العدد الثاني / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

التوازن الفردي والاجتماعي

الشيخ أكرم جزيني*

قال إمامنا زين العابدين (عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق:

اللهم صلِّ على محمد وآله... وأعزّني ولا تبتلني بالكبر، وعبِّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجرِ للناس على يديَّ الخير ولا تمحقه بالمنّ، وهبْ لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر.

اللهم صلِّ على محمد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدِث لي عزًا ظاهرًا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها([1])...

التوازن بين الظاهر والباطن:

هذه الفقرات من الدعاء تسلِّط الضوء على مسألة هامة جدًا تتعلَّق بمسيرة الإنسان في هذه الحياة، وهي مسألة التوازن بين الصفات الباطنية والسلوكيات الظاهرية، حيث إن التوازن يضمن للإنسان السير بشكل مستقيم، ويؤمِّن له الوصول إلى الغايات النبيلة التي ينشدها، في حين أن فقدان التوازن يؤدي إلى الاختلال والضياع والانحراف عن السبيل والسقوط في المتاهات!!

والمستفاد من كلمات الإمام (عليه السلام) أن العزَّة في الباطن يفسدها الكبر في الظاهر، والعبادة في الباطن يفسدها العجب في الظاهر، والعطاء في الباطن يفسده المنُّ في الظاهر، ومثلها سائر أعمال الخير والبِر التي تحتاج إلى التوازن كي تؤثِّر أثرها في كمالات النفس والروح، فعندما يزداد حجم العزة -مثلاً- في كفة ميزان النفس يُثقل تلك الكفة، فترتفع بالمقابل الكفة الأخرى وهي تحمل قدرًا من الكبر..

ومن هنا نجد الإمام (عليه السلام) يطلب من الله تعالى أن يحُول دون ارتفاع الكفة الثانية بالكبر أو العجب أو المنِّ ونحوها، فيقول (عليه السلام): (ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدِث لي عزًا ظاهرًا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها)، حتى لا تتحول الرفعة والعزة التي يمنحها الله تعالى لعبده كبرياء وعجبًا ونحو ذلك..

التوازن حقيقة كونية:

ثم إن مسألة التوازن واقعًا ليست محصورة بين النفس والسلوك بل هي حقيقة تلفُّ الكون بأسره، بدءًا من الذرة وانتهاءً بالمجرة..

فحركة الكون قائمة على التوازن، ولولا التوازن لتداعى الكون..

وتركيبة الكائنات كما حركتها قائمة على التوازن، ولولا التوازن لاختلَّت وسقطت..

بل حتى الأبنية التي يبنيها الإنسان لا يمكن أن تثبت في مواضعها إلا بتوازن في هندستها، وإلا لانهارت وسقطت..

وكذا المركَبَات التي يصنعها الإنسان لا يمكن أن تسير أو تطير إلا إذا كانت تركيبتها متوازنة، وإلا لانحرفت أو سقطت وارتطمت..

وعلى مثل هذا فقِس..

فلولا التوازن لتداعى الكون، وعمَّت الفوضى، وانعدمت الحياة..

التوازن غاية التشريع

ولو توجَّهنا إلى الشرائع برُمَّتها لوجدنا أنها إنما شُرِّعت لتنظيم سلوك البشر وزرع التوازن فيه كي يأتي متناسقًا مع التوازن الذي يحكم الكون.

ونلاحظ ذلك جليًا من خلال النصوص التي تحدَّثت عن علل الشرائع، كتلك التي جاءت في خطبة الزهراء (عليها السلام) حيث تقول: (افترض عليكم... الصلاة تنزيها لكم عن الكبر... والعدل تنسيقًا للقلوب... وطاعتنا نظامًا للملة... وإمامتنا أمانًا للفرقة... والقصاص حقنًا للدماء) وغيرها من سائر الفقرات، فإنها عند التدبُّر نجدها تصبُّ في خانة التوازن الفردي أو الاجتماعي.

التوازن الاجتماعي

وبالتوجُّه إلى المجتمع - أيًا كان - نجده عبارة عن تركيبة بشرية تشكِّل كيانًا موحدًا يضم أفرادًا متفاوتة في المزايا والإمكانات، ففيه الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والعالم والجاهل، والعامل والعاطل، والذكي والغبي، والفقير والثري، والمنتج والمستهلك.. إلى غير ذلك من التصنيفات..

والمجتمع الحيوي الناجح هو الذي يملك الوعي والإرادة، ويستطيع توزيع تلك الأصناف بشكل متوازن، فيضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ويفسح الفرص لإبراز الطاقات والكفاءات الكامنة في مواهب أبنائه، ويخطط للاستفادة من تلك الطاقات والكفاءات، ويُمنهِج عمليتي الإنتاج والتصريف، ويُعالج مواقع الضعف والخلل عبر البرامج التكافلية، وتفعيل دور الرقابة، ويسدُّ الثغرات التي يتسلّل من خلالها أعداؤه.. وغيرها من الأمور التي تصبُّ في خانة التنسيق والتنظيم الذي نادت به الشرائع والقوانين والذي ينسجم مع الطبيعة الاجتماعية لهذا الإنسان وما يحمل من طاقات وقابليات ومواهب تميّزه عن سائر خلق الله تعالى..

وللإضاءة بشكل أكثرَ تفصيلاً نستعرض جملة من الجوانب التي يضمن التوازن فيها استقرار المجتمع أيًا كان..

1- التوازن بين الكفاءات والمناصب

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (رحم الله امرءًا عرف حدَّه فوقف عنده)، وفي المثل الشعبي (أعطِ خبزك للخباز ولو أكل نصفه)، وهذا في الحقيقة يختصر أبرز عنصر من عناصر نجاح المجتمع، إذ عندما يختار المجتمع من بين أبنائه أصحاب الخبرة في الميادين، ثم يضع الشخص المناسب في المكان المناسب، يكون قد وضع أول عجلاته على سكة النجاح..

قصة وعبرة: يُنقل أن مجموعة من الضباط العسكريين في بلد إسلامي كانوا قد خضعوا لدورة تدريبية في إحدى دول الاتحاد السوفياتي سابقًا، ولما آن أوان تخرجهم دعاهم رئيس تلك الدولة ليكرمهم، فطلبوا منه أن يكون تكريمهم تكريمًا معنويًا لا ماديًا، ولما سألهم عن قصدهم من التكريم المعنوي طلبوا منه أن ينقل لهم أهم حادثة حصلت معه في مجال حياته السياسية!!

فاستمهلهم قليلاً ثم عرض لهم ما يعتقده أهم حادثة، وهي أنه لما ابتليت بلاده بعد الحرب العالمية الثانية بفساد اقتصادي فاحش أدّى إلى تذمر المجتمع بشكل واضح رفع شكوى إلى مسؤولي الاتحاد السوفياتي في روسيا، فجاءه الرد بأن هناك خيانة في الوزارة!!

فسعى للكشف عن تلك الخيانة، ولكنه لم يصل إلى نتيجة.

وبعد عدة مراسلات مع المسؤولين الروس كشفوا له عن حقيقة الأمر وأن الخائن هو رئيس الوزراء!

فأنكر هذا الأمر متذرعًا بأن رئيس الوزراء كان زميله المقرَّب على مقاعد الدراسة وأكثرهم إخلاصًا له، ومن المستحيل أن يُقدم على الخيانة، ومع ذلك استدعاه واستجوبه وأوهمه بأنه مطَّلع على تفاصيل خيانته، وعرض عليه تقديم الاستقالة بكل هدوء، مع تعهّده (أي رئيس البلد) بعدم كشف تلك الخيانة لأحد شرط أن يُخبره بمجال الخيانة بالتفصيل.

فأقرَّ رئيس الوزراء بالخيانة، وأنه إنما عمد إليها لكونه يقتنع بأن النظام الرأسمالي القائم في الغرب أكثر حرية وانفتاحًا من النظام الشيوعي القائم في البلاد، وهذا ما دفعه للقيام بتلك الخطوة من الخيانة.

ولما سأله الرئيس عن العمل الذي طُلب منه تنفيذه، أجاب بأن الخيانة لم تكن تسريب معلومات ونحوها، بل كانت مجرد تبديل في مناصب الوزراء، فالذي يملك كفاءة في الزراعة -مثلاً- يجعله وزيرًا للدفاع، والذي يملك كفاءة في الاقتصاد يجعله وزيرًا للتربية.. وهكذا الحال في بقية مناصب الوزراء يوزِّعها بعيدًا عن موازين الكفاءات!!.

هذه هي الخيانة التي أسقطت البلد..!! ومن حقها أن تسقط رئيس الوزراء أيضًا..!!

نعم.. إن التوزيع السيئ للمناصب لا ينتج عنه إلا السقوط المحتَّم.. فعند فقدان التوازن بين الكفاءات والمناصب، يسري الفساد، وتتضعضع أمور البلاد، وتسوء أحوال العباد..

وإنه لمن المؤسف في وقتنا الحاضر أننا نجد أن معظم أنظمة عالمنا العربي والإسلامي قائمة على توزيع المناصب مصلحيًا، لا بحسب الوعي والكفاءة التي تضع الشخص المناسب في المكان المناسب!!..

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــ

*  مبلّغ ديني ومدرّس في الحوزة العلمية .

([1]) الصحيفة السجادية/دعاء مكارم الأخلاق.

([2]) الملاحم والفتن لابن طاووس ص 157.

([3]) تحف العقول ص 70.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني    أرشيف المجلة     الرئيسية