السنة السابعة / العدد التاسع عشر/ حزيران 2011 - رجب : 1432هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الظاهرة الاجتماعية المدنية في حياة البشر

وميزان التكريم

الشيخ علي ياغي

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ([1]).

توطئة

إنّ تكوّن الظاهرة الاجتماعيّة المدنيّة في حياة البشر -النسل الآدمي- غنيّة عن التدليل عليها، فهي أظهر سمات الحياة لهذا النوع.

فمنذ اللحظة الأولى لظهور الحياة الآدمية على الأرض كانت النّهدة إلى الاجتماع حسًّا عريقًا تكتنفه الطبيعة البشرية كميزة فطرية راسخة، وقد كيّفت هذه الطبيعة حياتها وفق هذه السُنّة بتمظهرات متعددة الأشكال، محتكمة في ذلك إلى اختلاف الشروط لتلك التمظهرات.

فمن مشاهدِ تلك التمظهرات ميلُ فَردَي النوع "الذكر والأنثى" كل منهما باتجاه الآخر ميلاً فطريًا أيضًا، وكذلك ائتلاف النسل "الأسرة" الراجعة إلى الزوجين، فإن وحدة الرحم تضيف إلى الحس الفطري عاملاً جديدًا لنمو الرغبة في الالتئام والائتلاف أو تكوين وحدة اجتماعية.

ومن بعد ذلك تأخذ الوحدة الاجتماعية أيضًا بالتفرع إلى وحدات أخرى، وتنشعب إلى كيانات متشابهة، وقد يصل التشابه والمماثلة فيما بينها إلى حد الاستنساخ أو ما يقرب جدًا من معناه.

وكلما تكثّرت الوحدات المنشعبة باطراد "عدديّ كمّي"، يرافق ذلك معنى كيفيّ تظهر له سمات وخصائص تتناسب غالبًا مع الحال المنبثق عن الكثرة "الكميّة العددية"، ولذلك بالطبع ما يبرره، فإن لوازم واحتياجات طور من أطوار "الكم" يختلف عنه في أطوار الاطراد الأُخر، وهذا أمر بديهي نلحظه بمجرد التنبّه للفوارق بين القلة والكثرة -أي بين احتياجات الأسرة الواحدة مثلاً واحتياجات الأسرتين، وبين الأسرتين والعشرة، وبين العشرة والألف، وبين الألف والمائة ألف، وهكذا... الخ-، وعن هذه الكثرات المطّردة "النسل المنشعب" كان تعبير القرآن الكريم في الآية الشريفة: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

ولا زالت الشعوبية والقبلية وأنحاء التشكّل الأخرى للنسل البشري "الاطراد العددي" تعكس بإلحاحٍ قوي وصرخة مدويّة جدًا الحاجة إلى ناظم مهيكل تنبثق عنه الهيئة الاجتماعية التي تلبّي احتياجات الاطراد العددي "المجتَمع"، وتدفع به دفعًا متناسبًا مع احتياجاته ولوازم وجوده، من مثل: أمن الغذاء وأمن المظالم وأمن الحريات المشروعة والضمانات التي لا تستقر حياة النوع بدونها.

ولأجل ذلك رأينا اهتمام النابهين من أبناء المجتمع الإنساني -أصابوا أم أخطأوا- رأينا اهتمامهم بشأن هذا الموضوع، أي الناظم والمهيكل للحياة الاجتماعية المدنية للنوع البشري، وقد عجّت وضجّت المؤلفات في أصول التنظيم الاجتماعية وفروعها وبرزت بين الفينة والفينة أفكار وأفكار، منها ما دانت به أمم ومجتمعات، ومنها ما لم يزل نظريًا صرفًا، ومنها ما دان ناس ببعضه وتركوا بعضه.

ولكن مع كثرة النظريات، وبخاصة تلك التي دان بها فئة من الناس، لم تزل القضية المجتمعية وليومنا هذا تقول بلسان الحال والمقال: ما هو النظام الاجتماعي الذي يؤمن للحياة البشرية سعادتها وينقلها من عالم العذاب والضنك إلى عالم الراحة من النصب والتعب؟ ولربما تجنح الإحن والمحن وكثرة المتاعب التي يلاقيها الإنسان الحاضر ولاقاها الإنسان في أجياله السابقة، ربما تجنح بالإنسان "النوع" إلى اليأس والقنوط، ويخيّل إليه أن الشقاوة والعذاب والألم هو قدر الحياة، وأن الحياة بلونها الآخر -الحياة الخالية من الشقاوة والعناء- ليست ممكنة للإنسان، وبالطبع، وإن كان لهذا التخيّل منشأ وهو مراجعة التاريخ وملاحظة حاضر الأيام بما يسودها من ألوان الشقاوة والبؤس والظلم، إلا أنه تخيّل لا يعكس الحقيقة الواقعية عن الحياة وعن الممكن من لونها الآخر وطبيعتها الأخرى المملوءة بالمعاني الجميلة والعذبة.

غاية ما في الأمر أن الحياة على امتداد أشواطها وبمختلف أطوارها ومراحلها، لم تطبع بصفة السلام والاطمئنان والسعادة على مبدأ سيادة هذه الصفات بصورة عامة وشاملة، نعم ربما مرّت ومضات عاشت فيها مجتمعات "ما" برهة من حياتها حياة راضية، وإذا قدّرنا أن مثل هذه الومضات قد حصلت في لحظات "ما" في تاريخ مجتمع، فهذا يعني إمكان أن نشهد للحياة لونها الآخر وأن نعيش في ظل طبيعتها الأخرى.

ولكوننا لا نتعدى بوعينا عن الحقيقة التي تقول بأننا نحن الآدميين نصنع صفة حياتنا بإرادتنا من شقاوة أو من سعادة، إذن لا بد من الإيمان بأن للحياة لونًا آخر غير الذي عاشته أو تعيشه معظم مطارح الأرض ونواحيها.

ولكون هذه القضية هي القضية الأم والأصل في حياتنا، إذن من الواجب أن نسهم في إغنائها بكل فكرة تضع بين يدي الأيام ولو حلاً للغز من ألغاز هذه الحياة الاجتماعية الشديدة التعقيد.

لذلك كان عنوان مقالنا: "الظاهرة الاجتماعية المدنية في حياة البشر وميزان التكريم"، وافتتحنا الكلام بالآية الشريفة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.

وبالطبع سوف تنضم للآية آيات أخرى في مطاوي المقال لأن الغاية هي بلورة فهم البنية الاجتماعية وضرورة احتكامها في نظم اجتماعها إلى قانون وآليات، وإلى ضرورة اختيار القانون أو النظام الملائم مع الطبيعة البشرية، والضامن لها احتياجاتها وضروراته.

وسوف نسوق الكلام حول البنية الاجتماعية -أو التشكل الاجتماعي- وآية الخلق، فنقول:

التشكل الاجتماعي أو البنية الاجتماعية:

التشكّل الاجتماعي أو البنية الاجتماعية على ضوء ما يمكن أن نفهمه من الآية الشريفة يفيد:

أولاً: انبثاق النسل عن الارتكاز الثنائي -ذكر وأنثى- فالنسل الآدمي يبدأ من هذه الثنائية.

ثانيًا: نقل ظاهرة النسل بفعل التراكم العددي من الشعوبية إلى القبلية.

وهنا لا بد من الوقوف مع مفهومي الشعوبية والقبلية، فمفهوم الشعوبية لا يتحمل أكثر من ملاحظة الاطراد العددي للنسول، فهو كناية عن التجميع العددي.

وهذا ما تفيده الآية الأخرى، أي قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً}([2])، فانشعابات النسل المطرد دائمًا يتولد منها وعنها مفهوم الشعوبية أو الكثرة، وهو بهذا التصوير لا يمثل موضوعًا للمدح ولا موضوعًا للذم، غاية ما في الأمر أنها ذات طابع إحصائي يلحظ جانب الكثرة العددية فحسب، ومنشأ انبثاقها ونقطة انبعاثها من الذكر والأنثى.

ثالثًا: إن الكثرة "الشعوبية" بما هي وجود عددي صامت أو وجود رقمي هامد، نفترض فيه أن يكون سببًا لنقل الوعي إلى إدراك ضرورة "تلحّ" على هذا الجمع بالتفكير في نظامٍ للحياة، إذ العددية والكثرة لا يروق لها أن تعيش في اللانظام واللا انتظام. لأن الفوضى تدمر وتهدم وتذهب بعزة العدد، ولا بد إذن من النظام والقانون.

وعليه فإن الشعوبية -التي تعني الرقمية العددية- ينبغي لها على وجه الحتم والقضاء المبرم أن تفضي إلى التفكير في إيجاد نظام وقانون يحكم العلاقات بين مفردات الوجود العددي الرقمي.

أما فيما يخصّ مفهوم القبلية، فإنه أول ما يتميز به أنه ينقلنا من عالم المادة الجامدة إلى عالم المعنى المتحرك، ومن عالم الوجود "الرقمي" إلى عالم الوجود "الكيفي"، لذلك كانت القبيلة هي أول مدارج العروج في سلم الحياة الاجتماعية المدنية للنسل البشري.

ومعروف عن طبيعة هذا النظام بحسب ترجماته المنقولة إلينا عبر مفردات التاريخ والمشاهَدة لغاية الآن ما هي خصائصه، وعلى ماذا يقوم. فإنه يبتني على جعل مكانة لفرد تعقد له القبيلة عقود الطاعة والولاء والإمرة، فيكون بذلك نافذ الأمر مطاعًا، وتعهد إليه مهام الأمور من الشأن الإداري العام، ومن شؤون السلم والحرب والمعاهدات وما أشبه ذلك.

تطور النظرة

في العصور المتأخرة من تاريخ المجتمع البشري ابتكرت فكرة الدولة المدنية، وهذه الفكرة تعتبر ملمحًا حضاريًا حديثًا، بغض النظر عن كثير مما يشوب هذه الفكرة لدى المقارنة بين النظرية التي انبثقت عنها هذه الترجمة "الدولة" وبين الواقع المترجِم لمفهومها، إلا أنها تعتبر فكرةً حَريّةً بالاحترام وجديرةً بالإكرام، فإنها ترجمة نقلت الإنسان من عالمٍ ضيّق إلى عالم أكثر رحابة وشمولية في إطار تنظيمي فيه حالة من حالات الرقي.

ألوان وطبائع السلطة في حياة المجتمع الإنساني

في مشهد الحياة الاجتماعية اليوم نحصي أشكالاً كثيرة وألوانًا متعددة ورؤى مختلفة للحكم ونظام الحكم، فمنه: السلطنة، الملكية، الجمهورية، والجماهيرية، ولا شك في أن كل واحد من هذه الأسماء له أيضًا أنواع مختلفة.

كلمة لا بد منها

إن جميع هذه الأسماء وتلك المسميات تدور في فلك قضية واحدة ألا وهي محاولة نقل الوجود البشري من الوجود الرقمي الجامد إلى الوجود الكيفي المتحرك، لكن مع شديد الأسف أن تجارب النظم الاجتماعية ومهما اختلفت أسماؤها ومسمياتها لم نزل نرى أن المجتمع البشري ينشد ما هو الأصلح والأفضل، بما يعني ضمنًا الحكم من قبل الإنسان "النوع" على كل هذه التجارب بالفشل وعدم القدرة على النهوض بمستلزمات الحياة الاجتماعية للإنسان "النوع".

الحقيقة الضائعة

إن الحقيقة التي ينشد المجتمع الإنساني أن يبلغها ويعيش في ظلها ممكنة وقريبة المأخذ وحاضرة في متناول اليد، ومع ذلك لم ينعم الإنسان "النوع" بها لغاية الآن، وهذا من أعجب المفارقات وأفظع الحالات، وأسوء ما يمكن أن نتصوره في عالم الجناية: جناية الشيء على نفسه.

ففي الوقت الذي يقدّر فيه الإنسان "النوع" حاجته إلى الاجتماع وحاجته إلى الحياة الاجتماعية، ويقدّر أيضًا حاجته إلى النظام، نراه إذا لاح له في أفق الحياة حلول صحيحة يتنكر لها ويمضي في الشقاوة والبؤس والعيش في ظل المظالم والمأساة، ولا يحاول أن يعيش في ظل السبب الضامن له توفير اللون الآخر من الحياة أي السلام والطمأنينة والموادعة، وربما كان الجدير بنا أن نعرض هذا الكلام تحت عنوان الحقيقة المضيَّعة لا الضائعة.

فإن الحقيقة بكل بساطة التي ينعم الإنسان في ظلها ويحيا حياة مملوءة بمعنى الحياة إنما هي أمران: حاكم، ونظام حكم، هذه هي الحقيقة ولا شيء قبلها أو معها أو بعدها، فمتى ما استطاع مجتمع أن يجيب على هذين السؤالين أمكنه أن يأخذ بسبب الخلاص من محنه وإحنه ومتاعبه ومصائبه ومأساته وضنكه وفشله، ومتى لم يوفق إلى إجابة صحيحة وآلية صحيحة فسوف يدوم خبطه وفشله ومأساته وعذابه.

من هو الحاكم وما هو نظام الحكم؟ هذه هي القضية الجوهرية التي تدور الحياة مدارها وتكتسب الحياة عن طبيعة الإجابة عليها طابعها وصبغتها، لونها وميزتها.

حقيقة في موطنَي الفرد والجماعة

عندما نريد قراءة الاجتماع المدني -المتمثل بالكثرة التي لا تعدو أن تكون تكرارًا للفرد، بمعنى أنه لا فرق بين الفرد والمجموع لجهة القراءة المصوّبة، أو ما يمكن أن نسميه الحقيقة الكامنة وراء كل ظاهرة ومشهد في حياة الفرد أو الجماعة- نرى أن الآدمية المدنية "الفرد أو الجماعة" هي كناية عن أمرين اثنين يرسمان كامل المعنى لهذا الوجود على مستوى الطبيعة، وعلى مستوى آثار الطبيعة، هذان الأمران هما: الفكرة والإرادة، ولا شيء آخر وراء هذين الشيئين، فالهوية المعنوية للفرد هي فكره "مجموع أفكاره واعتقاداته وإيمانياته"، وهي إرادته المتلائمة مع أفكاره، وكذلك الجماعة هي "فكرة وإرادة لتلك الجماعة".

وعليه فإن الاتجاهات المجتمعية بمختلف ألوانها وأشكالها وطبائعها وآثارها ليست شيئًا غير فكرة وإرادة.

الصواب والخطأ

إن الفادحة المهلكة التي منيت بها المجتمعات تاريخيًا هي خطأ التصورات -الأفكار-، ومن أهم وأعظم أخطاء التصورات وأصل الانحراف -وبالتالي حصد المزيد من خيبات الأمل وتوالي العثرات والمتاعب والمرهقات- ما كان راجعًا إلى معيارية الوزن في الخفض والرفع، في التقديم والتأخير، في التكريم والتوهين.

فإذا كان لا بد للمجتمعات من الاحتكام إلى قانون الرتبية (مقدم ومؤخر، مولّى ومولّى عليه)، وقانون الرتبية هذا عاش مع الإنسان منذ أن كان ولم يخرج عنه البتة، فلا بد حينئذ من معيار ومن وحدة قياس على أساسه تُعطى الرتب وتمنح الصفات، وفي اعتقادي أن البشر يدركون هذه الحقيقة ويعيشونها كبديهة عريضة ومسلّمة لا تنالها يد الشكوك.

فالبشر على مستوى إدراكهم لا يرون صواب تقديم الجبان على الشجاع، أو البخيل على الكريم، أو الجاهل على العالم، أو المفتون على الزاهد، عينًا كما لا يرون تقديم الأعمى في الطريق على البصير، وكما لا يرون تقديم مكر الثعلب على وداعة الحمل، وكما لا يرون تقديم شوك القتاد على ريش النعام، وكما لا يرون تقديم الحنظل على مذاق العسل.

فالبشر على مستوى الإدراك لا خطأ عندهم ولا تشويش، فمثل هذه القضية مرتبطة بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، وفطرة الله لا تبديل لها ولا تغيير.

وهنا ينشأ السؤال: فإذا كان البشر يملكون المعيار ووحدة القياس، ولا يخطئون في التمييز بين الفاضل والمفضول وبين الراجح والمرجوح وبين العالي والداني وبين الواجد والفاقد، فأين إذن تكمن المشكلة، وما هو الخطأ الذي منيت به البشرية وحصدت بسببه كل مآسيها ومحنها وخبطها وورطاتها؟

والجواب على ذلك بالتقرير التالي: صحيح أن البشر يميّزون بين الواجد والفاقد وبين العالي والداني، ولكن لا تتمحض علة الاستقامة وإصابة منافع الصواب وتخليص الحياة عن شرك الضعف ومهاوي الهلكات بمجرد الإدراك والتمييز، بل لا بدّ من ضمّ عاملٍ آخر لتتم به علة الاستقامة وخلاص الحياة من أسباب الضعف والانحراف والشقاوة، هذا العامل بكل بساطة هو حسن الاختيار والملاءمة بين ما ندركه وبين ما نريده ونختاره، وعليه: فإذا اجتمع للناس الأمران معًا، وعملوا وفق مقتضيات كل من الأمرين، تتمّ لهم حينئذ علّة الحياة الهانئة والمستقرة والرغيدة.

السقطة والعثرة

لعله من غير المجازفة الدعوى بأن الناس يقعون في عثرة الاختيار، والوقوع في هذه العثرة هو من أعجب المفارقات ومن أغرب السقطات!! لأن الموجب لها لا ينبغي أن يكون موجبًا في الحقيقة، فبعد وضوح القضية على المستوى النظري لا يبقى ما يبرر للناس وقوعهم وعثرتهم، فما دام الأمر واضحًا على مستوى الرؤية فمن أين يأتي الجواز للعثرة وما الذي يبررها ويعذر عليها؟!

غير أن في البين ما يعطي لهذه القضية تفسيرها وفلسفتها، فإنا قد رأينا وقد علمنا وتيقنّا من شواهد الأمس ومن مشاهد اليوم أن للناس أهواءً ورغبات وميولاً ومشتهيات يعيشونها في داخلهم، بل يعيشون لها وحدها دون الحق الذي تهديهم إليه فطرتهم ورسلهم وعِبَرُ الزمان، ولشدة عواصف الهوى في داخلهم يتغلب هذا الهوى على رشدهم، فيقفون حينئذ في سقطة الاختيار.

وإلا فلماذا يترك الناس الأنبياء وأهل الكرامة والرفعة، وأهل الشرف والنيافة، وأهل التقوى والفضل، ويتمسكون بالأراذل السكارى، وبأهل الطيش الحيارى، وبالمفتون المغلوب على عقله؟ فليست القضية إلا محض المسانخة بين هوى المختار وهوى من يقع عليه الاختيار، هذه هي صفة الزمن وها هو طابعه، فإن الحياة قد قدّر لها المختارون صفتها بما يعبّر عن واقعهم النفسي وعن الحسّ الغالب في داخلهم.

فكلٌّ يأتمّ بإمامه الذي هو من سنخه وعلى شاكلته المعنوية الباطنية، ويرفعه ويكرّمه لأجل هذه السنخية وتلك المشاكلة، سواء وافقت آية التكريم أم خالفتها {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}([3]).

هذه هي السقطة والعثرة، وهذا هو مَهلَك العباد، إذن ليست القضية قضية التمييز فحسب، بقدر ما أن القضية هي أن يضاف إلى التمييز الاختيار الصائب!!

وفي الختام، ليتنا ندري أننا نحن صنّاع الحياة، وأن الحياة مصوغة إرادتنا واختياراتنا! وليتنا ندري أننا عندما نختار غير الإمامة الحقّة لنكرّمها نكون قد اخترنا الهلاك بملئ إرادتنا!. كما قال الباري سبحانه وتعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([4]).


 

([1]) الحجرات، من الآية 13.

([2]) النساء، من الآية 1.

([3]) الحجرات : 13.

([4]) الأعراف : 96.

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع عشر