السنة السابعة / العدد التاسع عشر/ حزيران 2011 - رجب : 1432هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

إنجيل برنابا في ميزان الاعتبار [*]

الشيخ حاتم إسماعيل

تمهيد

إن قضية الاعتبار وعدمه تختلف باختلاف المعيار الذي نعتمده في المسألة موضع البحث, والمعيار بدوره لا بد وأن يكون منسجمًَا مع الإطار العام الذي تنضوي المسألة تحته, فتارة يكون المعيار توثيقيًا وتاريخيًا, وأخرى يكون دينيًا, وثالثة يكون تجريبيًا, ورابعة عقليًا, وهكذا..

من هو برنابا

إلا أنه لا بد قبل الدخول في البحث عن هذه القضايا, من معرفة من هو برنابا, الذي ينسب إليه الإنجيل، بعد الفراغ عن كونه من نسل لاوي, عاش في قبرص فترة من حياته, وكان غنيًا شملته النعم الإلهية, وقد باع كل ما يملكه, وأنفقه في سبيل الدعوة ومساعدة الفقراء والمحتاجين من المؤمنين الجدد, فقد وقع الخلاف حول موقعه في هذا الدين, ففي حين نجده في الإنجيل الذي يحمل اسمه (وهو محل الكلام), يعرّف نفسه بأنه أحد الاثني عشر([1]), يذهب بعض الباحثين المسيحيين إلى أن برنابا كان واحدًا من السبعين, الذين أرسلهم المسيح للخدمة, ويؤكّد كليمندس الإسكندري هذا الرأي, وعلى هذا الأساس يكون قد عاش مع السيد المسيح أثناء دعوته, وكان واحدًا من الخمسمائة الذين أبصروا قيامته وصعوده([2]).

إلا أن الشائع بين المسيحيين أنه اعتنق المسيحية في زمان الرسل, وكان اسمه يوسف, فأطلق عليه الرسل اسم برنابا, الذي يعني ابن الوعظ([3]), وأنه تعرّف إلى المسيح في يوم الخمسين([4]).

فهل كان برنابا من تلاميذ السيد المسيح (عليه السلام), كما يفيده القولان الأولان, أم أنه لم يكن من تلاميذه, بل كان من تلاميذ التلاميذ كما يقول به المسيحيون؟

إن الذي نراه أقرب إلى الحقيقة والواقع هو أن برنابا كان من أصحاب المسيح وتلاميذه, الذين آمنوا على يديه.

والذي يدلنا على ذلك مجموعة أمور:

1- أن بولس قد اعتنق الدين الجديد سنة 35م. ولم يقبل التلاميذ إيمانه إلا بعدما تدخّل برنابا وأقنعهم بذلك, الأمر الذي أدّى إلى قبول إيمان بولس, الذي كان قد نكّل بهم, ولاحقهم تحت كل حجر ومدر, فلو كان برنابا قد تعرّف إلى المسيح عن طرق تلاميذه بعد ارتفاعه (عليه السلام) لم تكن هذه المدة القليلة نسبيًا كافية لينال الحظوة عندهم, والتأثير عليهم في قبول رجل خطير مثل بولس, وخصوصًا أنه لم يكن مقيمًا في أورشليم مع التلاميذ، كما يقولون، الأمر الذي يصعّب مسألة قبولهم له نفسه، فضلاً عن قبول شهادته ببولس، لو لم يكن له موقع خاص بينهم.

2- لقد فسّر جملة من اللاهوتيين المسيحيين اسم برنابا بأنه ابن التشجيع([5]), وعلل ذلك في التفسير التطبيقي بأنه كان قد شجّع الآخرين على الدين الجديد, حتى دعاه المسيحيون برنابا, وقد نال بذلك حظوة كبيرة لدى عامتهم, الأمر الذي يؤشّر إلى أنه كان من علَّية القوم أساسًا, وهو ما دفع بولس ليعوّل عليه كثيرًا في قبول توبته لدى التلاميذ.

ومما يدل على أهمية الرجل وعظمته، هو أن الناس الذين اعتقدوا بتجسد الإله، أطلقوا عليه اسم زفس، وكان رئيس الآلهة لدى الوثنيين، وأطلقوا على بولس اسم هرمس، أي الذي كان ناطقًا باسم هذا الإله([6]).

3- إنه ظل مدة ملتزمًا بدعوة اليهود لقبول الدعوة الجديدة, شأنه في ذلك شأن سائر التلاميذ, الذين لم يرتضوا دعوة الأمم تنفيذًا لدعوة المسيح (عليه السلام), حين أرسل تلاميذه وقال لهم [إلى طريق أمم لا تمضوا, إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا, بل اذهبوا بالحري إلى خراف بني إسرائيل الضالة]([7]), وهو ما اعتبره محررو التفسير التطبيقي من أخطائه وضعفاته, خصوصًا وأنه من اللاويين, أي أنه من النسل الأمين على أحكام وقوانين العهد القديم, الأمر الذي يفسّر حرصه على تطبيق أوامر المسيح, وعدم مخالفة هذه الأحكام بصرامة وجدية.

4- إنه خال يوحنا مرقس, وكان معينه ومرشده, يظهر ذلك من خلال رحلته التبشيرية الأولى مع برنابا وبولس, حيث فارقهما وعاد إلى أورشليم, بحسب ما صرّح به في سفر أعمال الرسل, دون أن يوضح سبب ذلك, وفي الرحلة التبشيرية الثانية أراد برنابا أن يرافقهما مرقس, فرفض بولس ذلك, وهو ما أدى إلى وقوع الخلاف بينهما وافتراقهما, فأخذ برنابا مرقس معه.

وقد ورد في إنجيل مرقس أنه حين اعتقل الكهنة يسوع [تركه الجميع وهربوا, وتبعه شاب لا يلبس غير إزار على عريه فأمسكوه, فترك الإزار وهرب منهم عريانا]([8]).

ويقول تقليد الكنيسة أن مرقس هو ذلك الشاب الذي تبع المعتقَل, وقد كانت له حظوة خاصة لدى السيد المسيح (عليه السلام) والتلاميذ, حيث إنه في بيته كان المسيح قد صنع الفصح للتلاميذ, وهو المكان الذي اعتاد التلاميذ أن يلتقوا فيه, ولهذا تساءل القس إلياس مقار: [هل تجدّد في أثناء خدمة المسيح, وهل كان للعشاء الرباني في بيته -وبينما كان التلاميذ هناك تم القبض على السيد, ثم ما أعقب ذلك من الصلب والقيامة- آثارهما في حياته, أم أنه جاء إلى المسيح يوم الخمسين؟]([9]).

وإن كان الظاهر أن هذا الاحتمال الثاني لا محل له بعدما تقدم من أن بيته كان مركز الدعوة الأولى في زمان المسيح نفسه, وقد عاين كل ما كان يحدث من بركاته وكراماته, خصوصًا وأن أمه كانت عضوًا فاعلاً فيها كما يبدو, وأن بطرس كان يعبّر عنه بأنه ابنه([10]).

نستنتج من ذلك أن برنابا لا بد وأن يكون من تلاميذ المسيح المباشرين, مع غضّ النظر عن أنه هل كان من الاثني عشر كما هو وارد في إنجيل برنابا, أو أنه من السبعين كما ذهب إليه آخرون, إذ من غير المنطقي أن يكون مرشد مرقس وهو من غير التلاميذ, في الوقت الذي كان مرقس نفسه منهم, ويرضى مرقس بذلك, أو أن يكون تابعًا لبولس, وكلاهما لا بد وأن يكونا من خصوم السيد المسيح ومخالفيه حين صدعه بدعوته, كما هو واضح.

5- أولاً: الإنجيل في المعيار التاريخي:

إن المشكلة الأساسية التي تواجه هذا الإنجيل, هي افتقاره للتوثيق من الناحية التاريخية, ذلك أنه لا توجد له أية مخطوطة, حتى الآن, ترجع إلى ما قبل القرن السادس عشر الميلادي, الأمر الذي وضع الباحثين في حيرة شديدة أمامه, فهل هو مفتعَل ومكتوب في هذه الفترة بالذات, ونسب إلى برنابا الرسول افتراءً، ربما أراد الكاتب نصرة الإسلام بفعله هذا؟! أم أن له أصلاً سابقًا على ذلك, وأن النسخة الموجودة ليست إلا ترجمة لذلك الأصل, ربما أضاف الناسخ، أو المترجم إليها شيئًا من عندياته, بغية توضيح بعض الفقرات, أو حذف منها ما رآه غير مناسب أو غير مفهوم؟ ومثل هذا كان شائعًا بين النسّاخ والمترجمين!

أما الاحتمال الأول: فقد يُصار إليه, وقد يبدو مقبولاً للوهلة الأولى, لو فرض عجز الإسلام, وخصوصًا من خلال القرآن الكريم, عن الصمود والمجادلة مع المسيحيين في تلك الفترة, وهو أمر يجانب الحقيقة بشكل تام, فإنا نجد أن مجادلي المسيحية من المسلمين, في الفترة التي سبقت ظهور هذا الإنجيل, وكذلك الفترة التي تلتها, قد أثروا هذا الجانب الفكري واللاهوتي, بما لا مزيد عليه, من خلال الأناجيل القانونية, بلا حاجة إلى هذا الإنجيل, فوجوده بالنسبة إليهم كعدمه, وهو ما تكشفه المجادلات التي وصلت إلينا, حيث لم نجد عالمًا مسلمًا استند إليه في مناظراته, أو وجد قصورًا في الأناجيل القانونية, ربما دفعه إلى البحث عن غيرها بغية الانتصار به.

ومما يضعف هذا الاحتمال أيضًا، ويزيده وهنا، ويتركه غير ذي موضوع أصلاً بالنسبة للمسلمين، أنّا لم نجد أحدًا منهم قد استفاد منه، أو استند إليه في مجادلاتهم مع المسيحيين قبل صدور الترجمة العربية محل الكلام.

وأما الاحتمال الثاني: فرغم صعوبة قبوله, لقلة الأدلة المؤيدة له, إلا أنها ليست منعدمة الوجود, كما يبدو للناظر فيه, فقد ذكرت فيه هوامش وحواش باللغة العربية, دفعت بعض الباحثين إلى الاستنتاج أن كاتبه عربي أو مسلم.

ولكن من المعلوم أن هذه الهوامش ليست لكاتب واحد, لأن بعضها مكتوب بعربية سليمة, وبعضها الآخر سقيم إلى حد أنه لا يحتمل معرفة كاتبها بهذه اللغة, كما شهد به مترجم الكتاب, مما يكشف عن أن أكثر من شخص قد تناوله, وعلّق عليه في تلك الفترة, وما سبقها وما تلاها.

ولكن القرن السادس عشر الميلادي, وهو عصر ظهور النسخة, لم يكن البداية لهذا الإنجيل, فقد ورد في مقدمة المترجم (صفحة: هـ) أن مكتشف النسخة, وهو راهب لاتيني يُسمّى فرامرينو, قد عثر على رسائل لإريناوس يندّد في إحداها بالقديس بولس, وأنه أسند تنديده به إلى إنجيل القديس برنابا.

ورغم أن الشك يمكن أن يتطرق إلى هذه الرواية, من جهة أن ناقلها هو نفس مكتشف الإنجيل, الذي يتهم من قبل الكثيرين بأنه واضعه فعلاً, إلا أن الاعتبار يساعدها ويؤيدها, حيث إن بولس وبرنابا كانا صديقين في الأساس, ثم اختلفا وافترقا بسبب أمور لاهوتية, حسبما ورد في سفر أعمال الرسل القانوني, على الرغم من أن برنابا هو الذي تشفّع لبولس لدى التلاميذ ليقبلوه, عندما أعلن توبته وإيمانه بالمسيح (عليه السلام)، وإن كانت هذه التوبة على شك وريبة عندنا، كما كانت عند التلاميذ.

يضاف إلى ذلك ما يذكره التاريخ من أن البابا جيلاسيوس الأول, الذي تربّع على عرش البابوية سنة 492م, قد أصدر أمرًا يمنع فيه مطالعة بعض الكتب, ومن جملتها إنجيل برنابا (المقدمة صفحة: ل) وهو تاريخ سابق على الإسلام كما هو معلوم.

لكن المشكلة التي تواجه الباحث هنا, هي عدم وجود أية وثيقة تثبت أن المذكور في أمر البابا جيلاسيوس هو نفس الإنجيل الموجود بين أيدينا, خصوصًا وأن النسخة الموجودة مكتوبة بلغة إيطالية متينة, ما يجعل الأمر أقرب إلى المصادفة منه إلى الحقيقة والواقع.

ويمكن أن يجاب على ذلك بأن قرار البابا بمنع قراءته والعمل به, لم يكن إلا لمخالفته لتعاليم الكنيسة, بحيث يشكل خطرًا عليها بنحو أو بآخر, وإلا لم يكن من داع لصدور مثل هذا المنع من أعلى سلطة كنسية, وهو ما يتوافق مع مضمون الكتاب محل الإشكال.

هذا بالإضافة إلى أن فقدان الوثيقة التاريخية -الناشئ من إلقاء الحرم الكنسي على الكتاب ومحاربتها له دون هوادة- لا يستلزم ذهاب القيمة العلمية والتاريخية للكتاب, وإلا للزم بطلان قيمة الأناجيل القانونية نفسها, ذلك أن أقدم مخطوطة تاريخية معروفة له -وهي المخطوطة السينائية- لا ترجع إلى ما قبل أواسط القرن الخامس الميلادي, والتي تختلف اختلافًا جذريًا عن النسخ المتداولة بين أيدي الناس في كثير من المسائل، والتي يؤدي بعضها إلى اختلال العقائد المسيحية من الأساس، ولم يؤثر ذلك على وثائقيته لهذه الأناجيل, رغم أن المفروض أن تاريخها أقدم من ذلك بكثير.

بين برنابا وبولس

يبدو أن برنابا وبولس كانا صديقين منذ الطفولة, وأنه كانت تربطهما علاقة مودّة خاصة, يدل على ذلك ما ورد في سفر أعمال الرسل, حيث إنه بعد ادعاء بولس الهداية, وهو في طريقه إلى دمشق لينكّل بأتباع السيد المسيح (عليه السلام), رجع إلى أورشليم, محاولاً الاتصال بالتلاميذ, يقول: [ولما جاء شاول (أي بولس) إلى أورشليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ, فأخذه برنابا وأحضره إلى الرسل وحدّثهم كيف أبصر الرب في الطريق إلخ...]([11]).

وهكذا استطاع برنابا أن يقنع التلاميذ بقبول توبته.

وقد صرّح بولس نفسه بأنه لم يمكث في أورشليم إلا خمسة عشر يومًا لم يتعرّف فيها إلى أحد من التلاميذ سوى بطرس ويعقوب أخي الرب([12]).

ومن الواضح أن هذه المدة ليست كافية ليتعرف إليه للمرة الأولى وينال ثقته, ثم يعمل على إقناع التلاميذ على قبوله, لو لم يكن على معرفة سابقة به كما لا يخفى.

وما يهمنا في المقام هو نشوب الخلاف بين الرسولين, الذي أدى إلى افتراقهما بعدها, وقد ذكرنا قبل قليل أنه خلاف حول مسائل لاهوتية وعقائدية.

إلا أنه ربما يقال في المقام أن الخلاف بينهما ليس لاهوتيًا, بل هو بسبب رفض بولس لمرافقة مرقس لهما في الرحلة التبشيرية الثانية, كما صرّح به في سفر أعمال الرسل([13]).

والسؤال الذي يطرح نفسه في المقام, هو عن سبب رفض بولس لمرافقة مرقس لهما, فقد ذكر في أعمال الرسل أنه كان معهما في رحلتهما التبشيرية الأولى, ثم فارقهما وذهب إلى أورشليم([14]), من دون أن يبيّن سبب مفارقته لهما, فكان ذلك سببًا لرفض بولس أن يرافقهما([15])، هو الرجل النشيط الذي لم يكل ولم يتعب، في الدعوة إلى ما كان يدعو إليه، وكان لا يألو جهدًا في جذب الناس إليه وتجميعهم حوله، فمجرد ترك مرقس لهما في الرحلة الأولى لا بد وأن يكون على قدر كبير من الخطورة بحيث خرج بولس عن طريقته في التعامل مع الناس.

والمهم في هذه القضية هو معرفة السبب الذي دفع مرقس لتركهما في هذه الرحلة, حتى رفض بولس مرافقته ثانية, ولو أدّى ذلك إلى وقوع الخصومة وانقطاع العلاقة بينه وبين برنابا, صديقه وولي نعمته, كما تقدّم، رغم إصلاح العلاقة بينه وبين مرقس فيما بعد, ومرافقته له إلى رومية([16]).

وفي مقام الإجابة على هذا السؤال يقترح اللاهوتيون عدة آراء حول ذلك, بعد التسليم بأنه لا يوجد سبب وجيه وراء تركه لهما ورجوعه إلى أورشليم, وهي:

الأول: أنه عاوده الحنين إلى بيته.

الثاني: أنه استاء من انتقال القيادة من برنابا (خاله) إلى بولس.

الثالث: أنه قد ألمّ به مرض دفعه إلى تركهما.

الرابع: أنه لم يكن قادرًا على تحمل مخاطر وقسوة الرحلة التبشيرية.

الخامس: أنه خطّط ألا يذهب إلى أبعد من ذلك, لكنه لم يخبر برنابا وبولس بذلك الأمر([17]).

ومن الواضح أن أيًا من هذه الاقتراحات لا يثبت أمام النقد العلمي, لما فيها من توهين غير مبرر لهؤلاء الرسل, ولا يمكن أن تشكّل سببًا لتعنّت بولس في رفض مصاحبته لهما, كما لإصرار برنابا على الصحبة, حتى أدّى ذلك إلى الخصومة غير المتوقّعة بينهما, وإن كان الاقتراح الثاني أقرب الوجوه للوهلة الأولى, وإن كان لا يرقى إلى مستوى القبول, بعد افتراض قبول برنابا نفسه بقيادة بولس بحسب الدعوى، خصوصًا وأن تلاميذ المسيح (عليه السلام) كانوا أبعد ما يكونون عن البحث عن المقامات، تأسيًا بسيدهم، الذي غسل أرجلهم ذات مرة، وكسر الخبز وأطعمهم في الفصح، وهي نقطة مركزية في إبراز التواضع أمام ضعاف الناس وفقرائهم.

وعلى هذا الأساس لا بد من ترجيح أن سبب تركه لهما في تلك الرحلة أعمق من ذلك بكثير, ولا يكون ذلك إلا لأسباب لاهوتية, تمس أساس العقيدة, حيث رأى مخالفات بولس لتعاليم السيد المسيح (عليه السلام), والتي كان مرقس على معرفة بها بالتأكيد أكثر من بولس, الذي لم يرَ المسيح ولم يؤمن به في حياته بينهم.

وأما سبب سكوت برنابا وتحمّله لتصرفات بولس, فقد يكون مردها إلى اعتقاده بإمكان التأثير على بولس من خلال مراقبته له, حرصًا على بقاء المودّة بينهما, حتى إذا يئس من ذلك أعلن الخصومة إلى غير رجعة. خصوصًا وأن اللاهوتيين قد أجمعوا على شدة صبر برنابا وتحمّله, وسعة صدره, وسخاء يده وكرم نفسه، وتضحيته بكل ما يملك في سبيل الدعوة.

ويشير إلى ذلك، بل يدل عليه, عدة أمور:

الأول: إن من غير المحتمل أن يكون أمر عادي وغير وجيه سببًا في انقطاع العلاقة بين الرسولين, اللذين يفترض أنهما داعيان إلى الحق بكل وسيلة وسبيل, وهما اللذان يمثلان القدوة والمثل الأعلى بعد السيد المسيح (عليه السلام)، وعلى الأخص بولس والذي تشكّل تعاليمه القسم الأكبر من العهد الجديد، بل تنسب المسيحية إليه أولاً وبالذات، لو لم يكن الأمر على قدر كبير من الأهمية والخطورة, وليس ذلك إلا أن يكون مرتبطًا بحركة الدعوة نفسها.

الثاني: الاختلاف الكبير في المضمون بين الرسالة إلى العبرانيين, والتي ينسبها كثير من اللاهوتيين إلى برنابا, وبين رسائل بولس, حيث أن الأولى تؤكّد على احترام العهد القديم, والالتزام بكل ما فيه, وتنسجم انسجامًا تامًا مع مضامين كلمات المسيح الواردة في الأناجيل, بخلاف الثانية, التي كانت تدعو إلى التفلّت من العهد القديم, واحتقار مضامينه, وتخالف تعاليم المسيح, بحملها على تأويلات, وتفسيرات رمزية للأحداث, الأمر الذي يشير إلى عمق الهوّة بين الرجلين.

وفي هذه النقطة تتوافق رسالة العبرانيين مع انجيل برنابا، على الإجمال، حيث أنها تؤكّد في مختلف فصولها على أن السيد المسيح (عليه السلام) لم يكن أكثر من كاهن، أي واعظ ومبشر في بني إسرائيل.

وبذلك يصح التنديد الوارد في بداية انجيل برنابا ببولس، حيث يقول: [الذين ضلّ في عدادهم أيضًا بولس، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى]([18]).

الثالث: أن بولس نفسه كان ينكر فكرة ألوهية الإنسان والتجسد, عندما كان برفقة برنابا, وقبل أن يجد نفسه قادرًا على التأثير, ويستقل بالدعوة الخاصة به بين الناس, يدل على ذلك ما ورد في قضية شفاء الرجل المقعد من بطن أمه([19]), حيث شفاه بولس وصار يمشي, [فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا أصواتهم بلغة ليكأونية قائلين إن الآلهة تشبّهوا بالناس ونزلوا إلينا ( ... ) فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزقا ثيابهما واندفعا إلى الجمع صارخين, وقائلين أيها الرجال لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضًا بشر تحت آلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها]([20]).

حيث من الواضح أن هذا القانون، كما ينطبق عليهما، كذلك ينطبق على السيد المسيح (عليه السلام) نفسه، وإلا لكان عليهما بيان ذلك، ولم يتعرضا إليه، دلّ ذلك على أن أصل التجسد وألوهية المسيح (عليه السلام) لم تكن مقبولة منهما حينها.

6- ثانيًا: الإنجيل في المعيار الديني:

وهنا لا بد من الالتفات إلى أن المعيار الديني يختلف باختلاف الدين الذي ننطلق على أساسه في دراسة النص أو الوثيقة محل الكلام. ولما كان إنجيل برنابا يرتبط بالدين الإسلامي والدين المسيحي, كان لا بد من دراسته على أساسهما, فنقول:

ألف: في المعيار الديني المسيحي:

ذكر مترجم الإنجيل أنه يباين الأناجيل الأربعة القانونية في أربعة مسائل جوهرية, وهي:

1- أن يسوع أنكر أن يكون ابن الله.

2-أن ذبيح إبراهيم (عليه السلام) هو إسماعيل لا إسحاق , وانه هو ابن الموعِد أيضًا.

3-أن المسيح الموعِد ليس هو السيد المسيح , بل هو محمد (صلى الله عليه وآله) الذي ذكر باللفظ الصريح عدة مرات.

4-إن يسوع لم يصلب وإنما شبّه لهم, والذي صلب مكانه تلميذه الخائن يهوذا.

وهذه المسائل تخالف الأساس الذي ينبني عليه اللاهوت المسيحي كما هو معلوم, ولذلك لا يمكن قبوله والاعتماد عليه.

ولكننا نرى أن هذا الاستنتاج مجانب للحقيقة ومجاف لها, ذلك أن الأناجيل الأربعة تتوافق مع إنجيل برنابا في هذه المسائل كلها, وقد أثبتنا ذلك في مختلف كتبنا, خصوصًا كتاب صلب المسيح في الإنجيل, وكتاب المسيح في الإنجيل-بحث في لاهوته وناسوته، وكتاب وعد التوراة لمن.

نعم هو يختلف معها في بعض التفاصيل والجزئيات, وهو تفاوت غير ضار في ما نرى, لوجود التفاوت بين الأناجيل الأربعة نفسها, دون أن يؤثر ذلك في مقبوليتها واعتبارها لدى الكنيسة, خصوصًا وأنها لم تذكر كل شيء عن حياة السيد المسيح ومعجزاته, كما شهد به صراحة كاتب إنجيل يوحنا حيث يقول: [وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله]([21]).

باء: في المعيار الديني الإسلامي:

لا بد من النظر في هذا المعيار من زاويتين أساسيتين:

إحداهما: من الناحية البنيوية، والأخرى من ناحية المضمون.

أولاً: من الناحية البنيوية:

تختلف الرؤية الإسلامية عن الرؤية المسيحية اختلافًا جذريًا من هذه الناحية, ذلك أن القرآن الكريم ينطلق من مُسلّمة أساسية, وهي أن الإنجيل كتاب سماوي أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح (عليه السلام), شأنه في ذلك شأن التوراة والقرآن الكريم. ويشتمل على المواعظ والحكم والأمثال والعقائد وغيرها, قال تعالى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}([22]), وقال تعالى: {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور}([23]), وقال تعالى: {وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس}([24]).

وبناء عليه, فإن إنجيل برنابا -شأنه شأن سائر الأناجيل القانونية وغيرها- لا يلتقي مع القرآن من الناحية البنيوية, لأنه منسوب إلى شخص معين, سواء صحّت نسبته إليه أم لم تصح.

ثانيًا: من ناحية المضمون:

يشتمل هذا الإنجيل على قضايا وأحكام تخالف أوليات الأحكام الإسلامية وتناقضها, بحيث لا يتصور أن تصدر عن مطّلع على قوانين الإسلام, عارف بأولياته, فضلاً عن عالم مسلم.

وسأكتفي بذكر نموذج واحد يدل على هذه الحقيقة, وهو مسألة تحويله الماء إلى خمر, التي وردت في الفصل الخامس عشر منه, حيث إن من أوليات الإسلام حرمة الخمر وقبحها, ينزه المؤمن العادي نفسه عنها, فضلاً عن الأنبياء والمرسلين, بل يحرم الإسلام الجلوس على مائدة تشتمل عليها, وقد ثبت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الخمر ما حلّت في دين قط، وقد عالجنا هذه المسألة في كتاب [قانا الجليل-المعجزة الخطيئة].

ولقد كان بإمكان المؤلف أن لا يتعرض لهذه القصة, خصوصًا وأنها لم ترد إلا في إنجيل يوحنا من الأناجيل القانونية, دون أن يخلّ عدم ذكرها بما أراد المؤلف سوقه وإثباته, لو كان من المسلمين فعلاً, وكثيرة هي القضايا التي وردت في بعض الأناجيل دون بعض.

وقد يقال أن هذه القضية قد زيدت من قبل الناسخ، كما هو الحال في كثير من الزيادات، والتغييرات الطارئة على الكتاب المقدس برمته.

والجواب: إن هذه الزيادة على فرضها، تستلزم التلاعب بالكتاب، الأمر الذي يؤدّي إلى عدم الوثوق به أصلاً، إلا إذا أمكن الوصول إلى النسخة الأصلية، وهو أمر متعذر حتى الآن.

على أن ذلك يستبطن وجود أصل سابق على النسخة الإيطالية، وهو ما لا يقبله المسيحيون بأي حال.

وفي المحصلة النهائية يبقى انجيل برنابا غير قادر على النهوض والقبول في المعيار الإسلامي، ولا يمكن الاستناد إليه، لاشتماله على الصحيح والفاسد، دون أن يبرز ميزانًا يمكن من خلاله التمييز بينهما، شأنه في ذلك شأن الأناجيل القانونية الأربعة، بل الكتاب المقدس على العموم.

يضاف إلى ذلك استغناء المسلمين عن إثبات دينهم وصحة عقائدهم استنادًا إليه، وبمعزل عما عداه من الأناجيل، بمختلف المقاييس العلمية والدينية.

وأما في المعيار الديني المسيحي فهو لا يختلف عن الأناجيل القانونية، من جهة ثبوت مضامينه وعدمها، وقدرته على إثبات نسبته إلى من يحمل اسمه وعدمها كذلك، وتوافقه مع تلك الأناجيل في المسائل الأساسية المشار إليها تمام الموافقة، فحري بالمسيحيين أن يقبلوه ويرجعوا إليه، كما هو الحال في ما عداه من النصوص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([*]) هذا البحث كان في الأساس موضوع ندوة مشتركة ألقيت في كلية اللاهوت للشرق الأدنى, في بيروت, بتاريخ 24 شباط 2011م.

([1]) إنجيل برنابا: 13/14 .

([2]) رجال الكتاب المقدس ج4 ص105-106 .

([3]) قاموس الكتب المقدس ص172 .

([4]) رجال الكتاب المقدس ج4 ص106 .

([5]) التفسير التطبيقي للعهد الجديد, ص457, وقاموس الكتاب المقدس .

([6]) أعمال الرسل: 14/12 .

([7]) إنجيل متى: 10/5-6 .

([8]) إصحاح: 14, عدد: 51-52 .

([9]) رجال الكتاب المقدس ج4 ص171 .

([10]) رسالة بطرس الأولى 5: /13 .

([11]) أعمال الرسل: 9/26-27 .

([12]) الرسالة إلى غلاطية: 1/18-19 .

([13]) إصحاح: 15, عدد: 36-41 .

([14]) أعمال الرسل: 13/13 .

([15]) أعمال الرسل: 15/36 .

([16]) الرسالة إلى كولوسي: 4/10 .

([17]) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس, ص 2314 .

([18]) إنجيل برنابا ص3 .

([19]) أي منذ ولادته.

([20]) أعمال الرسل: 14/8-15 .

([21]) إنجيل يوحنا: 20/30-31 .

([22]) سورة آل عمران, آية: 48 .

([23]) سورة المائدة, آية:46 .

([24]) سورة آل عمران, آية: 3 .

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع عشر