السنة التاسعة / العدد الثالث والعشرون / حزيران  2013م / رمضان  1434هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

القيام عند ذكر القائم (عج)

الشيخ محمد موسى حيدر 

 

 

تمهيد 

لقد تُعورِف بين الشيعة -أعلى الله كلمتهم- منذ برهة من الزمان القيامُ ووضع اليد على الرأس عند ذكر الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم)، ومما لا شك فيه أن القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) في حدِّ نفسه أمر حسن وراجح شرعًا لما فيه من الاحترام والتعظيم له (عليه السلام)، الذي هو من مصاديق تعظيم شعائر الله تعالى التي هي من تقوى القلوب([1])، فلا يحتاج إلى دليل عليه بخصوصه.

بل إن القيام المذكور قد يجب فيما لو قام الجميع وكان بقاء الشخص قاعدًا يُعدُّ هتكًا وتوهينًا بنظر العرف، فيكون نظير حرمة الانفراد بالصلاة عند انعقاد الجماعة إذا انتزع منه عنوان القدح بالإمام كما لا يخفى، إلا أن ذلك بالعنوان الثانوي ولا دخل له بحكم القيام المذكور بالعنوان الأولي الذي هو محل كلامنا.

وإذا اتَّضح أن محل كلامنا هو حكم القيام عند ذكر القائم (عجل الله فرجه الشريف) بالعنوان الأولي، وهل أنه بخصوصه وبما هو قيام مُستحبٌّ كما ذهب إليه بعض، أو واجب كما لعلَّه يُعزى إلى بعض آخر؟ على ما سيمرّ عليك في مطاوي مقالتنا هذه.

أم أنه بما هو قيام لا واجب ولا مستحب؟ فليس راجحًا بالعنوان المذكور كما سنثبته في مقالتنا هذه، وإن كان رجحانه بعنوان كونه احترامًا وتعظيمًا له (عجل الله فرجه الشريف) مما لا شك فيه ولا ريب يعتريه، بل قد يجب بالعنوان المذكور كما عرفت.

واتَّضح أيضًا: أنه ليس مقصودنا من مقالتنا هذه إنكار رجحان هذا الفعل بالمطلق، ولا ثَنيُ الشيعة -أعزهم الله- عن هذه العادة الحسنة الجميلة التي هي من مظاهر حبِّهم وتولّيهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) عمومًا ولإمام زمانهم المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) على نحو الخصوص، بل مقصودنا دفع توهم رجحان الفعل المذكور بعنوانه الأولي وضعًا له في نصابه الشرعي الصحيح، حتى يأتي الآتون به على وجهه فيكون ذلك أعظم لثوابهم وأجزل في أجرهم.

إذا اتَّضح ذلك كلّه نقول:

العرف المذكور يكشف عن توهُّم وجود حكم استحبابي في المقام

إن قصر المؤمنين هذا القيام الاحترامي على ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بخصوص لقب (القائم) دون ذكره باسمه الشريف أو كنيته أو سائر ألقابه أو غير ذلك مما يدل على وجوده المقدَّس من جهة، والتزامهم عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) باللقب المذكور بالقيام وعدم اجتزائهم بغيره من مظاهر الاحترام والتبجيل المتعارفة أيضًا كالصلاة عليه والدعاء له بتعجيل الفرج وحني الرأس ووضع اليد عليه ونحو ذلك من جهة أخرى، ناشئان من توهُّم كون القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بهذا اللقب مطلوبًا بخصوصه وبعنوانه الأولي، لا بالعنوان الثانوي وبما هو من مصاديق احترامه وتعظيمه (عليه السلام) بأي نحو ذُكر، وأنَّ ثمةَ في المقام حكمًا شرعيًا ثابتًا([2]) -أو لا أقل من كونه محتمل الثبوت- يدعو إلى القيام بخصوصه عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) خاصَّةً، وهذا ما سنحاول التحرّي عنه في مقالتنا هذه.

أوَّل من قال بالاستحباب

في حدود ما قمنا به من بحث وجدنا أن أول من قال باستحباب القيام المذكور المحدِّث النوري في كتاب (النجم الثاقب) على ما يظهر من قوله ص433: (الباب العاشر: في ذكر شمّة من تكاليف العباد بالنسبة إلى إمام العصر صلوات الله عليه...)، إلى أن قال في الصفحة 474: (السادس: القيام تعظيمًا لسماع اسمه المبارك (عليه السلام)، وبالأخص إذا كان باسمه المبارك (القائم) (عليه السلام)، كما استقرَّت عليه سيرة الإماميّة كثَّرهم الله تعالى في جميع بلاد العرب والعجم والترك والهند والديلم، وهذا كاشف عن وجود مصدر وأصل لهذا العمل ولو أنّي لم أعثر لحدّ الآن عليه، ولكن المسموع من عدّة من العلماء وأهل الصلاح أنّهم رأوا خبرًا في هذا الباب، ونقل بعض العلماء أنّه سأل عن هذا الموضوع العالم المتبحّر الجليل السيد عبد الله سبط المحدّث الجزائري ، وقد أجاب هذا المرحوم في بعض تصانيفه أنّه رأى خبرًا مضمونه أنّه ذُكر يومًا اسمه المبارك (عليه السلام) في مجلس الإمام الصادق (عليه السلام) فقام (عليه السلام) تعظيمًا واحترامًا له...).

ولا يخفى أن قوله: (وهذا كاشف عن وجود مصدر وأصل لهذا العمل ولو أنّي لم أعثر لحدّ الآن عليه)، يؤيِّد ما قرَّرناه في أول البحث من أن هذه السيرة ناشئة لا شك عن اعتقاد وجود حكم شرعي باستحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) أو احتمال ذلك، ولذلك كان لا بدَّ بنظر المحدِّث المذكور (رحمه الله) من معرفة منشأ هذا الاعتقاد أو هذا التوهُّم، وأن ما هو المتيقَّن والثابت قطعًا من رجحان احترامه وتعظيمه (عجل الله فرجه الشريف) لا يكفي في تبرير قيام السيرة على القيام بخصوصه من بين مظاهر الاحترام والتعظيم عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف).

وكنّا قد أشرنا في مطلع البحث أن رجحان احترامه وتعظيمه (عجل الله فرجه الشريف) لا يكفي أيضًا في تبرير اقتصار هذه السيرة في القيام على ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) ـ كما هو المتيقَّن من هذه السيرة الحادثة على ما سيأتي منّا بيانه خلافًا لما ادَّعاه (رحمه الله) من شمولها لمطلق ذكره (عجل الله فرجه الشريف) ولو بغير اللقب المذكور ـ دون ذكره بغير ذلك مما يدل عليه (عليه السلام).

وتابعه على ذلك الشيخ النمازي الشاهرودي (رحمه الله) (١٤٠٥هـ) في (مستدرك سفينة البحار) حيث صرَّح بالاستحباب بقوله (ج ٨ ص ٦٢٨-٦٢٩): ويستحب القيام عند ذكر هذا اللقب لما روي في كتاب إلزام الناصب عن تنزيه الخاطر: سُئل مولانا الصادق صلوات الله عليه عن سبب القيام عند ذكر لفظ القائم (عليه السلام) من ألقاب الحجة، قال: لأن له غيبة طولانية ومن شدة الرأفة إلى أحبته ينظر إلى كل من يذكره بهذا اللقب المشعر بدولته، ومن تعظيمه أن يقوم العبد الخاضع عند نظر المولى الجليل إليه بعينه الشريفة فليقم وليطلب من الله جل ذكره تعجيل فرجه.

وروي أيضًا عن مولانا الرضا (عليه السلام) في مجلسه بخراسان أنه قام عند ذكر لفظة القائم ووضع يديه [في رأسه] -هكذا وفي إلزام الناصب نقلاً عن الكتاب المذكور [على رأسه]- الشريف وقال: اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه.

وذكر المحدث النوري في كتابه النجم الثاقب ما ترجمته بالعربية: هذا القيام والتعظيم سيرة تمام أبناء الشيعة في كل البلاد .. إلخ.

وروى العلامة المامقاني في رجاله في دعبل، عن محمد بن عبد الجبار في مشكاة الأنوار أنه لما قرأ دعبل قصيدته المعروفة على الرضا (عليه السلام) وذكر الحجة (عليه السلام) إلى قوله:

خروج إمامٍ لا محالةَ خارجٌ

 

 

يقومُ على اْسمِ اللهِ والبركاتِ

 

وضع الرضا (عليه السلام) يده على رأسه وتواضع قائمًا ودعا له بالفرج.

أدلة الاستحباب المُدّعى 

المتلخِّص من كلام هذين العلمين أنه يدل على استحباب القيام بخصوصه عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) أو مطلقًا، أمور أربعة:

الأول والثاني: روايتا الصادق والرضا (عليهما السلام) في كتاب (تنزيه الخاطر)

ولا يخفى أن رواية الصادق (عليه السلام) ظاهرة في المفروغية عن استحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بهذا اللقب، حيث قرَّر (عليه السلام) السائل على القيام المذكور وتصدّى لبيان الحكمة من ذلك.

الثالث: سيرة الشيعة التي نقلها المحدث النوري في كتاب (النجم الثاقب)

لا يخفى أن كلام صاحب السفينة يوهم أن ما ذكره المحدث النوري في كتاب (النجم الثاقب) هو انعقاد سيرة الشيعة على القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) بالخصوص، علمًا أن ما ادّعاه المحدِّث المذكور في الكتاب المشار إليه من سيرة أعم من ذلك، ولذلك قال باستحباب القيام لذكره (عجل الله فرجه الشريف) مطلقًا وتأكُّده لذكره (عجل الله فرجه الشريف) بخصوص لقب (القائم).

الرابع: رواية قيام الرضا (عليه السلام) عندما أنشده دعبل تائيَّته المشهورة

والرواية حكت قيامه (عليه السلام) عند ذكر دعبل للحجة (عجل الله فرجه الشريف) بقوله:

خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارجٌ

 

 

يقومُ على اْسمِ اللهِ والبركاتِ

 

وقد نقل الرواية المذكورة العلامة المامقاني (رحمه الله) في رجاله في ترجمة دعبل عن الشيخ محمد بن عبد الجبار في كتابه (مشكاة الأنوار).

مصدرٌ ثانٍ لهذه الرواية 

نبَّه الشيخ الطهراني  (رحمه الله) (١٣٨٩هـ) في كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) ج٢١ ص٥٤ إلى وجود الرواية المذكورة في كتاب (مؤجّج الأحزان) أيضًا حيث قال:

(٣٩٢٣): (مشكاة الأنوار) للشيخ محمد بن عبد الجبار البحراني، حكى عنه كذلك في (الدمعة الساكبة) حديث قيام الرضا (عليه السلام) عند سماع لفظ القائم .. كان في عصر الشيخ كاشف الغطاء .. وأما حديث القيام فهو مذكور في (مؤجّج الأحزان) للشيخ عبد الرضا بن محمد الأوالي البحراني أيضًا).

موضع الشاهد من الرواية المذكورة 

نقل الشيخ الطهراني (رحمه الله) موضع الشاهد من الرواية المذكورة عن الكتاب المذكور في ج٢٣ ص٢٤٧ من ذريعته حيث قال:

(٨٨٣٦): مؤجج الأحزان في وفاة غريب خراسان) للمولى عبد الرضا بن محمد الأوالي .. ذكر فيه أن دعبل الخزاعي لما بلغ قوله في التائيّة: 

إلى الحشر حتى يبعث الله

 

 

قائمًا يفرِّج عنا الهمَّ والكُرُباتِ

 

قال من حضر مجلس الرضا (عليه السلام): لما نطق دعبل بهذا البيت تهلَّل وجه الرضا (عليه السلام) وطأطأ رأسه إلى الأرض وبسط كفيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: [اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وانصرنا به وأهلك عدوه، إلى قوله: يا دعبل هو قائمنا ..]، ثم ذكر بقية قصيدة دعبل إلى قوله:

خروج إمامٍ لا محالةَ خارجٌ

 

 

يقومُ على اْسمِ اللهِ والبركاتِ

 

قال ما لفظه: [قال أبو الصلت فلما سمع الإمام ذلك قام قائمًا على قدميه وطأطأ رأسه منحنيًا به إلى الأرض بعد أن وضع كفه اليمنى على هامته وقال: اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وانصرنا به نصرًا عزيزًا..].

واستظهر بعض الأفاضل من الحديث المذكور في هذا الكتاب أنه مُسْتَنَد لما نرى من فعل الشيعة من القيام عند ذكر القائم (عليه السلام) ووضع اليد على الرأس.

مناقشة الأدلة المذكورة 

ولكن لا يخفى أن شيئًا من الأمور المذكورة لا ينهض بإثبات استحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) أو مطلقًا.

مناقشة الدليلين الأوَّلين 

أما الدليلان الأولان ففيهما: أنه لا ذكر لكتاب باسم (تنزيه الخاطر) في شيء من كتب الفهارس وقد تفرَّد صاحب إلزام الناصب بالنقل عنه، كما أن الروايتين اللتين نقلهما عن الكتاب المذكور لم نجدهما في شيء من مصادرنا الروائية ومجاميعنا الحديثية القديمة والمتأخرة، وقد تفرَّد صاحب الكتاب المذكور بنقلهما، فالروايتان المذكورتان من أضعف المراسيل ولا يمكن الاعتماد عليهما في إثبات الحكم الشرعي.

قرائن على موضوعيّة أولى روايتي تنزيه الخاطر 

فضلاً عن ضعف هاتين الروايتين فإن أولاهما مما نكاد نطمئن بعدم صدورها عن إمامنا الصادق (عليه السلام)، حيث إنها لا تشبه كلامهم (عليهم السلام) وهي بكلام بعض علماء الأعاجم أشبه، كيف ولا يُقال في اللغة العربية (طولانية) بل (طويلة)، والرأفة لا تتعدى بـ (إلى) بل بـ (الباء) فيُقال (من شدة الرأفة بأحبته) لا (إلى أحبته)؟!

كما أن عبارة (المشعِر بدولته) قد استعملت في الرواية المذكورة بمعنى (المومئ والمشير إلى دولته) كما لا يخفى، إذ الإشعار لغة وعرفًا الإعلان، وهو مرتبة أعلى من التصريح حيث يُراد منه جعل الشيء علامةً وشعارًا، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوى الْقُلوبِ}([3])، أي علامات دين الله على ما ذكره المفسرون، ومنه أيضًا إطلاق الإشعار على شقِّ سنام البدنة بالنسبة للقارن إيذانًا وإعلامًا من سائقها بأنه أحرم للحج، وسيأتي في رواية (مؤجّج الأحزان) قول دعبل للرضا (عليه السلام): (سمعت يا مولاي خبرًا يشعر بخروج إمام منكم يملأ الأرض قسطًا وعدلاً)، ولا شك أنه أُريد من الإشعار فيها التصريح والإعلان، إذ ليس نظره إلا إلى الخبر الذي تواتر عند الخاص والعام عن النبي (صلى الله عليه وآله) بشأن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وأنه من ولد فاطمة (عليها السلام) وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلاً بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا، وهو كما ترى يُصرِّح ويعلِن بخروج إمام من آل محمد (عليهم السلام)، لا أنه يُلمح إلى ذلك ويومئ إليه بغير تصريح كما هو اصطلاح الفقهاء في ذلك.

ولا شك أن لفظ (القائم) في رواية تنزيه الخاطر لا تتضمن تصريحًا بدولته (عليه السلام) فضلاً عن أن يكون فيها إعلام بذلك، بل لما كانت الكلمة المذكورة تدل على قيامه (عليه السلام) ضد الظلم والظالمين في آخر الزمان وهو المنصور من الله المدَّخر لهذه المهمة، فإنها تثير -بالملازمة- فكرة دولة الحق وحكومة الله على الأرض. والإشعار بمعنى الإيماء الذي هو مرتبة ضعيفة من الدلالة دون التصريح اصطلاح فقهائي حادث لا تجد له عينًا ولا أثرًا في كتب اللغة أو في شيء مما روي عنهم (عليهم السلام).

فهل يُعقل أن الصادق (عليه السلام) استعمل في جوابه على سؤال الراوي مصطلحًا لم يحدث إلا بعده بقرون متمادية؟! وهم (عليهم السلام) قد أمرونا أن نكلم الناس على قدر عقولهم.

مناقشة الدليل الثالث 

وأما الدليل الثالث ففيه:

أولاً: أن كون هذا القيام والتعظيم سيرة تمام أبناء الشيعة في كل البلاد عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) مطلقًا كما يُستفاد من كلام المحدث النوري محل منع بالنسبة لذكره عجَّل الله فرجه بغير لقب (القائم).

إذ من المعلوم الواضح لكل أحد أن علماء الشيعة فضلاً عن عوامهم في كافة البلدان كثيرًا ما يذكرون إمامهم المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في مجالسهم ومحافلهم وأدعيتهم وزياراتهم باسمه الشريف وكنيته المباركة وسائر ألقابه وما يدل عليه (عجل الله فرجه الشريف) بدون أن يقوموا، وأمّا استقرارهم على القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) في كافة البلاد لو تمّ فإنه مرتبط بذكره (عليه السلام) بخصوص لقب (القائم) كما هو مشاهد بوضوح في عصرنا الحاضر، ولا أقل من كون ذلك هو المتيقَّن من السيرة المدَّعاة في المقام.

وثانيًا: أنه لو سُلِّمت السيرة المذكورة على إطلاقها أو في خصوص لقب (القائم) فإنه لا يخفى أن الاستدلال بها على استحباب القيام في المقام يتوقف على إحراز اتصالها بزمان الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على ما هو مقرَّر في علم الأصول، وهو غير محرَز في المقام لو لم ندَّعِ أنه محرَز العدم، كيف ولا نجد لمثل هذه السيرة ولا لاستحباب القيام المذكور عينًا ولا أثرًا في كلمات أي من علمائنا المعاصرين للمحدِّث النوري أو المتقدِّمين عليه؟!

وعليه فلعلَّ منشأ السيرة المذكورة فتوى من عرفت باستحباب القيام المذكور فجرى عليه أتباعهم ومقلِّدوهم، ثم قلَّدهم غيرهم من العوام تسامحًا -كما هو ديدنهم- واستحسانًا منهم للفعل المذكور، أو ظنًا منهم بكون استحباب القيام في المقام مما أجمع عليه الأعلام، أو نحو ذلك مما لا يرجع إلى ثبوت استحباب القيام المذكور في الشريعة بالضرورة.

مناقشة الدليل الرابع 

وأما الدليل الرابع ففيه: أن قضية إنشاد دعبل (رحمه الله) تائيَّته المشهورة الإمامَ الرضا (عليه السلام) قد نقلها الصدوق (رحمه الله) في (عيون أخبار الرضا (عليه السلام)) ج ١ ص ٢٩٦-٢٩٧ بسند متصل صحيح، وإليك الرواية:

قضيَّة دعبل برواية الصدوق 

(حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن عبد السلام بن صالح الهروي قال سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول لما أنشدت مولاي الرضا (عليه السلام) قصيدتي التي أولها:

مدارس آيات خلت من تلاوة
 

 

ومنزل وحي مقفر العرصات
 

فلما انتهيت إلى قولي:

خـروج إمـام لا محالة خـارج
يُميِّزُ فينا كـلَّ حـقٍّ وبـاطـلٍ
 

 

يـقوم على اسم الله والبركات
ويَجزي على النَّعـماءِ والنَّقِماتِ
 

بكى الرضا (عليه السلام) بكاء شديدًا ثم رفع رأسه إلي فقال لي: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟ فقلت: لا يا سيدي، إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهِّر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، وأما (متى؟) فإخبار عن الوقت ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثَلُه مَثَلُ الساعة {لا يُجَلّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ في السَّماواتِ وَالأَرضِ لا تَأْتيكُمْ إِلا بَغْتَةً}.

والرواية -كما ترى- غير مشتملة على قيامه (عليه السلام) ووضعه يده على رأسه الشريف، ولو أنه صدر منه (عليه السلام) ذلك لنقله لنا دعبل لكونه أمرًا لافتًا وذا دلالة على تأثُّره (عليه السلام) بسماع ذكر ولده المهدي (عجل الله فرجه الشريف) أبلغ من بكائه وإطراقه برأسه الشريف اللذين نقلهما لنا بقوله: (بكى بكاءً شديدًا ثم رفع رأسه)، وعليه فسكوت دعبل عن نقل مثل هذا الأمر المهم مع نقله ما هو دونه في الأهمية يكون كاشفًا لا محالة عن عدم صدور هذا الفعل منه (عليه السلام). 

الإيراد الأوَّل: تعارض نقل الصدوق ونقل ابن عبد الجبار والأوالي لقضيَّة دعبل 

بناءً على ما قرَّبناه من دلالة سكوت دعبل عن نقل قيام الرضا (عليه السلام) في رواية الصدوق على عدم صدوره منه (عليه السلام)، فإنه لا تكون النسبة بين رواية الصدوق ورواية ابن عبد الجبار والأوالي لقضية دعبل نسبة الإجمال والتفصيل، وإغفال تفصيل هنا وذكره هناك، بل نسبة التنافي والتعارض، ومن الواضح أن روايتهما لا تقوى على معارضة رواية الصدوق لإرسالها وعدم وصولها إلينا بسند متصل، فضلاً عن أن يكون صحيحًا أو معتبرًا.

تعدّد الواقعة لا ينفع في دفع الإشكال 

قد يُقال: إن احتمال تعدد الواقعة وكون دعبل قد أنشد الرضا (عليه السلام) تائيَّته مرتين فقام (عليه السلام) في إحدى المرتين ولم يقُم في الأخرى يدفع إشكال التعارض.

ولكن يُجاب: بأنّ تعدُّد الواقعة في المقام لا مجال له وسيأتي منا بيان وجهه، على أنه على تقديره يؤيّد ما سيأتي منّا من كون قيامه (عليه السلام) -على فرض صدوره منه- قضية في واقعة وليس ناشئًا عن استحباب القيام المذكور بخصوصه للروايات الكثيرة التي ذكر فيها الحجَّة (عجل الله فرجه الشريف) عندهم (عليهم السلام) باللقب المذكور وبغيره من دون صدور القيام منهم.

الإيراد الثاني: لم يرِد في قصيدة دعبل قيام الرضا (عليه السلام) عند ذكر القائم (عجل الله فرجه الشريف)

لو تنزّلنا عن ضعف سند رواية ابن عبد الجبار والأوالي ومعارضتها بصحيحة الصدوق نقول: إنه لم يرد فيها أن دعبل ذكر الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في قصيدته بلقب (القائم) حتى تُجعل مدركًا لاستحباب القيام ووضع اليد على الرأس عند ذكره (عليه السلام) باللقب المذكور، وإنما بعدما أخبر دعبل بخروج إمام من آل محمد (عليهم السلام) في آخر الزمان وأن خروجه حتمي بقوله: (خروج إمام لا محالة خارج) وصفه بأنه: (يقوم على اسم الله والبركات) وأين هذا من ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) المُدَّعى كونه موضوع استحباب القيام المذكور؟!

الإيراد الثالث: قيام الرضا (عليه السلام) على تقديره يُحتمل كونه قضيَّة في واقعة 

لو تنزّلنا عن الإيرادين السابقين نقول: إن مجرد صدور القيام المذكور من الرضا (عليه السلام) عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) في مورد أو مجلس لا يدل على استحباب هذا الفعل بخصوصه، وأنه كلما ذُكر (عجل الله فرجه الشريف) يستحب القيام ووضع اليد على الرأس، إذ هو فعل أبكم لا لسان له حتى يُتمسَّك بإطلاقه أو عمومه، فيكون مجملاً من حيث احتمال كون منشئه استحباب القيام بخصوصه عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف)، أو أن الرضا (عليه السلام) أتى به بما هو من مصاديق احترامه وتعظيمه (عجل الله فرجه الشريف) الراجح والمطلوب شرعًا، بمعنى وجود مصلحة معيَّنة لاحظها الرضا (عليه السلام) اقتضت أن يصدر منه (عليه السلام) أعلى مظاهر الاحترام والتعظيم -القيام له (عجل الله فرجه الشريف)- في هذا المورد أو المجلس الخاص، ومع إجمال فعله (عليه السلام) يَقصُر عن إثبات الاستحباب المذكور ويكون المرجع فيه هو أصالة العدم على ما هو محقق في علم الأصول.

نعم لو أنه (عليه السلام) كان مستمرًا على الفعل المذكور بحيث إنه كان كلما ذُكر عنده ولده الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) كان يقوم ويضع يده على رأسه لدلَّ ذلك على استحباب هذا الفعل لا محالة كما لا يخفى، إلا أنه لم يُنقل لنا ذلك في شيء من الروايات عنهم (عليهم السلام)، كما أن القائل باستحباب القيام المذكور لم يدَّعِ ذلك.

تعيُّن كون قيام الرضا (عليه السلام) قضية في واقعة والروايات الدالَّة على ذلك

إن ما ذكرناه من احتمال كون قيام الإمام الرضا (عليه السلام) عند قول دعبل: (خروج إمام .. إلخ) قضيّةً في واقعة وليس ناشئًا عن وجود حكم باستحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) مطلقًا فضلاً عن استحبابه عند ذكر خصوص لقب (القائم) هو المتعين بلحاظ ما في الروايات الكثيرة من حكاية ذكره (عليه السلام) مطلقًا أو بخصوص لقب (القائم) عند الرضا (عليه السلام) أو عند بعض آبائه وأولاده المعصومين (عليهم السلام) من دون تعرُّض فيها إلى قيامهم ووضعهم اليد على الرأس أو أمرهم بذلك.

ولما كانت الروايات المشتملة على ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بغير لقب (القائم) تفوق حدَّ الإحصاء نقتصر على ذكر ما اشتمل على لفظ (القائم) منها:

الرواية الأولى: صحيحة دعبل المتقدِّمة بنقل الصدوق

ففضلاً عن أنها لم تتضمن قيامه (عليه السلام) عند قول دعبل (خروج إمام .. إلخ) فقد تضمّنت ذكر الرضا (عليه السلام) للقائم (عجل الله فرجه الشريف) مرتين: مرة على لسانه الشريف بقوله: (وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر)، وأخرى نقلاً عمن سأل جده المصطفى صلى الله عليه وآله قائلاً: (متى يخرج القائم من ذريّتك؟)، من دون تعرُّض إلى قيامه (عليه السلام) ووضعه يده على رأسه الشريف.

الرواية الثانية: صحيحة أخرى للصدوق 

روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) في عيون الأخبار ج٢ ص ٢٩٤-٢٩٥ رواية أخرى بسند صحيح قال: (حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدب وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنهما قالا: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: دخل دعبل بن علي الخزاعي رضي الله عنه على علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بمرو فقال له: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إني قد قلت فيك قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدًا قبلك، فقال (عليه السلام): هاتها فأنشده .. ولما انتهى إلى قوله:

وقبرٌ ببغداد لنفسٍ زكيةٍ
 

 

تضمّنها الرحمنُ في الغرفاتِ
 

قال له الرضا(عليه السلام): أفلا أُلحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى يا ابن رسول الله، فقال (عليه السلام):

وقبرٌ بـطوسٍ يا لها مـن مصيبةٍ
إلى الحشر حتى يبعث الله
 

 

تَوَقَّدُ في الأحشاء بالحرقاتِ
قائمًا يُـفرِّج عـنّا الهـمَّ والكُرُباتِ
 

فقال دعبل: يا ابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو؟

فقال الرضا (عليه السلام): قبري، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزواري، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفورًا له، ثم نهض الرضا (عليه السلام) بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة وأمره أن لا يبرح من موضعه فدخل الدار..).

وهي مع اشتمالها على ذكر الرضا (عليه السلام) حفيده المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) فيما أنشأه من بيتين أكمل بهما قصيدة دعبل، لا على توصيفه (عجل الله فرجه الشريف) بأنه (يقوم على اسم الله والبركات) كما ورد على لسان دعبل في تائيَّته، إلا أنها لم تتضمن قيام الرضا (عليه السلام) ووضعه يده على رأسه الشريف، شأنها في ذلك شأن صحيحة الصدوق الأولى.

إيرادان على رواية ابن عبد الجبار والأوالي تضمنتهما صحيحتا الصدوق (قدس سره)

الإيراد الأول: نسبة روايتهما بيتَي الرضا (عليه السلام) إلى دعبل خلافًا لروايته

إن الصحيحة الثانية للصدوق صريحة في أن بيتَي:

وقبرٌ بـطوسٍ يا لها مـن مصيبةٍ
إلى الحشر حتى يبعث الله
 

 

تَوَقَّدُ في الأحشاء بالحرقاتِ
قائمًا يُـفرِّج عـنّا الهـمَّ والكُرُباتِ
 

أضافهما الرضا (ليه السلام) إلى قصيدة دعبل، حيث تضمَّنت قوله (عليه السلام) له: (أفلا أُلحق لك بهذا الموضع بيتين فيهما تمام قصيدتك).

مع أن رواية ابن عبد الجبار والأوالي صريحة في كونهما من إنشاء دعبل نفسه حيث ورد فيها أن (دعبل الخزاعي لما بلغ قوله في التائية

إلى الحشر حتى يبعث الله
 

 

قائمًا يفرِّج عنا الهمَّ والكُرُباتِ
 

قال من حضر مجلس الرضا (عليه السلام): لما نطق دعبل بهذا البيت تهلَّل وجه الرضا (عليه السلام)).

وهو أمر وإن كان في حدِّ نفسه ممكنًا إذ لعلّه (عليه السلام) كان قد أعلم دعبلاً أنه يموت بأرض طوس ويدفن فيها فنظم البيتين المذكورين، إلا أنه معارض بما في صحيحة الصدوق الثانية.

الإيراد الثاني: تضمن روايتهما حضور أبي الصلت خلافًا لروايته

إن أولى صحيحتي الصدوق صريحة في عدم حضور عبد السلام بن صالح (أبو الصلت) الهروي تلك الواقعة، وأنه إنما رواها عن دعبل، حيث ورد في صدرها قول أبي الصلت: (سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول لما أنشدت مولاي الرضا (عليه السلام) قصيدتي التي أولها مدارس آيات.

بينما يظهر من رواية ابن عبد الجبار والأوالي حضور أبي الصلت الهروي في تلك الواقعة وحكايته لفعله (عليه السلام) عن عيان، حيث ورد فيها ما لفظه: (قال أبو الصلت فلما سمع الإمام ذلك -أي قول دعبل-:

خروج إمام لا محالة خارج
 

 

يقوم على اسم الله والبركات
 

قام قائمًا على قدميه وطأطأ رأسه منحنيًا به إلي الأرض بعد أن وضع كفه اليمنى على هامته).

بل إن الرواية المذكورة صريحة في حضور أبي الصلت الواقعة المذكورة حيث ورد في صدرها على ما في "مؤجّج الأحزان" المطبوع بتحقيق السيد محمد الغريفي ص 45 قول المؤلِّف: (قال أبو الصلت: كنت جالسًا عند الرضا (عليه السلام) ومعه أصحابه .. إذ دخل عليه أبو نواس .. ثم دخل عليه دعبل الخزاعي .. وقال له .. إني مدحتك بقصيدة فهل تأمرني أن أنشدها بين يديك يا سيدي، فقال له الرضا (عليه السلام): هات ما عندك.

نتيجة الإيرادين

إن مخالفة رواية ابن عبد الجبار والأوالي لهاتين الصحيحتين في هذين التفصيلين مما يزيدها وهنًا إلى وهنها.

توجُّه ثاني الإيرادين على صحيحة الصدوق الأولى

قد يُقال: إن صحيحة الشيخ الصدوق (رحمه الله) الأولى ظاهرة في حضور أبي الصلت الواقعة المذكورة كذلك، حيث ورد في صدرها: (.. عن إبراهيم بن هاشم عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: دخل دعبل بن علي الخزاعي رضي الله عنه على علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بمرو فقال له: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إني قد قلت فيك قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدًا قبلك فقال (عليه السلام): هاتها، فأنشده مدارس آيات..).

دفع الإيراد عن الصحيحة المذكورة

نقول في جواب الإيراد المذكور: بعد صحة هذه الرواية سندًا وموافقتها لما في صحيحة الصدوق الأخرى حول هذه الواقعة فإنه لا يصعب حملُها على الإخبار سماعًا عن دعبل، فإنه لما كان دعبل ثقة جليل القدر أمكن لأبي الصلت حكاية ما أخبره به دعبل حول تلك الواقعة لإبراهيم بن هاشم على نحو الجزم، كما يحق لنا إذا بلغنا بطريق معتبر قول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره أن نحكيَه على نحو الجزم فنقول: (قال أو فعل عليه السلام كذا ..)، إذ من آثار حجية الخبر جواز الإسناد إلى المعصوم.

نعم ظاهر الإخبار عن الواقع على نحو الجزم حصول العلم للمخبر به عن حسٍّ وعيان، ومع عدم ذلك وكون الواقع قد ثبت عنده بطريق معتبر يتعيَّن عليه نصب قرينة على ذلك، وإلا يكون مدلسًا في إخباره المذكور.

والقرينة على ذلك بالنسبة إلينا فيما نخبر به على نحو الجزم عنهم (عليهم السلام) متحققة، فإن طول الفاصلة الزمنية بيننا وبينهم (عليهم السلام) قرينة حالية متصلة بهذه الإخبارات صارفة لها عما هي ظاهرة فيه من الحس والعيان وموجبة لحملها على ثبوت تلك الوقائع عندنا بطريق معتبر.

والأمر كذلك بالنسبة للصحيحة التي نحن بصددها، فإنه وإن كان أبو الصلت معاصرًا لكل من دعبل والرضا (عليه السلام) إلا أنه من المعلوم لنا أنه قد أقام القرينة لإبراهيم بن هاشم على أن قوله له: (دخل دعبل بن علي الخزاعي رضي الله عنه على علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) ..) لم يكن عن حسٍّ وعيان بل سماعًا عن دعبل، وذلك أن صحيحة الصدوق الأخرى عن أبي الصلت التي تضمنت قوله: (سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول لما أنشدت مولاي الرضا (عليه السلام) قصيدتي ..)، والصريحة في عدم حضور أبي الصلت للواقعة المذكورة وكونه قد سمعها من دعبل قد رواها إبراهيم بن هاشم كذلك.

احتمال تعدُّد الواقعة يدفع كلا الإيرادين عن رواية ابن عبد الجبار والأوالي

إن احتمال تعدُّد الواقعة يدفع كلا الإشكالين عن رواية ابن عبد الجبار والأوالي، إذ لعل الإمام (عليه السلام) ألحق البيتين بقصيدة دعبل في المرة الأولى التي أنشده (عليه السلام) إياها ولم يحضر أبو الصلت هذه الواقعة بل رواها عن دعبل ونقلها لنا الصدوق، وفي المرة الثانية التي أنشده إياها أنشد البيتين اللذين كان قد أضافهما الإمام (عليه السلام) ضمن قصيدته وكان أبو الصلت حاضرًا هذه الواقعة فرواها لنا عن عيان ونقلها ابن عبد الجبار والأوالي.

دليلان على بطلان احتمال تعدُّد الواقعة وعدنا ببيانهما

تقدَّم منا الإشارة إلى أن تعدد الواقعة في المقام لا مجال للبناء عليه، مع أنه قد يُقال: أي بُعد في أن يُنشد دعبل الإمام (عليه السلام) قصيدته مرتين؟! وهذا ما يحتاج إلى شيء من البيان فنقول:

إن أصل إنشاد دعبلٍ الرضا (عليه السلام) قصيدته مرتين وإن كان أمرًا لا بُعد فيه إلا أنه في رواية الصدوق ورواية ابن عبد الجبار والأوالي أمران يشهدان بوحدة الواقعة فيهما.

الأول: أنه ورد في كلتيهما دخول دعبل على الإمام الرضا (عليه السلام) وإخباره بأنه قد نظم فيه قصيدة وطلبه الإذن بإنشادها. حيث ورد في صدر أولاهما قول دعبل له (عليه السلام): (إني قد قلت فيك قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدًا قبلك فقال عليه السلام: هاتها فأنشده ..)، وفي صدر الأخرى قوله له (عليه السلام): (إني مدحتك بقصيدة فهل تأمرني أن أنشدها بين يديك يا سيدي، فقال له الرضا (عليه السلام): هات ما عندك ..)، فهل يُعقل أن يدخل دعبل مرَّتين على الرضا (عليه السلام) وفي كل مرة يخبره أنه نظم فيه قصيدةً يريد أن يسمعَه إياها ثم يُنشده القصيدة نفسها؟.

والثاني: إن رواية الصدوق اشتملت على قوله (عليه السلام) لدعبل في هذا الموضع: (فهل تدري من هذا الامام؟ .. فقلت: لا يا سيدي إلا إني سمعت بخروج إمام منكم يطهِّر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جورا وظلمًا...).

ورواية (مؤجج الأحزان) على ما في المطبوع اشتملت أيضًا على قوله (عليه السلام) لدعبل عندما بلغ الموضع المذكور من قصيدته: (أتدري من هو إمامنا؟ قال: لا ولكني سمعت يا مولاي خبرًا يشعر بخروج إمام منكم يملأ الأرض قسطًا وعدلاً ..) وذكره (عليه السلام) له نسب ولده المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

فهل يُعقل أنه في كلتا المرتين عندما يصل دعبل إلى قوله: (خروج إمام ..) يسأله الرضا (عليه السلام) إن كان يعرف هذا الإمام؟ ويجيب دعبل بالنفي، ثم يخبره (عليه السلام) بالأئمة من بعده إمامًا بعد إمام إلى المهدي (عجل الله فرجه الشريف)؟!.

وإنما أسهبنا في الكلام في قضية قيام الرضا (عليه السلام) عندما أنشده دعبل تائيَّته المشهورة لاشتهار الاستدلال بها على استحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) على ألسنة بعض المحصِّلين، فأحببنا التنبيه على ما في الرواية الحاكية لذلك عنه (عليه السلام) من إشكالات سنديَّة ومتنيَّة.

عودٌ إلى الروايات الدالة على أن قيام الرضا (عليه السلام) على تقديره كان قضية في واقعة.

الرواية الثانية: ما رواه الصدوق في (كمال الدين وتمام النعمة) ص302 بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه ذكر القائم (عليه السلام) فقال: (أما ليغيبن حتى يقول الجاهل: ما لله في آل محمد حاجة).

الرواية الثالثة: ما رواه النعماني في كتاب (الغيبة) ص156 بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن القائم إذا قام يقول الناس: أنى ذلك وقد بليت عظامه؟!.

الرواية الرابعة: في الكتاب المذكور أيضًا ص157 بإسناده عن حماد بن عبد الكريم الجلاب قال: (ذُكر القائم عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أما إنه لو قد قام لقال الناس: أنى يكون هذا وقد بليت عظامه مذ كذا وكذا)؟!.

الرواية الخامسة: في أيضًا ص296 بإسناده عن معمر بن خلاد قال: (ذُكر القائم عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال: أنتم اليوم أرخى بالاً منكم يومئذ، قالوا: وكيف؟ قال: لو قد خرج قائمنا عليه السلام لم يكن إلا العلق والعرق والنوم على السروج، وما لباس القائم (عليه السلام) إلا الغليظ، وما طعامه إلا الجشب). إلى غير ذلك مما يجده المتتبِّع.

النتيجة المستفادة من هذه الروايات

لو كان القيام مستحبًا عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) مطلقًا أو بلقب (القائم) لما تركوه (عليهم السلام) ولفعلوه ولو في بعض هذه الموارد الكثيرة، ولبيَّنوه لنا قولاً أو فعلاً، مع أنّا لا نجد له ذكرًا فيما نُقل عنهم (عليهم السلام) من أحاديث حول المهدي (عجل الله فرجه الشريف) سوى ما في ثاني روايتي (تنزيه الخاطر) ورواية ابن عبد الجبار والأوالي اللتين عرفت حالهما، وأنهما على تقدير تماميتهما لا بد من حملهما على القضية في واقعة.

نعم أولى روايتي (تنزيه الخاطر) لما كانت دلالتها على مشروعية القيام عند ذكر (القائم) (عجل الله فرجه الشريف) بالإمضاء والتقرير منه (عليه السلام) لا يمكن حملها على القضية في واقعة وتكون معارضة للروايات الخمس المتقدِّمة المسكوت فيها عن قيامهم (عليهم السلام) عند ذكر (القائم)، إلا أنها لو غُضَّ النظر عن قرائن الوضع فيها التي تقدَّم منا التنبيه عليها وسُلِّم كونها رواية عن الصادق (عليه السلام) فإنها لا تقوى لضعف إسنادها بالإرسال على معارضة هذه الروايات المستفيضة النقل، فضلاً عن أن تتقدَّم عليها.

رواية أخرى تحكي قيام الصادق (عليه السلام) أيضًا عند ذكر القائم (عجل الله فرجه الشريف)

نقل المحدث النوري (رحمه الله) في (النجم الثاقب) ص٤٤٤ عن بعضهم (أنه سأل العالم الجليل المتبحر سبط المحدث الجزائري عن ذلك فقال إنه وجد حديثًا مفاده أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان في مجلس فذكر اسم الإمام المهدي (عليه السلام) فقام الإمام الصادق إجلالاً وتعظيمًا له).

تعليقنا على هذه الرواية

نقول: إن هذه الرواية -بعد التنبيه على أنها اشتملت على قيامه (عليه السلام) عند ذكر الاسم الشريف لإمامنا المهدي (عجل الله فرجه الشريف) [أي محمد] لا لقب (القائم)- مُبتلاةٌ كسابقتيها بضعف إسنادها بالإرسال، وتفرُّد المحدِّث المذكور بنقلها، واحتمال كونها قضية في واقعة، بل ويتعيَّن فيها ذلك بلحاظ الروايات المتواترة التي تركوا فيها (عليهم السلام) القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) والتي اشتمل كثير منها على ذكره باسمه الشريف.

نتيجة البحث إلى هنا

اتَّضح مما تقدَّم: أنه من المطمأن به عدم وجود حكم استحبابي بالقيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) باسمه الشريف أو لقب (القائم) أو غير ذلك مما يدلّ على وجوده المقدَّس، ولو صحَّ قيام الصادق والرضا (عليهما السلام) المحكي في الروايات الثلاث المتقدِّمة فلا بدَّ من حمله على كونه قضية في واقعة.

الاستدلال على استحباب القيام بقاعدة التسامح في أدلة السنن

بقي في المقام أمر وهو أنه قد يُقال: بأن الروايات الآنفة الذكر وإن كانت ضعيفةً إلا أنه يمكن إثبات استحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) أو باسمه الشريف أو مطلقًا عند من يقول بثبوت قاعدة التسامح في أدلة السنن واستفادتها من روايات (من بلغه) المستفيضة النقل، ولعل هذا هو مستند المحدِث النوري وصاحب مستدرك سفينة البحار فيما ذهبا إليه من استحباب القيام المذكور.

تخصيص استحباب القيام بلفظ القائم بناءً على قاعدة التسامح لا وجه له

نقول: إن الروايات المتقدِّمة لم تختص بنقل قيام المعصوم (عليه السلام) عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم)، بل نقل بعضها ذلك، ونقل بعضها الآخر قيامه (عليه السلام) عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) باسمه الشريف، وبعضها الثالث نقل قيامه (عليه السلام) عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) ببعض الصفات المنطبقة عليه بلا ذكر اسمه ولا لقبه، فلو كان مجرد ورود الخبر الضعيف بقيام المعصوم عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) كافيًا في الحكم بالاستحباب استنادًا إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن لما اختص الاستحباب بذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) ولعمَّ ذكره بأي نحو كان، ولتعيَّن الحكم باستحبابه مطلقًا كما هو ظاهر المحدِّث النوري، لا تخصيصه بذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) كما هو صريح صاحب السفينة.

الجواب الحَلَّي على الاستدلال المذكور

نقول: حتى بناء على ثبوت قاعدة التسامح -وتحقيق ذلك تفصيلاً موكل إلى محله من علم الأصول- لا مجال لإثبات الاستحباب بها في المقام، وذلك أن موضوع القاعدة المذكورة هو بلوغ الثواب على عملٍ، أي وصوله إلينا بنحوٍ نحتمل معه صدوره عن المعصوم (عليه السلام)، وهذا غير متحقق في المقام، فالروايات الآنفة الذكر بأجمعها لا تحقق موضوع القاعدة المذكورة.

أما أولى روايتي (تنزيه الخاطر): فللاطمئنان بعدم صدورها عن المعصوم (عليه السلام)، وهي بكلام بعض علماء الأعاجم أشبه منها بكلام سادة الأنام وأمراء الفصاحة والبيان (عليهم السلام) كما عرفت.

وأما الروايات الثلاث الأُخَر: فهي وإن كانت محتمَلة الصدور إلا أنها لم تتضمن الإخبار عن ترتب الثواب على القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف)، بل محض حكاية قيام المعصوم (عليه السلام)، وهو قضية في واقعة كما عرفت، وليس فيها دلالة على مطلوبية القيام ومشروعيته بخصوصه عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) وأنه مما يُثاب عليه بخصوصه. ولا أقل من كون قيامهما (عليهما السلام) فعلاً مجملاً لا لسان له -كما عرفت- فكما يُحتمل كونه ناشئًا عن استحباب القيام بخصوصه يُحتمل كونه قضية في واقعة، فيكون التمسك بقاعدة التسامح لإثبات استحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بهذه الروايات تمسكًا بالقاعدة في الشبهة المصداقية لموضوعها، وهو باطل بالاتفاق.

دعوى كون القيام المذكور مشمولاً للوعد بالثواب في روايات (من بلغه)

إن قلت: رغم كل ما تقدَّم يبقى استحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) أو مطلقًا محتملاً عقلاً، ولعل الأئمة (عليهم السلام) تركوا بيانه أو العمل به في الموارد الكثيرة المشار إليها لأسباب لم تصل إليها عقولنا، أو أنهم عملوا بالمستحب المذكور وبينوه لنا ولكن لم يصل ذلك إلينا، بل ضاع في جملة ما ضاع من أحاديث وروايات.

وعليه: فيستطيع المكلَّف أن يأتي بالقيام المذكور رجاءً وينال الثواب الذي يرجوه على القيام المذكور بمقتضى روايات (من بلغه) المشار إليها آنفًا، إذ هي على تقدير عدم دلالتها على قاعدة التسامح في أدلة السنن واستحباب العمل البالغ عليه الثواب بالعنوان الأولي أو بعنوان كونه مما بلغ عليه الثواب لا شك في مقام بيان أن الله يُعطي المكلَّف الثواب الذي يرجوه من وراء العمل إذا جاء به رجاءً وإن لم يكن الواقع على ما ظنَّه تفضلاً منه تعالى وشكرًا لعبده على حسن انقياده، وخصوصية بلوغ الثواب ملغاة عرفًا حيث يرون أن موضوع التفضُّل المذكور هو مجرَّد احتمال ترتب الثواب على العمل والإتيان به رجاءً لكونه انقيادًا للمولى، وأن بلوغ الثواب لا موضوعية له بل هو الطريق الغالب لتحقق رجاء الثواب، كما أن هذا هو المناسب لمقام الامتنان الذي وردت فيه الروايات المذكورة.

منع الكبرى التي تبتني عليها هذه الدعوى

نقول: الأصل في العنوان المأخوذ في لسان أي دليل أن له الموضوعية، وإلغاؤه يحتاج إلى دليل، وأنّى للعرف أن يقطع بأن دائرة امتنانه تعالى بوعده بإعطاء الثواب المرجو هي مطلق احتمال الثواب لا احتماله الناشئ من بلوغه عن المعصوم (عليه السلام) كما هو ظاهر بل صريح روايات (من بلغه)، ومجرد كون التعميم لمطلق الاحتمال أبلغ في الامتنان لا يقتضيه بعد كونه خلاف صريح هذه الروايات كما عرفت، بل في تحقق الامتنان بتعميم الوعد بالثواب إلى مطلق رجاء الثواب ولو من غير طريق البلوغ عنهم (عليهم السلام) نظرٌ، لتأديته إلى فتح باب العبث بالدين، إذ لكلٍّ محتملاتُه ومشتهياته التي يرجو الثواب عليها والتي لا تكاد تقف عند حدٍّ، فوعد الشارع بإعطاء الثواب المرجو على مراعاة مثل هذه المحتملات العقلية المحضة يؤدي إلى الهرج والمرج.

نعم، مثل هكذا احتمال يكفي في تسويغ الإتيان بالعمل رجاءً لصاحبه وفي خروج فعله عن كونه تشريعًا محرمًا، ولعل الله يعطيه الثواب الذي يحتمله على ذلك وإن لم يكن العمل مستحبًا واقعًا تفضلاً منه وكرمًا فإن الله عند حسن ظن عبده المؤمن به، إلا أن العمل المذكور لا يكون مستحبًا ولا مشمولاً للوعد بإعطاء الثواب المرجو في روايات (من بلغه) لعدم شمولها لمثل هذه الاحتمالات كما عرفت.

الوعد بالثواب في روايات (من بلغه) لا يلزم المولى به

إن محاولة إدراج القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) في البلوغ الذي هو موضوع روايات (من بلغه) إما بادِّعاء بلوغ الثواب عليه أو بادِّعاء عموم الروايات المذكورة لمطلق احتمال الثواب ولو بغير بلوغ منشؤه توهُّم أن مقتضى الروايات المذكورة لزوم إعطاء المكلف الثواب الذي بلغه على العمل فيما لو أتى به رجاء الثواب المذكور، بعد أن كانت ظاهرة في الوعد بالثواب على ذلك وكانت حجة شرعًا في مؤداها وكان الوفاء بالوعد لازمًا في حقِّه تعالى.

إلا أن التحقيق: أن ظاهر هذه الروايات حجة يمكن الاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي والتعبد به بناء على كون مفاد هذه الروايات استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب بعوانه الأولي أو بعنوان كونه مما بلغ عليه الثواب، وأما بناء على أن هذه الروايات لا تفيد سوى الوعد بإعطاء العبد الثواب المذكور لحسن انقياده، فإن حسن الانقياد عقلي قطعي لا يختص بمورد بلوغ الثواب، ولا يمتاز المورد المذكور إلا بالوعد بفعلية الثواب فيه الذي تضمنته هذه الروايات، وليس الوعد المذكور حكما شرعيًا كي تنهض الحجة بإثباته وتحديد متعلَّقه، بل هو أمر واقعي لا دخل لقيام الحجة فيه بوجه.

ولا مجال لدعوى: أن قيام الحجة على الوعد بالثواب ملزم للمولى بتنفيذه وإن كانت الحجة مخطئة، وذلك لأن أدلة الحجية منصرفة إلى التعبد بمضمون الحجة في مقام العمل، المقتضي لمعذِّريتها ومنجزِّيتها، لا إلى التعهد بتنفيذ مؤداها وتحقيقه على كل حال وإن كانت مخطئة.

بل ليس ملاك لزوم تنفيذ الوعد بالثواب في ظرف قيام الحجة عليه إلا حسن الوفاء من المولى بوعده، فلو فرض خطأ الحجة وعدم صدور الوعد منه واقعًا فلا ملزم له بالتنفيذ.

ومن ثمَّّ كان ما تضمنته روايات (من بلغه) من إعطاء نفس الثواب البالغ وإن كان الخبر الوارد به كاذبًا تفضلاً ، غير لازم على المولى حتى لو كانت تلك الأخبار حجة في نفسها، ولا يلزم بمقتضى حجيتها.

نعم، قد تنفع روايات (من بلغه) في تقوية احتمال التفضل بالثواب البالغ الموجب لقوة الداعي للانقياد وإن لم يتيقن بترتب الثواب، كما قد يقوى الاحتمال المذكور لأسباب أخر غير هذه الأخبار، بل قد يقوى الداعي للانقياد مع ضعف الاحتمال المذكور لأهمية نفس الثواب البالغ.

وبناءً عليه: فحتى لو فرض بلوغ الثواب على القيام المذكور بالروايات الأربع المشار إليها آنفًا، أو فُرض عدم بلوغه أو الشك في ذلك ولكن قلنا باحتمال الثواب عليه عقلاً وشمول روايات من بلغه لمطلق الثواب المرجو ولو بغير بلوغ، فإن كلا الأمرين لا ينفع في لزوم إعطاء الثواب المرجو على القيام المذكور عليه تعالى، غايته أنه مع إتيانه بالقيام المذكور رجاءً يحتمل أن يتفضل الله عليه بالثواب الذي يرجوه على ذلك.

خلاصة البحث

تحصَّل من كلِّ ما تقدَّم: أنه لم يقم دليل على استحباب القيام ووضع اليد على الرأس عند ذكر إمامنا المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) أو باسمه الشريف فضلاً عن استحباب ذلك لمطلق ذكره، كما أنه لم يبلغنا الثواب على الفعل المذكور عنهم (عليهم السلام) حتى يكون مستحبًا بعنوانه أو بعنوان كونه مما بلغ عليه الثواب أو مشمولاً للوعد بإعطاء الثواب لمن أتى به رجاءً على الخلاف فيما هو المستفاد من روايات (من بلغه).

وحتى لو فرض بلوغ الثواب على القيام المذكور أو عموم روايات (من بلغه) لاحتمال الثواب ولو بغير بلوغ فإن الروايات المذكورة لا تلزم المولى بإعطاء الثواب المرجو لو أُتي بالقيام رجاء ذلك الثواب، لعدم استلزامها لصدور الوعد المذكور من الله تعالى واقعًا، إذ روايات (من بلغه) حتى لو فرض تواترها وكونها قطعيَّة الصدور، فهي ظنيَّة من حيث الدلالة على الوعد بالثواب على الانقياد للخبر الضعيف، لأن استفادة ذلك منها بتوسط إطلاق البلوغ موضوع الوعد الذي تضمَّنته، وهو وإن كان حجَّة بمقتضى حجيَّة الظهور الإطلاقي إلا أنه يُحتمل مخالفته للواقع واختصاص الوعد بالثواب بالبلوغ بطريق معتبر، فضلاً عن أن بعض العلماء منع من إطلاق البلوغ في الروايات المذكورة وادَّعى أن المتيقَّن منها هو البلوغ بطريق معتبر، وبعض آخر مع اعترافه بالإطلاق ادّعى أن ما دل على اشتراط الوثاقة في جواز العمل بالخبر يصلح لتقيد البلوغ موضوع الوعد بالثواب في روايات (من بلغه).

نعم من يحصل له مما تقدم احتمال استحباب القيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بلقب (القائم) أو باسمه الشريف أو مطلقًا، له أن يقوم رجاء أن يُثاب عليه بخصوصه، ويُحتمل أن الله يُعطيه الثواب الذي يرجوه على ذلك، فالله تعالى عند حسن ظن عبده المؤمن به، وهو أكرم الأكرمين.

ولعلَّ هذا هو مقصود بعض مراجع العصر (رحمه الله) من قوله في بعض استفتاءاته لما سُئل عن القيام لذكر الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) ووضع اليد على الرأس وكذا القيام عند ذكر (القائم) أرواحنا فداه؟ فأجاب: (ما وجدنا في ذلك رواية معتبرة، ولكنه نُقل في بعض الكتب، وينبغي العمل به رجاءً للثواب، والله العالم).

وإن كان الأولى من ذلك أن يأتي المكلَّف بالقيام المذكور بما هو أبرز مصاديق احترامه وتوقيره وتبجيله (عجل الله فرجه الشريف) الذي لا إشكال في رجحانه وكونه من أعظم القربات إلى الله عزَّ وجل كما عرفت.

وأما ما يُتناقل على ألسنة بعض المؤمنين من احتياط بعض مراجع العصر وجوبًا بالقيام عند ذكره (عجل الله فرجه الشريف) بهذا اللقب فلم نعرف له وجهًا، وإن كنا لم نتحقق من صحة هذه النسبة.

والأغرب من ذلك ما ذُكر في ترجمة الشيخ عبد النبي العراقي (قدس سره) في مقدِّمة شرحه على العروة الوثقى، من أن له رسالة مخطوطة بعنوان (منية الطالب في لزوم القيام عند ذكر القائم) مما يظهر منه ذهابه إلى الوجوب في المقام، ولعلَّه اطلَّع في المقام على ما لم نطَّلع عليه في حدود بحثنا الذي قمنا به، والله تعالى العالم بحقائق الأمور، وهو سبحانه من وراء القصد.

نصيحة ختامية

وفي الختام أذكِّر نفسي وإخواني بأنَّ أبرزَ مظاهر احترام الإمام (عجل الله فرجه الشريف) وتبجيله التقيُّد بشريعةِ جدِّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) وتعاليم آبائه المعصومين (عليهم السلام)، وعدم العبث بها والزيادة عليها بالتشهِّي والاستحسان؛ امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه}.

ــــــــــــــ

الهوامش
 

[1]- أي أن الرجحان الشرعي المسلّم إنما هو من جهة انطباق عنوان التعظيم على القيام ، فيكون القيام حينئذ راجحًا لرجحان التعظيم ، وليس هو الآن بصدد إثبات مشروعية القيام بالعنوان الآخر المستفاد من النصوص -أي القيام تعبدًا- (التحرير).

[2]-  أي أن القيام ينطبق عليه عنوانان : عنوان التعظيم فيكون القيام حينئذ راجحًا لرجحان التعظيم ، وعنوان آخر مستفاد من النصوص  بحيث يكون موضوعًا لحكم خاص ولو كان لمجرد التعبد -شأن القيام حال تكبيرة الإحرام.

وعليه :  فقول الكاتب : (وأنَّ ثمة في المقام حكمًا شرعيًا ...) تفريع على احتمال كون القيام لخصوصية تعبدية في القيام نفسه لا لجهة كونه مصداقًا للتعظيم  (التحرير).

[3]-  الحج 32.

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث والعشرون