرآن بالجواهر والهيولى والصورة والمثل أو حتى العقل والنفس والروح))([14]).

والنتيجة التي ينتهي إليها من ذلك يلخصها قوله: ((وعليه فالإسلام يشجع ويحثّ على ملاحظة الأمور الحسية والجزئيات وتجاهل الكليات))([15]).

يتبيّن من هذا أن شريعتي -بحسب فهمه- يقصر المنهج القرآني على التعاطي مع الأمور الحسية والجزئيات المادية، كما كان يقصر منهج أرسطو على الاهتمام بالمعطيات الذهنية دون حاجة إلى الملاحظة المباشرة للأفراد والمصاديق.

وهو بهذا يراكم الخطأ على الخطأ، بل إن أخطاءه هنا أسوأ بمراتب من سابقاتها المتعلقة بأرسطو ومنهجه.

ولعل أغرب ما يستوقف المرء ويصدم إدراكه في كلام شريعتي حول المنهج القرآني هو قوله: ((ولا يوجد مورد واحد يُقسم فيه القرآن.. بالنفس))!!

وهذا أمر محيّر وعجيب.

فهل يكاد يخفى حقًا على أيّ قارئ للقرآن، بل حتى على من يكتفي بالاطلاع على بعض فهارس ألفاظ آياته، هل يخفى على هذا أو ذاك أن القرآن قد أقسم بالنفس وفي أكثر من مورد ؟!

قال تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}([16]).

وقال أيضًا: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}([17]).

وإنما جاء هذا القَسَم الأخير بصيغة النفي {لا أُقْسِمُ} تدليلاً على إعظام ما يقسم به سبحانه([18]). وقد بيّن لنا القرآن في مورد آخر أن صيغة النفي هذه هي نوع من أنواع القسم حقيقةً، وذلك في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}([19]). فنبّهنا سبحانه على أن قوله {لا أُقْسِمُ} هو قسم بكل ما للكلمة من معنى، ولذلك عقّب سبحانه بالقول: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.

والحاصل: أن القرآن الكريم قد أقسم بالنفس كما هو واضح وأكيد. ولكن شريعتي يأبى إلا أن يجازف بأقواله وآرائه، فيتجرّأ على الكتاب المجيد، نافيًا منه ما هو موجود فيه مما تراه العين حين تُقبل على قراءته، وتسمعه الأذن حين تصغي لتلاوته. فما عسانا أن نقول لمن يتجاهل المحسوسات وينكر البديهيات سوى أن نتمثل بقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}([20]).

هذا علاوة على أن القرآن لم يقتصر في حديثه عن النفس على القسم وحده، بل ذكرها في جملة من آياته، متناولاً العديد من أحوالها وشؤونها وما تنطوي عليه من جوانب لا تدركها الحواس الظاهرة .

وهذه بعض الأمثلة اليسيرة الدالة على المطلوب ، قال تعالى:

{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}([21]).

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا.. الآية}([22]).

{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}([23]).

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}([24]).

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}([25]).

وعلى هذا المنوال.. تتعدد الآيات القرآنية التي تتحدث عن النفس، وتشير إلى حالاتها وأطوارها المختلفة .

وإننا لنجد في هذه العناية القرآنية الواسعة بالنفس لدليلاً جليًا على أن الإسلام يشجع على ملاحظة الأمور المجردة، ويحث على الاهتمام بغير المحسوسات. وهذا لوحده كافٍ في إبطال مزاعم شريعتي حول طبيعة المنهج الذي يتخذه القرآن الكريم ويدعو الناس إلى اتباعه.

وإنما قلنا: (هذا لوحده كاف..) لنشير إلى أن عناية القرآن بالمجردات لا تتوقف على تناول موضوع النفس وشؤونها فقط، بل إن الموارد التي يتحدث فيها القرآن حول المجردات هي من الكثرة بحيث لا يُخطئها الحسّ ولا يضل عنها العقل. وحسبُنا أن نلفت انتباه القارئ إلى الآيات التي تتحدث عن الله سبحانه، وعن أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكذلك الآيات التي تتحدث عن ملائكة الغيب وعن خصائصهم وأفعالهم، وإلى آخر الآيات التي تتحدّث عن باقي الكائنات والعوالم التي لا تُرى ولا تُلمس، ولا يجد الحس إليها سبيلاً([26]).

وهكذا يظهر جليًا بطلان دعوى شريعتي التي تذهب إلى أن القرآن الكريم يقصر اهتمامه على الأمور الحسية والجزئيات المادية، وتزعم أن الإسلام يشجعنا على ملاحظة مثل هذه الأمور فقط، ويحثّنا على تجاهل غيرها مما يعبّر عنها شريعتي بمصطلح (الكليات) ([27]).

كلا.. ليست تِلكم هي المعرفة الصحيحة للإسلام، بل الإسلام دين سماوي يؤمن بالغيب، وهو ذو منهج شمولي متوازن وواقعي، لا يفرّط بأي واقع مهما كانت طبيعته، ولذا فإن للمحسوسات عنده واقعيتها، وللمجردات واقعيتها أيضًا، وهو يقرّ لكل منهما بما له من حقيقة، ويضفي عليه ما يناسبه من شأن واعتبار.

فأين شريعتي من المعرفة الحقة للإسلام، بل أين ادعاؤه بأنه سُيعرّفنا على الإسلام بأسلوب علمي منهجي وتحليلي ؟!

أَوَلم تكن تُحتَم عليه أبسط قواعد الأسلوب العلمي والمنهجي أن يطّلع على القرآن الكريم، أو يطالع على الأقل بعض فهارس آياته قبل أن يَطْلع علينا بفهمه القاصر للإسلام، ويُنصّبَ نفسه دليلاً يرشد الآخرين إلى معرفته والتعرف على مناهجه؟!

النموذج الثالث:

تعرّفنا في النموذج السابق على جانب من جوانب المنهج الذي يستخدمه شريعتي في دراسته للقرآن الكريم، فرأينا كيف أنه لا يتورع عن إنكار وجود ما هو جلي الوجود في الآيات القرآنية مدعيًا بأن القرآن لا يقسم بالنفس، وأنه لا يعير اهتمامًا لغير المحسوسات.

وكنا قد تعرّفنا في المقالة السابقة على جانب آخر من جوانب منهجه هذا، فرأينا كيف أنه لا يتورع عن فعل العكس أيضًا، فينسب إلى القرآن ما ليس موجودًا فيه([28]).

وهو إنما يفعل هذا وذاك ليبرر بعض مزاعمه المتعلقة بالقرآن كما بيّناه في الموارد المذكورة.

ونحن هنا سنحاول أن نكشف عن جهة ثالثة من جهات المنهج الذي يستخدمه شريعتي في دراسة القرآن، وهي الجهة المرتبطة بطريقته في فهم الآيات وتفسيرها، وبنوعية الأدلة التي يؤيد بها فهمه وتفسيره هذين.

ولنقرأ لأجل ذلك نصه التالي حول الأوامر الإلهية الواردة في القرآن الكريم حيث يقول:

[إن التطور العلمي الهائل والازدهار الحضاري الحديث مَدين لجهودٍ ومساعٍ بذلها رجال كبار أمثال فرانسيس بيكون وراجير بيكون وديكارت وغيرهم من العلماء الأفذاذ الذين غيّروا منهجية التفكير، وحثوا سائر العلماء والباحثين على الدراسة والتحقيق في نطاق المحسوسات والأمور الجزئية التجريبية ومشاهدة الحقائق الخارجية. سألوا ديكارت: أي كتاب درست؟ فأشار إلى جثة هامدة لحيوان وقال: هذا...!

أليس هذا تطبيقًا دقيقًا للأمر الصريح: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}([29])؟

إن ما يدعو للأسف تأثر عقول معظم العلماء المسلمين بالنزعة اليونانية ما أدّى بهم إلى أن يكونوا ماهرين للغاية في تأويل القرآن حتى ما كان منه آيات محكمات، وقد صنّفوا الأوامر الصريحة الواردة في القرآن إلى صنفين:

1- الأمر الإنشائي: نظير [أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة] وهذا النوع من الأوامر لا بدّ من امتثاله والانقياد له.

2- الأمر الإرشادي: نظير [فسيروا في الأرض وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين]([30]) وهذا ما لا يجب امتثاله، إذ المراد فيه بيان أهمية المأمور به لا غير!

إنّ هذا النمط من التفكير هو الذي قادنا وأوصلنا إلى الحال التي نحن عليها الآن، حيث نرتقي المنبر يوميًا للحديث عن أهمية العلم ونؤلّف في ذلك كتبًا ومجلدات، دون أن نعكف فعلاً على اكتساب العلم وتحصيله، وذلك أن الأمر بالتعلم إرشادي لا إنشائي!

إن هذه التأويلات (المتنوّرة) المضلّلة لهي أخطر ألف مرة مما ألحقه الاجتياح المغولي بالإسلام والمسلمين من خسائر فادحة أورثت مجتمعاتنا الجهل والخرافة والتعاسة والبؤس]([31]).

يذهب شريعتي في هذا النص إلى أن تصنيف الأوامر ( الصريحة ) الواردة في القرآن إلى أوامر (إنشائية)([32]) وأوامر (إرشادية)، إنما أحدثته مهارة العلماء المسلمين، وذلك بسبب تأثرهم بالنزعة اليونانية .

ونحن هنا سنحاول التعرّف على النهج الذي يسلكه شريعتي محاولاً من خلاله إثبات صحة رأيه التفسيري وإبطال تفسير من يعترض عليهم من العلماء.

وهذا ما سنبيّنه عبر النقطتين التاليتين:

(أولاً): يُلاحظ على النهج الذي يسلكه شريعتي في تفسيره أنه يختزل الحقيقة في تعريفه لصنفي الأوامر، فهو من جهة يقصر الأوامر (الإنشائية) على ما يجب امتثاله، كما أنه ومن جهة أخرى يقصر الأوامر (الإرشادية) على ما لا يجب امتثاله.

بينما الحقيقة هي أن العديد من العلماء قد فصّلوا القول في تعريفهم لكلٍ من صنفي الأوامر، فهم من ناحية قد جعلوا الأوامر (الإنشائية) على قسمين: أحدهما الأوامر (الوجوبية)، وهي أوامر يجب امتثالها. وثانيهما الأوامر (الاستحبابية) وهي أوامر غير واجبة الامتثال.

فليس صحيحًا إذن قصر الأوامر (الإنشائية) على الأوامر التي يجب امتثالها، بل هذا التعريف إنما ينطبق في الحقيقة على أحد قسمي هذه الأوامر فقط وهو الأوامر (الوجوبية)، ولا ينطبق على القسم الآخر، وهو الأوامر (الاستحبابية).

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية نجد أن العديد من العلماء قد أشاروا إلى وجود نحوين من الأوامر (الإرشادية) أحدهما هو الأوامر الإرشادية التي ليس فيها جهة إلزام، ومثالها أوامر الطبيب حين يأمر بشرب دواء أو بممارسة بعض الأفعال أو الحركات لأجل جهة كمالية في البدن، فإن أوامره في هذه الحالة ليس فيها جهة إلزامية تحتّم على المرء امتثالها.

والنحو الثاني هو الأوامر الإرشادية التي تتضمن جهة إلزامية، والإلزام فيها ينشأ من ناحية مواردها، أي من ناحية اللزوم في المُرشَد إليه، وإن لم تكن تتضمن الإلزام بأنفسها، ومثال ذلك أوامر الطبيب حين يأمر بشرب الدواء لأجل الخلاص من مرض مُهلِك، فيكون شربه في هذه الحالة لازمًا، وإن كان أمر الطبيب في نفسه من الأوامر (الإرشادية)، وليس من الأوامر (الإنشائية).

وهذا بعينه ينطبق على الأوامر (الإرشادية) الواردة في القرآن الكريم، فإذا كان الإرشاد فيها متعلقًا بما هو لازم في نفسه كان لا بد عندها من الالتزام بهذا اللازم والإتيان بالمأمور به الذي يتضمنه مثل هذا النحو من الأوامر الإرشادية.

وبناء على ما تقدم، يظهر لنا أن شريعتي لم يكن دقيقًا في تعريفنا على حقيقة ما يذهب إليه العلماء في صنفَي الأوامر، وإنما هو قد جاءنا ببيان ناقص، ليتسنى له بذلك مهاجمة آرائهم والتشنيع عليهم، وهذا سلوك غير قويم، ترفضه مناهج البحث العلمي كافة.

(ثانيًا): ننتقل في هذه النقطة إلى الكشف عن نوعية الأدلة التي تمسّك بها شريعتي لإثبات رأيه وإبطال الرأي الذي ذهب إليه عموم العلماء المسلمين.

والملاحظة العامة التي يمكن تسجيلها بدوًا على كافة أدلته هي أنه لم يطرح بين أدلته أي دليل لغوي أو قرآني أو فقهي... لتأييد مدّعاه حول الأوامر الواردة في القرآن، وإنما تمسّك ببعض الأمور البعيدة عن المطلب، واستنجد ببعض التهويلات الفارغة، ليثبت من خلالها أن الأوامر المبحوث عنها هي من صنف الأوامر (الإنشائية)، ولا صلة لها بالأوامر (الإرشادية) كما هي دعوى علماء المسلمين.

ولنتفحص الآن ما تفضّل به علينا من أدلة:

الدليل الأول: إن أول ما يمكن اعتباره كدليل على رأي شريعتي هو تعليله للتطور العلمي عند الغربيين بتغييرهم لمنهجية التفكير، الأمر الذي قادهم إلى الاهتمام بدراسة المحسوسات، والبحث في الأمور الجزئية التجريبية...

وهذا على خلاف ما فعله العلماء المسلمون حيث ذهبوا إلى تصنيف الأوامر الواردة في القرآن إلى (إنشائية) و (إرشادية) جاعلين الأوامر الحاثة على (السير) و(النظر) من صنف الأوامر (الإرشادية)، وهذا النمط من التفكير هو الذي أبعد المسلمين عن تحصيل العلم، وأوصلهم إلى الحال التي هم عليها.

وتلكم مغالطة فجّة، لا يمكن التسليم بها لشريعتي، وبيان ذلك هو أن الغرب وإن كان قد تقدم في المجال العلمي تقدمًا ملحوظًا وأكيدًا، وكان أحد أسباب تقدمه هو تمسكه بالمنهج التجريبي. إلا أنه من المؤكد أيضًا أن الغرب لم يُلغِ الأوامر الإرشادية من حياة مجتمعاته، ولم يمحُها من قواميس لغاته، بل هو وإن كان قد تقدم حقًا هذا التقدم المشهود في ميادين العلوم، إلا أنه ظلّ مع ذلك محافظًا على الأوامر الإرشادية سواء في نصوصه اللغوية المدونة، أو في تخاطب أبنائه في حياتهم الواقعية.

ولذلك فإن القفزة التي قام بها شريعتي من مقدمات ترتبط بالتقدم العلمي، إلى نتائج تتعلق بالأوامر الإرشادية، ما هي سوى مغالطة غليظة يخجل منها أبناء الدليل.

والكلام عينه يمكن أن يقال أيضًا في محاولة شريعتي الربط بين تخلّف المسلمين في العلوم التجريبية وبين تصنيفهم الأوامر إلى الصنفين المعهودين.

فالتاريخ بين أيدينا، وهو خير شاهد على ما أحرزه المسلمون في بعض فترات تاريخهم من تقدم علمي كبير، ولم يكونوا حينها على شقاق مع الأوامر الإرشادية، بل هم كانوا ومنذ ذلك الحين يصنّفون الأوامر القرآنية التي هي مورد بحثنا إلى (إنشائية) و(إرشادية).

وشريعتي نفسه يقرّ بإنجازاتهم تلك (على الأصعدة العلمية والتقنية والسياسية)([33]).

فهذه مغالطة أخرى يرتكبها شريعتي ليعلّل بها رأيه، وقد كان جديرًا به أن يتعلم منطق أرسطو -بدلاً من التحامل عليه- علّ ذلك كان سيجنّبه الوقوع في مثل هذه المغالطات المستهجنة.

الدليل الثاني: الدليل الثاني الذي يمكننا أن نستخلصه من كلام شريعتي على كون الأوامر المبحوث عنها هي من صنف الأوامر (الإنشائية) هو ادعاؤه بأن الأوامر (الإرشادية) لم تكن لتوجد لولا تأثر العلماء بالنزعة اليونانية مما أدّى بهم إلى تصنيف الأوامر إلى (إنشائية) و(إرشادية)، ولولا ذلك لما كان يخطر في بال أحد أن يفسّر الأوامر الواردة في القرآن الكريم من قبيل (سيروا) و(انظروا) بأنها من الأوامر (الإرشادية).

وهذا ادعاءٌ يستغرب صدوره من شخص متخصص في علم الاجتماع، إذ كيف يمكن أن يخفى على مثله إدراك أن الأوامر بصنفَيها هي من الأمور السائدة في مختلف المجتمعات، والمتداولة في سائر اللغات([34])؟!

أوليس من بدائه الأمور -وخصوصًا إذا أخذنا بالتعريف الذي أورده شريعتي لصنفَي الأوامر- أن الناس عمومًا يميّزون بين الأوامر التي تتضمن معنى الإلزام وتستوجب الطاعة والامتثال؟ وبين أوامر أخرى تُلقى في مقام النصح ويُراد بها التوجيه والإرشاد؟!

بل هل يخفى هذا الفرق حتى على الأطفال المميّزين؟!

وحتى شريعتي نفسه، أما كان حين يخاطب تلامذته وأبناءه يستخدم أفعال الأمر تارة، وهو يريد منهم الطاعة والامتثال، ويستخدمها تارة أخرى وهو لا يقصد إلا النصح والتوجيه والإرشاد؟!

وعليه يمكننا القول: بأن وجود الأوامر بصنفَيها هو أمر من بديهيات الحياة الاجتماعية، ولم يكن هنالك من حاجة لدراسة علوم اليونان أو التأثر بنزعتها لكي يدرك الناس الفرق بين صنفَي الأوامر ويشيع استخدامها بينهم.

وهذا بعينه ينطبق أيضًا على لغة الضاد وعلى أوامر القرآن الذي خاطب الناس بهذه اللغة نفسها.

فأنّى لشريعتي أن يبطل هذا العرف السائد في المجتمعات والمتسالم عليه بين اللغات، فيسقط الأوامر الارشادية من الحسبان، ويردّها إلى مهارة العلماء وتفنّنهم الناتجين عن دراستهم علوم اليونان والتأثر بنزعتها؟!

بينما هي في حقيقة أمرها من البديهيات اللغوية، ومن المسلمات الاجتماعية!!

الدليل الثالث: إن الدليل الثالث والأخير الذي يرشح من كلمات شريعتي يتلخّص في قوله: [إن هذه التأويلات المتنوّرة المضلّلة لهي أخطر ألف مرة مما ألحقه الاجتياح المغولي بالإسلام والمسلمين من خسائر فادحة أورثت مجتمعاتنا الجهل والخرافة والتعاسة والبؤس].

وهذا بلا أدنى شك تهويل فارغ قد يرهب الجاهل، ولكنه يضحك الثكلى العاقلة، وهو أقرب إلى المزاح الثقيل والنكتة السخيفة، منه إلى الكلام الجاد والدليل المعتبر.

وإلا فإنه لمن أيسر الأمور مقابلة التهويل بتهويل أشدّ منه، فيقال مثلاً: إن دعاوى شريعتي الفارغة وأدلته الباطلة لهي أخطر مائة ألف مرة مما ألحقه الاجتياح المغولي والحروب الصليبية والاستعمار الغربي مجتمعين بالإسلام والمسلمين من خسائر فادحة لا يمكن تعويضها أو التخلص من آثارها.

وهكذا يتبين لنا من النموذج الثالث أن شريعتي في تفسيره وفي أدلته كان بعيدًا كل البعد عن أصول البحث العلمي، وعن فهم الحقائق القرآنية، بل إنه قد غفل أيضًا حتى عن البديهيات الاجتماعية والمسلّمات اللغوية، ولكنه على الرغم من ذلك كله نصّب نفسه في مقام المرشد إلى معرفة الإسلام الصحيح والحقيقي، وبأسلوب علمي منهجي تحليلي!!

 النموذج الرابع:

يطرح شريعتي في كتابه [معرفة الإسلام] بحثًا يدور حول شعار التوحيد، يتعرّض خلاله للحديث حول طبيعة الإنسان وما يتميّز به من خصال تؤكد أفضليته على سائر الموجودات، فيقرر أن إحدى الخصال الهامة التي تُميّز الإنسان عن كل مخلوق سواه تتمثل في (حرية الاختيار).

فالإنسان كما يقول شريعتي: ((هو الوحيد الذي يتمتع بخصلة الاختيار من بين سائر الموجودات، وهو يحاكي الله في هذه الصفة، ولا أقول يماثله فيها بالشكل والمقدار، ولعل الشيء الذي نفخه الله من روحه في هيكل الإنسان هو تلك الإرادة الحرة والاختيار.

وهذا يعني أن الإنسان هو الوحيد الذي بوسعه أن ينتخب ويقرر ويختار، الخير من الشر، الهداية من الضلال، الصعود من الانحدار، الصلاح من الفساد))([35]).

ويقول أيضًا: ((وهو (أي الإنسان) الموجود الوحيد -مما سوى الله- لديه إرادة وبالتالي مسؤولية والتزام))([36]).

وبناء على هذا يُفسّر شريعتي الآية المباركة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}([37]).

فيقول: ((لا نعلم بالضبط ما هي هذه الأمانة؟ ولكن من الواضح أنها ثقيلة جدًا بحيث تمتنع السماوات والأرضون والجبال عن قبول مسؤوليتها، ولا ينهض لتحملها سوى الإنسان.

وأعتقد أن أصح وأعمق معنى فسّرت به هذه الأمانة هو (الحرية والاختيار). وهو الصفة الوحيدة التي ينفرد بها الإنسان دون غيره من المخلوقات وهي الأمانة الثقيلة التي أشفقت الأرض والجبال والسماء أن يحملنها وحملها الإنسان، فعن الحرية والاختيار فقط، ينجم الشعور بالمسؤولية، والمسؤولية هذه هي التي تضع الإنسان في أحلك الظروف وأحرج المواقف أمام قضايا المجتمع والحياة و(أنا) والآخرين، وإلى هذا المعنى بالذات يُشير ذيل الآية {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}))([38]).

 إن شريعتي يخطئ هنا أيضًا كخطئه في كثير من الموارد التي يتصدى فيها للبحوث المتعلقة بالقرآن الكريم، ونحن من جهتنا سوف نبيّن خطأه في كلا الأمرين اللذين تناولهما في نصه الأخير، فنظهر من ناحية وجود شركاء للإنسان في حرية الاختيار، ونظهر من ناحية أخرى عدم صحة تفسير (الأمانة) بأنها تعني الحرية والاختيار.

ونبدأ بالأمر الأول فنقول: إن قضية امتلاك بعض الكائنات الأخرى -سوى الإنسان- لحرية الاختيار تُعدّ واحدة من بديهيات الرؤية الإسلامية، وقد أشار إليها القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا وفي العديد من آياته. ولذلك فإن هذه القضية لا تحتاج إلى أية مناقشة أو بحث، بل جلّ ما تستدعيه هو التذكير ببعض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن مثل هذه الكائنات.

ويكفي القارئ أن يُذكَرَ أمامه اسم (الجن وإبليس) ليدرك مباشرة أن هؤلاء هم من ذوي الإرادة الحرة، حتى لو لم تُعرض أمامه الآيات المتعلقة بهذا الأمر. ولذلك فإن ما سنورده من هذه الآيات إنما نورده كنماذج نستعين بها على تنبيه الغافل، وردع المتغافل، وليس همُّنا هنا هو الاستقصاء والإحاطة.

قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}([39]).

وقال سبحانه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}([40]).

وقال عزّ اسمه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}([41]).

تدل هذه الآيات دلالة واضحة على امتلاك الجن لخصلة الحرية والاختيار، وأنهم مسؤولون أمام الله سبحانه عن معتقداتهم وعن أفعالهم، فهم ليسوا بمجبرين على ما يحملونه من عقائد، ولا على ما يأتونه من أفعال.

ولذلك تصورّهم الآيات السابقة بأنهم محاسبون يوم القيامة، ومسؤولون عن مواقفهم التي اختاروها تجاه الرسل في الدنيا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا

وهم يدركون ما يقع عليهم من مسؤولية، ويعلمون ما سوف يواجهونه من حساب، لذلك تجد فيهم من يبادر إلى نصح قومه حاضًّا إياهم على الإيمان: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.

وهم لما كانوا أحرارًا في اختيارهم، وداخلين في دائرة التمحيص والاختبار، فقد كان من الطبيعي أن تتشعّب طرائقهم وتغدو مختلفة متباينة، فمنهم المسلمون والصالحون، ومنهم القاسطون، وكلٌّ يَلقى ثمار الطريقة التي اختارها، فإما يكون من الذين يَتَحرّون رَشَدًا، وإما يغدو لجهنم حطبًا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}.

وهكذا تفيض هذه الآيات بالمضامين الدالة على حرية الاختيار لدى الجن، فتحدثنا عن أن بعضهم قد يقول على الله كذبًا، وأن الجن قد تُحظر عليهم بعض الأفعال والتصرّفات، فإذا ما حاول بعضهم انتهاك هذا الحظر وجد له {شِهَابًا رَّصَدًا}..

ولست أجد بعد هذا من ضرورة داعية للإفاضة في الحديث حول حرية الاختيار لدى إبليس، خصوصًا وأن قصته معروفة مشهورة، ولذلك سأكتفي بذكر آية واحدة تدل دلالة واضحة على المطلوب.

قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}([42]).

والعجيب أن شريعتي نفسه وقبل صفحات قلائل من كلامه حول اختصاص الإنسان وحده بحرية الاختيار، كان يتحدّث عن إبليس وعن تمرّده على الله تعالى، وعن السبب الذي دفعه إلى ذلك... وكلها أمور تُفصح بجلاء عن واقع كونه ذا مسؤولية، وأنه يمتلك خصلة الإرادة الحرة والاختيار.

وبناء على كل ما تقدم يتبيّن لنا أن حرية الاختيار وما يترتب عليها من مسؤولية لم تكن من نصيب الإنسان وحده في نظام الوجود -كما حلا لشريعتي أن يدّعي- بل يشاركه فيها كائنات أخرى كالجن وإبليس.

وهذا بدوره يكشف عن الخطأ الثاني الذي ارتكبه شريعتي حين زعم أن أصح وأعمق معنى فُسّرت به (الأمانة) هو (الحرية والاختيار)، وذلك لأن هذا التفسير ليس له أيّ نصيب من الصحة والاعتبار إلا بناء على القول بانفراد الإنسان وحده بخاصية الحرية والاختيار. وهذا ما حدا بشريعتي لأن يسلب الإرادة الحرة عن كل الكائنات الأخرى سوى الإنسان، وكانت خلاصة دليله على تفسيره هذا هي التالية: إن الإنسان وحده هو الذي حمل الأمانة التي عرضها الله سبحانه على الكائنات، وهذا يقتضي بالضرورة أن يكون الإنسان مالكًا لصفة تخصّه وحده، ولا يشاركه فيها أيّ مخلوق سواه، والصفة الوحيدة التي ينفرد بها الإنسان وتتناسب مع حمل الأمانة هي صفة (الحرية والاختيار)، لذلك فإن النتيجة المنطقية لهذه المقدمات جميعها هي أن أصح معنى يمكن أن تُحمل عليه الأمانة هو معنى (الحرية والاختيار).

ولكننا بيّنا في كلامنا السابق بطلان المقدمة القائلة بأن الإنسان وحده هو الذي يمتلك خصلة الحرية والاختيار، وأشرنا إلى وجود كائنات أخرى تشاركه في امتلاك هذه الصفة، الأمر الذي يجعل النتيجة التي توصّل إليها شريعتي في تفسيره نتيجة باطلة، وهي تعجز بالتالي عن فهم الأمانة فهمًا صحيحًا، إذ لو كان معنى الأمانة يساوق معنى (الحرية والاختيار)، بحيث يمكننا اعتبار حرية الاختيار سببًا كافيًا لحمل الأمانة، فإننا نسأل: لماذا كان حمل الأمانة مقصورًا على الإنسان وحده، دون غيره من الكائنات، مع أن هذه الكائنات تشارك الإنسان في امتلاك صفة الحرية والاختيار؟

لا بد من القول إذن بوجود خصائص أخرى غير حرية الاختيار، هي التي تقف وراء انفراد الإنسان في حمله الأمانة.

نعم.. يمكننا القول بأن حرية الاختيار قد تشكّل شرطًا أساسيًا من شروط حمل الأمانة، ولكنها لا يمكن بحال أن تكون هي الشرط الوحيد([43])، أو يكون المعنى المراد منها هو عين المعنى المراد من الأمانة.

وهكذا يتبيّن لنا جليًا أن شريعتي وهو يتصدى للتعريف بالإسلام فإنه يخالف أثناء ذلك حتى بعض المسلّمات الواضحة لهذا الدين القويم، ثم لا يلبث أن يبني على مخالفته هذه ترجيحاته التفسيرية لمعاني آيات الكتاب المجيد.

النموذج الخامس:

لما كان المجال يضيق عن مناقشة شريعتي في جميع دعاويه الباطلة التي سطرها في كتابه "معرفة الإسلام"، لذا رأيت أن أكتفي -وعلى نسق المقالة الأولى- بخمسة نماذج تمثل عيّناتٍ تجلّي الحقيقة وتوضّح المقصود. ومن بين العديد من المسائل التي كان يمكن اختيارها لتشكّل النموذج الأخير، بدا لي أن أختار مرة أخرى واحدة من المسائل القرآنية التي يطرحها شريعتي في كتابه، وذلك لأن المعارف القرآنية تشكّل الأساس الأول والأهم في معرفة الإسلام، فإذا ما ضلّ المرء في فهمها، فأية معرفة بالإسلام نتوقّع منه أن يقدّم لنا بعد ذلك؟!

يورد شريعتي في كتابه المذكور عددًا من الآيات القرآنية التي تتحدّث عن خَلق الإنسان وخَلق الملائكة والجنّ وعن قضية السجود لآدم وتمرّد إبليس، ثم يستنبط منها فهمه الخاص لـ(فلسفة الخلقة).

وهذه بعض نتائج تأملاته يُطلعنا عليها نصّه التالي حيث يقول : (( وكما يظهر من التأمّل في الآيات القرآنية فإن فلسفة الخلقة تنطوي على الجوانب التالية :

- (...)

- أفضيلة الملائكة على الإنسان من حيث منشأ الخلقة، وكونها موجودات غير مرئية {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}، {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}([44]). وبالاصطلاح الشائع يعدّ الملائكة جنسًا أرقى من الإنسان وهو أدون منها.

- ومع الأفضلية العرقية للملائكة على الإنسان، فإن الله يأمرها بالسجود أمامه، وهكذا يتعيّن على أحفاد النار الخضوع والانقياد والتسليم لهذا الموجود المخلوق من طينة يابسة متعفنة (حمأ مسنون).

وقضية التمييز العنصري وإن كانت منتفية موضوعًا في المنظار القرآني بالنسبة لبني البشر، ولكن يُستوحى من هذه القصة أن هذه القضية حتى لو كان لها تحقق في وسط آخر فهي قضية اعتبارية لا أصالة لها، والشاهد على ذلك أن الأرجحية العنصرية للملائكة ومنهم الشيطان، حيال الإنسان، تعدّ حقيقة متسالمًا عليها من قِبَل جميع الأطراف (الله وإبليس والإنسان)، ومع ذلك فهي لا تصلح هنا كمعيار للأفضلية والتقديم على الآخرين، ولم يكن الاستدلال بها لذلك إلا محاولة بائسة من إبليس، وهو استدلال (إبليسي) بالمعنى الحقيقي والمجازي للكلمة. والواقع أن الأساس الذي استند إليه إبليس صحيح في حد ذاته - وإن كان البناء الذي شيّده خطأ- إذ التفوّق العنصري للملائكة على الإنسان مما لا مجال لإنكاره، فليس من شأن إبليس أن يستند إلى قضية ليس لها واقع موضوعي أصلاً، فذلك منطق مريض، وهو خاص بالنازيين والفاشيين والصهاينة والبيض في أمريكا (...)([45]).

يذهب شريعتي في هذا النص إلى أن العنصر الذي خلقت منه الملائكة والشياطين([46]) (النار) يُعدّ أفضل من العنصر الذي خلق منه الإنسان (الطين). ويعتبر أن هذه القضية هي قضية متسالم عليها من قِبل الله سبحانه، ومن قِبل إبليس والإنسان، ولذلك يقول : ((ومع الأفضلية العرقية للملائكة على الإنسان، فإن الله يأمرها بالسجود أمامه)).

ويقول أيضًا : ((والشاهد على ذلك أن الأرجحية العنصرية للملائكة ومنهم الشيطان، حيال الإنسان، تعد حقيقة متسالمًا عليها من قبل جميع الأطراف (الله وإبليس والإنسان)، ومع ذلك فهي لا تصلح هنا كمعيار للأفضلية والتقديم على الآخرين)).

ويُردف بعد ذلك ليقول: ((والواقع أن الأساس الذي استند إليه إبليس صحيح في حد ذاته -وإن كان البناء الذي شيّده خطأ- إذ التفوّق العنصري للملائكة على الإنسان مما لا مجال لإنكاره...)).

نرى من خلال هذه النصوص أن شريعتي يُسلّم مع إبليس بأن إبليس مخلوق من عنصر أفضل من العنصر الذي خلق منه الإنسان، وإن كان لا يوافقه على النتائج التي بناها على هذه الأفضيلة.

ونحن نسأل : ما هو الدليل الذي استند إليه شريعتي في تفضيله النار على التراب والماء؟ ومن أين له أن الله سبحانه يسلّم بهذه الفرضية، وكذلك الإنسان؟

يبدو أنه لا يوجد أي مستند لشريعتي سوى أقوال إبليس نفسه من قبيل قوله الذي تحكيه هذه الآية المباركة : {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}([47]).

غير أن أقوال إبليس ما هي سوى مغالطات([48]) دفعه إليها تمرّده واستكباره، فهي لا تصلح كحجج علمية تستنبط منها الحقائق وتُعرف بها الوقائع، وهذا ما حدا بالعديد من علماء التفسير إلى التصدي لمدعياته وإلى تفنيد حججه واستدلالاته.

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسير "مجمع البيان" حيث يقول : (( وقد قيل أيضا أن الطين خير من النار لأنه أكثر منافع للخلق من حيث أن الأرض مستقر الخلق وفيها معايشهم ومنها يخرج أنواع أرزاقهم )) ([49]).

وليس مرادنا الآن عقد مناظرة بين النار والطين وإصدار حكم بالأفضلية لأحدهما، بل جلّ ما أردناه هو القول بأن دعوى إبليس بأفضلية النار ليست بالأمر المسلّم والمفروغ عنه كما يدّعي شريعتي، بل هي دعوى خاطئة، أو أنها وعلى أقل تقدير موضع أخذٍ وردّ، ومورد بحث ونقاش، وما هي بالقضية البديهية المستغنية عن حركة الفكر وإعمال النظر، ولذا فإن حديث المفاضلة قد لا ينتهي إلى حد يقف عنده، إذ لكل من (العنصرين) خواصه الهامة والضرورية والتي لا غنى عنها. ولذلك فإني أجد أن خير خلاصة يمكننا الانتهاء إليها تتمثل في الكلمات التي سطّرها صاحب تفسير "المنير" حيث يقول : ((وفُسّرت شرفيّته -أي إبليس- بأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، لكننا لم نفهم وإلى الآن بما ترفّعت النار على الطين، فإن لكلٍ منهما خصائص طبيعية وفوائد مادية، وليست خواصّ النار بأبرز من خواص التراب والماء، ولمّا كان منطقه غلطًا واضحًا وتمرّده على الوظيفة متجليًا منكشفًا، وسوء أدبه أمام المولى شاهرًا جاهرًا، قال سبحانه اهبط منزلةً، وتسفّل درجة، وأبعد مكانًا ومكانةً...)) ([50]).

وهكذا نجد أن منطق إبليس والذي يسلّم شريعتي بصحته ويعدّه أمرًا مفروغًا عنه وغير قابل للإنكار، ما هو في حقيقة أمره إلا دعاوى دفعه إليها تعصّبه وقاده إليها غروره، ولا تستند في واقعها إلى أيّة بديهة واضحة ولا تؤيدها أيّة حجة قاطعة.

والنقطة الأخيرة التي نودّ إثارتها في المقام تتعلّق برأي شريعتي في طبيعة المعصية التي ارتكبها إبليس، والتي يعتبرها مجرد خطأ في التشخيص حسبما ورد في نصه التالي حيث يقول : ((إن عصيان الشيطان لله ناجم عن خطأ في التشخيص جعله يمتنع عن السجود لآدم إذ كان يعتبره أدون منه شأنًا ومنزلة، ويتصور أنه هو وأبناؤه أشد خضوعًا وتقديسًا لله من آدم وأبنائه. إن عصيان الشيطان وتمرّده عن طاعة الأمر الإلهي، يُصنّف على مقولة الذنب الذي يرتكبه حتى الإنسان المتدين بتركه لأحد الفرائض والواجبات الدينية. وفي ضوء ذلك، يعدّ من وجهة نظر فلسفية إسلامية عبدًا عاصيًا وليس قوة متحدية لله))([51]).

يحاول شريعتي في هذا النص أن يُهوّن من طبيعة المعصية التي ارتكبها إبليس فينزل بها إلى مجرد خطأ في التشخيص، ويساوي بينها وبين أيّ ذنب يرتكبه إنسان متدين عند تركه لأحد الفرائض أو الواجبات الدينية.

وهذا من غرائب الأمور وعجائبها، إذ الآيات القرآنية واضحة في دلالتها على عظم معصية إبليس وشناعة فعله، فهي تفيدنا بأن معصيته لم تقتصر على مجرد ترك فريضة أو إهمال واجب، وإنما هو قد تجاوز في تمرّده كل حدّ وتحدّى كل محظور.

ودليلنا على ما نقول هو أن إبليس عندما سأله المولى عزّ اسمه عن سبب تمرّده على الأمر الإلهي بالسجود لآدم، لم يعتذر بما قد يعتذر به المتدين المذنب من تكاسل أو من طمع بعفو الله ورحمته أو من أمل بالتوبة لاحقًا... بل أعلن تمرّده بكل صلف وغرور : {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ}([52]).

فانظر إلى مبلغ الوقاحة في جواب إبليس، حيث يظهر منه أنه كان يرى نفسه أرفع مقامًا وأعلى شأنًا من أن يسجد إكرامًا لآدم حتى لو كان هذا الأمر صادرًا عن مقام العزّة الإلهية، ولذلك كان ردّه { لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ...}، أي لا ينبغي لمثلي وأنا المخلوق من نار أن يسجد لمثله وهو المخلوق من طين، وكأنما هو يرى أن هنالك خطأً في هذا الأمر الإلهي، ولعل الصواب في نظره هو أن يصدر الأمر الإلهي على عكس ما كان، فيؤمر آدم بالسجود له، بدعوى أنه هو الأشرف أصلاً والأفضل عنصرًا، وتناسى أن التفاضل إنما يكون بالتقوى والامتثال لأمر الله لا بالعنصر والأصل. هذا على تقدير صحة دعواه بأشرفية أصله وأفضلية عنصره.

ولست أجد بعد هذا أيَّ مبرّر لشريعتي لكي يجعل الأساس الذي استند إليه إبليس في تفضيل عنصره على الإنسان أساسًا صحيحًا، كما أنه لا يوجد أيّ مبرر له أيضًا لكي ينزل بالمعصية العظيمة التي ارتكبها إبليس إلى كونها مجرد خطأ في التشخيص.

وهذا كله يبيّن لنا مرة أخرى مدى صلاحية شريعتي لتعريف الآخرين على الإسلام وبيان حقائق القرآن.

خاتمة

إن كل ما بيّنّاه في النماذج الخمسة المتقدمة لم يكن سوى لمحات اخترناها من كتاب واحد من كتب شريعتي، وله أمثال ونظائر كثيرة سواء في كتابه هذا أو في كتبه الأخرى مما يعسر تتبّعه أو حتى تعداده. بل لعل ما تركناه في هذا الكتاب الذي هو مورد بحثنا قد يزيد كثيرًا على ما ذكرناه، خصوصًا وأننا كنا قد تعمدنا توجيه أكبر عنايتنا إلى المعارف الإسلامية خاصة، ثم قصرنا البحث بعد ذلك على إحدى جوانب هذه المعارف، وهو الجانب المختص بالمسائل ذات الصبغة الإسلامية العامة والمشتركة، ولم نتعرّض للمسائل الخاصة والمرتبطة بمذهب آل البيت (عليهم السلام) بالخصوص، وهو المذهب الذي ينتسب إليه الدكتور علي شريعتي، وإلا لاحتاج منّا الأمر إلى أضعاف ما سطّرناه من صفحات.

ونحن إنما نكتفي بما بيّنّاه لأنه لم يكن المراد هو الدراسة المفصّلة لفكر شريعتي، بل جلّ ما أردناه هو التنبيه والتحذير، لكي لا تطغى الشهرة والتسويق الإعلامي على فكر القارئ فيحيد عن الحق وتلتبس عليه الحقيقة.

والله من وراء القصد وهو وليّ التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) رسالة النجف، العدد 16.

([2]) د. علي شريعتي: معرفة الإسلام، ترجمة حيدر مجيد، دار الأمير - بيروت، ط1، 1424هـ - 2004م.

([3]) انظر بهذا الخصوص مقدمات الكتاب.

([4]) معرفة الإسلام، كلمة المترجم، ص15.

([5]) معرفة الإسلام، ص27.

([6]) نفسه، ص28.

([7]) معرفة الإسلام، ص104-105.

([8]) ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ج7، 496.

([9]) نفسه، 497.

([10]) نفسه، 499.

([11]) نفسه، 501-502.

([12]) نفسه، 498.

([13]) جو ستاين غاردر: عالَم صوفي، ترجمة حياة الحويك عطية، دار المنى، ط2، ص115.

([14]) معرفة الإسلام، ص108.

([15]) نفسه، ص109.

([16]) الشمس: 7-10.

([17]) القيامة:1-2.

([18]) انظر تفسير الآية في "الكشاف" للزمخشري.

([19]) الواقعة: 75-76

([20]) محمد: 24.

([21]) البقرة: من الآية 284.

([22]) الزمر: من الآية 42.

([23]) قّ: من الآية16.

([24]) النمل: من الآية14.

([25]) فصلت: من الآية 53.

([26]) إن شريعتي وإن كان يريد أن يقنعنا بأن القرآن بأسره هو اهتمام بالمحسوسات، وأن الإسلام يحثنا على تجاهل غير المحسوسات (الكليات)، إلا أننا نجده في مواضع أخرى يستشهد بالآيات القرآنية التي تتحدّث عن الملائكة وغيرها من المجردات.

ويعود السبب في ذلك إلى الخلل في منهجه الفكري، فهو حين يطرح موضوعًا ويحاول إقناع القراء به فإنه يبالغ حتى التطرّف في إطلاق الكلام وإبرام الأحكام.. وذلك بغية أن يكون كلامه مؤثرًا وأحكامه موثوقة، فإذا ما انتقل إلى موضوع آخر مغاير للموضوع الأول، فإنه لا يتورّع حينها عن مخالفة إطلاق كلامه الأول ونقض ما أبرمه من أحكام.

ونحن كنا قد أشرنا إلى طريقته هذه في النموذج الأول من مقالتنا السابقة تحت عنوان: "تهافت البلاغة".

وبما أنه يحاول هنا أن يقنعنا بأن الإسلام يحثنا على تجاهل غير المحسوسات، فليس غريبًا عليه أن ينكر حديث القرآن عن النفس وعن غيرها من المجردات، ولكنه لن يلبث أن يستشهد في مواقع أخرى بالآيات القرآنية التي تتحدث عن مثل هذه الأمور.

([27]) لا بد من الالتفات إلى أن شريعتي يخلط في كلامه أحيانًا، فيستعمل لفظ الكليات وهو يريد به المجردات .

([28]) انظر: المقالة الأولى، النموذج الثاني، حيث ذهب هناك إلى أن القرآن يسمي حكاية ابني آدم بـ(القصة)، بينما الصحيح أن القرآن لم يسمها بهذا الاسم، بل عبر عنها بلفظ (النبأ). وقد بيّنا هناك السبب الذي يكمن وراء ذلك.

([29]) الغاشية:17.

([30]) نود هنا أن نلفت انتباه القارئ إلى أن هذا النص ليس آية من آيات القرآن الكريم كما يفهم من سياق كلام شريعتي، إذ لا وجود لأيّة آية قرآنية تربط بين الأمر بـ(السير) والأمر بـ(النظر) بحرف (الواو): (وانظروا)، بل الآيات القرآنية ذات الصلة بالموضوع تربط بين الأمرين بـ(الفاء): {فَانْظُرُوا}(النمل:69)، أو بـ(ثم): {ثُمَّ انْظُرُوا}(الأنعام:11).

وكذلك لا وجود لأيّة آية قرآنية تأمر بـ(النظر) في عاقبة (المفسدين)، بل الموجود منها يأمر بـ(النظر) في عاقبة (المكذبين)، أو (المجرمين)، أو (المشركين) -كقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(النمل:69)؛ وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(الأنعام:11)؛ وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}(الروم:42)..

([31]) معرفة الإسلام، ص110-111.

([32]) المصطلح الأكثر شيوعًا الذي يطلقه العلماء على هذه الأوامر هو [الأوامر المولوية]، ولكننا استخدمنا في هذا البحث مصطلح [الأوامر الإنشائية] مجاراةً لشريعتي في المصطلح الذي اختاره.

([33]) انظر: معرفة الإسلام ص43.

([34]) لست أدري في أي مجتمع وبالنسبة لأيّة لغة كان الناس بحاجة إلى العلوم اليونانية لكي يدركوا الفرق بين قول الأب لابنه: "ادرس دروسك وإلا عاقبتك"، وبين قول حكيم من الحكماء : "ادرس تنجح"، ثم يفهموا من ذلك أن أمر الأب بالدرس يراد به الإلزام، وأما أمر الحكيم فيراد به النصح والإرشاد إلى طريق النجاح.

([35]) معرفة الإسلام، ص213-214.

([36]) معرفة الإسلام، 215.

([37]) الأحزاب: 72.

([38]) معرفة الإسلام، ص212-213.

([39]) الأنعام: 130.

([40]) الأحقاف: 28-32.

([41]) الجن: 1-15.

([42]) الكهف: من الآية50.

([43]) لا بد من التنبيه على أن شريعتي وإن كان يصر هنا على أن أصحّ وأعمق معنى فسّرت به الأمانة هو [الحرية والاختيار]، إلا أنه يذهب في بعض كتبه الأخرى إلى غير ذلك، فيوسّع من معناها لتشمل الإرادة والاختيار والمعرفة والشعور والقدرة الخلاقة والعشق والاطلاع والحكمة ... الخ (انظر كتابه : تاريخ معرفة الأديان، ترجمة د. حسين نصيري، دار الأمير، بيروت، ط1، 1429هـ-2008م، ج1 ص565-566) .

ونحن إنما التزمنا في بحثنا الاقتصار على عرض نماذج مما جاء في كتابه معرفة الإسلام فقط.

([44]) الحجر:27 - الرحمن : 15

([45]) معرفة الإسلام، ص208-210.

([46]) يظهر من كلام شريعتي أنه يرى أن الملائكة والشياطين هم أبناء جنس واحد. ولكننا تركنا الخوض في هذه المسألة اختصارًا.

([47]) الأعراف : 12.

([48]) تراجع كتب التفسير لكشف مختلف المغالطات التي ارتكبها إبليس في كلامه.

([49]) انظر : تفسير الآية في "مجمع البيان" .

([50]) انظر تفسير "المنير" للآية المباركة.

([51]) معرفة الإسلام، ص205.

([52]) الحجر : 33.

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثامن عشر