العدد الثاني / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

بشارة الملكوت في دعوة المسيح (عليه السلام)

الشيخ حاتم إسماعيل*

 لقد تحدّثت الأناجيل عن أن السيد المسيح (عليه السلام)، وطيلة ثلاث سنوات هي سِني دعوته الشريفة، كان يطوف في مجامع اليهود العبادية واعظًا ومبشرًا، إضافة إلى المعجزات التي كان يأتي بها من شفاء أمراض مستعصية، وإحياء موتى، وغير ذلك مما لم يكن مألوفًا ولا ممكنًا في عالم الطب، رغم انتشاره وتطوره الشديد، شكّلت دلائل آيات لإثبات صحة ما يدعو إليه، وأنه بإذن الله تعالى، ولم يكن شفاء المرضى وإحياء الموتى غاية في نفسه.

وهذا هو ما دلّت عليه الآية القرآنية المباركة، في معرض الحديث عنه (عليه السلام): {وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}([1]).

أما حقيقة دعوته (عليه السلام) وجوهرها فهي عبارة عن البشارة بـ"اقتراب ملكوت السماوات"، كما هو مسطور في مختلف فصول الأناجيل.

فما هو الملكوت الذي دعا إليه السيد المسيح؟

وما هي حقيقته؟

وهل هو ملكوت مادي أرضي، أم ملكوت معنوي روحي، لا يتجاوز آفاق النفس الإنسانية؟

معنى الملكوت:

الملكوت في اللغة على وزن فعلوت من الملك، وهو عبارة عن السلطنة العظيمة، والملك الثابت العزيز، ويمكن إرادة ملكوت الله تعالى، باعتبار أنه المالك الحقيقي لكل المخلوقات كما في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}([2])، ويمكن استعمالها وإرادة الملك الأرضي، إذا كان واسعًا وشاملاً وعزيزًا، وقد ورد في العهد القديم بكلا المعنيين:

 فمن إرادة المعنى الأول: قوله حكاية عن نبوخذ نصر: "آياته ما أعظمها وعجائبه ما أقواها، ملكوته ملكوت أبدي وسلطانه إلى دور فدور"([3])، ويقول معترفًا: "وعند انتهاء الأيام أنا نبوخذ نصر رفعت عيني إلى السماء، فرجع إليّ عقلي وباركت العليّ وسبّحت وحمدت الحي إلى الأبد الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور"([4]).

وأما إرادة المعنى الثاني: فقول دانيال النبي لبيلشاصر الملك: "أنت أيها الملك فالله العلي أعطى أباك نبوخذ نصر ملكوتًا وعظمة وجلالاً وبهاء، وللعظمة التي أعطاه إياها كانت ترتعد وتفزع قدامه جميع الشعوب والأمم والألسنة"([5]).

فلا بد إذن من ملاحظة سياق الكلام الوارد فيه هذا التعبير، وإبراز القرائن الدالة على إرادة أي من المعنيين فيه، خصوصًا في عبارات السيد المسيح (عليه السلام) الواردة في الأناجيل، بعد افتراض أن جوهر دعوته هو البشارة باقتراب ملكوت السماوات.

المسيح والتوراة:

على الرغم من خيانة اليهود، وتمرّدهم على أوامر الله تعالى، وإبطالهم أحكام التوراة من الناحية العملية، وتلاعب أحبارهم بمضامينها ونصوصها، إلا أنها ظلّت محافظة على قداستها في نفوس الشعب من الناحية النظرية على الأقل.

وقد افتتح السيد المسيح (عليه السلام) دعوته بإبراز أهمية التوراة، وأنه مستند في دعوته إلى تعاليمها، يقول كاتب إنجيل لوقا: "وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربّى، ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر أشعياء النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه، روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة، ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم"([6]).

وفي عظته على الجبل قال لهم: "لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس (المراد بالناموس أسفار موسى (عليه السلام) الخمسة أي التوراة، وهي أسفار: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، والتثنية) أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل"([7]).

وفي مقام الإثبات العملي لهذا القول، نراه قد شفى أبرصًا، وقال له: "انظر أن لا تقول لأحد، بل اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدّم القربان الذي أمر به موسى"([8])، مما يعني أنه لم يرد الإخلال بأي قانون من قوانين التوراة ولو على مستوى تقديم القربان.

وجاءه رجل ذات مرة، "وقال له: أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله، ولكن إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا، قال له: أية الوصايا؟ فقال يسوع: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق ..الخ"([9]).

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى التزامه بالتوراة، وعدم خروجه عن تعاليمها.

الملكوت في العهد القديم:

إن أول ذكر للملكوت الأرضي في العهد القديم قد ورد في سفر دانيال، فإضافة إلى ما تقدم يقول مثلا: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدّامه، فأعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض"([10]).

وقد حاول المسيحيون تطبيق هذه الرؤيا على السيد المسيح (عليه السلام)، استنادًا إلى العبارة المنسوبة إلى السيد المسيح في الأناجيل، والمقتبسة من كلام دانيال هنا، حيث يقول: "وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوّة وآتيًا في سحاب السماء"([11])، إلا أنها ليس فيها أي دلالة على إرادة السيد المسيح (عليه السلام) منها، بل هي على إرادة غيره أدل، سواء أريد منها ما هو ظاهر من معناها، أم أريد بها معنى كنائيًا للدلالة على المُلك والسلطنة والقوة.

إن ما تقدم من أن لفظ الملكوت قد ورد لأول مرّة في سفر دانيال، لا يعني أن العهد القديم لم يتعرض لهذه المسألة قبله أصلاً، بملاحظة أن اليهود، ومنذ زمن طويل، ينتظرون مجيء مسيح آخر الزمان ليحكم الأرض ويقيم الملكوت، وهذا ما تدل عليه طبيعة دعوة السيد المسيح (عليه السلام) في الأناجيل من كرازته "باقتراب ملكوت السماوات" الأمر الذي يدل على أنهم موعودون به، لكنهم لم يعرفوا وقته، فبيّن (عليه السلام) لهم أنه بات قريبًا.

هذا بالإضافة إلى أنه قد ورد الحديث عن هذا الملكوت في توراة موسى (عليه السلام)، وإن لم يذكر لفظ الملكوت فيه، حيث يقول: "أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم نبيًا مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيهم به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه"([12]).

المسيح والنبوة:

لقد حاول المسيحيون تطبيق هذه النبوءة على السيد المسيح (عليه السلام) أيضًا، وافترضوا أنه هو المقصود بها([13])، مع أنها لا تنطبق عليه بحال، ذلك أن النبي المقصود سوف يكون من إخوة بني إسرائيل، بخلاف السيد المسيح (عليه السلام) فإنه منهم وليس من إخوتهم.

كما إن كاتب التوراة يقول: "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه"([14]).

هذا بحسب النسخة التي يعتمدها اليهود والمسيحيون، وأما بحسب التوراة السامرية فيقول: "لا يقوم نبي في إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله شفاهًا".

من الواضح أنه استنادًا إلى النسخة السامرية لن يكون أي نبي في بني إسرائيل كموسى (عليه السلام)، سواء كان المسيح أم غيره، وأما استنادًا إلى النسخة المتداولة فلا دلالة فيها على تأبيد النفي، ولكنها من جهة أخرى لا دلالة فيها على الوقوع بالفعل، بل بقيت على إبهامها من هذه الجهة، إلا أن تاريخ النبوءات والأحداث يدل على عدم وقوع هذه المثلية أيضًا، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق على السيد المسيح (عليه السلام) لعدة وجوه:

يتبع=

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

الهوامش

* باحث إسلامي ومدرّس في الحوزة العلمية .

[1] آل عمران49.

[2] سورة يس: آية 83.

[3] سفر دانيال: 4/3.

[4] نفس المصدر السابق: 4/34.

[5] نفس المصدر السابق: 5/18-19.

[6] إنجيل لوقا: 4/16-21.

[7] إنجيل متى: 5/17-18.

[8] متى:8/2-4.

[9]  نجيل متى: 19/16-19.

[10  سفر دانيال: 7/13-14.

[11  إنجيل مرقس: 14/62.

[12] سفر التثنية: 18/18-19.

[13] أعمال الرسل :3/20-23.

[14] سفر التثنية: 34-10.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني    أرشيف المجلة     الرئيسية