السنة التاسعة / العدد الثالث والعشرون / حزيران  2013م / رمضان  1434هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

اضطراب الوسواس القهري

قراءة في المفهوم والمظهر والعلاج

الحاجَّة أم هادي عبَّاس

 

المقدمة

كثيرة هي أمراضنا ومعاناتنا وآلامنا، سواء النفسيّة منها والجسديّة، وقليلة هي أبحاثنا الصادقة التي تُعنى بكشف تلك الأمراض وإزالة تلك المعاناة وعلاجها.

إن النفس الإنسانيّة بحاجة إلى اكتشاف واستنارة بجهد كل الباحثين الجادّين، للوقوف على بعض أمراضها، التي تتطلب وعيًا أكثر للتنبّه لها، ودقّة في التعامل معها، حيث يتطلب الالتفات إليها المزيد من الاطلاع على الأمراض النفسيّة.

والمرض النفسيّ كغيره من الأمراض العضويّة، قد يصيب أيَّ واحد منّا، وهو ليس وصمةَ عارٍ أو خطأ أو عقابًا إلهيًا، إنما هو داءٌ يحتاج إلى دواء عن طريق المختصين بالطب النفسي، ويتعرض للإصابة به الصغار والكبار على حدّ سواء، وهو على أنواع.

وإنما نؤكّد على الأمراض النفسيّة لأنها خفيّة وأشد خطورة أحيانًا من الأمراض العضويّة إن لم يتم اكتشافها أو لم تأخذ حقّها من العلاج الصحيح.

أما العضويّة فأعراضها غالبًا ظاهرة وكثيرة، والاهتمام بها شائع سواء من قِبَل الأطباء أو الأهل أو الأصدقاء، ومنها ما يكون ناتجًا عن الأمراض النفسيّة، وهي التي تُسمى بالأمراض السيكوسوماتيّة (النفس جسديّة)([1]).

ومن تلك الأمراض النفسيّة الشائعة، مرض (الوسواس القهري)، وهو مرض يجهل الكثيرون من المصابين به أنهم مرضى، وأنهم من الممكن أن يشفوا منه أو يتحسّنوا على الأقل.

ناهيك عن قلة الاهتمام والعناية بالأمراض النفسيّة، مما يجعل المريض يعاني من مرضه وحيدًا، لا يجد من يُعينُه على مغالبة تلك الوساوس، ولعل السبب هو عدم المعرفة الكافية بكيفيّة التعامل مع هذا المرض من قبل المحيطين بالمريض النفسي.

إضافة إلى قلّة المصادر والمراجع في المكتبة العربيّة، إذ إن موضوع اضطراب الوسواس القهري ندر الكلام عنه نسبة إلى الأبحاث الأخرى التي تناولت غيره من الاضطرابات، وقد وجد الباحثون في هذا الموضوع أن خمسة وعشرين فردًا من بين ألف فرد يعانون من الوسواس القهري على مستوى العالم، وهو في تزايد.

ونظرًا لأهميّة وخطورة هذا المرض ولتواجد هذه الحالات بكثرة في عصرنا الحاضر، ولأهميّة المعرفة السليمة في كيفيّة التعاطي مع مريض الوسواس القهري، لذلك سنحاول في هذه المقالة إلقاء الضوء على ماهيّة هذا المرض وصوره وأقسامه، وكيفيّة التعامل مع ضحاياه، وكيفيّة تفهمه، والتعرّف على سبل العلاج للتخلص منه، وذلك من خلال تقديم النصائح والإرشادات لمرضى الوسواس القهري، ومساعدتهم للتخفيف من القلق النفسي الناجم عن هذا المرض، وتوعية الأسرة بسلوك ابنها المريض بالوسواس القهري وطرق التعامل معه، والعمل على تكاتف الجهود، وإيجاد بيئة اجتماعيّة مناسبة يعيش فيها.

وهنا يتبادر إلى الأذهان عدة تساؤلات حول هذا الموضوع وهي:

أنه هل يمكن التخلص من اضطراب الوسواس القهري من دون تدخل علاجي؟

- هل يدرك المصاب بالوسواس القهري أنه مريض؟

- هل يُعالَج مريض الوسواس القهري بالعقاقير والجراحة، أم بأساليب أخرى كالعلاج السلوكي والمعرفي؟

- هل يتعرض الأطفال لمرض الوسواس القهري، أم هم في منأى عنه؟

- هل أسباب اضطراب الوسواس القهري وراثيّة، أم بيئيّة مكتسبة؟

الفصل الأول

اضطراب الوسواس القهري (OCD)

مفهومه - أسبابه - صوره

تعريف الوسواس لغة

الوَسْوَسَة لغة: حديث النفس، يقال: وَسْوَسَت إليه نفسه وَسْوَسَة ووِسْواسًا بكسر الواو، والوَسْواس بالفتح الاسم، قال الفرّاء: هو بالكسر مصدر، والاسم بالفتح، مثل الزِّلزال والزَّلزال.

والوَسْواس: همس الصائد والكلاب، وهو الصوت الخفي، والمُوَسْوَس: الذي تعتريه الوساوِس، والوَسْواس: اسم الشيطان([2]).

[وهو في القرآن بمعنى حديث النفس والكلام الصادر من الباطن، سواء كان من قبل الشيطان أو من ذات الإنسان]([3]). قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}([4])، وقال تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}([5]).

ماهيّة الوسواس

[الوسواس عبارة عن هواجس نفسيّة تأتي على شكل أفكارٍ وأوهامٍ وميولٍ ورغبات، أو اندفاع مصحوب بمشاعرَ إكراه داخلي جارف، و ذلك بسبب هيجان داخلي حاد، يتجسد على هيئة سلوك غير متزن لدى الإنسان. وتظهر هذه الأفكار والأحاسيس -والتي تتسبب بإزعاج الآخرين- بشكل لاإرادي في القسم الشعوري من الذهن، حيث تكون في حالة مواجهة وتضاد مع الأنا]([6]).

إذن: اضطراب الوسواس القهري هو الأفكار التسلطيّّّة والأفعال القهريّة والتفاعل بينها([7]). وتوضيح ذلك:

الأفكار الوسواسيّة

[هي مجموعة من الأفكار أو الصور المتواصلة والمتسلطة والمستمرة، التي تقتحم عقل المريض وتراوده وتلازمه، مع عجزه عن دفعها أو طردها أو التخلص منها، ويعاني المريض كثيرًا منها لغرابتها وعدم فائدتها، وتسببها بكثير من القلق والإزعاج، وتلحُّ على خاطره عبارات معيّنة أو اسم معين يتكرر باستمرار]([8]).

الأفعال القهريّة

[هي أعمال عقليّة واعية، وسلوكيات متكررة جبريّة، استجابة لأفكار وسواسيّة، لتخفيف أو منع القلق والإزعاج الناتج عن تلك الأفكار، ولا يستطيع المريض مقاومتها، وهي تستحوذ عليه لفترة طويلة، وهو غير راضٍ عنها ولا يحبها، خاصة وهو لا يشعر بثمرة من وراء تكرارها، لكنه مقهور على استمرار عملها والقيام بها.

ودائمًا ما تأتي الوساوس القهريّة لمنع أو تجنّب بعض الأحداث المفزعة المتصوَّرة في عقل المريض، مثل سوء الحظ المتوقع، أو المحن والبلايا، أو الموت، أو المرض]([9]).

أسباب الوساوس القهريّة

إن اضطراب الوسواس القهري ليس ناتجًا عن قلة التديُّن أو ضعف الإيمان أو غياب الإرادة أو التقصير في الأذكار والدعاء، وإن كان للإرادة والإيمان دور في التغلب أو التخفيف من حدّة تلك الوساوس، إنه أمر يحدث بسبب اضطراب في النواقل العصبيّة في المخ -أي بسبب عضوي- كمرض السكر حيث إن له سببًا عضويًا وهو اضطراب مادة الأنسولين وعمليات التنظيم الغذائي للسكر، وليس لمرض السكر علاقة بالإيمان والإرادة والأذكار، وإن كان أيضًا لقوة الإرادة دور في التخفيف من أعراض المرض بعد الإصابة به.

ولوحظ أن أعراض الوسواس القهري قد تبدأ في الظهور عقب ضغوط شديدة في العمل، أو عقب الامتحانات، أو عقب الحمل والولادة، أو وفاة إنسان عزيز ومهم، أو خلل في العلاقة الخاصة بين الزوجين([10]).

إضافة إلى أن هناك أبحاثًا عديدة جديدة تعتبر أن بعض أنواع اضطراب الوسواس القهري المبكر واحد من اضطرابات المناعة الذاتيّة([11]).

ومن الأمور المهمة: تحديد جذور الاختلالات النفسيّة والعصبيّة، إذ لا يمكن معالجتها ما لم يتم التعرف عليها وتشخيصها، ويجدر بالأهل والمربّين الوقاية منها ومعالجتها، وهناك آراء كثيرة حول جذور الوسواس وأسبابه، وأهم ما ذكره الباحثون: الوراثة - ضعف الشخصيّة - التنافس - المنع - الوضع العقلي - العوامل الاجتماعيّة - العوامل الأسريّة - العوامل العرضيّة([12])- العوامل الحيويّة.... إلخ، وسنتعرض لبعضها فيما يلي:

1- العوامل الحيويّة

إن المحاولات العلاجيّة التي استخدمت فيها الأدوية دعمت فرضيّة مفادها، أن هناك اضطرابًا في الناقل العصبي السيروتونين([13]) في عمليّة تكوين الأعراض في الوساوس القهريّة. وقد أفادت دراسات تمّت عن طريق التصوير الطبقي بالانبعاث البوزيتروني زيادة في تدفق الدم والتمثيل الغذائي في الفص الجبهي والعقد القاعديّة وأجزاء أخرى في المخ، وعند إعطاء العلاج الدوائي والمعرفي السلوكي تخفّ هذه الاضطرابات وتتحسن حالة المريض. وقد بيّنت دراسات الأشعة المقطعيّة والأشعة بالرنين المغناطيسي صغرًا في حجم النواة المذيّلة على الجانبين عند مرضى الوساوس القهريّة([14]).

2- عامل الوراثة:

تعتبر الوراثة عاملاً مهمًا من عوامل نشوء الوسواس، إلا أن للعوامل التربويّة تأثيرًا مهمًا ودورًا كبيرًا في استفحال المرض، وقد أثبتت تحقيقات بعض المختصين أن أربعين بالمائة (40%) من المصابين بالوسواس قد ورثوه عن أبويهم، وقالوا: إن انتقال العوامل العصبيّة قد يكون أحد جذور وأسباب الوسوسة.

3- عامل التربيّة:

أي الخلفيّة التربويّة للمرضى، حيث يلعب أسلوب الوالدين دورًا مهمًا في تربية الأطفال، حسب رأي كانر (Kanner)([15])، ومن الأمور الجديرة بالذكر في هذا المجال ما يلي:

أ- مرحلة الطفولة: تدل تواريخ حياة المصابين بهذا المرض في مرحلة الطفولة على حجم العناء والألم النفسي الذي عانوه جراء إخفاقهم في إثبات ذاتهم أمام إرادة الكبار، وتشير الدراسات إلى أن خمسين بالمائة (50%) من الحالات تعود حالتهم لسني الشباب بالدرجة الأولى، ثم إلى مرحلة الطفولة.

ب- أسلوب التربية: تشير نتائج الدراسات إلى أن لأسلوب الأبوين في تربية الأبناء دورًا مؤثرًا في هذا المجال، وخاصة الوالدين اللذَين يحرصان على أن يكون سلوك الطفل مطابقًا لسلوكهما، وقد أثبتت الدراسات أن الأمّ التي توصف بشدة الحساسيّة تهيئ بسلوكها الأرضيّة لإصابة الأبناء بداء الوسواس([16]).

وفي دراسة عربيّة (مي الرخاوي: 1992) خلصت الباحثة إلى أن الضغوط العائليّة من أهم الأسباب المرسّبة لاضطراب الوسواس القهري عند الأطفال المصابين به([17]).

جـ - الأسلوب الجاف: إن للأسلوب الجاف والمقنن في تربية الأبناء، والذي يفتقد إلى المرونة، آثارًا لا يستهان بها في الإصابة بهذا الداء، فالوالدان المتزمّتان يفرضان على الأبناء أمورًا فوق طاقتهم، بسبب ما يحملانه من معايير فكريّة غير منطقيّة، فيوقعون الطفل في مواقف حرجة، كالحبس في الغرفة لقاء إلزامه بفعل عمل ما، أو عقابه على أمر ما، مما يولّد لديه المخاوفَ والقلقَ والاضطرابَ والشكوكَ، وبالتالي الوسواس.

كما أن فصل الطفل عن الرضاعة بشكل فجائي، والتشدّد معه في أصول النظافة والتزام الآداب له أثره في هذا المجال.

د - تحقير الطفل: تشير الدراسات إلى أنه لا يمكن للأطفال الذين تعرضوا للإهانة والتعنيف والتأنيب المتواصل أن ينتهجوا سلوكًا طبيعيًا، فيظهر أثر ذلك بأشكال مختلفة، ومنها الوسوسة.

فبعض المصابين كانت تتردد على أسماعهم: (أنت فاشل)، (لستَ أهلاً لشيء)، (أنتَ غير جدير بالحياة)، وتعرّضوا للإهانة والعقاب من قبل المربّين والآباء والأشقاء الأكبر سنًا، وهذه السلوكيات تؤدّي بهم إلى الوساوس بشكلٍ تدريجي.

هـ - عدم الشعور بالأمن: يعاني الأشخاص المصابون من اضطرابات في مرحلة الطفولة، نتيجة عدم رضا الآباء والمربين عن أفعالهم، مما يدفعهم إلى المبالغة في الدقة في إنجازاتهم وتصرفاتهم، في سبيل كسب رضا المشرفين على تربيتهم، وشيئًا فشيئًا يتحوّل هذا السلوك إلى ابتلاء بداء الوسواس، فالطفل الذي تعرَّض للتهديد في سن الرابعة، ولم تستأصل آثار ذلك من نفسه، يحتمل أن يصاب بالوسواس في سن السادسة أو السابعة من عمره.

و - كثرة المنع: كثرة الممنوعات في سن الطفولة أو الحداثة والشباب، أو القيود المفروضة وكثرة المؤاخذات على التصرفات، تؤدّي إلى الإصابة بالوسواس.

 ز- فقدان المحبّة: ولادة طفل جديد في الأسرة، حيث يوجّه الوالدان وخصوصًا الأم -جهلاً بأصول التربية- كلّ الاهتمام إلى القادم الجديد، فيما يبقى الأول مهملاً يكابد الحسرات والآلام الناتجة عن ذلك الوضع.

* * *

وتشير نتائج الدراسات العلميّة العديدة حول الأشخاص المصابين بالوسواس إلى مسألة مهمة وخطيرة وهي: إن أغلب المصابين بالوسواس كان لهم آباء يتّصفون بـ :

أولاً: العناد وعدم التسامح، والتعنّت في الطلبات والأوامر التي توجّه للأبناء.

ثانيا: يتقصّون عيوب الأبناء، ويكاشفونهم بها في مواقف مخجلة.

ثالثا: يتَّسمون بالبخل إلى درجة تجعل الطفل يتَّبع أسلوب العناد والإصرار لتحقيق مراده.

صور الوسواس القهري

1- الاجتناب: أي اجتناب الأشياء والأمور والتصرفات، وأكثر صور هذا الاجتناب يتجلّى في تجنب القذارات، ويلحظ ذلك في الأغسال المتكررة. ويمكن لمرضى الوسواس أن يستمروا بممارسة تلك الأغسال إلى أن يصابوا بالأمراض الجسميّة، إضافة إلى أن هذا النوع من الممارسة يعيق المرء عن أعماله ويبعده عن سيره التكاملي.

2 - التكرار: حيث يكرِّر المصاب عملاً عبثيًا وغير مثمر، حيث يشعر بأن هناك قوة داخليّة تجبره على القيام بهذا العمل، ولا يمكنه مقاومتها، وهذا التكرار يكون نتيجة لاضطرابه حيث يمنحه الهدوء والسكينة.

3- الدّقّة المفرطة: يسعى المصاب إلى القيام بكل شيء على أساس ترتيب ونظام صارمين، ولا يكلّ ولا يملّ من هذه الحالة، فمثلاً: إذا لم تكن أقلامه مصفوفة ومنتظمة حسب الطول تضطرب حاله، ويتصوّر أن الأمور لا تسير على ما يرام.

4- الإجبار: يشعر المصاب بأنه ملزم بالقيام بجميع أعماله بشكل آليّ، ويزداد لديه هذا الشعور باطراد، إلى درجة يهيمن على جميع أعماله وتصرفاته، ويعرِّض حياته الخاصة والاجتماعيّة للخطر، فأحيانًا يبرز هذا الشعور في تصرفاته، فمثلاً: نراه يكرّر غسل جسده حتى يُحدِثَ في جلده ضررًا بالغًا إثر استعماله الصابون.

5- الشعور بالوصول إلى طريق مسدود: يشعر المصاب أحيانًا بأنه لم يعد قادرًا على حلّ مسألة ما أو السيطرة عليها بأي حال من الأحوال، فيعمد إلى إشغال نفسه بأمر ما، ويبقى يكرره للخروج من هذا المأزق. إن مساعيه المتكررة والمتشابهة، كغسل يديه وثيابه لمرات عديدة دون نتيجة، ترتبط بهذا الأمر، فهو يتصور أنه إذا تخلى عن سلوكه هذا فإنه سيقوم بتصرف غير مرغوب من قبله ومن قبل الآخرين، فيشغل نفسه بهذه الأعمال حتى لا يضطر للجوء إلى الممارسات غير الصحيحة.

6- العناد والتعنت: يلجأ أحيانًا إلى القيام بتصرفات معقدة ومصحوبة بالعناد والتعنّت من أجل الحدّ من اضطرابه وتوتره النفسي، وأحيانًا يصل به الأمر إلى إيذاء نفسه، فإذا لم يؤذها ولم يعاقبها لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال.

7- الخوف: ومن الأعراض المهمة للوسواس الخوف الكاذب الذي لا أساس له في الواقع الخارجي، حيث ينشأ نتيجة الوسوسة النفسيّة التي تثير مخاوفه من حصول حدث معين، كالخوف من الأوساخ. وهناك مخاوف تأتي من الهواجس المبهمة في بعض الحالات، مثل الخوف من قتل أطفاله، أو دفع أشخاص مرافقين له([18]).

8- التردد: من صور الوسواس أيضًا: التذبذب وعدم الجزم في الأمور، حيث يشعر المصاب بأنه غير قادر على اتخاذ قرار بشكل جيد، ومن الممكن أن يُقدِم على أمر ما ويرفضه في آنٍ واحد، كأن يصدق ولا يصدق، وهل يؤدي هذا العمل أم لا، وهكذا تكاد تكون الحال عنده بشكل دائم، ففي بعض الأحيان يصل به الأمر إلى الحدّ الذي يعجز فيه عن ترجيح إحدى المسألتين على الأخرى، فهو ينظّف يده مثلاً ويحصل لديه شك هل نظّفها جيدًا أم لا؟! فيعاود الكرة تلو الأخرى في تنظيفها وهكذا، فتؤثر هذه الحالة أحيانًا على كل نشاطاته النفسيّة([19]).

9- الشك المرضي (Pathological doubting): حيث يصل من يُعاني من اضطراب الوسواس القهري إلى أبعاد لامعقولة في شكوكه([20])، كالشك في العبادة، فعندما يقوم للصلاة مثلاً يأتي بالإقامة ويكبِّر تكبيرة الإحرام، وبعدها يشكّ: هل تلفظ بالتكبيرة على نحو صحيح أم لا؟ هل صلَّى ركعتين أو ثلاثًا أو خمسًا؟ وهل كانت نيّة الاقتداء بالجماعة صحيحة أم لا؟ وهكذا.

هذه الحالة من التردد والشك تسيطر عليه إلى الحدّ الذي يبقى أحيانًا عند النيّة، بينما يكون إمام الجماعة قد هوى إلى الركوع أو السجود، وهكذا يسيطر الشك على جميع جوانب حياته العباديّة وغيرها بشكل كامل.

وهناك أعراض أخرى لا يسع المقام للتفصيل فيها، من قبيل: الانشغال العابث بعدّ أعمدة الدار مثلاً، أو التأمل في طابوق البناء هل هي مصفّفة بشكل دقيق ومنظم أم لا، أو العبث بالشعر أو بأزرار الثياب، أو قضم الأظفار، أو الحرص الشديد على إقفال الأبواب ومراقبتها، وغير ذلك.... ([21]).

الفرق بين مرض الوسواس القهري والشخصيّة الوسواسيّة

إن الفارق الأساسي بين مرض الوسواس القهري والشخصيّة الوسواسيّة يكمن في درجة الاضطراب في النواحي الاجتماعيّة والمهنيّة والأكاديميّة وفي الحياة عمومًا، فمن يتصف بالشخصيّة الوسواسيّة قلما يشعر بالمعاناة، ونادرًا ما يطلب العون، حتى أنه لا يدري أن هناك مشكلة إلا إذا تمَّ تنبيهه من قبل صديق أو قريب ممن يهتمون لأمره ويلاحظون سلوكه الجامد أو التحفظ والبرود.

أما في حالة المرض فتصل الوساوس إلى حد الاضطراب في الحياة اليوميّة الاجتماعيّة، حيث تؤدّي إلى العزلة والتفرغ لممارسة الطقوس الوسواسيّّة، فيكون سببًا للفشل الدراسي والمهني، فيهمل المريض عمله أو يفقده بشكل كلي، وفي هذه الحالة لا بد من التدخل العلاجي.

إذًا: إن الفارق نسبي بين درجة الوسواس في المرض ودرجته في الشخصيّة الوسواسيّة، والطبيب النفسي وحده من يقرر الحالة.

الفرق بين وسواس الشيطان والوسواس القهري

هناك عدَّة فروق بين وساوس الشيطان والوساوس القهريّة ينبغي إيضاحها:

أ - وساوس الشيطان دائمًا تدعو إلى ما تشتهيه الأنفس وتتلذذ به، كالنظر المحرَّم، والسرقة، والظلم، والاستماع المحرَّم كاستماع الغيبة والنميمة، والاستمتاع بحقوق الآخرين. فإما أن يرضخ لأهوائه متجاوزًا حدود الله، فهو معرَّض لسخطه وعقابه، وإما أن يدعها ويمتنع عنها، وهو قادر على ذلك.

ب- أما الوساوس القهريّة فهي اضطراب مرضي مثل كل الأمراض، له أسبابه المهيئة وهي:

1- إما أفكار وخواطر وسواسيّة تسلطيّة لا يرضى عنها المصاب ولا يستطيع التخلص منها.

2- وإما أفعال قهريّة واندفاعات في أحوال الدين والدنيا، كتكرار الصلاة وتكرار غَسل الأيدي([22]).

لذا ولوجود هذا الفارق بين هذين النوعين من الوساوس -أي الشيطانيّة وغيرها- اعترض بعضهم على تسمية الوسواس القهري بهذا الاسم، مفضلاً إطلاق لفظ (الوسوسة) على خصوص الوساوس الشيطانيّة، واستبدال مصطلح (الوساوس القهريّة) بـ (الهواجس القهريّة)([23]).

الفصل الثاني

اضطراب الوسواس القهري (OCD)

أقسامه ومراحله

أقسام الوساوس

1- الوسواس الفكري:

وهو فكرة تستولي على ذهن المصاب، فتثير الهواجس المقلقة، وأحيانًا المخيفة والمرعبة، التي تؤدّي إلى الاضطراب، وأطلق عليه بعض القدماء اسم (جنون الشك)، حيث يستولي على المصاب فكرة خاصة، يمازجها شكٌ كبير، حيث يفكر بمسائل الحياة والموت، والخير والشر، والأخلاق والتقاليد، بالركون إلى بُعدها الخاوي والعبثي والمتكرِّر، فيرون أن تصوّرات المصاب لها بُعْدٌ استفهاميّ، كما تلحظ هذه الحالة عند مرضى الصرع أيضًا.

ويخطر في ذهن المصاب فجأة فكرة أو رغبة على هيئة ظاهرة مرَضيّة غير منسجمة مع شعوره الواعي. وقد يخطر له عبثًا أن يعدّ أرقامًا أو يحسب خطواته، أو يحصي مصابيح الشارع أو الأشجار التي يصادفها في طريقه، وأحيانًا تكتسب الأفكار صورًا أكثر خطورة، كقتل شخص وإن كان المريض ينفر من هذه الأفكار بشدة.

ويتركز الوسواس أحيانًا بشكل متطرف حول قبول أو رفض أمر ما، فيشعر المصاب أنه أسيرٌ لفكرة تسلطيّة تحثه على الدفاع عن فكرة خاطئة، كما لو اعتقد مثلاً بأن بقاءه ونضجه رهنٌ بتناول دواء أو فيتامين معيّن، حتى لو لم يؤدِّ تناوله إياه إلى مثل هذه النتيجة المرجوَّة([24]).

2- الوسواس العملي:

يظهر الوسواس العملي على شكل سلسلة من التصرفات العابثة غير المنطقيّة، حيث يجد المصاب نفسه مضطرًا للقيام بعمل يتعارض ورغبتَه الحقيقيّة، بل ويتنافى مع طريقة حياته العادية. وهذا النمط من الوسواس يكون الدور الأساس فيه للأعمال وليس للأفكار.

في بعض الأحيان يبرز الوسواس الفكري والعملي سويّة، وتزداد بذلك مشاكل المصاب والمحيطين به، حيث تعرِّض تصرفاته العابثة وغير المبرَّرة نشاطاتِه العاديّة وحياتَه النفسيّة إلى الاهتزاز، خصوصًا في مسألة بروز التضادّ بين الأفكار والعواطف، كالتسامح والعنف، أو المجابهة والاستسلام.... ([25]).

وإليك أمثلة ومظاهر شائعة يتجلَّى فيها الوسواس القهري العملي:

· تكرار الغَسل: حيث اعتاد الناس على اعتبار هذه الظاهرة بمثابة تجسيد لحالة الشك والوسواس وحدها، وهذا المرض أكثر شيوعًا عند النساء، وإن لم يكن عدد الرجال الذين يعانون منه قليلاً أيضًا.

· السلوك المنحرف: كالثَّرِيّ الذي يسرق ما لا قيمة له، كسرقة ملعقة من مطعم وإخفائها في جيبه.

· الدقة المفرطة في تنظيم كتبه وأغراضه وأزرار ثيابه، ونقل بعض الأشياء من مكان إلى آخر، دون إدراك لما يفعله.

· حالات العدّ: ويمكن اعتبار حالات العد والحساب في بعض الموارد من مظاهر الوسواس العملي، كالحرص على عدم حصول أي خطأ في العد، رغم معرفة المصاب بعدم الحاجة إلى مثل هذا، إلا أنه يبدو وكأنه مكره عليه ولا مفر له منه.

· حالات السير: وتظهر الوساوس أيضًا على نحو سير إجباري، فنراه يسير من جهة إلى أخرى، مع الإصرار على عدد معين من الخطوات، فلا تزيد المسافة بين النقطتين عن عشر خطوات مثلاً ولا تنقص عنها أيضًا.

3- وسواس الخوف ([26]):

ويُسمّى بوسواس الإحجام، فيبدو المصاب وكأنه خائف من القيام بأمر ما وإن كان ضروريًا، فيشعر بأن قوة ما تمنعه، وهذا الأمر يحول دون أدائه لواجباته. ومن أمثلة وسواس الخوف:

· الخوف من التلوث: فيتجنب التَّماس مع الأشياء، وهذا ما عبَّر عنه القدماء بجنون اللمس، حيث يؤدي هذا الخوف إلى اضطراب المصاب بشدة.

· الخوف من الموت: فيشعر بأن طعامه مسموم، أو تظهر في يده دمّلٌ، فتراوده الوسوسة بأنها غدّة سرطانيّة، وتشغل هذه الأفكار ذهنه فتعوقه عن العمل.

· الخوف من التغوط: لئلا يتعرض للنجاسة أو القذارة، مما يؤدّي إلى اختلال عمليّة التغوّط، وبالتالي إلى حدوث أعراض مرضيّة في الجهاز الهضمي.

· الخوف من المكان المغلق: كتواجده في المصعد، فنراه يفتح الباب بعد غلقه مرارًا بشكل يدعو إلى السخريّة.

· الخوف من أمر غير أخلاقي: كما لو كان المصاب فردًا من أسرة عريقة وشريفة، فيخشى من التعري في الشارع أمام المارة فيسيء بذلك إلى من يحبهم، أو خشيته من الكفر بالمقدسات.

· الخوف من تحقق الأماني: كالخوف من موت أحد يتمنى المصابُ موتَه، فيتولد في ذهنه صراع بأنه لو مات فلان لحصل كذا وكذا، فيندم على أمنيته، ويشرع بالاستغفار وتمني فكرة معاكسة.

وهناك مخاوف مشابهة أخرى عديدة لن نتطرق إلى ذكرها.

4- وسواس الإجبار:

وقد ذكر بعض الباحثين أن الشعور بالإلزام يعد من إفرازات الوسوسة ونتائجها، إلا أن هذه النظريّة ليست موضع اتفاق بين جميع علماء النفس، وقد ذكرناه سابقًا في صور الوسواس (الصورة الرابعة).

مراحل الوسواس

يمر الوسواس منذ نشوئه إلى حين ظهوره لدى الأفراد بمراحل متدرجة، ويصدق ذلك على خمسين بالمائة (50%) من المصابين، وينشأ لدى غالبيّة الأحداث بصورة فجائيّة، ويرافقه الخوف والهلع عند أكثرهم.

ويبدأ هذا السير من مرحلة الهدوء عند الأشخاص، ويصل بالتدريج إلى مراحله الحادة.

وفي بعض الحالات يتجسد على شكل هجمات فجائيّة، بحيث يعمّ ويستفحل خلال فترة قصيرة من تاريخ ظهوره.

من الممكن أن يكون مستوى شدة الإصابة بالوسواس واحدة لدى عدة أشخاص، إلا أن استمراره وظهوره فيهم يكون مختلفًا، فبعض المصابين يكونون أكثر مقاومة ووعيًا، بحيث يُظهرون أنفسهم وكأنهم أقلُّ ابتلاء بهذا المرض، في حين أن الآخرين يستسلمون ويذعنون له علنًا، ولهذا نرى أعراضه ضعيفة لدى بعضهم، بينما هي حادة عند البعض الآخر([27]).

هذه مراحل الوسواس بشكل عام، ويمكننا أن نتحدّث عنها أيضًا باعتبارات متعددة، نذكر أهمها:

1- باعتبار السن:

· في سِني الحداثة: من (9-12) نتوقع مرض الوسواس بدرجات كبيرة، والأكثر شيوعًا ظهوره عند سن الثالثة عشرة، ويزداد في هذه المرحلة الوسواس الفكري والعملي بشكل خاص، لأنه في هذه المرحلة يُبدي الأشخاص اهتمامًا أكثر بالمعايير الأخلاقيّة، وهذا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بأنّ هناك أمورًا غيرَ صحيحة في حياتهم، ويجب عليهم المبادرة إلى فعل معين للحفاظ على سلامتهم ونموهم.

· في سني الشباب وما بعدها: تظهر في السنوات ما بين (15-20)، وتزداد تدريجيًا، وتصل إلى ذروتها في سنّ (20-25)، وبعد ذلك تتّجه نحو الركود حتى سن الخامسة والثلاثين، عندها تقلُّ نسبة مرض الوسواس بعد هذا العمر، أما في سن الأربعين أو الخمسين فأعداد المصابين قليلة جدًا لا تكاد تذكر.

2- باعتبار الشدة والضعف:

يقول العلماء: يبرز الوسواس في مرحلة الحداثة بصورة مبهمة في الوسط العائلي، ويتجسد بوضوح تام في مرحلة البلوغ، ويصل من (18-25) إلى مرحلة حيث يسبّب للمصاب والمحيطين به مشاكلَ كثيرة، فإن أمكن علاجه في تلك المرحلة أمكن أن يشفى بشكل نسبي، وإلا فإنّ المرض يأخذ في سيره التصاعدي في النمو والاستفحال إلى الحد الذي يضيق به المريض ذرعًا([28]).

3- باعتبار الجنس:

· تشير الدراسات إلى أن وجود هذا المرض عند النساء أكثر منه عند الرجال، فأحد عوامل تخفيف الوسواس والقضاء عليه: الاختلاط مع المجتمع والتعامل معه، بخلاف المرأة المنزوية في المنزل أو المحدودة العلاقات، وهذه المسألة تُعدّ من عوامل إيجاد الوسواس واستفحاله. ومرحلة الحمل أيضًا تثير مشاعر الوسوسة من الناحية الفكريّة، ومشاعر الرقة العاطفيّة تؤثر على هذا الأمر بشكل واضح([29]).

4- باعتبار الذكاء:

· قلما نجد بين المصابين بالوسواس من يعاني ضعفًا في الذكاء، إن وعي هؤلاء النظري أدقُّ من وعيهم العملي، وقد أثبتت التجارب صحة هذا الاعتقاد ([30]).

5- باعتبار المعتقد:

يصيب هذا الوسواس -من ناحية المعتقَد- فئتين من المرضى:

1- المصاب نتيجة ضعف معتقده وإيمانه، أو نتيجة إعراضه عن الدين، واستخفافه بأحكام الله، ويزداد لدى هذا الصنف الوسواس الفكري، فيعجزون عن تهدئته وتخفيف وطأة شكوكهم، لعدم ارتباطهم بمصدر معيَّن.

2- المرضى الذين أصيبوا بسبب تعلقهم المفرط بالدين، وامتزاج هذا الحبّ بالجهل والوهم، ويعانون من الوسواس الفكري والعملي، إنما العملي يزداد فيهم بوضوح.

6- باعتبار الشخصيّة والمحيط:

أظهرت التجارب أن الأشخاص الذين يتمتّعون بحساسيّة أكثر في حياتهم الشخصيّة معرّضون للابتلاء بالوسواس أكثر من غيرهم، ويستولي عليهم الوسواس بشكل أشدّ، ويُشاهد هذا المرض عند الأطفال الذين يفرض عليهم الوالدان نظامًا صارمًا.

كما أثبتت الدراسات أن استخدام الجديّة مع الأطفال بشكل كبير، والتسبّب في إيجاد اضطرابات نفسيّة لهم يهيئ لهم أرضيّة خصبة لابتلائهم بالوسواس، وتوضح بعض الدراسات أن لشخصيّة الوالدين ولصفاتهم الوراثيّة وروابط المحيط آثارًا بالغة في هذا الأمر([31]).

وعلى هذا الأساس: فإنّ أرضيّة الوسواس موجودة لدى بعض الأشخاص، إلا أنّه لا بد من وقوع حادثة ما لكي يظهر المرض للعيان، وقد تكون الحادثة المثيرة لظهور المرض على هيئة عقدة نفسيّة أو خجل أو عمل وجهد خاص، أو بسبب موت أحد الأعزاء، فالوسواس يبدأ بفكرة في الذهن، وقوة إرادة الشخص ليست بالقدر الذي تمكّنه من التغلب عليها([32]).

علم المصاب بحالته

إن الكثير من المصابين يعلمون بأنّ تصرفاتهم غير عقلائيّة ولا تستند إلى أساس منطقي، لكن ليس بوسعهم الإعراض أو الكفّ عنها، إلا أنهم يصلون إلى نتيجة هي أن أفعالهم تأخذ طابعًا إلزاميًا لا يمكن مقاومته، وتلك الأفعال القهريّة المتكررة هي السلوك الوحيد الذي يمكن أن ينقذهم من مشاعر الاضطراب([33]).

كيفيّة تكوّن الأعراض في الوسواس القهري:

إنّ الفصّ الجبهي من القشرة المخيّة لديه القدرة على التحكم بنشاط العقد القاعديّة عن طريق ألياف عصبيّة تصل بينهما، ولوحظ أنه عند نقص مادة السيروتونين في العقد القاعديّة، خصوصًا النواة المذيلة التي تنشط المراكز العصبيّة في هذه الأجزاء، يفقد الفص الجبهي من القشرة المخيّة السيطرة عليها، فيفقد الإنسان القدرة على التحكم في أفكاره ومن ثم أفعاله، فتبدأ أعراض الوسواس القهري في الظهور. وبالطبع يحدث هذا فقط في الأشخاص الذين لديهم استعداد بيولوجي ووراثي لنقص مادة السيروتونين عند تعرضهم للضغوط الحياتيّة([34]).

التبرير النفسيّ للوسواس:

· الصراع النفسيّ: إنّ وجود الوسواس دليل على وجود الصراع النفسي الداخلي القائم بين إشباع الميول غير الطبيعيّة لدى المصاب، وبين كبحها والوقوف بوجهها، وهذا الصراع يولِّد حالة من الاضطراب الحادّ لديه. وأحيانًا يرى المريض أن السلوك الوسواسي هو السبيل الوحيد لتخليصه من فكرة مؤلمة ومن حالة غير قابلة للتحمل([35]).

· الشعور بالذنب: ذهب البعض إلى القول بأنّ الشعور بالذنب -تجاه عمل مناف للأخلاق أو الدين- هو أساس نشوء الوسواس، ومن هنا يسلك المصاب سلوكًا يُكفِّر به عن ذنبه، بتكراره الفعل للوصول إلى الأسلوب الأمثل في أداء الواجب([36]).

· التخلّص من الاضطراب: يصعب على مريض الوسواس القهري النوم أو الجلوس أو الوقوف في مكان واحد بهدوء وراحة بال، فتراه يشغل نفسه بأمور تافهة وفارغة، بأمل أن تهدأ حالته ويسكن اضطرابه، وإذا لم يهدأ الحال يحاول أن يلجأ إلى عمل عقلائي ومقبول في الظاهر، كظاهرة كثرة الأغسال، وتكرارها هو بذاته طريقة عمليّة للتخلص من التوترات والاضطرابات النفسيّة.

· السيطرة الداخليّة: وأحيانًا يلجأ المصاب إلى إشغال نفسه بتكرار سلوكيّات وأفعال معيّنة، ليقيَ نفسه انحرافات أخلاقيّة وثقافيّة واجتماعيّة محتملة، نتيجة تسلّط الأفكار الوسواسيّة عليه([37]). وقد بيّنت بعض الدراسات (Geller et al , 1998) (Miguel et al , 2001) أنه تكثر في الأطفال أفعال قهريّة غير مسبوقة بأفكار تسلطيّة([38]).

· الوضع العقليّ للمصاب: وتجدر الإشارة هنا إلى أن وجود الوسواس ليس دليلاً على الضعف العقلي لدى المصاب، وإن كانت تصرفاته وأفعاله ناتجة عن الوهم وتُلحِق الضرر به وبالآخرين، وبالمناسبة: فإنّ التحقيقات دلّت على أن بعض المصابين بالوسواس هم في مستوى جيدٍ وعالٍ من الذكاء، وحتى أنهم يتوصلون إلى بعض الاكتشافات نتيجة حرصهم ودقّتهم الزائدة عن الحدّ في الأمور([39]).

الفصل الثالث

اضطراب الوسواس القهري (OCD)

العلاج

تمهيد

يتنوع العلاج لحالات اضطراب الوسواس القهري، فمنه العلاج السلوكي، ومنه العلاج الذي يحاكي البنى المعرفيّة (العلاج المعرفيّ) لدى الشخص المصاب، ومنه ما يتم بواسطة العقاقير أو الجراحة، أو حتى العلاج بالكهرباء الذي لن نتعرض له في هذا البحث، ونكتفي بالكلام عنه بهذه الإشارة.

البذور الأولى للعلاج السلوكيّ والمعرفيّ

إن البذور الأولى للعلاج السلوكيّ والمعرفي موجودة في التراث العربيّ الإسلاميّ، فالقارئ سوف يُفاجأ بمدى الظلم الذي أُلحق بهذا التراث، فالأطباء العرب لا يعرفون عنه إلا القليل، والغربيون أغفلوه أو جهلوه، مع أن فيه ما يشير إلى بدايات تبلور العلاج السلوكيّ في الفكر البشريّ بوجه عام.

يقول ابن سينا (980-1038م) في تحليله للسلوك: [إذا كان تناول الطعام مقترنًا باللذة، والضرب مقترنًا بالألم، فإن الحيوان والإنسان يحتفظان في ذاكرتيهما بصورة الطعام مقترنة باللذة، وبصورة العصا مقترنةً بالألم، فتصبح رؤية الطعام فيما بعد مثيرة للشعور باللذة، ورؤية العصا مثيرة للشعور بالألم] (محمد عثمان نجاتي 1980)، وهذه هي الاستجابة الشرطيّة التي قال بها الروسي إيفان بافلوف (1849 - 1936) بعد عشرة قرون من ابن سينا، والتي تُدرَّس في بلادنا منسوبة إلى بافلوف على أنه مبدعها الأول([40]).

فالغربيون يبدأ تاريخهم للعلاج السلوكي من عند مفاهيم وتطبيقات التعلم الشرطي للروسي إيفان بافلوف، الذي درَّب الكلاب على أن يسيل لعابها عند سماعها لصوت جرس معين بعدما تكرر وضع الطعام أمامها بعد قرع الجرس مباشرة عدة مرات([41])، وقد استنتج من ذلك ما ذكره ابن سينا قبل عشرة قرون، ولكن بافلوف وضع فكرته في إطار مناسب لعصره وهو إطار التجربة المعمليّة([42]).

وقدَّم أبو زيد البلخي في القرن التاسع - العاشر الميلادي برنامج العلاج السلوكي المعرفي، حيث قال: [أنْ يعلم المريض بالوسواس أنه يعاني من عرض، وأنَّ الناس من معارفه يشهدون بأنها وساوس باطلة، وأنها لا تستتبع أي ضرر، بل هي مجرد أفكار سخيفة عليه ألا يلتفت إليها]([43]).

ويشير أبو زيد البلخي إلى أهميّة التداوي باستخدام العقاقير، وهو ما نعتمد عليه كثيرًا اليوم في علاج اضطراب الوسواس القهري، ولم يكن أبو زيد في ذلك وحده، فقد أورد ابن سينا في كتابه المرجعي الشهير (القانون في الطب) بعض التركيبات الدوائيّة والأعشاب وغيرها كوصفة علاجيّة لمرض الوسواس القهري([44]).

العلاج بالجراحة العصبيّة:: حيث يقوم الجرَّاح بقطع القنوات العصبيّة في بعض مناطق المخ، التي تصل بين القشرة الأماميّة والنواة المذنّبة والكرة الشاحبة في الدماغ المتوسط، أي قطع حلقة الوسواس القهري المفرَغة بشكل أو بآخر.

إلا أن النتائج التي تحصل بعد الجراحة غير مشجعة، وهي غالبًا ما تبقي الفكرة التسلطيّة، إنما دون أن تستثير ما كانت تستثيره من ضيق وقلق وتوتر لدى المريض قبل إجراء الجراحة، أي تقليل نسبة القلق والتوتر فقط([45]).

العلاج بالعقاقير: بيّنت الأبحاث أن الأدوية السيروتونيّة([46]) أكثر فاعليّة من الأدوية التي تؤثر على النواقل العصبيّة الأخرى، مع ملاحظة أهميّة بيان العلاقة بين الوساوس القهريّة وبعض النواقل العصبيّة الأخرى([47]). كما أظهر عقار الفلوكستين (Flouxetine) -الأميركي المنشأ- أن له تأثيرًا علاجيًا مساويًا لتأثير الكلوميبرامين (Chlomipramine) -الأوروبي المنشأ- بل كانت آثاره الجانبيّة أقل. وتلا ذلك ظهور عدة عقاقير تعمل فقط على تثبيط استرجاع السيروتونين، وسميت هذه المجموعة الجديدة من العقاقير بمثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائيّة (لأنها تختار السيروتونين دون غيره من الناقلات العصبيّة)، فيطلقون عليها اسم (الماسا) اختصارًا([48]).

العلاج السلوكي: في العلاج السلوكي يقوم المعالج بأداء السلوك الذي يتجنبه المريض ويخاف منه، كنوعٍ من إعطاء نموذج للمريض، ومن الممكن أن يعرِّض المريض للمثيرات التي تستدعي منه القيام بطقوسه القهريّة، ثم يمنع المريض عن ممارسة تلك الطقوس، وهذا العلاج يسبِّب في بدايته الكثير من الضيق والألم والتوتر، إلا أنه بعد فترة من الإصرار على مقاومة الرغبة في أداء الطقوس القهريّة والامتناع عنها يقل الضيق وينحسر تدريجيًا إلى أن ينتهي، لأن الضيق كجميع الأمور، إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدِّه، فمثلاً: من كان مريضًا بالخوف الوسواسي من كل مادة بيضاء، فعليه أن يقوم بإمساك مادة بيضاء كالدقيق، ونثرها بأصابعه على كفيّه، ثم لا يقوم بغسل يديه ولا حتى بنفضهما، وأن يستمر على ذلك إلى أن ينتهي خوفه من كل مادة بيضاء، ويمكن أن يطبّق هذا الأمر على الخوف من النجاسات أو الأوساخ عمومًا، وبالطبع: كلّ ذلك يجري بمساعدة الدواء([49]).

وقد أشار من قبل إلى هذا الأسلوب من العلاج (أسلوب التعرض ومنع الاستجابة) مولى المتقين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) في حكمة قصيرة من كلماته البليغة والتي تتداولها الألسن جيلاً بعد جيل، حيث يقول: [إذا هِبْتَ أمرًا فَقَعْ فيه فإنّ شدّة توقّيه أعظم مما تخاف منه]([50]).

ومن المهم جدًا أن يشرح المُعالِج للمريض الفكرة الجوهريّة للعلاج، وأن يُفهِمه ويُطمئِنه إلى أن الزيادة الشديدة في مستوى التوتر والقلق، والذي يحدث في بداية التعرض للمثيرات التي يتجنبها، ليست إلا زيادة عابرة، ولن تجعل الحالة أسوأ كما يظن كثير من المرضى، بل هي وجع الساعة الذي يغنيه -بل يريحه- من وجع الساعات الطويلة من حياته فيما بعد.

ولعلّ في أحاديث أهل بيت العصمة ^ ما يبيّن لنا توجيههم لنا بمنع الاستجابة عندما يتعرض المصليّ للوسواس، فلا يجوز له قطع صلاته، بل لا يعتني بالوسوسة مطلقًا، وإن كان بعض تلك الوساوس تعود إلى الشيطان، فإن هذا الأسلوب يفيد حتى في بعض حالات الوسواس القهريّ، بل حتى كثرة الشك اعتبرها الفقهاء سببًا كافيًا لعدم الاعتناء بالشك وإن لم تصل إلى حد الوسوسة، ولعل هذا الأمر يكون واقيًا للمرء عن الوصول إلى حالة الوسوسة، ثم جعلوا المدار في انطباق كثرة الشك على شخص ما هو العرف، وتلك المسألة الفقهيّة الأخيرة، إن دلَّت على شيء، فإنها تدل على أن الأفراد الأسوياء من العقلاء هم المعيار في الحكم على تصرفات المصاب بمرض الوسواس القهري، وبالتالي يستطيع المجتمع أن يكون مساهمًا في علاجه([51]).

أما العلاج المعرفي: فقد بدأ حديثًا يحقّق النجاح في علاج الوسواس القهري، وقد أثبتت الدراسات الحديثة (Marks et al.,1975) و (Abramowitz,1997) فاعليته في علاج هذا المرض، حيث استخلص الباحثون بعض طرق التفكير عند المرضى، فهناك من رأى أن الأفكار الاقتحاميّة (Intrusive Thoughts) -(أي الأفكار التي تقتحم وعي الإنسان عمومًا)- من الممكن أن تمر مرور الكرام كما يحدث مع معظم البشر، إلا أن مريض اضطراب الوسواس القهري يحس بفداحة هذا الاقتحام، ويعطيه وزنًا نفسيًا وفكريًا كبيرًا، كما يحسّ بأنه قد تسبب بضرر ضخم، وأنه مسؤول عن ذلك، وهذا الإدراك غير العابر لفكرة كان من الممكن أن تكون عابرة، هو ما يتسبب في تثبيتها، وهو ما يعطيها القوة على البقاء، فينتج عن هذه الأفكار التلقائيّة السلبيّة التي يعتبر حدوثها -عقب اقتحام الفكرة التسلطيّة لوعي المريض- سببًا في تسلط الفكرة عليه (Salkovskiz,1985)([52]).

العلاج السلوكي والمعرفي عند الأطفال:

أما أعراض الوسواس القهري عند الأطفال، فغالبًا ما تشبه تلك التي يعاني منها الكبار مع بعض الفروق.

والعلاج السلوكي للأطفال يشمل تعريض الطفل للأشياء الحقيقيّة المثيرة للوساوس والمؤدية إلى السلوك القهري.

أما العلاج المعرفي فيُستعمل لمجابهة التفكير الكوارثي عند الطفل (أي توقع الكوارث والمصائب من أي إهمال بسيط، حقيقي أو متخيل)، أو الإحساس الزائد بالمسؤوليّة، أو الافتراضات الخاطئة التي تكون دائمًا مسؤولة عن الطقوس القهريّة([53]).

النظريّة العقليّة الانفعاليّة لعلاج السلوك (ABC) لألبرت إليس (Albert Ellis)

تفيد هذه النظريّة أن أفكار الفرد هي التي تؤثر في مشاعره، وأحيانًا توجدها، وينظر إليس([54]) إلى البيئة وإلى مرحلة الطفولة على أنهما يساعدان الميل الفطري لتكوين الأفكار غير العقلانيّة ونموها.

يلخص إليس نظرته إلى شخصيّة الإنسان في إطار ما يعرف ب (ABC)، وملخصها أن الناس عادة يطلبون العلاج نتيجة حالة انفعاليّة أو سلوكيّة تسبب لهم اضطرابًا (Consequence Emotional) (C)، ويُرجعون في الغالب هذا الانفعال أو السلوك إلى حصول حادث خارجي (Activating Events) (A)، إلا أن الأمور وفق نظريّة إليس ليست كذلك، فعلى الرغم من أن النتائج الانفعاليّة تبدو مرتبطة بالحدث (A)، إلا أنها ليست نتيجة مباشرة له، بل هي نتيجة للأفكار والمعتقدات والعبارات الذاتيّة (B)، التي يستمر الفرد بتكرارها لنفسه، فتؤدّي إلى الشعور بالخوف أو القلق أو الاكتئاب، ومن ثم طوَّر "إليس" نظريته لتصبح: (ABCDEF)([55])، ثم زيد على هذه النظريّة (G)([56]).

تطبيق نظريّة "إليس" على موضوع البحث (اضطراب الوسواس القهري)

وإذا أردنا تطبيق هذه النظريّة على موضوع بحثنا نجد أن:

- A

 - (Activating Event = الحدث): تأنيب الطفل بشكل مستمر على عدم النظافة مثلاً (التبول في ثيابه)، وكما ذكرنا فإنّ الأحداث في الطفولة تنمو وتؤثر في الكبر بحسب شدّتها وتأثيرها ووقعها على نفس الطفل.

- B

 (= Believes الأفكار أو الاعتقادات): إعتقادات الفرد غير العقلانيّة، حيث يردّد لنفسه بشكل دائم: (أنا إنسان غير نظيف، وغير قادر على المحافظة على نظافة نفسي والأمور المتعلّقة بي)، وبالتالي فإنّه يلزم حتى يكون نظيفًا أن يتّكل على الآخرين في إنجاز أموره، وبالتالي يكون مصدر إزعاج، وربما عبئًا لمن حوله، ويتمنى أحيانًا لو أنّه يموت ويرتاح ويريح الآخرين منه.

- C

 (Emotional Concequences = النتائج الانفعاليّة): إحساس المريض بالقلق والتوتر والشعور بالذنب لأنه مصدر إرباك وإزعاج لمن حوله ولأسرته خصوصًا. فتسبب تلك الانفعالات اضطرابًا له، فيعمد إلى أمور النظافة بشكل مبالغ فيه، حيث يغسل يديه مرارًا وتكرارًا، أو يغسل ثيابه مثلاً بالمنظفات والمعقمات بكميات كبيرة، ما يؤدي أحيانًا إلى تلفها أو إلحاق الضرر بجسمه، أو مثلاً يؤدّي الشعور بالذنب إلى البطء والوسواس، أو يحصل لديه الخوف من القاذورات بشكل يزيد عن الحدّ، فيعتقد أنه بإعطائه نفسه وقتًا أكثر للنظافة سينجز الأمور كما يجب، ولا يتسبب بأي إزعاج للآخرين.

فيلجأ المعالج هنا إلى طرق تغيير التفكير اللاعقلاني إلى تفكير عقلاني، وهذه الطرق تتمثل في:

- D

(Disputation = التفنيد)، أي: دحض الأفكار اللاعقلانيّة من جهة المعالج للمريض، وذلك بزرع أفكار عقلانيّة مكانها، وإقناع المريض بها، فتختفي الأفكار اللاعقلانيّة عند المريض بشكل تلقائي، ففي مثالنا: الأفكار العقلانيّة (طبعًا بعد معرفة الحدث والسبب في نشوء الأفكار اللاعقلانيّة):

إنّ كلّ الأطفال غير قادرين على التحكم في عمليّة الإخراج أو التبول في مرحلة ما، وهذا أمر طبيعي.

وإنّ الإنسان اجتماعي بطبعه، ولا يستطيع الاستغناء عن خدمات الآخرين، كما أنّ الآخرين بدورهم محتاجون له، وهذا التعاون والتبادل في الخدمات يفترض وجوده (محاولة إزالة الشعور بالذنب وبأنه مصدر إزعاج)، وأنّ التعاون في موضوع النظافة أمرجيد.

وأنّ القاذورات يمكن تحملّها بشكل طبيعي حتى ينجز الإنسان كامل عمله إذا نتج عن هذا العمل اتساخ نفسه أو ثيابه، وهذا لا ينافي كون الإنسان يحمل صفة النظافة، ويعطي المعالج أمثلة على ذلك (كمشاهدة العامل في تصليح السيارات) وغير ذلك من الأمثلة.

وهناك طرق أخرى تساعد على دحض تلك الأفكار، كالكفّ عن كلمات كالتعظيم والتعميم، وتغيير الألفاظ، من قبيل: (يجب أن أكون نظيفًا دائمًا) إلى: الأفضل أن أكون كذا.

- E

 (Effect) ونتيجة لهذه الأفكار العقلانيّة التي تحدَّثنا عنها يأتي التأثير الجديد في سلوك المريض، أي أن التطوير والتحسن في هذه النظريّة ارتكز على أمرين:

أولا: التخلّي عن الأفكار اللاعقلانيّة، وتبنّي أفكارٍ عقلانيّة تحل محلها بشكل تلقائي.

ثانيا: F(Feelings) ثم تتولَّد لديه مشاعر جديدة تفاؤليّة، وتستعمل في هذه المرحلة التغذية الراجعة([57]) للمريض.

وحتى يحصل الاطمئنان: من الجيد عندئذ متابعة هذه الحالة وهذا التحسن، وهذا بالتالي يؤدي إلى تدعيم الثقة بين المريض والمرشد النفسي، وفي هذه الحالة فإنّ بعض المقفلات عند المريض النفسي تصبح مفتوحة، ليفصح عن مكنونات نفسه، فيسهل التعامل معه في سبيل نجاح العلاج.

- G

 (Goals = الأهداف): توصيل حالة المريض إلى وضع أهداف جديدة تفاؤليّة ناتجة عن أفكار عقلانيّة، ومن المهم إشراك الأسرة في العملية العلاجيّة، سواء بالحرص على مداومة تناول الأدوية اللازمة، أو في مراحل العلاج السلوكي أو المعرفي، بحيث يكونون بمثابة معالجين مساعدين للطبيب، وأن يتفهّموا طبيعة الاضطراب وطبيعة أعراضه، وأن يتعلموا كيفيّة التعامل معها([58]).

ومع تعدد أنواع العلاج تبرز الفكرة الأهم والأنجح والأضمن، ألا وهي الوقاية من المرض بالتربية السليمة والمرونة بالتعاطي، وإحاطة الطفل بالأمان والطمأنينة، والحرص على عدم تحميله المسؤوليّة التي ينتج عنها الشعور بالذنب فيما لو ارتكب خطأ ما، وتفهمه فيما لو قام ببعض التصرفات الغريبة، والتي ربما تكون مزعجة أحيانًا، فَلَرُبَّ كلمة تأنيب وتوبيخ تؤدّي بالطفل إلى الإصابة بالمرض (نتيجة شعوره بالذنب) فيما لو كان لديه الاستعداد والقابليّة له. وهناك مواقف تتطلب صبرًا حتى لا تترك أثرًا ضارًا في نفوس أطفالنا، في الوقت الذي إن لم نستطع تجاوز الموقف بعقلانيّة وأناة، نضطر فيما بعد إلى مواجهة نتائجه المؤسفة، وبالتالي الوقوع في الحيرة والارتباك حيال المرض وعلاجه.

الخاتمة:

تبيّن من خلال هذا البحث أن هناك فرقًا بين حالات الوسواس، فإذا ما وصلت إلى حدّ الاضطراب استدعت تدخلاً علاجيًا، والطبيب هو من يحدِّد مدى شدة الحالة، إنما هناك طرق وقائيّة تحول دون وصول الوسواس القهري إلى حدّ الاضطراب، لمن لديهم استعداد وقابليّة لهذا المرض، ومن هذه الطرق: تأمين التربية السليمة والاطمئنان النفسي للفرد منذ طفولته، وتدعيم ثقته بنفسه، وعدم تحميله المسؤوليّة في أخطاء عاديّة يرتكبها بشكل يفوق الحدّ، وإيجاد المرونة في التعامل.

وقد ذكرنا في البحث أن هناك جذورًا للوسواس، بمعنى أن وجود الأرضيّة له يهيِّئ لوجود هذا المرض واستفحاله إذا لم يتمّ التنبّه له وتداركه في الوقت المناسب. واتضح لدينا أنه كلما كان المرض في بداياته كان العلاج أسرع وأضمن.

والواقع أنه لا يقدِّر قيمة معاناة المريض والمصاب إلا من ألمَّ بدقائق وتفاصيل هذا المرض، ولا يشاركه في أحاسيسه سوى طبيبه وأسرته وأصدقائه، الذين يحبُّون له الخير، ويتمنّون له الصحة والعافية التي نأمل في تحققها لجميع المرضى إن شاء الله تعالى.

وأخيرًا: نلفت النظر إلى أننا قد ذكرنا اضطراب الوسواس القهري بشكل عام، وركّزنا على حالته عند الأطفال بشكلٍ خاص، نظرًا لضرورة العناية والاهتمام بهذه الحالات منذ بداياتها وقبل تمكّن المرض واستفحاله، ولأن الأطفال هم أجيال الغد وشباب المستقبل، وبسلامتهم نعيش الأمل.


ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) الأمراض السيكوسوماتيّة هي الأمراض التي منشؤها وأصلها وسببها نفسي ونتيجتها جسميّة عضويّة. راجع: علم النفس الفسيولوجي، أحمد عبد الخالق، ص209. دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية - 1986م.

([2]) راجع: تاج العروس للزبيدي، تحقيق علي شيري، ج9 ص31، دار الفكر، بيروت، 1994؛ والصحاح للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، ج3 ص988، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1987؛ ولسان العرب لابن منظور، ج6 ص254-255، نشر أدب الحوزة، قم، محرم 1405 هـ.

([3]) الوسواس والهواجس النفسيّة، د. علي القائمي، ص8، البيان للترجمة، دار النبلاء، بيروت، ط1، 1996.

([4]) ق: 16.

([5]) الناس: 4.

([6]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص9.

([7]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، وائل أبو هندي، عالم المعرفة، عدد 293، ص264، الكويت 2003، بتصرف.

([8]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، محمد شريف سالم، ص16، دار العقيدة، القاهرة، ط5، 2008.

([9]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص16.

([10]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، 17-18، بتصرف.

([11]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص263.

([12]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص81.

([13]) السيروتونين هو ناقل عصبي له دور مهم في عمليات عديدة، مثل: النوم، والشهيّة، وحرارة الجسم، والألم، والعدوانيّة، والمزاج.

([14]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص18-19، بتصرف.

([15]) ليو كانر leo kanner (1894-1981)، طبيب نفسي أمريكي من أصل نمساوي، عُرف بأعماله المرتبطة بمجال دراسات وبحوث التوحد (الأوتيزم)، حيث يعدُّ كانر أول من عرف هذا المرض. (مقال بعنوان التوحد والتواصل، ترجمة وتعليق عبد العزيز إبراهيم سليم، موقع أطفال الخليج، ذوي الاحتياجات الخاصة).

([16]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص83، بتصرف.

([17]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص251، بتصرف.

([18]) وسنتعرض لتفصيل بعض حالات وسواس الخوف في محله إن شاء الله.

([19]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص14-19، بتصرف.

([20]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص214، بتصرف.

([21]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص14-19، بتصرف.

([22]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص23-24، بتصرف.

([23]) د. سداد جواد التميمي، موقع مجانين، بتصرف.

([24]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص24-25، بتصرّف.

([25]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص26-27، بتصرف.

([26]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص28-29، بتصرف.

([27]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص20، بتصرف.

([28]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص62، بتصرف.

([29]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص63، بتصرف.

([30]) المصدر السابق ص63.

([31]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص64-65، بتصرف.

([32]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص66، بتصرف.

([33]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص68، بتصرف.

([34]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص19، بتصرف.

([35]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص74، بتصرف.

([36]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص75، بتصرف.

([37]) الوسواس والهواجس النفسيّة، ص78، بتصرف.

([38]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص264، بتصرف.

([39]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص20.

([40]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص166.

([41]) لاحظ الطبيب الروسي إيفان بافلوف في أثناء إجرائه للتجارب على نشاط الجهاز الغدي لتحديد علاقته بعمليات الهضم لدى الحيوان، لاحظ أن حيوانات المختبر وهي الكلاب تبدأ بالاستجابة بطريقة معينة، تتمثل بالوقوف والتهيؤ لتناول الطعام وسيلان اللعاب بمجرد سماع خطوات الحارس في أثناء سيره بالقرب من المختبر. إن مثل هذه الملاحظة نالت اهتمامه، الأمر الذي دفعه إلى التساؤل عن السبب وراء هذا السلوك، والذي حدا به إلى التحول لدراسة الجهاز العصبي وعمليّة التعلم، حيث كرَّس بقيّة حياته وجهوده لدراسة النشاط الدماغي وعمليّة التعلم، في محاولة لتفسير وفهم هذه العمليّة. وللتأكد من صحة فرضيته فيما يتعلق بمبدأ الإشراط (conditioning) الذي استنتجه من ملاحظة سيلان لعاب الكلاب عند سماع صوت أقدام الحارس، استخدم بافلوف في إحدى تجاربه صوت الجرس كمثير قدَّمه لكلب التجربة، حيث لاحظ عدم ظهور أيّة استجابة من الكلب حيال هذا المثير، وقد كانت هذه الخطوة الأولى في تجربته. وفي الخطوة التالية قدّم صوت الجرس، وهو بمثابة مثير محايد ليس له تأثير في سلوك الكلب، ثم أتبعه بالطعام والذي يشكل المثير الطبيعي، أي بطبيعته يُحدِث السلوك لدى الكلب، إذ لا يحتاج الكلب ليتعلم كيف يستجيب إليه. فكانت الاستجابة من قِبَل الكلب هي سيلان اللعاب، وكانت للطعام (المثير الطبيعي)، وهي استجابة طبيعيّة غير متعلَّمة. كرر بافلوف عمليّة تقديم الجرس (المثير المحايد) متبوعًا بالطعام (المثير الطبيعي) لعدد من المرات، الأمر الذي أدى بالنهاية إلى أن أصبح الكلب يستجيب لمجرد سماع الجرس كنتيجة لتكرار الاقتران بينهما، أي تعلَّم الكلب أن يستجيب لذلك المثير بنفس الاستجابة التي يؤدِّيها للمثير الطبيعي. ومن ثَمَّ أصبح صوت الجرس مثيرًا شرطيًا، واستجابة سيلان اللعاب التي يحدثها تسمى بالاستجابة الشرطيّة. وهذا يشير إلى أن المثير المحايد (صوت الجرس) اكتسب صفة المثير الطبيعي (الطعام)، بحيث أصبح قادرًا على إحداث الاستجابة التي يحدثها المثير الطبيعي.

([42]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص171، بتصرف.

([43]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص167.

([44]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص169.

([45]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص188، بتصرف، وقد رأينا أن لا يخلو البحث من إشارة ولو مختصرة إلى العلاج بواسطة الجراحة، ومن أراد التفصيل فليراجع: [الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي].

([46]) كعقار السيرترالين [Sertraline] المختص فقط بالسيروتونين، فهناك دراسات [Jenike & Rausch 1994] أثبتت أن للسيرترالين فاعليّة أكبر من عقار الكلوميبرامين على اضطراب الوسواس القهري، راجع: [الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي] ص185.

([47]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص18، بتصرف.

([48]) مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائيّة معناها في اللغة الطبيّة الإنكليزيّة: Selective serotonin reuptake inhibitors وتختصر بالحروف الأولى من كل كلمة، فتكون [SSRIs]، كذلك اختصرت باللغة العربيّة بالطريقة نفسها أي بالحروف الأولى من كل كلمة، فيصبح: [م.ا.س.ا] أو [ماسا]. انظر: [الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي] ص179-180.

([49]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص173، بتصرف.

([50]) نهج البلاغة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، شرح الشيخ محمد عبده، ج4، حكمة رقم 175، ص42، مطبعة النهضة، قم، ط1، 1412 هـ.

([51]) سنكتفي هنا بإيراد بعض الفتاوى الشرعيّة لسماحة المرجع السيد علي الحسيني السيستاني، دون ذكر الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة ^، لضيق المقام، ولأننا نعتقد جازمين أن فتاوى فقهاء مدرسة أهل البيت ^، هي ترجمة صادقة وتطبيق لتلك الروايات الشريفة.

قال السيد السيستاني في منهاج الصالحين ج1، ص258، مسألة 847: [... وحكم الوسواسي في الإتيان بالصلاة وعدمه أن لا يعتني بشكه، فيبني على الإتيان بها وإن كان في الوقت، ويُلحق كثير الشك به في ذلك]. وقال في مسألة 849: [كثير الشك لا يعتني بشكه، سواء أكان الشك في عدد الركعات أم في الأفعال أم في الشرائط، فيبني على وقوع المشكوك فيه...]. وقال في مسألة 854: [لا يجوز لكثير الشك الاعتناء بشكه....]. وقال في مسألة 851: [المرجع في صدق كثرة الشك هو العرف...].

([52]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص176-177، بتصرف.

([53]) الوسواس القهري دليل عملي للمريض والأسرة والأصدقاء، ص39-40، بتصرف.

([54]) ألبرت إليس (1913-2007) عالم نفس أمريكي مشهور، ومؤسس معهد ألبرت إليس للعلاج المنطقي الانفعالي للسلوك في نيويورك، يُعرَف بأنه [أبُ العلاج المنطقي الانفعالي للسلوك، وجدُّ العلاج الإدراكي للسلوك]، الشكلين الأكثر تطبيقًا في أيامنا للعلاج النفسي، ألّف أكثر من خمسين كتابًا، من مؤلفاته (دليل جديد إلى الحياة العقلانيّة) و(اجعل حياتك سعيدة). راجع خاتمة كتابه (اجعل حياتك سعيدة، نشر الدار العربيّة للعلوم، ط1، 2004)، وانظر موقع ألبرت إليس http://www.rebt.ws/albertellisbiography.html.

([55]) انظر: Elles, A. (1998), Rational-Emotive Therapy and Cognitive Behavior Therapy, Similarities and Differences, New York, Appleton-century-Crofts.

وانظر أيضا: ريم أبو فايد، فاعليّة برنامج إرشادي مقترح لتخفيف حدة الاكتئاب لدى مرضى الفشل الكلوي، غزة، 2010، (رسالة ماجستير مقدمة للدكتور عاطف الآغا).

وانظر أيضا: (الموقع الإلكتروني: أكاديميّة علم النفس، مقال للدكتور فراج، منشور بتاريخ: 6-5-2011).

([56]) انظر: Elles, A. (1998), Rational-Emotive Therapy and Cognitive Behavior Therapy, Similarities and Differences, New York, Appleton-century-Crofts.

 

([57]) التغذية الراجعة: هي الرجوع إلى المعلومات المرتبطة بالأداء والاستفادة منها، وذلك بتلافي نقاط الضعف، والتركيز على نقاط القوة من خلال تحسينها وتطويرها.

([58]) الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ص190، بتصرف.

 

 

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث والعشرون