السنة الثامنة / العدد الواحد والعشرون/ حزيران  :  2012م / رجب : 1433هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

معنى التسليم في آية

{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

السّيد حسين علي أبو الحسن

تمهيد

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}([1]).

في هذه الآية المباركة توكيد وتأكيد من الله تعالى على أنّه جلَّ شأنه وملائكته يصلّون على النّبيّ (صلى الله عليه وآله)، والّذي يستفاد من مجموع ما ورد في الأخبار أن معنى صلاة الله تعالى على النّبيّ الأعظم هو انعطافه عليه بالرّحمة والثّناء في دار الدّنيا والآخرة، وصلاة الملائكة انعطافهم عليه بالتّزكية والاستغفار، ثمّّ جاء أمر الله تعالى للمؤمنين بالصّلاة والتّسليم، ومعنى صلاتهم على النبي هو الدعاء له بالرحمة والبركة.

أما معنى التسليم في هذه الآية فهو مورد بحثنا، وسنعرضه ضمن أمرين:

الأمر الأول: معنى التسليم لغة

بعد مراجعة كتب اللغة، يتبين أن هذا اللفظ يحمل عدة معانٍ، أبرزها ما يلي:

أ - الانقياد :

نجد في كتب اللغة ما خلاصته أن السَّلم، والسِّلم، والإسلام، والاستسلام، والسلام، والتسليم: تأتي بمعنى الانقياد، سَلَمَ، وسلَّمَ، وأسلمَ، سلمًا وسلامًا وتسليمًا([2]).

فيكون معنى التسليم في الآية هو الانقياد والطاعة للنبي  (صلى الله عليه وآله) في جميع ما جاء به من الشرائع والأحكام، والتصديق بكل ما جاء به من العلوم والمعارف والحقائق.

ب - السلامة من الآفات والعيوب:

السّلام: اسم من أسماء الله تعالى، سُمّي به من حيث لا يلحقه العيوب والآفات التي تلحق الخلق، أو قل لسلامته من النّقص والعيب وآفات الغِيَر والفناء.

السَلم والسلامة: بمعنى التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة.

التّسليم: مشتق من السّلام -اسم الله تعالى- الذي بمعنى السلامة من العيب والنّقص، يقال: سلم ويسلمُ سلامًا وسلامةً وتسليمًا([3]).

وعليه: يكون معنى {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} -في الآية محلّ البحث-: نزهّوا النّبي  (صلى الله عليه وآله) عن كلّ عيب ونقص، وعن كل ما لا يليق بعلوّ مقامه ورفيع منزلته ودرجة عصمته، [وإن رسول الله  (صلى الله عليه وآله) كان مسددًا موفّقًا مؤيدًا بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق] ([4]).

فيكون قولنا: (السلام عليك يا رسول الله) اعترافًا منّا بعلوّ مقامه وتنزيهًا له باللسان، والإتيان به بصيغة الدعاء بمعنى تنزيل الفيض من العالم القدسي إلى نفس النبي  (صلى الله عليه وآله)، المكمّل إياها بتجريدها عن صفات النقص وآفات النفس، وتكميلها بالكمالات الربانيّة.

ج - المسالمة والتحيّة:

{قَالُواْ سَلاَماً}([5]) أي قالوا قولاً يتسلّمون فيه، ليس فيه تعدّ ولا مأثم، وكانت العرب في الجاهلية يحيّون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحًا, أبيت اللعن، ويقولون: "سلام عليكم" كعلامة على المسالمة، وأنه لا حرب هنالك، ثم جاء الله بالإسلام، فاختصروا على السلام وأُمروا بإفشائه. وقولهم "سلام" أي أمري سلام، لا أريد غير السلامة. السلام: التحية، والسلام جمع سلامة. سلَّم يسلِّم سلامًا وسلامة وتسليمًا([6]).

فيكون معنى {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} -في الآية محلّ البحث-: تحيّة النبي وإظهار المسالمة له وأن المسلِّم عليه ليس محاربًا له  (صلى الله عليه وآله).

د - بذل الرضى بالحكم:

سلَّم ويسلِّم سلامًا وتسليمًا بمعنى بذل الرضا بالحكم، أي إظهار الرضا والموافقة، والثناء على ما صدر([7]).

فيكون معنى التسليم في الآية: التسليم له  (صلى الله عليه وآله) بمعنى بذل الرضا والموافقة على كل ما صدر عنه  (صلى الله عليه وآله).

الأمر الثاني: الترجيح بين هذه المعاني:

تبيَّن لدينا أن المعاني اللغوية الأربعة يصلح كلّ منها ليكون مرادًا من الآية الكريمة، بمعنى أنه يصح حمل الآية عليها دون أي مانع.

وفي مقام الترجيح بينها يمكن أن يُدَّعى أن المراد هو خصوص المعنى الأول، وذلك بدليلين.

الدليل الأول: دلالة الروايات عليه:

إن الروايات الواردة عن آل محمد (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية قد دلَّت عليه.

منها: ما عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، قال (عليه السلام): الصلاة عليه، والتسليم له في كل شيء جاء به([8]).

ومنها: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، قال (عليه السلام): لهذه الآية ظاهر وباطن، فالظاهر قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ}، والباطن قوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، أي سلّموا لمن وصّاه واستخلفه وفضّله عليكم وما عهد به إليه تسليمًا...([9]).

الدليل الثاني: القرآن يفسِّر بعضه بعضًا:

إن لفظ التسليم ورد في القرآن الكريم في موضعين آخرين:

الأول: في قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}([10]).

الثاني: في قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }([11]).

ولا يمكن حمله فيهما إلا على الانقياد. فيكون هذا قرينة على حمل التسليم في الآية مورد البحث على خصوص هذا المعنى، باعتبار أن القرآن يفسِّر بعضُه بعضًا.

دعاوى مطروحة على بساط البحث

وبناءً على ذلك: ذكر بعض المحققين([12]) بأن زيادة لفظ: (وسلَّم) في قولنا (صلى الله عليه وآله وسلَّم) غير صحيح، لأن نسبة الانقياد إلى النبي  (صلى الله عليه وآله) لا تصح في حق الله تعالى، والفرض بأن معنى التسليم المضاف إلى النبي منحصر في هذا المعنى، واستدل على ذلك بالدليلين المتقدمين، وأضاف إليهما دليلاً أو مؤيدًا آخر، ملخصه: إن الله تعالى لم يسلّم على النبي  (صلى الله عليه وآله) في القرآن الكريم، بل صلّى عليه فحسب.

ثم ادّعى بعد ذلك بأن لفظ: (وسلَّم) في قولنا: (صلى الله عليه وآله وسلَّم) إنما هي زيادة تسربت إلينا من المخالفين.

ونحن بعون الله سنناقش هاتين الدعويين في ضمن نقاط:

النقطة الأولى: إن ورود التسليم في القرآن بمعنى الانقياد في آية لا يمنع من كون المراد منها معنى آخر في آية أخرى، فإن التسليم في قوله تعالى: {...ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} واضح في دلالته على خصوص الانقياد والتسليم له  (صلى الله عليه وآله)، حيث إن موردها وقوع نزاع بل واعتراض من أصحاب القلوب العمياء على بعض ما حكم به النبي  (صلى الله عليه وآله) أو أمر به([13])، فيأتي الأمر الإلهي بتحكيم النبي  (صلى الله عليه وآله) وطاعته والتسليم له كحدٍّ فاصل بين الإيمان والكفر، وردًا لمزاعم المنافقين واليهود.

وأما في الآية مورد البحث فليس الأمر منحصرًا بهذا المعنى، بل تقدّم أنه يحتمل أكثر من معنى دون أدنى مانع.

النقطة الثانية: إن قوله تعالى: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} معطوف على قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ}، وكلمة {صَلُّوا} متعدية بحرف الجر "على"، وعطف {سَلِّمُوا} على {صَلُّوا عَلَيْهِ} يقتضي أن يكون بمعنى "سلّموا عليه" لا "سلّموا له"، وحذف حرف الجر "على" لدلالة "على" الأولى عليه، وجاء المفعول المطلق {تَسْلِيمًا} للتأكيد([14]).

النقطة الثالثة: لو تنزّلنا وقلنا بأن التسليم في الآية مورد البحث منحصرٌ بمعنى الانقياد، كما هو ليس ببعيد، إلا أن ذلك لا يمنع من صحة قولنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحيث يكون المراد من السلام هنا معنى التحية، ويدلنا على ذلك روايات صريحة في أن النبي  (صلى الله عليه وآله) كان قد علّم قومه وأصحابه كيفية السلام عليه كما علّمهم كيفية السلام على بعضهم البعض.

فقد جاء في الحديث عن أبي حمزة الثمالي عن كعب أنه قال: لما نزلت هذه الآية -آية الصلاة على النبي- قلنا: هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟ فقال  (صلى الله عليه وآله): قولوا "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"([15]).

وورد أيضًا عن الإمام الرضا (عليه السلام): "... وأما الآية السابعة فقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قالوا: يا رسول الله قد عرفنا التسليم فكيف الصلاة عليك؟ فقال: تقولون: "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد"([16]).

وهذه الروايات تشعر بأن أصحاب النبي  (صلى الله عليه وآله) كانوا قد فهموا من قوله تعالى {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} معنى التحية والسلام، ولذلك قالوا: (قد عرفنا السلام عليك أو التسليم عليك) إلخ...، وأقرهم النبي  (صلى الله عليه وآله) على هذا الفهم، وبذلك تكون هذه الروايات معارضة للروايات السابقة، إلا إذا جعلنا هذا المعنى هو الظاهر والمعنى الأول أي - الانقياد- هو التأويل أو الباطن كما عبر الإمام علي (عليه السلام).

النقطة الرابعة: نسبة التسليم على النبي  (ص) إلى الله تعالى

ورد عندنا روايات كثيرة في أبواب زيارات النبي والآل -سواء عن قرب أو عن بعد- مشتملة على ذكر التسليم على النبي  (صلى الله عليه وآله) تارة منسوبًا إلى الله جل شأنه، وتارة أخرى منسوبًا إلى نفس الزائر، ومتعديًا بـ"على"، وهي حتمًا ليست بمعنى الانقياد، لعدم صحة نسبة الانقياد إلى النبي  (صلى الله عليه وآله) في حق الله تعالى، ولأن التسليم بمعنى الانقياد يتعدى باللام ولا يتعدى بـ"على"، فلا بد أن تحمل على أحد المعاني الثلاثة المتقدمة، والمعنى الظاهر في أكثرها هو "التحية والسلام"، ونذكر بعض هذه الروايات للتبرك:

 1- ذكر العلامة المجلسي في زاد المعاد زيارة النبي  (صلى الله عليه وآله) عن بعد، والتي يعتمدها علماء الطائفة وأجلاؤها من الشيخ المفيد والشهيد والسيد ابن طاووس وغيرهم، وقد ورد فيها: (اللهم اجعل جوامع صلواتك ونوامي بركاتك وفواضل خيراتك وشرائف تحياتك وتسليماتك ... على محمدٍ عبدك ورسولك وحبيبك...)، وورد في آخر هذه الزيارة: (والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ولا جعله الله آخر تسليمي عليك).

2- ذكر الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس والشهيد قدَّس الله أسرارهم زيارة للإمام الحسين (عليه السلام) يزار بها في شهري رجب وشعبان، وقد ورد في آخرها: (فجزاك الله خير جزاء السابقين، وصلَّى الله عليك وسلَّم تسليمًا)([17]).

وستأتي روايات أخرى دالة على هذا المطلب في النقطة السابعة، فانتظر.

وهذا كله دليل على دلالة لفظ التسليم على السلام بمعنى التحية وجواز الإتيان به منصوبًا على المصدرية وعلى أنه مفعول مطلق كما في آية البحث.

النقطة الخامسة: هل سلّم الله على النبي في القرآن؟

الجواب الصريح من كل ذي مسكة ولبٍّ أن الله تعالى قد سلّم على رسوله الأعظم  (صلى الله عليه وآله)، وتبيان ذلك متحقق بعدة طرق. نعرض بعضها بإيجاز :

أ - قال الله تعالى في كتابه الحكيم : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ *  إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}([18])، وقال جلّ اسمه :  {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}([19])، كما قال عز وجل {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}([20]).

في هذه الآيات المباركة وقع السلام صريحًا على نوح النبي وإبراهيم الخليل وموسى وهارون (عليهم السلام)، وهذا لطف وتشريف منه تعالى لهم (عليهم السلام).

وقد روي عن الإمام الكاظم عن آبائه عن الحسن المجتبى عن أبيه علي (عليهم السلام) أنه قال في مناظرة له مع اليهود : [ما أعطى الله عز وجل نبيًا درجة ولا مرسَلاً فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد  (صلى الله عليه وآله) وزاد محمدًا على الأنبياء أضعافًا مضاعفة]([21]).

وجاء في حديث عن ابن عباس: أن بعض الأصحاب كانوا يذكرون الأنبياء (عليهم السلام) فخرج النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله) وقال : [سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجيّ الله وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم صفي الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا صاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم ومن دونه، ولا فخر]([22])، وهذه المضامين موجودة في كتبنا وفي كتب العامة.

فالله تعالى قد أعلى مرتبة هؤلاء الأنبياء (عليهم السلام) بأن سلّم عليهم، ونبينا الأكرم  (صلى الله عليه وآله) الذي هو أشرف الخلق وسيد الأنبياء والمرسلين، وتمام عدتهم، قد حظي بكل منقبة أنعم الله بها أحد الأنبياء السابقين، فبطريق أولى أن يكون الله تعالى قد أنعم عليه بالسلام، كيف لا وهو حبيبه، ومرتبة الحبيب أرقى  وأشرف من سائر المراتب.

ب - قال الله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}([23])، وقد ألمحنا إلى أن النبي المرسل محمد  (صلى الله عليه وآله) هو أشرف الأنبياء والمرسلين، وكما جاء عن الرضا (عليه السلام) أنه  (صلى الله عليه وآله) قال بعد بيان عدد الأنبياء: [... أنا أكرمهم على الله ولا فخر..] ([24])، فيكون  (صلى الله عليه وآله) أول من سلّم الله عليه من بين المرسلين.

ج- قال الله تعالى: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} ([25]).

هذه الآية وإن كانت في المصحف الشريف المتداول في الجزيرة العربية برواية عاصم قد وردت بهذا الرسم، ولكنها في قراءة نافع بروايتي قالون وورش المتداول في المغرب العربي وأفريقيا (سلام على آل ياسين)، وقد وردت كثير من الروايات في تفسيرها بالنبي  (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) .

ومن هذه الروايات: ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب الأمالي -بسند معتبر- فيما احتج الرضا (عليه السلام) على علماء العامة في فضل العترة الطاهرة قال:

حدثنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى ابن بابويه القمي، قال: حدثنا علي بن الحسين بن شاذويه المؤدب وجعفر بن محمد بن مسرور (رضي الله عنهما)، قالا: حدثنا محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال: حضر الرضا (عليه السلام) مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان (إلى أن قال).... قال أبو الحسن (عليه السلام): نعم، أخبروني عن قول الله عز وجل: {يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، فمن عنى بقوله: (يس)؟

قالت العلماء: (يس) محمد (صلى الله عليه وآله)، لم يشك فيه أحد.

قال أبو الحسن (عليه السلام): فإن الله أعطى محمدًا  (صلى الله عليه وآله) وآل محمد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلا من عقله، وذلك أن الله لم يسلم على أحد إلا على الأنبياء (صلوات الله عليهم)، فقال تبارك وتعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}، وقال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، وقال: {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}، ولم يقل: سلام على آل نوح، ولم يقل: سلام على آل موسى ولا على آل إبراهيم، وقال: (سلام على آل ياسين)، يعني آل محمد  (صلى الله عليه وآله)، فقال المأمون: قد علمت أن في معدن النبوة شرح هذا وبيانه([26]).

د- الصلاة على النبي يتضمن السلام عليه

لا شك أن معنى الصلاة الثابتة من الله تعالى على النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله) بالخصوص هي أعظم وأجلّ من  معنى السلام.

روى أبو سعيد في كتاب الوفا بأحوال المصطفى، عن علي (عليه السلام) أنه قال: [قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله) أكثِروا عليّ الصلاة، قلت: وهل تبلغك الصلاة بعد أن تفارقنا؟ قال  (صلى الله عليه وآله): نعم يا علي، إن الله تبارك وتعالى وكّل بقبري ملكًا يقال له صلصائيل، فإذا قال العبد: "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"، لقطها كما يلقط الطير الحب، ثم يرفرف على قبري ويقول: يا محمد، يا محمد، إن فلان ابن فلان صلّّى عليك وأقرأك السلام، فيكتب له ...]([27]).

فنجد أن الصلاة على النبي وآله قد تضمنت كلاً من معنيي الصلاة السلام، حيث صلّى العبد على الرسول الكريم، وأوصلها الملك بقوله: (إن فلان ابن فلان قد صلّى عليك وأقرأك السلام).

هذا وقد يقال بأنه إذا كانت الصلاة تتضمن معنى التحية والسلام -كما دلت عليه الروايات المتقدمة- فهذا يكون دليلاً على عدم صحة إضافة السلام، حيث إنه منضوٍ تحت لفظ الصلاة، ويكون الإتيان به لغوًا.

ويمكن أن يجاب على ذلك بأنه يكون حينئذ للتأكيد، لا سيما أنه قد اجتمع اللفظان في كلام أهل بيت العصمة، وهذا كافٍ لنفي البأس عنه، بل لرجحانه كما لا يخفى.

النقطة السادسة: قولنا "صلى الله عليه وآله وسلم"

قد تبين مما أوردناه أن السلام على النبي  (صلى الله عليه وآله) بمعنى التحية والتسليم عليه يصح نسبته إلى الله تعالى، بل هو السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام.

ونضيف هنا بأنه يصح أيضًا نسبة التسليم للنبي إلى الله تعالى بمعنيين آخرين من المعاني المتقدمة وهما:

التسليم له بمعنى بذل الرضا بالحكم، إذ إن الله تعالى خيرُ راضٍ عن كل ما صدر عن النبي  (صلى الله عليه وآله)، كيف لا وهو  (صلى الله عليه وآله) حبيبه الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يصدر إلا عن أمره تعالى!!

والتسليم بمعنى سلامته من الآفات والعيوب، والله تعالى قد عصمه وأيده وسلَّمه من كل ما يشينه أو يعيبه.

وينتج عن ذلك أن ما لا يصح نسبته إليه تعالى من المعاني الأربعة المتقدمة هو خصوص المعنى الأول أي الانقياد، وأما المعاني الثلاثة الأخرى فلا مانع منها.

وعليه: فيكون إضافة "وسلَّم" في قولنا "صلى الله عليه وآله وسلَّم" دعاءً بمعنى طلب التحية والتسليم من الله عليه، أو بمعنى طلب سلامة النبي، أو طلب الرحمة لنفسه القدسية بتجريدها عن كل نقص وآفة، وتكميلها بالكمالات الرفيعة، وغيرها من المعاني المناسبة للمقام، التي تكون كناية عن إكرام الله وتعظيمه للنبي  (صلى الله عليه وآله).

النقطة السابعة: الزيادة لم تأتِنا من العامة

إن ما ادّعاه البعض من أن إضافة كلمة "وسلم" عند الصلاة على النبي  (صلى الله عليه وآله) قد جاءتنا من العامة، هو ادّعاء مجانب للصواب وبعيد عن الحقيقة، وذلك لورود كثير من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) وهي متضمنة لعبارة (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أن هناك الكثير من الأدعية المعتبرة تشتمل على هذه الصيغة من الصلاة والسلام، ومنها:

- روى الشيخ الصدوق في مجالسه عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : [إن ملكًا من الملائكة سأل الله أن يعطيه سمع العباد، فأعطاه، فذلك الملك قائم حتى تقوم الساعة، ليس أحد من المؤمنين يقول: "صلى الله على محمد وآله وسلّم" إلا وقال الملك: وعليك السلام. ثم يقول الملك: يا رسول الله إن فلانًا يقرؤك السلام، فيقول رسول الله  (صلى الله عليه وآله): وعليه السلام]([28]).

- وروى محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: [من عطس ثم وضع يده على قصبة أنفه ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمدًا كثيرًا كما هو أهله، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم، خرج من منخره الأيسر طائر أصغر من الجراد وأكبر من الذباب، حتى يصير تحت العرش، يستغفر اللهَ له إلى يوم القيامة]([29]).

- وروى الصدوق في الفقيه ، عن موسى بن عبد الله النخعي أنه قال للإمام النقي (عليه السلام): [علّمني يا بن رسول الله قولاً أقوله بليغًا كاملاً إذا زرت واحدًا منكم، فقال الإمام: إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين ... إلى أن قال (عليه السلام): إنك أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم كثيرًا وحسبنا الله ونعم الوكيل]([30]).

 - وذكر الطوسي في المصباح في أعمال يوم الجمعة: الصلاة على النبي  (صلى الله عليه وآله) التي أملاها الإمام العسكري (عليه السلام) على عبد الله بن محمد العابد، وجاء فيها: [وصلِّ على محمد وأهل بيته الطاهرين الأخيار وسلّم تسليمًا]([31]).

- وروى العلامة المجلسي عن بعض كتب الزيارات، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد الأشعري القمي، عن الرضا (عليه السلام) حين كلّمه عن أخته السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم الملقّبة بالمعصومة وعن فضل زيارتها، قال في آخر الزيارة: [وصلى الله على محمد وآله أجمعين وسلّم تسليمًا يا أرحم الراحمين]([32]).

وما ذكرناه هو القليل مما ورد عن النبي وعترته الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وكله يشتمل على هذا الذكر: "صلى الله عليه وآله وسلم" وما شابهه من الأذكار.

خاتمة

قد تبيّن لنا جواز انطباق التسليم في آية البحث على المعنى الثالث أي التحية والسلام، دون مانع منيع، كما يجوز أن يكون المقصود منه الرضى بالحكم، فيكون معنى {وَسَلّمُوا تَسْليمًا}: وجوب الرضى بكل أحكام النبي  (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}([33]). والظاهر لنا أنه لا مانع من صحة القولين بأن يكون الأمر من الله عز وجل بالسلام عليه بالقول والتسليم له بالفعل، عقيدة وعملاً([34])، فيجوز إرجاع المعنيين إلى نقطة واحدة بعد التأمل، وهي: وجوب التسليم القولي والفعلي للنبي  (صلى الله عليه وآله)، لأنه من يُحيّي النبي ويدعو الله تعالى سلامته ينجذب إلى النبي عاشقًا، وينظر إليه بأنه نبي مفترض الطاعة والخضوع([35]).

وإن كان لا يبعد أن يكون المراد من الآية خصوص المعنى الأول، أي الأمر بالانقياد إليه، ومما يشعر بذلك سياق الآية، وتأكيد الفعل (وسلّموا) بقوله (تسليمًا). كما أن أكثر الروايات وضوحًا تؤيد هذا المعنى.

وكذلك قد تبيّن أن الله تعالى قد سلّم على أشرف خلقه محمدٍ  (صلى الله عليه وآله)، كما سلّم على بعض أنبيائه الأطهار في كتابه المجيد.

ــــــــــــــ 

([1]) الأحزاب 56.

([2]) القاموس المحيط ج4 ص131 دار الجيل بيروت/ لسان العرب ج6 ص365/ مفردات الراغب.

([3]) القاموس المحيط ج4 ص131، لسان العرب ج6 ص342-343، مفردات الراغب.

([4]) الكافي ج1 ص266.

([5]) هود من الآية 69.

([6]) لسان العرب ج6 ص342.

([7]) القاموس المحيط ج4 ص131.

([8]) المحاسن ص271.

([9]) الاحتجاج ص253.

([10]) النساء 65.

([11]) الأحزاب 22..

([12]) راجع: (حقيقة الصلاة على النبي وآله) للعلامة السيد كمال الحيدري ص19.

([13]) بيان سبب نزول هذه الآية:

قيل: نزلت في الزبير، ورجل من الأنصار، خاصمه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ، في شراج من الحرة، كانا يسقيان بها النخل، كلاهما، فقال النبي للزبير: "اسقِ، ثم أرسل إلى جارك". فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله لئن كان ابن عمتك! فتلوّن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم قال للزبير: "اسقِ يا زبير، ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدر، واستوفِ حقك، ثم أرسل إلى جارك". وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله)  أشار إلى الزبير برأي فيه السّعة له ولخصمه. فلما أُحفظَ رسول الله، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم. ويقال: إن الرجل كان حاطب بن أبي بلتعة.

قال الراوي: ثم خرجا، فمرّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة؟ قال: قضى لابن عمته -ولوى شدقه- ففطن لذلك يهودي، كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء، يزعمون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم، وأيم الله! لقد أذنبنا مرة واحدة في حياة موسى، فدعانا موسى إلى التوبة، فقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا سبعين ألفًا في طاعة ربنا، حتى رضي عنا! فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق، ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت. فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وليِّه شدقه هذه الآية. (تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج3 ص548، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان، ط1، 1415 - 1995 م).

([14]) والإنصاف أن هذه النقطة لا تصلح إلا للتأييد، لأنه لا مانع من تعدّي (صلّوا) بحرف الجر (على) مع كون (وسلّموا) متعدّية بالّلام المقدَّرة، وخصوصًا مع دلالة الروايات الشريفة عليه.

([15]) مجمع البيان، الطبرسي، ج8 ص579، دار المعرفة للطباعة والنشر، ط1.

([16]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، الشيخ الصدوق ج 2 ص213، والرواية طويلة اقتصرنا منها على موضع الحاجة.

([17]) إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج3 ص342 / مزار الشهيد ص145 / بحار الأنوار ج98 ص337 عن الشيخ المفيد.

([18]) الصافات 79-80.

([19]) الصافات109.

([20]) الصافات 120.

([21]) الاحتجاج، الطبرسي، ج1 ص497 ؛ بحار الأنوار للمجلسي ج10 ص280.

([22]) مودة القربى ص11 (من كتب العامة).

([23]) الصافات181.

([24]) بحار الأنور ج11 ص30.

([25]) سورة الصافات 130-131.

([26]) الامالي ص615 ح1.

([27]) نور البراهين ، ج1 ص202 ، نقله عن الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي ص822-823 .

([28]) أمالي الصدوق ج2 ص290.

([29]) الكافي ج2 ص480.

([30]) رواه الشيخ في التهذيب، وقال المجلسي عنها : هي أرقى الزيارات الجامعة متنًا وسندًا. وقال والده : إن هذه الزيارة أحسن الزيارات. ونقلها الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان ص613.

([31]) مصباح المتهجد ، الشيخ الطوسي ، ص400 .

([32]) بحارالأنوار ج99 ص267.

([33]) النجم : 4.

([34]) كما ذهب إليه العلامة المحقق عبد اللطيف البغدادي في كتابه الصلاة على محمد وآل محمد.

([35]) وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل ج13، ص246، ط دار إحياء التراث العربي.

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الواحد والعشرون