السنة السادسة / العدد الثامن عشر/ كانون أول 2010 - محرم : 1432هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

المسألة الاقتصادية بين الإسلام والنُظم الغربية

الشيخ حاتم إسماعيل

 

تمهيد

لا شك أن الإنسان وُجد على هذه الأرض ليعمرها، ويستفيد من خيراتها، ويتقّدم ويتطور في مختلف مناحي الحياة، ويكون مظهرًا لجمال الخالق تعالى في خلقه. وقد احتفّ الوجود الإنساني بكل ما من شأنه أن يؤمن له السلامة، والراحة، ورغد العيش في هذه الأرض، وهذا يعني أن الأرض تشتمل على كل ما يحتاجه الإنسان في مسيرة حياته.

إلا أن ذلك لا يعني جهوزية محتويات الأرض للاستخدام البشري، بل هي متوفرة بشكل مواد خام وأولية، تحتاج إلى معالجة وتصنيع وإعادة ترتيب، لأنها مرصودة لكل بني البشر في تاريخهم الطويل، وهذا يستلزم إعمال الذهن، وتطوير القدرات العقلية والعلمية، للوصول إلى الغاية المنشودة، التي توفِّر له السعادة والهناء، والتطور المستمر في تسخير هذه الموجودات، لما فيه مصلحته، الأمر الذي ينعكس عليه إيجابًا في تطوّر قدراته العقلية، وكشفه لخفايا كنوز الكون، بحيث يستحق الخلافة الحقيقية التي جعلها الله تعالى له من ناحية، وتؤمن استمرارية الحياة للنوع الإنساني على مدى الأجيال من ناحية أخرى، فكانت المسألة الاقتصادية.

الاقتصاد في اللغة

الاقتصاد في الأصل افتعال من القصد، والقصد هو السعي إلى بلوغ الغاية، وتحصيل المراد. فالاقتصاد عبارة عن تحقيق ذلك، سواء كان المقصود مالاً أو غيره، مما يمكن أن يعدّ هدفًا وغاية. فاختصار المعنى بالمسألة المالية ولوازمها يفتقر إلى الدقة في نحته، إلا أنه غلب عليه ذلك، وهو مستلزم لكون الغاية من وجود الإنسان تحقيق المنافع والمكاسب المادية، أي أن المال هو الهدف وليس الإنسان، ويكون الإنسان مجرد آلة وخادم للمال، وهي نتيجة مجانبة للحقيقة والوجدان الإنساني العام.

محور المشكلة

لا خلاف بين الناس في أن مصلحة الإنسان هي الأساس في أي تشريع يمكن أن يسنّ، فلا بد من البحث عن حدود هذه المصلحة، بعيدًا عن العنصر، أو اللون، أو الإقليم، أو العرق، أو غير ذلك من معايير.

وقد أكدّ القرآن الكريم هذه الحقيقة، حين خاطب جميع بني البشر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}([1]).

إلا أنه بعدما قسّمت الأرض إلى أقاليم ودول، واستأثرت كل دولة بإقليم من الأرض، واعتبرت أن ما يشتمل عليه ملك لأتباعها دون سواهم، أخذت كل دولة تعمل لمصلحة أتباعها، بمعزل عن غيرهم من الأمم والشعوب، وتفتّق الذهن البشري عن مدارس ورؤى مختلفة في حركة الاقتصاد، بغية تأمين الراحة والرفاه لأتباعها، إذا ضاقت مواردها، نتيجة تطور المجتمعات، وحاجاتها المعيشية والاقتصادية، بعد الاتفاق على أن الغاية مصلحة الناس أولاً وأخيرًا.

المذاهب الاقتصادية

يرتبط المذهب الاقتصادي بالمذهب السياسي ارتباطًا وثيقًا، إلى حد لا يمكن معه الفصل بينهما، لأنه متفرع عنه. من هنا فإنّ من ينظر إلى المسألة السياسية من وجهة نظر الفرد وحريته الشخصية لا يمكنه أن ينظر إلى المشكلة الاقتصادية إلا من طريق الأفراد.

وأما من ينظر إليها من وجهة نظر الجماعة والتكتل الاجتماعي، فإنه لا يسعه أن يبني مذهبه الاقتصادي إلا من خلال الجماعة.

وعليه، فإنه يتنازع المسألة الاقتصادية في العصور المتأخرة تيّاران أساسيان، هما التيار الاشتراكي أو التكتلي، والتيار الفردي أو الرأسمالي. وينضوي تحت كل من التيارين مجموعة مذاهب ورؤى، تختلف في نظرتها إلى الاقتصاد في تفاصيل كل من التيارين المذكورين.

إلا أن ما يجمع هذين التيارين أحادية النظرة إلى الإنسان وقطاع الإنتاج، من حيث الغاية والهدف، فرغم أنهما يطلقان شعار مصلحة الإنسان من وراء الاقتصاد، إلا أنهما ينتجان بالضرورة هدفية المال وقداسته، وليس العنصر البشري فيهما سوى وسيلة من وسائل الإنتاج، وآلة يتحكم بها رأس المال وعوامل الإنتاج والثروة.

الإقطاع الاقتصادي

لقد نشأ التياران المذكوران على أنقاض المذهب الإقطاعي الذي كان سائدًا في مختلف المجتمعات البشرية، حيث لازم البحث عن الرفاه والدعة، ورغد العيش، الإنسان منذ بدايات وجوده على الأرض، وهذا بطبيعته يستبطن تنافسًا بين أفراد الناس على تحصيل المصالح والمنافع، بحيث يسعى كل فرد أو فئة إلى تحصيل ما أمكنه من ذلك.

من هنا يبرز عامل القوة بوضوح على ساحة الأحداث، من خلال الاختلاف الطبيعي بين أفراد الناس على الثروة، حيث إن الإنسان قد زُوّد بغريزة التملّك والسيطرة وحبّ الذات، فمن يمتلك عنصر القوة يمكنه أن يحصل على منافع ومغانم، أكثر من غيره، بواسطة القهر والغلبة.

ولما كانت غريزة التملك والسيطرة متأصلة في هذا الكائن، كما أشرنا، فهو يعمل بكافة إمكاناته على توسيع ملكيته وسيطرته. حتى إذا غلب على الآخرين أخضعهم وأذلهم، ووضعهم هم تحت سلطته أيضًا.

ولكن ذلك لا يعني إمكان استغنائه عنهم، والتخلّص منهم، والقضاء عليهم، ليخلو له الميدان وحده، فإن ممتلكاته، بما فيها البشر أنفسهم، بحاجة إلى رعاية وعناية، لا يقدر على تأمينها وحده، لذلك عمل على الاستفادة منهم، من خلال إشباع بطونهم، والإبقاء على حياتهم لمصلحته، وهكذا نشأت فكرة الإقطاع الاقتصادي، وبرزت طبقة السادة والعبيد، وهو الشكل الأول من أشكال النظام الاقتصادي.

الثورة على الإقطاع

إلا أن ذلك لا يعني استسلام الفئات المقهورة، وقبولها للواقع والحرمان، حيث إنهم يرون أن الأقوياء يتمتعون بالثروات التي تكدس على أكتافهم، وما يبذلونه من جهد وعرق في تحصيلها. وإلى هذه الحقيقة يشير قول أمير المؤمنين (عليه السلام): [ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني]، بل إن هذا التفاوت والظلم اللاحق بهم يدفعهم إلى التمرّد والثورة، عندما تتاح لهم الفرصة والظرف، لتغيير واقعهم، لأنهم هم من بني البشر أيضًا، يتمتعون بما يتمتع به الإقطاعيون من آمال وأحلام وهموم وآلام، وسعي إلى الرفاه ورغد العيش، مما يؤدي إلى الاضطرابات والقلاقل وفساد المعيشة، حتى إذا ظهر هؤلاء وتسلّطوا على أولئك انقلبت الآية، وصار الأسياد عبيدًا وبعض العبيد سادة وهكذا.

وهذا ما دفع الباحثين والمفكرين إلى البحث عن حلٍّ لهذه المشكلة، واضعين نصب أعينهم، كما يزعمون، مصلحة الجماعة، أو النوع الإنساني بشكل عام، وهو ما أدى إلى نشوء التيارين الاقتصاديين المذكورين، أعني التيار الاشتراكي والتيار الرأسمالي، بمذاهبهما ورؤاهما المختلفة على أنقاض الإقطاع.

ولما كانت الحركة الاقتصادية، في كافة اتجاهاتها، مرتبطة بالمذهب السياسي ارتباطًا وثيقًا كما تقدم، ولا يمكن ترك الأمور من دون ضبط وتقنين، طُرحت مسألة مهمة الدولة، وموقعها في العلاقات الاقتصادية القائمة، أو التي ينبغي قيامها بين الناس، وانقسم المفكرون بشكلٍ رئيسي إلى فئتين: فئة قالت بضرورة سيطرة الدولة على قوى الإنتاج، وهي التي تضمن حقوق الجميع وتأمين حاجاتهم، وهي المنظومة الاشتراكية، وفئة ذهبت إلى القول بسيطرة الناس (أو القطاع العام) على قوى الإنتاج، وضرورة حياد الدولة تجاه هذه المسألة، وأنه ليس من حقها التدخل بحركة الاقتصاد، وهي التي تحقق النمو والتطور في الجميع، وهي المنظومة الرأسمالية.

التيار الرأسمالي

تقوم الرأسمالية على الحرية المطلقة للفرد، والملكية الخاصة، أي أنها تقدّس الفرد، وتعمل على تقويته بكافة السبل الممكنة، ولهذا فيمكنها أن تستفيد من جميع الامكانات التي يتمتع بها الفرد. وهذا يعني أن للفرد كامل الحرية في تحصيل المال، وزيادة الإنتاج والثروة، من دون أن يمنعه مانع.

إن منشأ الحرية المذكورة هو حق الفرد في إشباع حاجاته ورغباته، دون أن يحول بوجهه أي حائل، أو يمنعه مانع، لأن ذلك يعني حرمانه مما هو حق له، ويؤدي إلى وقوف الحركة الاقتصادية وانكفاء المجتمع إلى الوراء، وتتجمد الطاقات البشرية.

وهكذا تعود مسألة الحق إلى الواجهة، وقد تحدثنا عنها في مقالات سابقة، فما الذي يجعل الحق حقًا، وما هي العوائق والموانع التي يجب رفعها لتحقيقه، وإن كانت هذه الموانع عبارة عن أفراد آخرين من الناس، فإن له الحق في بناء مملكته الخاصة على حسابهم، كما هم يتمتعون بنفس هذا الحق أيضًا، وهذا يشجّع، بنظر الرأسمالية، على التنافس، الذي يؤدي إلى تطوّر عجلة الاقتصاد.

إلا أن إشباع هذه الغرائز ورفع الحاجات يتوقف على وسائل معينة، تنقسم بحسب الاقتصاد الرأسمالي إلى سلع وخدمات، يجب العمل على تأمينها ليحقق الفرد ما يريده في هذه الحياة. وهذا يستلزم مشروعية تحصيل المنفعة بكافة الوسائل الممكنة والمتاحة، ما دامت تؤمن له الكسب وتحصيل المنفعة وتشبع رغباته، وتلبي طموحاته.

إن السلع والخدمات مجرد وسائل، تهدف إلى تحصيل المنفعة والرفاه، اللذين يشكلان الغاية القصوى والهدف المنشود في عجلة الاقتصاد. وما دامت الغاية والهدف مطلوبين ومرادين بذاتهما، فإن ذلك ينعكس على الوسائل الموصلة إليهما مشروعية ومطلوبية. فيمكن تحصيل المال والمنفعة من طريق الربا، والبغاء، والاحتيال، وغير ذلك من وسائل.

وأما الدولة فتكمن مهمتها في الإشراف على سير الأمور من بعيد عبر تقنين القوانين التي تؤمن لكل فرد هذا الحق بحرية، دون أن يحق لها التدخل في حركة الاقتصاد مباشرة، لأن تدخلها في ذلك يؤدي إلى الجمود والركود، من دون أن يكون له أي مردود إيجابي على الحركة الاقتصادية.

سقوط الرأسمالية

إن النظرة المتطرفة والتقديسية للفرد، في المنظومة الرأسمالية، أدّت إلى ظهور الكثير من المفاسد والمظالم، التي انتشرت في المجتمعات المنضوية تحتها، بحيث أدت إلى بروز فئة قليلة من الناس، أمسكت بوسائل الإنتاج، وسيطرت على المفاصل الاقتصادية في المجتمعات، وانتشرت ظاهرة الفقر والحاجة لدى القطاع الأكبر من الناس، فظهر نحو جديد من الإقطاع، المغلف بشعار الحرية والتنافس، وأصبح حيتان المال يؤثرون في السياسات العامة في البلدان الرأسمالية، بحيث غدا السياسيون مجرد أبواق ينفخون بها، ويرقصون على أنغامهم، وازدادت الهوَّة بين هذه الطبقة فزادتهم ثراء، وبين الطبقات الفقيرة التي ازدادت فقرًا وحاجة، فتولدت إقطاعية جديدة، قد تكون أشد خطرًا من الإقطاع التقليدي المتوارث، خصوصًا في صورته الغربية، التي تفترق عن الصورة الشرقية للإقطاع في أن الإقطاعي كان يتصرف بممتلكاته بكامل الحرية، بما فيها الناس الذين يعملون فيها، بمعنى أن الإقطاعي يتمكن من بيعها وشرائها بما تشتمل عليه من عمال وغيرهم، ولم يكن للعامل أي قدرة على تركه والذهاب إلى إقطاعي آخر مثلاً أو أن يتحرر من عمله مطلقًا.

وهذا بخلاف الإقطاع في الشرق فإنه لم يكن بهذه الشدة والصرامة، إذ لم يكن فيه أي قانون يلزم العمال بذلك النحو من العبودية والذل.

وتكمن الخطورة التي ذكرناها أن العامل في ظل النظام الرأسمالي يجد نفسه مضطرًا للارتهان إلى حيتان المال تحت ضغط الحاجة كما هو ظاهر، بخلاف الرؤية الإقطاعية التي تلزمه بذلك من دون أن يكون له أي إرادة أو اختيار في ذلك.

التيار الاشتراكي

 هذه النظرة أدت بجملة من الباحثين والمفكرين إلى البحث عن وسيلة جديدة للاقتصاد، تؤمن مصالح الجميع على قدم المساواة، فكانت المنظومة الاشتراكية.

لقد انطلق هؤلاء المفكرون في نظرتهم إلى المجتمع، من قاعدة أساسية، صحيحة في نفسها، تبتني على أن الثروات الطبيعية حق للجميع على نحو واحد، ولهذا فإن إمساك فئة قليلة من الناس بهذه المفاصل والثروات، هو الذي يؤدي إلى انهيار المنظومة الاجتماعية لهذا الكائن، ولهذا لا بد من القضاء عليها بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك الثورات المسلحة والانقلابات العسكرية، وهو ما حصل بالفعل في بدايات القرن العشرين الميلادي.

وما دامت الحرية الفردية قد أدت إلى ما أدت إليه من مفاسد ومظالم، فإن البديل المتعين هو سيطرة الجماعة على مقدرات الأمور، ولا يمكن للفئة المحتكرة أن تتولى هذه المهمة، لأنها غير مأمونة في إيصال الحقوق إلى أصحابها، خصوصًا وأنها هي التي سلبتهم هذه الحقوق. فالفئة الصالحة للقيام بهذه المهمة هي طبقة المسحوقين والمستضعفين، الذين عاشوا المظلومية والانسحاق، وأدركوا مفاعيلها على النفس البشرية، ولهذا فهم وحدهم القادرون على تجنب المأساة.

إلا أن الطبقات المسحوقة لا يمكنها القيام بهذه المهمة مجتمعين، ولهذا فلا بد أن تمثلهم نخبة منهم يمكنها أن تقارع الرأسمالية وتهزمها، ولا يمكن انتداب النخبة من قبل الأفراد لأنه يعيد الفكرة الرأسمالية إلى الواجهة، فنشأت فكرة القهر والغلبة وتأسيس الأحزاب، وهي التي تشكل القوة المهيمنة على مقدرات الأمور، وهذا يعني أن على الدولة أن تسيطر على الاقتصاد، للوصول إلى الغاية المنشودة.

سقوط الاشتراكية

ولم تستطع الاشتراكية بمختلف توجهاتها، أن تلبي طموح الناس، لأنها أغفلت جانبًا مهمًا من الطبيعة البشرية، وهي غريزة التملك وحب السيطرة، وحرمت الناس من الكثير من الدوافع التي تحركهم باتجاه الإبداع والتطور، فإن الإنسان ما دام يعمل كآلة ليس له من إنتاجه أكثر من حاجته اليومية، كما هو الحال لدى الآخرين، فإنه يفقد الدوافع والحوافز التي يحتاجها، وتدفعه إلى الكسل والخمول، ما دام لا يأمل أن ينعكس إبداعه وإنتاجه عليه إيجابا ورقيًّا.

ولهذا سرعان ما ثبت فشل المنظومة التكتلية في حركة الاقتصاد، وحملت بذور زوالها من داخلها، بحيث لم تستطع أن تصمد أمام الدوافع الفردية لدى الناس، فكان أن انهارت في أقل من قرن من الزمان، رغم البطش الذي مارسته طيلة فترة حكمها بالحديد والنار، ورغم كثرة الإعدامات التي مارستها بحق الجماهير.

الظهور الجديد للرأسمالية

إن أهم عامل أدى إلى انهيار الاشتراكية، هو الأساس الذي قامت عليه، أعني إلغاء الملكية الفردية، وسيطرة الدولة على كل شيء، الأمر الذي يناقض الطبيعة الإنسانية، خصوصًا وأن الدولة مؤلفة من أفراد من الناس، يتمتعون بما يتمتع به الآخرون من غريزة التملك والسيطرة، مما أدى إلى ظهور طبقة إقطاعية جديدة، متمثلة بهذه الطبقة الجديدة، الحاكمة، والتي حملت شعار ديكتاتورية البروليتاريا، وبرروا بذلك القمع والبطش اللذين مارسوهما ضد الناس، الأمر الذي حرم عامة الناس مما يتمتع به الحكام الجدد، ووجدوا أنفسهم ضحايا استبداد جديد، وإقطاعية تعيد نفسها بلباس آخر، فاندفع المفكرون الغربيون لإعادة إحياء الرأسمالية من جديد، وعملوا على تفادي المشكلات التي أدت إلى انهيارها من قبل، من خلال إعطاء دور محدود للدولة في رعاية الاقتصاد، وحماية الشركات الكبرى، التي سرعان ما تضخم الإنتاج فيها إلى معدلات قياسية، واجتذبت أعدادًا لا يستهان بها من العمال والأخصائيين.

إلا أن هذا التضخم المالي ذهب إلى جيوب أصحاب الشركات، دون أن ينعكس إيجابًا على الطبقات العاملة، التي وجدت نفسها أسيرة رؤوس الأموال، ولم يَبقَ لها حول ولا قوة. وما دام المال هو الميزان، فإن هذه الطبقة، والتي يسمّونها طبقة الوحل، سرعان ما تجد نفسها مطرودة وعاطلة عن العمل، عندما تتاح أية فرصة للاستغناء عنها، وهو ما تحقق بالفعل في كثير من البلدان في العقدين الأخيرين.

من ناحية أخرى، لم يستطع التنظير لترشيد الدولة حركة الاقتصاد أن يرشد الاقتصاد فعلاً، ذلك أن السياسيين بحاجة إلى رؤوس الأموال التي توصلهم إلى المناصب الكبرى، وهي بأيدي أصحاب الشركات، الذين هم وحدهم القادرون على إيصال السياسيين إلى هذه المراكز. وهذا يعني إمساكهم بمفاصل الدولة أيضًا، وهو ما يظهر جليًا في السياسات الأمريكية. بل إنا قد نجد شخصًا مثل غيرهارد شرودر ـ المستشار الألماني السابق ـ وهو اشتراكي، وصل إلى المستشارية بتوسط الحزب الاشتراكي الذي كان زعيمًا ومنظّرًا له، قد عمل على كف يد الدولة، وإطلاق العنان للشركات الكبرى في عجلة الاقتصاد الألماني. وما ذلك إلا لإمساك رؤوس الأموال بكافة مفاصل الحركة الاقتصادية.

الاقتصاد والأخلاق

من الواضح أنه لا مكان للأخلاق، ولا للقيم الإنسانية، في حركة الاقتصاد ضمن المنظومات المذكورة، بكافة مدارسها، الإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية، إذ ما دامت القيمة الأولى والأخيرة في ظل هذه المنظومة للمال والإنتاج، فهو المقدس الوحيد من الناحية العملية فيها، وليس الإنسان سوى مجرد خادم له، وآلة تعمل في سبيله.

ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على الواقع الاجتماعي والاقتصادي لعامة الناس سلبًا ومأساة، فمن أمكن الاستغناء عنهم يُطردون من أعمالهم، لأنهم سيشكّلون عبئًا على المؤسسات الكبرى في هذا المجال.

ولما كان ذلك يؤدي إلى كوارث وثورات بين الناس، حيث إنه يهدّد حياتهم قبل كل شيء، فضلاً عن مصالحهم وحقوقهم، فقد سعى قسم من الباحثين إلى تقديم المعونات الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الفقيرة، زعمًا منهم أن ذلك يرفع الضائقة عنهم، ويدفعهم إلى التسليم بالأمر الواقع، وعملت وسائل الدعاية إلى إقناع الطبقات المسحوقة بواقعها، تارة بإشغالها بالمنتجات الحديثة، التي تؤدي إلى تخديرها والبحث عن تحصيل هذه المنتجات، ولو بمساعدة الكبار. وأخرى من خلال انشغالها وتوجيه أنظارها إلى الحروب الخارجية، مما يعني سكوتها وإهمالها للمشكلة الرئيسية التي يعانون منها.

إلا أن من الظاهر أيضًا أن هذه الدعاية تهدف، أولاً وبالذات، إلى خدمة رأس المال وحيتانه، عبر إظهارهم على أنهم فاعلو خير، يمدّون يد العون إلى المسحوقين، من خلال إنشاء المؤسسات الاجتماعية، والجمعيات الخيرية، وهذا وإن كان صحيحًا في نفسه، لأنه يحل مشكلة الفقراء في ظاهر الأمر، ولكنه ينعكس انقيادًا من الناس لهم، نتيجة الحاجة والفاقة من جهة، ولأنه يلامس المشاعر الإنسانية من جهة أخرى، مما يدعمهم في حركتهم الاقتصادية حتى في السياسات العامة، لأن الناس سيعطون ثقتهم للسياسيين الذين يعملون في خدمة الشركات الكبرى، ويسهرون على مصالحها، لأنها هي التي أوصلتهم إلى مراكز القرار كما أسلفنا، وهذا ما أثبتته التجربة في العقود الأخيرة، في مختلف الدول الغربية، فلا أزمات حلت، ولا فساد أوقف، ولا مصالح واقعية للناس تأمّنت.

منشأ الدّاء

إن المشكلة الأساسية التي تنطوي عليها المنظومات الاقتصادية الوضعية، هي إبعاد العنصر الإلهي وسيطرته على كل شيء، وأنه هو المالك الحقيقي لكل شيء، فكانت النظرة الأحادية للإنسان هي رأس المال، رغم إدراك الجميع لغرائز الإنسان وحاجاته وطموحاته، فكان أن نظرت كل المنظومات إلى حركة الاقتصاد من زاوية معينة، واستبعدت الجوانب الأخرى من متطلبات هذا الكائن البشري.

إلا أن هذه النظرة الأحادية لمسألة الاقتصاد ليست ناشئة من فراغ، وإنما هي نتاج الفكر الغربي، المعتمد في أولياته على العهدين القديم والجديد للكتاب المقدس، حيث إن العهد القديم لمّا كان ناظرًا إلى الجماعة والكتلة البشرية اليهودية، دون الاهتمام بالفرد من حيث هو فرد، إلا بمقدار ما يحقق مصلحة الجماعة في الحياة الدنيا، بخلاف العهد الجديد الذي يشدد على البعد الفردي والأخروي للكائن الإنساني، أنتج ذلك كلاً من المنظومتين الاشتراكية والرأسمالية، ويبدو هذا الأمر نتاجًا طبيعيًا لنظرة كل من العهدين إلى مسألة الحكم والسياسة، وتقدم الحديث عنها في مقالة سابقة بعنوان (مقالة في نظرية الحكم)، وبيّنا فيها مدى الترابط بين النظرة إلى الدولة والحكم وعلاقتهما بالاقتصاد.

ونتج عن ذلك مصادمة هذه المنظومات للفطرة الإنسانية في بعض جوانبها، ولهذا جاءت كافة الحلول التي طرحت ضمن هذه المنظومات مبتورة وناقصة، وأدت جميعها إلى نتيجة واحدة هي الإقطاع والتسلط، وإن بوجوه مختلفة، ولهذا أنتجت الحروب والخلافات الحادة بين الدول على اختلاف رؤاها، بغية السيطرة على الموارد العامة والخاصة.

وهذا ما يستلزم البحث عن حلول تضمن مصالح الجميع، وتحفظ النوع الإنساني في حاضره ومستقبله، في بعديه الدنيوي والأخروي على السواء، وهو ما يطرح مشكلة الحقوق من جديد، والعمل على تحقيقها، ووصول كل ذي حق إلى حقه، ليعمَّ العدل والسلام بين الأمم.

الدين والاقتصاد

ومن الملاحظ أن هذه الغاية قد وضعتها كافة الأديان، السماوية والوضعية، نصب أعينها، وافترضت أنها الغاية النهائية للوجود البشري، وإن كان كلٌ ينظر إليها من زاوية خاصة قامت عليها أسسه الفكرية والعقائدية والاجتماعية.

هذا إذا استثنينا الديانة المسيحية، التي نأت بنفسها عن مواجهة المشاكل التي يواجهها الإنسان في حياته الدنيا، ووضع الحلول المناسبة لها، بعدما حصرت نفسها بمقولة أن الدين مجرد علاقة داخلية بين الإنسان وربه، تؤمّن له الخلاص والسلام الداخلي، وعلى مستوى الحياة الآخرة فقط، فتركت البعد الدنيوي خاليًا، دون أن تهمل الغاية المذكورة، ولكنها تركتها في يد القدر دون حلول، وأطلقت يد المفكرين المنتمين إليها، للبحث عن حلول هذه المشاكل، فأنتجت الفكر الليبرالي الذي يقدس الفرد على وجه العموم كما تقدمت الإشارة إليه.

وأما اليهودية فلما كانت منطلقة من مصلحة الجماعة، دون إيلاء الفرد أية أهمية تُذكر، إلا بمقدار ما يحقق مصلحة الجماعة، كما هو الحال في نظرتها إلى مسألة الحكم، نظرًا إلى تلازم الحكم والاقتصاد، أنتجت المنظومة الاشتراكية.

وهذا ما يفسر انتشار الرأسمالية بين المتأثرين بالمدرسة المسيحية وثقافتها، بخلاف الاشتراكية التي انتشرت بين المفكرين الذين نهلوا من معين العهد القديم، وتشكّلت شخصياتهم الفكرية استنادًا إليه، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن كل يهودي فهو اشتراكي، وكل مسيحي رأسمالي، وهذا ظاهر.

إلا أن ما تقدم لا يعني أن العهد القديم قد صرح بالاشتراكية، والعهد الجديد بالرأسمالية، فإن ذلك مجاف للحقيقة جملة وتفصيلاً، وإنما كان للعهدين أثر بالغ في تكوين الشخصية الغربية على المستوى الفكري والثقافي، الأمر الذي انعكس على تفكيرهم بهذا الاتجاه أو ذاك.

الاقتصاد الإسلامي

تنطلق الرؤية الإسلامية للاقتصاد من نظرته الشاملة للكون والحياة، وموقع الإنسان فيها، سواء في ذلك الإنسان الفرد والجماعة، فعملت على تحصين كل منهما، وتثبيت موقعه في هذه الحياة، وضمان كل ما يحقق له السلام والأمن والطمأنينة والرفاه والسعادة.

أما بالنسبة للفرد، فقد نظر الإسلام إليه نظرة واحدة متكاملة، بحيث لم تُغفل أيًّا من حاجاته وغرائزه ومصالحه وكمالاته، من خلال ترشيد الغرائز، وتحريكها نحو الاعتدال في إشباع متطلباتها، من دون قمع أو إفلات، لأن الله تعالى لم يخلق فيه غريزة أو شهوة عبثًا، بل لغاية كبرى يحتاجها الإنسان في مسيرة حياته التكاملية شرط أن لا يُبتلى بالإفراط أو التفريط فيها، ولذلك كانت الوسطية شعارًا إسلاميًا في كافة الميادين.

بمعنى أنه إذا استطاع الإنسان الفرد أن يحقق حاجاته ورغباته، وأن يشبع غرائزه على نحو الاعتدال، أمكنه أن يحقق الطمأنينة والسلام الداخلي الذي سينعكس على الجماعة لا محالة، ويمكن أن يشير إلى هذا المعنى الحديث الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): [المسلم من سلم الناس من لسانه ويده]([2])، وقوله (صلى الله عليه وآله): [الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله] ([3]).

وأما بالنسبة إلى الجماعة فإنها لما كانت عبارة عن الأفراد مجتمعين، فإذا صلح الأفراد صلحت الجماعة كلها، وإذا فسدوا فسدت، فإن مصلحتها القصوى تأمين الاستقرار والازدهار للجماعة، والسعي بها نحو تحقيق الرقي والتقدم، لتحقيق الخلافة التي خلق الإنسان لأجلها، وهي الغاية المرجوَّة التي تنشدها الأديان كما أسلفنا، وتنتظرها في نهاية الأيام.

إلا أن الأفراد ليسوا كلهم على وتيرة واحدة، من حيث الثقافة، والمعرفة، والالتزام، والإمساك بالنزعات المادية، والانقياد إلى الشهوات والمصالح كما هو واضح. من هنا كان لا بد للإسلام أن يضع الحلول والقوانين والنظم، التي تحدد علاقات ومصالح الأفراد المنضوين في هذه الجماعة، بحيث يصل كل ذي حق إلى حقه، الذي جعله الله تعالى له، من خلال الموقع الذي يشغله ضمن الجماعة، حتى لا يستغل قوي بقوته الضعفاء، ولا يسكت ضعيف عن حق ثابت له، لا يستطيع أن يستعيده.

أساس الاقتصاد الإسلامي

يقوم الاقتصاد الإسلامي على قاعدة أساسية، هي أن الله تعالى هو المالك الحقيقي لكل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه،، انطلاقًا من أنه تعالى خالق كل شيء ومبدعه، وأنه قادر على كل شيء.

أما الإنسان فإنه خليفته تعالى في هذا الوجود، والخليفة مؤتمن، يجب أن يعمل وفق ما يأمر به صاحب الحق والسلطان، الذي هو المالك الحقيقي، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}([4]).

ولما لم يكن بينه تعالى وبين أحد من خلقه قرابة، فإن جميع الناس متساوون في الحقوق والواجبات أمامه تعالى، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}([5])، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) لابنته فاطمة (عليها السلام): [يا فاطمة اعملي فإني لا أملك من الله شيئًا]([6])، بعد الفراغ عن شمول العمل للدنيوي والأخروي فيهما.

من هذا المنطلق، نجد أن الإسلام قد وضع التشريعات الإلهية، المرتبطة بحركة الاقتصاد، على نحو يضمن مصلحة الجميع، أفرادًا وجماعات، بحيث يصل كل امرئ إلى حقه الذي جعله الله تعالى له، سواء منهم الحاضر والآتي في المستقبل، بعد الفراغ عن وضع كل ما يضمن بقاء النوع الإنساني ووصوله إلى غايته المنشودة في هذه الأرض التي يعيش عليها.

وهذا يستلزم وجود قانون أساسي يحكم حركة الناس، وهو قانون تكافؤ الفرص أمام الجميع، على نحو يتمكن كل فرد أو جماعة على العمل على ما يؤمن لهم الراحة والثراء، دون أن يحصل ظلم أو حيف بحق أحد منهم، وهذا يستلزم شمولية القوانين والتشريعات، بحيث يمكن أن تطال أدق التفاصيل في تعاملات الناس وطرائق كسبهم للمال، وهو ما تناولته الشريعة الإسلامية.

وبهذا يفترق الإسلام عن كل من المنظومتين الوضعيتين في الاقتصاد، الرأسمالية والاشتراكية، حيث أبعدتا العنصر الأساسي في حركة الاقتصاد، أي موقع الله تعالى في حياة الناس، وانطلقتا في تحليلاتهما من الإنسان نفسه، على أساس أنه المبدأ أو المنتهى، فكانت النتيجة ابتلاءهما بالإفراط أو التفريط.

ركائز الاقتصاد الإسلامي

يرتكز الاقتصاد الإسلامي على ثلاث ركائز، وضعها الشارع الحكيم، استنادًا إلى القاعدة الأساسية المتقدمة، أي أن المالك الحقيقي هو الله تعالى، وأنه هو المتصرف الحقيقي في كل الموجودات، وهذه الركائز هي: الإنسان، ووسائل الإنتاج، والإنتاج والتوزيع.

أما الإنسان

فيشكل الركيزة الأساسية في الاقتصاد الإسلامي، وهو الغاية والهدف من النظرية الاقتصادية في مجملها، ولهذا وضع الإسلام مصلحة كل من الفرد والجماعة الإنسانية على حد سواء، فعمل على تحصين الفرد وحمايته من جميع العوامل السلبية والأزمات التي يمكن أن يواجهها، وعمل على وضع الحلول المناسبة لها، والتي يمكن أن يخرج الفرد منها، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، حرص على مصلحة الجماعة الإنسانية، من خلال إصلاح وضع الأفراد، الذي يستلزم صلاح الجماعة كلها، بحيث تتحقق الخلافة الإلهية على هذه الأرض، ويتحقق من خلالها إعمار الكون برمته، ويظهر جمال الخالق في خلقه، على ما تعطيه آية الخلافة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}([7])، وقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}([8]).

ولما كان الإنسان بحسب جبلته مفطورًا على مجموعة من الغرائز والقوى، فإن ذلك سيؤدي إلى اختلاف الغرائز بين الناس قوة وضعفًا، وانطلاقًا وتقييدًا، مما يقتضي وجوب العمل على المحافظة على الكيان الإنساني العام، من خلال دفعها إلى الاعتدال، وملاحظة مصلحة الجماعة برمتها، وهنا تظهر أهمية الحاكم الإسلامي والدولة الإسلامية في تسيير هذه القوى المتنافرة بين الناس، بما يحفظ حقوق الجميع.

ولكن كل ذلك مرهون بعمل الإنسان نفسه، فبمقدار ما يعمل ويَجدّ فإنه يحصل في المقابل على أجر وعطاء، ولذلك لا محل للكسالى في النظام الاقتصادي الإسلامي.

ولكن هذا لا يعني شمول ذلك للعجزة والقصّر بما في ذلك المعيلون، الذين لا يقدر إنتاجهم على كفاية عوائلهم، وذوي الحاجات الخاصة، فإن هؤلاء مشمولون بالرعاية التامة من النظام الإسلامي، ولهم حصة في الناتج العام.

وفي هذا المجال يتبدّى مفهوم آخر في الإسلام، يميّزه عن المنظومتين الأخريين في نظرته إلى الإنسان، وهو البعد الإنساني المعنوي فيه، فقد حرص الإسلام على إشباع هذا الجانب لتسمو الحالة الروحية لدى هذا الكائن، فإنه مع ضمانه تأمين حاجات الناس، من خلال النظام الحاكم، ولكنه أكد على أن يقوم الناس أنفسهم بمساعدة الفقراء والمساكين من تلقاء أنفسهم، حيث جعل لهذه الفئة من الناس حقًا ثابتًا في عهدة الآخرين، هم ملزمون بأدائه إليهم، وامتناعهم عن أدائه بمثابة الغصب والسرقة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}([9]). وهذا يؤمّن بُعدًا معنويًا في هذا الكائن من خلال الحثّ على قيام الأفراد بذلك، سواء وجد النظام أم لم يٌوجَد، فسنّ قوانين الصدقات والضرائب، التي يتولاها المكلفون بأنفسهم كالكفارات، وهذا ما يفتقده كل من المنظومتين الاقتصاديتين، أعني الاشتراكية والرأسمالية.

وأما وسائل الإنتاج

فالأساس الذي تدور حوله المذاهب الاقتصادية بكافة أطرها هو المال، وقد حرص القرآن الكريم على بيان أهميته، حيث قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}([10])، فقد أكدت هذه الآية الشريفة أن المال هو أحد عنصري التجمّل والتزيّن في هذه الحياة، والعنصر الآخر هو الأبناء الذين يشكّلون استمرار النسل، وفي تقديم المال على البنين في الآية المباركة إشارة إلى مدى حرص الإنسان على جمعه فإنه {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}([11]).

ولكن مالية المال إنما تتحقق من خلال قابليته للتملك، من دون فرق بين المفردتين إلا من ناحية أن المال أخذ فيه عنوان السلعة القابلة للتملك بما لها من قيمة في نفسها، بخلاف التملك والملك فقد أخذ فيه عنوان التسلط على السلعة واستقرارها تحت يده، أي نظر إليها من جهة الإنسان المتملك لها.

إلا أن ذلك لا يعني استقلال الإنسان في الأموال وجمعها في المنظور الإسلامي، حيث أكد في مقام آخر أن المالك الحقيقي للمال هو الله تعالى، فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ([12]).

فملكية الإنسان للمال إنما هي ملكية توكيل واستخلاف، والوكيل المستخلَف (بالفتح) ملزم بالتصرف وفق ما يريده الموَكِّل والمستخلِف (بالكسر)، وهذا يعني أن على صاحب المال أن يبين الشروط التي على الوكيل أن يتحرك على أساسها، ولهذا نجد الفقهاء قد بيّنوا تفاصيل الأحكام التي أقرّتها الشريعة الإسلامية في مختلف مجالات التجارة والعقود والمعاملات، استنادًا إلى النصوص الدينية.

ولما كان الإنسان مفطورًا على حب التملك كغريزة متأصلة فيه كما تقدم، ولا يمكن سلب هذه الفطرة عنه، لأن ذلك بمثابة سلبه حب البقاء والحياة، كان لا بد من تنظيم هذه الغريزة في النصوص الإسلامية، ولأن الإسلام دين الفطرة، كان للبعد الأخلاقي موقع خاص ومهم في حركة الاقتصاد الإسلامي، لأن الناحية القانونية وحدها، ومن دون الأسس الأخلاقية، لا يمكنها أن تحكم حركة الإنسان في مختلف المجالات، ذلك أن الإنسان يمكنه أن يتهرّب من المشكلات القانونية التي تواجهه، من خلال التحايل عليها، والتخلّص من مفاعيلها. وهذا بخلاف القواعد الأخلاقية التي تنبع من صميم الذات، وتخضع لمحاكمة الضمير، وبهذا استطاع الإسلام أن يوحّد بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية في البعد الاقتصادي كما في غيره من أبعاد الحياة الإنسانية، فكانت الرقابة داخلية وخارجية.

وبهذا تختلف الرؤية الإسلامية للاقتصاد عن المنظومتين الوضعيتين، الاشتراكية والرأسمالية.

من هذا المنطلق تأخذ عناوين الأمانة، وعدم الغش، والنصيحة، والتزام العهود، والانتظار في حال العسر، ومشروعية وسائل الإنتاج، وغير ذلك من العناوين التي ترتبط بحركة الاقتصاد، واقعًا عملانيًا، وحصانة ذاتية، في المنظومة الإسلامية للاقتصاد دون المنظومات الأخرى.

وأما الإنتاج

فتختلف نظرة الإسلام إليه أيضًا عن الاشتراكية والرأسمالية، حيث إن الاشتراكية تحصر عناصر الإنتاج في العمل مهما كان نوعه عقليًا أم يدويًا، بمعنى أنه ليس للعامل سوى أجره الذي يتقاضاه على عمله. والرأسمالية تفترض أن عناصر الإنتاج ثلاثة: العمل، ورأس المال، والطبيعة.

لكن الإسلام يرى أن الإنسان هو الأساس في حركة الإنتاج لكن لا بذاته، بل من خلال العمل الذي يؤديه، سواء كان العمل يدويًا أم عقليًا، ويعود إليه وحده نتيجة جهده وعمله.

ولقد وفّر الله تعالى للكائن الإنساني كثيرًا من الموارد الطبيعية، والتي يشترك فيها جميع أفراد الأمة، بمعنى أن منفعتها تعود إلى الجميع.

وأما رأس المال، بمعزل عن العمل والجهد، فليست له أية إنتاجية في نظر الإسلام، فإن المال لا يلد مالاً، ولهذا شدد الإسلام النكير على الإنتاج من دون جهد وعمل، أي على المعاملات الرَّبَوِيَّة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}([13])، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): [درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية بذات محرم في بيت الله الحرام]([14]).

ولما كان نظر الإسلام إلى الإنسان كوحدة متكاملة في جميع أبعاده وشؤونه، وأن الحاكم فيه هو طاعة الله تعالى والتزام أوامره ونواهيه، وشدّد على الاهتمام بالجانب المعنوي للإنسان الذي تتحقق به هويته الإنسانية، كان للبعد الأخلاقي المنطلق من علاقة الإنسان بربه حالة مهمة في المسألة الاقتصادية في المنظور الإسلامي، ولهذا أكد على حضور الله تعالى في كل معاملة، بل في كل حركة يتحركها هذا الكائن، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}([15]).

وكل ذلك لأن المسألة الاقتصادية في المنظور الإسلامي، كما غيرها من المسائل، مجرد وسيلة لتحقيق عمارة الأرض، التي هي غاية الخلق، والارتباط به تعالى، حيث يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}([16]).

فالاقتصاد في الإسلام ليس غاية بحد ذاته، وإنما هو وسيلة للرقي بالإنسان في مدارج الكمال كما أسلفنا.

وأما التوزيع

فإنه لما كان متفرعًا على الإنتاج، وتابعًا لنحو الملكية، فمن المنطقي أن تتفاوت فيه الرؤية الإسلامية عن كل من المنظومتين الرأسمالية والاشتراكية.

ففي حين أكدت الرأسمالية على الملكية الفردية، وجعلتها الأساس الوحيد في العملية الاقتصادية، بحيث أدّت إلى إطلاق يد الفرد من دون حدود ولا قيود، انعكس ذلك على التوزيع، فانتشر الفقر والعوز بين فئات المجتمع المختلفة، واستأثرت فئة قليلة منهم بالأموال والثروات، ما دام الكسب هو الميزان والملكية الفردية المطلقة العنان هي الأساس.

وأما الاشتراكية التي حرصت على إلغاء الملكية الخاصة، ونظرت إلى العمل كأساس أَوَّلي للدخل، الذي تهيمن عليه الدولة بشكل كامل، فقد أدّت إلى حرمان الأفراد من الكثير من الدخل الذي يمكن أن يحصلوه لو توجهوا إليه فعلاً، كما أدى إلى غياب الضمانات التي تجعل من الدخل العام عائدًا إلى المجتمع فعلاً، وهذا ما أدى إلى انتشار الكسل وعدم الاندفاع إلى العمل في المجتمعات الاشتراكية، وهو ما أدى في النهاية إلى انهيارها مبكرًا.

بينما نرى أن النظام الاقتصادي في الإسلام الذي لم يقتصر على نحو واحد من نَحوَي الملكية، بل عمل على تشريعهما معا ووضع أسسًا وضوابط لحمايتهما، وذلك استجابة لمقتضيات الفطرة والمصلحة الإنسانية العامة والخاصة، وانطلق من الحاجة في توزيع الثروات، وجعلها الأساس في الاقتصاد، بمعنى أن لكل فرد من أفراد المجتمع الحق الكامل في تأمين ضرورات حياته، لا يحق لأحد حرمانه منه، قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}([17])، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}([18]). وقد وضع الإسلام نُظمًا وقوانين متكاملة لضمان هذا الحق وإيصاله إلى أصحابه، من الأخماس والزكوات والكفارات والصدقات وثروات الأرض.

فإذا تأمّنت الحاجة الأولية لجميع الأفراد بدأت دورة العمل والكسب وتحصيل الملكية المتاحة للجميع أيضًا، الأمر الذي يضمن للجميع حق المنافسة والعمل والكسب ضمن الضوابط والشروط الشرعية، التي لا تؤثر سلبًا على حركة المجتمع والأفراد على حد سواء.

الخلاصة

نستخلص مما تقدم أن الإسلام نظر إلى المسألة الاقتصادية على أنها جزءٌ من كلٍ، لا تقوم الحياة إلا به متكاملاً، بعدما انطلق من الإنسان ومصلحته وكماله، فقضى على مشكلة الفقر، وضَمِن الحياة الكريمة للجميع، ووضع الأسس التي تنسجم مع متطلبات الفطرة دون أن يقضي على الغرائز أو يكبتها، فأمكن للجميع أن يعيشوا مستوى الكفاف أولاً، ثم يسعون إلى الكسب والتملك بقدر ما يقدّمون من جهد وعمل، فكان الحل هو الوسط بين الإفراط والتفريط في مصالح الأفراد والجماعات.

وهذا بخلاف ما قامت عليه المدرستان الأخريان، الرأسمالية والاشتراكية، حيث أطلقت الرأسمالية العنان للغرائز عندما جعلت الحرية الفردية المطلقة هي الأساس في عجلة الاقتصاد دون قيد أو شرط، فأدّت إلى انتشار ظاهرة الفقر والبطالة، وانتشرت الطبقية في المجتمعات مما أدى إلى ذهاب الاستقرار في حياة الناس، وانتشر الاستعمار واغتصاب الثروات من المجتمعات النامية والفقيرة.

وأما الاشتراكية فقد وقفت على النقيض من الرأسمالية، حيث كبتت الغرائز وقضت على الملكية الفردية، فكانت مناقضة للفطرة الإنسانية، وماتت الدوافع الفردية في تطوير عجلة الاقتصاد مما انعكس بالضرورة سلبًا على هذه المنظومة، وأدى إلى سقوطها في أقل من قرن من الزمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش
 

([1]) سورة: الملك، آية:15

([2]) الكافي ، الكليني ، ط4 1365هـ، دار الكتب ، طهران ، 2/234 ، باب المؤمن وعلاماته ، ح12 .

([3]) وسائل الشيعة (آل البيت) 16/345 ، باب23 من أبواب فعل المعروف ، ح9.

([4]) سورة الحديد، آية:7

([5]) سورة الطور، من الآية:21

([6]) بحار الأنوار : 22/465 ، أبواب ما يتعلق بارتحال النبي ’ ، ح18 .

([7]) سورة البقرة، آية:30.

([8]) سورة ص، من الآية: 26.

([9]) سورة المعارج، آية:24/25

([10]) سورة الكهف، آية: 46 .

([11]) سورة الفجر، آية: 20 .

([12]) سورة النور، من الآية: 33

([13]) سورة البقرة، من الآية: 275

([14]) ميزان الحكمة، ج4، ص48

([15]) سورة التوبة، من الآية: 106 .

([16]) سورة الذاريات، آية:56-58

([17]) سورة الذاريات، آية: 19.

([18]) سورة الإسراء، آية: 26 .

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثامن عشر