السنة التاسعة / العدد الرابع والعشرون / كانون أول  2013م / صفر  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

أدب الدعاء.. الفنّ المنفي

القسم الثاني

الشيخ مصطفى الشيخ سليمان يحفوفي

 

مقدمة

أشرنا في مقالتنا السابقة عن أدب الدعاء إلى أن تغييب هذا الأدب قد أدّى إلى ظهور دعوى مفادها أن العرب لم يستطيعوا الاستفادة من معطيات الإسلام في إنتاجهم الفني، إذ هم -مع الأسف- لم يلجأوا إلى الرصيد الجديد لهذا الدين ليستمدوا منه مشاعرهم وإيحاءاتهم وطرائق تعبيرهم، وإنما عادوا إلى الجاهليّة يستلهمون أساليبها، ثم التجأوا لاحقًا إلى بعض المصادر الأجنبية الأخرى.

ومما لا شك فيه أن هذه الدعوى لا تمثل مجرد قضية مفردة من قضايا الأدب العربي، ولا تقتصر على حكم خاص من أحكام مسائله، وإنما هي دعوى سيّالة تستبطن العديد من القضايا والأحكام الأدبيّة، بل إن بعضها قد يتعدّى الشأن الأدبي بخصوصه، ليشمل جملة أخرى من شؤون المجتمع العربي وقضاياه الثقافيّة.

ومن الأمثلة على ذلك أن الباحث -ولدى محاولته تعليل هذه الدعوى- قد يرى أن السبب الذي أدّى إلى حدوث القطيعة بين الأدب العربي والإسلام، إنما يرجع إلى الإسلام نفسه، وذلك إما لافتقار هذا الدين وكتابه المنزل للخصوصيات التي تؤهلهما للعدوى والتأثير، وإما لامتلاكهما من الخصوصيات والمميزات ما يسمو بهما عن العدوى، ويرقى بهما عن التأثير.

أو لعله يذهب إلى أن سبب غلبة الأدب الجاهلي والآداب الأجنبية الأخرى في مقام التأثير، إنما يعود إلى تميّز هذه الآداب بما يؤهلها دون سواها لأن تحوز قصب السبق في الميدان.

أو ربما نجده ينطلق من زاوية أخرى لمقاربة القضية، فيرى أن التعليل الصحيح للمسألة لا يرجع في حقيقته إلى العوامل الأدبيّة والفنيّة، بل مردّه إلى سنخ آخر من العوامل، كالعوامل الاجتماعيّة والحضاريّة والثقافيّة، فتكون هذه العوامل في نظره هي التي ساهمت في تكوين عقليّة الإنسان العربي ومزاجه، فأنشأتهما على ذلك النحو الخاص الذي أدّى بهما إلى تقبّل مؤثرات الأدب الجاهلي وغيره من الآداب الأجنبية الأخرى، دون مؤثرات الإسلام والقرآن.

ثم إنه وانطلاقًا من هذه العوامل الأخيرة ذاتها، قد يذهب الباحث إلى أن السبب في تنكّب الأدب العربي عن الاستفادة من الإسلام والقرآن، مردّه إلى عجز المجتمع العربي، وعدم قدرته على إنجاب أدباء يرقَون إلى المستوى الذي يمكّنهم من التمثل بالقرآن الكريم، واستلهام بيانه الساحر...

وعلى هذا النحو تطّرد الأمثلة على ما يمكن أن تستدعيَه الدعوى السابقة من تعليلات ومواقفَ وأحكامٍ، سواء ما يصطبغ منها بالصبغة الأدبيّة، أو ما يتّسم منها بالطابع الاجتماعي والحضاري...

وأيًا ما يكن الأمر في هذا المجال، فإنّ ما يجب ملاحظته هنا هو أن هذه التعليلات جميعها إنما يحتاجها أولئك الذين يتبنّون الدعوى المذكورة ويقولون بصحتها. وأما من يرفض هذه الدعوى ويرى بطلانها، ويعتقد -بالمقابل- أن الإسلام والقرآن قد تركا أثرهما البيّن على الإنتاج الأدبي لدى العرب، فإنه سيكون بغنىً عن مثل هذه التعليلات، ولن يحتاج البتة لأن يفتش عن الأسباب التي حالت دون استفادة الأدب العربي من الإسلام والقرآن.

وعليه، فإن السؤال الصحيح -أو قل السؤال الأساس- الذي يجب طرحه في المقام هو السؤال عن طبيعة علاقة الأدب العربي بالإسلام، وعمّا إذا كان هذا الأدب قد تأثر بالدين الجديد من الناحية الفنيّة؟ أم أنه نأى بنفسه عنه ولم يتأثر به أيّ تأثر يذكر؟

ولذلك فقد بات يقتضينا البحث أن نبدأ بطرح هذا السؤال الجوهري أولاً، لننتقل من بعدها إلى التعرّف على الإجابة التي يتبناها أصحاب دعوى القطيعة بين الأدب العربي والإسلام، وتبيان ما تمسكوا به من تعليلات لتفسير دعواهم هذه، ثم لننتهي أخيرًا إلى استحضار أدب الدعاء والاستشهاد ببعض نصوصه المشرقة، لندلّل بذلك على عمق الصلة لتي تربط بين الأدب العربي والإسلام، الأمر الذي سيظهرنا على بطلان مذهب أصحاب دعوى القطيعة، والذين اضطروا إلى اعتناق مذهبهم هذا نتيجة لغفلتهم عن مثل أدب الدعاء.

ولنشرع الآن بطرح سؤالنا المرتقب:

طبيعة علاقة الأدب العربي بالإسلام: قطيعة أم تواصل؟

ذكرنا آنفًا أن السؤال الأساس الذي يجب طرحه في المقام هو السؤال عن طبيعة علاقة الأدب العربي بالإسلام، وعما إذا كانت هي علاقة قطيعة أم تواصل؟ فنقول:

هل تسنّى للأدب العربي أن يستفيد في أدائه الفنّي من ظهور الإسلام ونزول القرآن بحيث أدّى به ذلك إلى تطوير أساليبه البيانيّة وتجديد طرائقه التعبيريّة؟ أم فاته أن يغتنم تلك الفرصة العظيمة، فكان نصيبه منها الغفلة والخسران؟

وبتعبير آخر نسأل: هل تيسّر للقرآن الكريم أن يزِينَ واحة الأدب العربي ببعض ألوانه وينشرَ عليها بعض ظلاله؟ أم أن هذا الكتاب الإلهي المنزل قد بقي -وبكل ما اتّسم به من إعجاز بيانيّ وجِدَّة فنيّة- صوتًا صادحًا في الآفاق، ودون أن يتردد له أيّ صدى في الميدان الأدبي؟

وهل استفاد أدباء لغة الضّاد من كتابهم المقدَّس أيّةَ فائدةٍ أدبيّة ذاتِ بال؟ أم أنهم ضلّوا عن الهدي الفنيّ لهذا الكتاب المعجِز، حتى بات في غربة عنهم وهم في غربة عنه؟ لتغدوَ النتيجةُ الصريحة لذلك هي أن هذا الكتاب العزيز قد تهيّأ له أن يجدَ بين أبناء الأمّة حَمَلَةً رساليين، يُبلّغون رسالاته الدينيّة والاجتماعيّة، ولكنه حُرِم في الوقت نفسه من أن يجد بينهم حملةً فنيّين، يستمدّون منه -في إنتاجهم الأدبي- المشاعرَ والإيحاءات، ويستوحون منه أساليب البيان وطرائق التعبير؟

وفيما يلي سنتعرف على إجابة أصحاب دعوى القطيعة بين الأدب العربي والإسلام.

إجابة أصحاب دعوى القطيعة بين الأدب العربي والإسلام

أشرنا في سياق المقالة السابقة إلى الدّعوى القائلة بحدوث قطيعة بين الأدب العربي والإسلام، وكنّا قد استشهدنا لها هناك بكلام ثلاثة من الكتّاب الذين تبنَّوها وتسالموا على صحة مفادها. ونوَدُّ الآن أن نتوسّع بعض التوسع في بيان مضمون هذه الدعوى وما استندت إليه من الأدلة والبراهين. وقد رأينا أن نعتمد في مهمتنا هذه على كتاب "منهج الفنّ الإسلامي" للأستاذ محمد قطب، وذلك بسبب ما اختصَّ به هذا الكتاب من إفاضةٍ في العرض، ومن تفصيل في بيان الأدلة وذكر البراهين، وهو ما لم نقع على مثله لدى غيره من الكتّاب الذين استشهدنا بكلامهم للدعوى المذكورة في مقالتنا السابقة. فلنتوجّه إذًا نحو ما سطّره قطب في كتابه المذكور.

يفصح باحثنا عن أصل هذه الدعوى بقوله: "وقد كان يخطر في حسّي دائمًا أن العرب لم يستفيدوا من القرآن ولا من الإسلام في إنتاجهم الفنّي"([1])، ثم يمضي من هناك ليستدلَّ على صحّة دعواه هذه بدليلٍ خلاصته أن الإنتاج الفنّي لدى العرب قد مرّ بعد ظهور الإسلام بمرحلتين:

أولاهما: مرحلة الانصراف عن فنون التعبير الأدبي، حيث "مرّت عليهم -أي العرب- فترة في أول الإسلام، انصرفوا فيها عن كثير من فنون القول"([2]).

وثانيتهما: هي مرحلة العودة إلى الجاهلية، حيث نجدهم في هذه المرحلة قد عادوا إلى ممارسة التعبير الفنّي "ولكنهم حين عادوا إلى التعبير لم يلجأوا مع الأسف إلى الرصيد الجديد يستمدّون منه مشاعرهم وإيحاءاتهم وأغراض تعبيرهم وطرائقه. وإنما عادوا إلى الجاهلية كاملة في مجال التعبير، أغراضه وطرائقه سواء"([3]).

والنتيجة المنطقية لما تقدم هي أن العرب لم يستطيعوا الاستفادة من الإسلام ولا من القرآن في أيٍّ من هاتين المرحلتين اللتين مرّ بهما الأدب العربي، وذلك لأن المرحلة الأولى كانت مرحلة انقطاع عن الإنتاج الفني، وهي مرحلة يستحيل البحث فيها عن عناصر الاستفادة والتأثر والتأثير. كما أن المرحلة الثانية كانت مرحلة رجوع إلى الجاهلية ومقاييسها الفنّية، ما يعني أن الأدب قد تجاهل الإسلام في تلك المرحلة، وتجاوز عن معطياته الفنية وخصائصه التعبيرية.

وعليه يتبيَّن أن علاقة الأدب العربي بالدين الجديد كانت علاقة قطيعة وانفصال، لا علاقة تواصل وتفاعل واستثمار.

 ولكن يبقى في البَيْن سؤال يستثيره الكلام السابق عن المرحلتين اللتين مرّ بهما الأدب، إذ لسائل هنا أن يسأل عن الأسباب التي أدّت إلى وجود كل من هاتين المرحلتين: فلماذا انصرف العرب عن الإنتاج الأدبي -أولاً-؟ ثم ما الذي دعاهم للعودة إلى الجاهلية ومقاييسها الفنيّة -دون الإسلام والقرآن- حين عادوا إلى عملية الإنتاج -ثانيًا-؟

وسوف نستعرض فيما يلي إجابات الأستاذ محمد قطب على كلٍّ من هذين السؤالين تباعًا.

السؤال الأول: لماذا انصرف العرب عن التعبير الفنّي؟

يجيبنا قطب على هذا السؤال بقوله: "ربما كان لهذا الانصراف أسباب متعددة"([4])، ثم يشرع بتفصيلها، فيعدّ منها أربعة أسباب:

السبب الأول:

وينصّ عليه بقوله: "... فقد كان بناءُ العقيدة الجديدة في داخل النفوس وفي واقع المجتمع، ومجاهدةُ القوى المحتشدة في طريق هذا البناء، سواء في واقع الحياة أو في داخل الضمير، يستنفدان جهدًا نفسيًا ضخمًا... بل يستنفدان الطاقة الحيوية كلّها، ولا يدعان فيها فضلة تُذْخَرُ للتعبير الفنّي"([5]).

وخلاصة القضية هي أن بناء العقيدة الجديدة كان قد شغل الطاقة الحيويّة كلها، حتى لم يعد لدى المسلمين أي متّسع للإبداع وممارسة عملية الإنتاج الفنّي.

ويدرج قطب تحت السبب الأول جهةً أخرى ترتبط بطبيعة الإنتاج الفنّي والمراحل التي يمرّ بها، فيقرر هنا أن الإنتاج الفنيّ لا بد أن يمرّ خلال مراحل ثلاث، وهي: "الانفعال النفسيّ بالتجربة الجديدة، ثم استبطان هذا الانفعال في داخل النفس، حتى يمتزج بأعماقها ويعطيَها من لونه ويأخذَ من ألوانها، ثم ارتداد التجربة إلى الخارج في صورة "إفراز" أو "تعبير""([6]).

وقد اعترضت المسلمين الأوائل مشكلةٌ ترتبط بالمرحلة الأولى من المراحل التي يمرّ بها الإنتاج الفنّي، وهي مرحلة الانفعال بالتجربة، والتي تُكوِّن الذخيرةَ النفسيّة المختزنة التي تسعى إلى التعبير عن ذاتها في صورة أدبيّة موحية. فكان أن صرفتهم هذه المشكلة عن التعبير الفنّي.

 ويشرح قطب هذه المشكلة بقوله: "لقد كانت العقيدة الجديدة في الواقع تنشئ النفوس إنشاءً من جديد. كانت "تغسل" النفوس من أدرانها الجاهليّة، ومن موروثاتها القديمة كلّها، ومن مفاهيمها المنحرفة، ومن تصوّراتها الخاطئة، وتملأ الفراغ الحادث أولاً بأول، بتصوّرات جديدة ومفاهيم جديدة ومشاعر جديدة، وسلوك وعمل جديدين، ومن ثَمَّ لم يكن الرصيد القديم صالحًا للإيحاء الفنيّ، فقد كان "غير موجود" في النفوس التي استجابت للدعوة الجديدة فنفضت عن نفسها كل تراث قديم، وانسلخت من كل ما يربطها بماضيها الجاهلي من مشاعر وأعمال ووشائج قُربى، وصارت تحسّ نحوه بنفرة وتقزُّز. ولم يكن الرصيد الجديد قد تجمّع بعدُ في الصورة التي تصلح للأداء الفنيّ، الذي يعبّر -كما قلنا- عن شحنة مذخورة تريد الانطلاق، لا عن الشحنة في دور التكوّن، قبل أن تمتلئ بها النفس ثم تفيض بالتعبير"([7]).

فالقضيّة هي إذًا أن الرصيد القديم لم يعد صالحًا -بعد ظهور الإسلام- لكي يشكّل حافزًا للتعبير، كما أن الرصيد الجديد الذي أتى به الإسلام لم يكن قد تركَّز بعدُ في النفوس إلى الدرجة التي يستطيع من خلالها تحريك هذه النفوس ودفعها إلى الإبداع وممارسة عمليّة الإنتاج الفنيّ.

السبب الثاني:

كان الكلام في السبب الأول يدور حول النفس المسؤولة عن عمليّة الإنتاج الأدبي، وحول الدوافع التي تحرّك النفس وتحفِّزها على التعبير، بينما يدور الكلام في السبب الثاني حول الأغراض التي يتخذها الأدب كموضوعات له ويسعى للتعبير عنها.

ويوضح قطب هذا السبب، ممثِّلاَ له بفنِّ الشعر، فيقول: "ويمكن أن يكون من أسباب انقطاع التعبير الفنيّ في تلك الفترة كذلك أن الأغراض "التقليديّة" التي كان يقال فيها الشعر -فن العرب الأول- قد تغيّرت من أساسها بفعل العقيدة الجديدة، فصارت تلك الأغراض نشازًا فنيًا وشعوريًّا لا يصلح للقول فيه، فالفخر والمديح والهجاء والمجون، والتغنّي بالدِّمن والآثار، وذكر المناقب "القبليّة" والحروب والغارات والثارات.. كلها متعلِّقة بمشاعر الماضي الذي انسلخت منه النفوس المؤمنة، وبتصوّرات هذا الماضي وعلاقاته التي نبذتها هذه النفوس... ومن ثَمَّ لم تعد صالحة للقول"([8]).

ولكن.. إذا كانت الأغراض القديمة لم تعد صالحة للقول، وذلك لتعلّقها بمشاعر الماضي التي لم يعد لها تأثير على نفوس المؤمنين، فلماذا لم تلجأ تلك النفوس حينئذ إلى الأغراض الجديدة التي جاء بها الإسلام، فتتخّذ منها مادة بديلة عن الأغراض القديمة المهجورة؟

يجيبنا قطب على هذا السؤال بأن هذه "الأغراض الجديدة التي يمكن أن يقال فيها لم تتبلور بعد بلورة فنيّة. وهذه خطوة أبعد من السابقة. فليست المسألة أن المشاعر المذخورة التي تدفع إلى التعبير الفني لم تكن قد تجمعت بعد، بل المسألة كذلك أن أغراض التعبير وطرائقه لم تكن قد تبلورت بعد لتُساوِق المعاني الجديدة والآفاقَ الجديدة. وكل غرض فني، وكل طريقة أداء جديدة تحتاج إلى فترة من "الحضانة" قبل أن تظهر في صورة إنتاج فني. وقد كانت المعاني الجديدة والآفاق الجديدة، التي كانت قمينة بأن تعدِّل أغراض التعبير وطرائقه، شديدة الضخامة بالنسبة للعالَم النفسيّ والبيئيّ المحصور الذي كان يعيش فيه الشاعر العربي في ظل القبيلة الجاهليّة، وكانت في حاجة إلى حضانة فنيّة عميقة واعية قبل أن تنبثق في ثوبها الجديد"([9]).

وخلاصة الكلام في السبب الثاني هي أن الأغراض القديمة كانت قد هُجِرت وكفّت عن قدرتها على التأثير، وأما الأغراض الجديدة فإنها لم تكن قد استوفت حقّها بعدُ من "الحضانة" والتبلور الفني، ولذا فَقَدْ فَقَدَ العرب في تلك الفترة الأغراض التي يدور حولها الإنتاج الأدبي بكلا قسميها -القديمة منها والجديدة-، فكان أن آل بهم الأمر جرّاء ذلك إلى الانقطاع عن الإنتاج الأدبي والتعبير الفني.

السبب الثالث:

ويرى قطب أن وقع القرآن في نفوس العرب، حيث تلقَّوه مأخوذين مبهورين يمكن أن يكون سببًا من أسباب توقّفهم عن التعبير الفني، ولذا نجده يقول: "هذا الانبهار الذي تلقَّى به العرب القرآن، حتى قبل أن يسلموا، يمكن أن يكون سببًا من أسباب توقفهم فترة عن التعبير الفني، فقد كانت شحنته الفنيّة العجيبة تملأ نفوسهم مَلأً، وتتعمقها من جميع أقطارها، فتستوعب منهم كلَّ طاقة الفنّ، وتغنيهم -مؤقتًا- عن جمال الأداء بجمال التلَقِّي والانفعال"([10]).

وبكلمة أخرى نقول: إن أحد الأسباب التي أدّت إلى انقطاع العرب عن الإنتاج الفني يتجلّى في انشغال النفس بالتلقي، وسيطرة الدهشة والانبهار عليها، الأمر الذي صرفها عن محاولة العطاء في تلك اللحظة، وحال بينها وبين الإنتاج الفني والإبداع.

السبب الرابع:

وهو سبب يستمده قطب من تجربته الشخصيّة، وهي التجربة التي يبيّنها بقوله: "فقد كنت في فترة من الفترات أقول الشعر. وقد ظللت اثنتي عشرة سنة أو تزيد، أقول في معنى واحد متكرر، كلما اتجهت إلى الكتابة وجدتني أكتب في نفس المعنى وإن اختلفت المشاعر المباشرة الدافعة إلى التعبير، كانت في نفسي "أزمة" كبيرة. أزمة الشعور بالضياع الكامل في الحياة وعبث الجهد في هذه الحياة المفضية إلى الزوال"([11]).

وبعد أن يورد شيئًا من الشعر الذي كان يكتبه في تلك الفترة يعود ليقول: ".. وكانت هذه الأزمة تؤزّني وتجهد مشاعري وتَخِز إحساسي.. فأعبِّر عن ذلك كلِّه بالشعر غالبًا وبالنثر أحيانًا.. حتى مررت بتجربة ضخمة اقتلعت هذه الأزمةَ من أساسها، وأزالت ما حولها من مشاعر وأحاسيس. وكانت هذه التجربة هي الإسلام!

لقد وجدتُ نفسي من ضياع، ووجدت لهذه الحياة غاية وهدفًا، ووجدت أن هذه الغاية لا تذهب سدى، ولا تنقطع بانقطاع حياة فرد، ولا تنطوي في الرمال، ووجدت أن الكون لا يمضي في التيه المعمّى، بل يمضي لهدف مرسوم معلوم.. وأنه كان يبدو لي أنه "لا يبالي" لأن نفسي هي التي كانت منقطعة الصلة عن روابط الحياة العظمى، لا لأنه هكذا في حقيقته"([12]).

ثم ونتيجةً لمرور باحثنا بالتجربة الجديدة التي أخرجته من أزمة الضياع التي كان يعانيها، فقد وجد نفسه في موقف آخر حيال قول الشعر، ولذا نراه يقول: "ثم.. وجدتني -دون قصد مني- أنصرف عن قول الشعر! لقد ذهبت "الأزمة" التي كانت تدفع إلى القول. ذهب "الضياع".. وأصبحت أحسّ "بالوجود".

ولكن الإحساس "بالوجود" بغير أزمة لاذعة ولا وخزة دافعة، لم يوحِ إليَّ بالشعر، لأنه في حاجة إلى طاقة فنيّة ضخمة -أكبر من طاقتي- تستطيع أن تعبِّر، لا لأنها متألّمة ولا شاكية، ولكن لأنها موجودة وممتلئة بهذا الوجود.. وراضية كذلك بهذا الوجود!"([13]).

وبمثل هذه التجربة مرَّ المسلمون الأوائل، فـ "لقد كان المسلمون الأوائل يواجهون هذه التجربة الفريدة.. تجربة الإسلام! التجربة التي تزيل رواسب النفس المسمومة كلها، وتملأ النفس "بالوجود" الكامل الراضي بهذا الوجود.. وهي تجربة لا تقول الشعر.. إلا بطاقة فنية ضخمة لا توهَب لكل إنسان"([14]).

ومراده بكلامه هذا هو أن هذه الطاقة الفنية الضخمة اللازمة للتعبير عن الإحساس بالوجود لم تكن متوفرة للمسلمين الأوائل، فكان ذلك سببًا من أسباب انقطاعهم عن التعبير الفنيّ.

وهنا يبرزُ سؤال لا بد من طرحه والإجابة عليه، وهو أن هذا "الوجود" الذي ملأ حياة المسلمين الأوائل فأشعرهم بالرضى والارتياح، هل كان خاليًا من جميع المشاكل والأزمات، بحيث لم تعترضه أية عقبة تعيق انطلاقته أو تعكّر صفوه، أم أنه كان لهذا الوجود أزماته الخاصة ومشاكله المعتبرة؟

يجيبنا قطب على هذا السؤال بقوله: "إن هذا "الوجود" ولو أن سِمَتَه العامة هي الرضى والارتياح.. كانت له "أزمات". أزماته هي تلك الابتلاءات المتلاحقة التي عاشها المسلمون الأوائل حتى استتب لهم الأمر وظهر الدين واستقر.. وكان من الممكن أن تؤدّي هذه الأزمات إلى تعبير فنيّ"([15]).

وهنا نسأل: ما دام هذا الوجود الذي عاشه المسلمون الأوائل منطويًا على أزمات وابتلاءات، وهي أزمات وابتلاءات كان بإمكانها أن تؤدي إلى الإنتاج الفنيّ والتعبير، فلماذا إذن انقطع هؤلاء المسلمون عن التعبير والإنتاج؟

يجيبنا قطب على هذا السؤال بالقول: "ولكنَّا -عندئذ- نعود إلى الأسباب الثلاثة السالفة، فنجد أن الفرصة لم تكن مواتية لمثل هذا التعبير"([16]).

وهذا معناه أن الوجود الذي عاشه المسلمون الأوائل وإن كان له أزماته وابتلاءاته المحفزة على الإنتاج والتعبير، إلا أن العلة التي صرفتهم عن الإنتاج وحالت بينهم وبين التعبير كانت هي وجود الأسباب الثلاثة المتقدمة الذكر، وهي: عدمُ نضج الشحنة النفسيّة، وعدمُ تبلور الأغراض الجديدة، والانشغالُ بجمال التّلقي عن جمال التعبير.

ملاحظة مهمّة:

وهنا لا بد من التنبيه على أن الأستاذ محمد قطب، ولدى حديثه عن الأزمات التي انطوى عليها (الوجود) الذي ملأ حياة المسلمين الأوائل، كان قد اقتصر على ملاحظة الأزمات الناتجة عن وقائع الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للمسلمين آنذاك، والتي عبّر عنها بلفظ (الابتلاءات)، ولم يستطع النّفاذ إلى الأزمات النابعة عن طبيعة الإحساس بالوجود نفسه، وأنّى له أن يفعل؟! وهو في غفلة عن أدب الدعاء، ذلك الأدب الذي كان صاحب الريادة والسيادة في استكشاف هذه المعاني الدقيقة والعميقة، كما كان هو أيضًا صاحب الريادة والسيادة في التعبير عن هذه المعاني بأجمل صياغة وأروع بيان.

ونحن سوف نتناول -لاحقًا- هذا الأمر بشيء من التفصيل، وذلك أثناء حديثنا عن أزمات الإحساس بـ (الوجود) كما يطرحها أدب الدعاء.

وبهذا نكون قد انتهينا من عرض إجابة الأستاذ محمد قطب على السؤال الأول، وهو السؤال عن الأسباب التي أدت بالعرب إلى الانقطاع عن التعبير الفنيّ، ويأتي الآن دور السؤال الثاني..

السؤال الثاني: لماذا عاد العرب إلى الجاهلية ومقاييسها الفنية؟

يشير قطب في الإجابة على هذا السؤال إلى وجود سببين، قد يكونان هما اللذان أدّيا إلى النتيجة المذكورة..

السبب الأول:

وهو ذو طبيعة سياسية، حيث يمكن أن "تكون السياسة قد لعبت دورًا في ذلك، إذ ارتدت -منذ العهد الأموي أو قُبَيْلَه في الحقيقة- إلى عصبية جاهلية قبلية، وجرفت معها الشعراء الذين تحلّقوا حول السلطان، فغمرتهم في تيارها، فإذا هم -حين يعبّرون- يرتدّون إلى مشاعر القبيلة في الجاهليّة، فيتخذون فنون القول القبلية بوعي أو بغير وعي"([17]).

وإلى جانب العامل السياسي يأتي دور النقد الأدبي الذي ربما يكون هو أيضًا قد أثّر أثره في عودة العرب إلى مقاييس الجاهليّة، وهو ما يظهرنا عليه قطب في السبب الثاني.

السبب الثاني:

والمسؤول عنه هم النقّاد وما تفرضه عليهم الطريقة التي ينتهجونها في عملهم، إذ "قد يكون النقّاد الأوائل مسؤولين أيضًا عن ذلك، فالنقد يبحث دائمًا عن "القواعد"، وغالبًا ما يبحث عن القواعد الموجودة بالفعل، لا عن القواعد التي يمكن أن تُستحدَث. إذ النقد تقعيدي في طبيعته، وليس إنشائيًا كالتعبير الفنيّ. ومن ثَمَّ جمد هؤلاء النقاد على ما كان موجودًا بالفعل في رصيدهم الفني، وهو طرائق الجاهليّة وأغراضها، وقيّدوا الشعراء بها فساروا في نطاق ذلك القيد" ([18]).

وبعد أن يتمّ قطب استعراضه للأسباب المحتملة لكل من المرحلتين اللتين مرّ بهما الإنتاج الفني لدى العرب، فإنه ينتهي أخيرًا إلى النتيجة التالية فيقول: "وأيَّا ما كان الأمر، فقد خسر الأدب العربيّ فرصة هائلة للاستمداد من رصيد الإسلام الضخم، وظل في تاريخه الطويل كله مجانبًا -تقريبًا- لهذا الرصيد، مبتعدًا عن ثرائه، محرومًا من القدرة على إبداع لون من الفن كان حريًا أن يكون أروع الفنون العالمية وأبدعها، لو وجد التوجيه الصالح والقدرة الفنيّة المؤاتية" ([19]).

وبذا نكون قد انتهينا من بيان مضمون دعوى القطيعة بين الأدب العربي والإسلام، مع ذكر أهم حيثياتها وأسبابها. وقد بات يدعونا المقام إلى استحضار شيء من نصوص أدب الدعاء، لنتعرف من خلالها على بعض معالم هذا الأدب وما يزخر به من أفكار ومشاعر وقيم، ولنفحص على هديها عن مدى صحة دعوى القطيعة، وعن درجة صدقها، ومقدار مطابقتها للواقع.

 وقد رأينا أنه من المفيد في المقام أن نولي أكبر اهتمامنا للنصوص التي تحكي عن صورة الوجود في أدب الدعاء، وتعبر عن قضية الإحساس به، وهي القضية التي جعلها الأستاذ محمد قطب سببًا من أسباب انقطاع العرب عن التعبير الفني، وكانت حجته في ذلك هي أن التعبير عن الإحساس بالوجود -وعلى عكس التعبير عن أزمة الشعور بالضياع والعبث- يحتاج إلى طاقة فنيّة ضخمة لا توهب لكل إنسان، وهي طاقة لم تتوفّر للمسلمين الأوائل وهم يواجهون تجربة الإسلام الجديدة التي ملأت كيانهم بالوجود وأشعرتهم بالرضى نحوه، فكان أن دفعهم ذلك إلى هجران التعبير الفني والانقطاع عنه.

صورة الوجود في أدب الدعاء

لا يتسع المجال لتتبع صورة الوجود بجميع عناصرها في أدب الدعاء، خصوصًا وأنها صورة تتسم بالسعة والشمول، حيث نجدها تتعرض للوجود في مختلف مستوياته ومراتبه، فهي تحدثنا عن الحقيقة الإلهيه وما لها من شؤون وخصائص، كما تحدثنا عن عالم المجردات وما فيه من قوى وكائنات، وتحدثنا أيضًا عن العالم المحسوس، وعن مخلوقاته وظواهره، وعما يحكمه من قوانين وسنن..

ولذا فقد تحتم علينا أن نكتفي بتناول بعض تلك المراتب الوجوديّة فقط، وذلك من خلال عرض بعض نماذجها وما يدل عليها من الشواهد، وبالمقدار الذي يمكنه أن يفي بأغراض البحث ومقاصده، أي بالمقدار الذي يُمْكِنُهُ أن يذكّرنا بوجود أدب الدعاء، ويشعرنا بأهميته، ويطلعنا على ما تهيّأ لمبدعيه من عمق الفكرة ونفاذ البصيرة، ومن الطاقة الفنيّة المؤاتية، ما مكّنهم من التعبير عن تجربة النفس الإنسانيّة عند إحساسها بـ"الوجود" والامتلاء به والذوبان في محبته، مما يدلنا على أن أدب الدعاء قد استطاع أن يستفيد خير استفادة من الإسلام والقرآن، الأمر الذي يبطل مذهب دعوى القطيعة، ويناقض مضمونها، ويكذّب ما أصدرته من فتاوى وأحكام.

وسوف نستعرض في نماذجنا المقبلة مرتبتين فقط من مراتب الوجود التي يتعرض لها أدب الدعاء، فنبدأ أولاً باستعراض بعض النماذج التي تتحدث عن مرتبة الوجود المحسوس، وما يستبطنه هذا الوجود من معانٍ ودلالات، ثم ننتقل ثانيًا إلى استعراض شيء من النماذج المتعلقة بمرتبة الحقيقة الإلهية وبعض ما لها من الخصائص والشؤون.

أولاً : الوجود المحسوس في أدب الدعاء

يستمد أدب الدعاء تصوّره للوجود من الصورة التي رسمها القرآن الكريم لهذا الوجود، وقد اهتم القرآن اهتمامًا واسعًا بالوجود المحسوس، فصوّر لنا في العديد من آياته مشاهد متنوعة لهذا الوجود، ولما يشتمل عليه من كائنات وظواهر. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى:

{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}([20]).

والذي يعنينا هنا هو الكشف عن الأغراض التي لأجلها يسوق القرآن الكريم مثل هذه المشاهد للوجود المحسوس، وبكلمة أخرى: إن الغاية التي نصبو إليها في المقام هي الكشف عن الوظائف التي تستبطنها مشاهد الطبيعة في القرآن الكريم.

ويمكننا من خلال التدبّر في الآيات القرآنيّة أن نستنبط وجودَ ثلاث وظائف متكاملة يقصد إليها القرآن الكريم من استعراضه لمشاهد الوجود المحسوس:

أما الوظيفة الأولى فهي تنهض بدور إيقاظ مداركنا الحسيّة، وذلك بغية إعادة لفت انتباهنا إلى العالم المحسوس وما ينطوي عليه من عظمة وإبداع، ولذلك تأتي تلك المشاهد الطبيعيّة لتذكرنا بالكائنات والظواهر المحسوسة، والتي نلتقي بها باستمرار، وندركها إدراكًا بديهيًا، وذلك من قبيل الأنعام، والنبات، والمطر، والليل والنهار، والكواكب والنجوم..

ويبدو أن الغاية من تذكيرنا بمثل هذه الأمور المألوفة لنا، هي رفع الغفلة عنا، وتجديد إحساسنا بروعة الكون، وذلك لأن مداركنا الحسية عندما تألف وجود الأشياء وتعتاد النظر إليها، فإنها تأخذ بالتبلّد، ويقلّ إرهافها، فتخسر بذلك الكثير من قدرتها على التمييز والتأثر، وتعجز تاليًا عن إدراك ما في الأشياء من خصائص وقيم. ولذلك تأتي تلك المشاهد القرآنية بكل ما فيها من سحر البيان، وجمال العرض، وعذوبة الموسيقى.. لتكسر طغيان الإلف والعادة، وتزيل عن الحواسّ الغشاوة والصدأ، فتعيد إلى الكون نضارته الأولى في مدارك الإنسان، ليغدو الإنسان عندها مهيئًا للإحساس بنبض الكون، والتعرّف على ما فيه من إبداع وما تنطوي عليه كائناته من خصائص وأسرار.

ويأتي بعد ذلك دور الوظيفة الثانية، إذ بعد أن تذكرنا الآيات القرآنيّة بكائنات العالم المحسوس أولاً، فإنها تقوم ثانيًا بتنبيهنا على ما تحتفّ به هذه الكائنات من منافع، وعلى ما تتصّف به من إتقان في النظم، ودقّة في الصنع، وجمال في التكوين..

والآيات السابقة صريحة في دلالتها على مثل هذه الأمور، فهي تنصّ بوضوح على منافع الأنعام والخيل والبغال والحمير، وكذلك على منافع الماء النازل من السماء، ومنافع الليل والنهار والقمر والنجوم. كما أنها تشير إلى دور بعض الكائنات في قيام النظام وحفظ التوازن، وذلك كَدَور الرواسي في عملية استقرار الأرض وعدم مَيَدَانها واضطرابها. وهي تشير أيضًا إلى ما يظهر في الكون من سحر وجمال يبعثان في نفس الإنسان البهجة والسرور.

وهذا كله يكشف عن ترابط المخلوقات وتفاعلها، وعمّا يوجد بينها من تناغم وتناسق، كما يكشف عمّا يتّصف به الكون من إتقان في الصنع ودقة في النظم. وهو ما يوصلنا إلى الحديث عن الوظيفة الثالثة.

والذي نلاحظه فيما يتعلّق بهذه الوظيفة هو أن الآيات القرآنيّة التي تصوّر مشاهد الطبيعة وتتحدّث عمّا فيها من دقة ونظام، إنما توظّف ذلك كلّه في سبيل الاستدلال على المُبدع المنظّم، فالله سبحانه -وبحسب تعبير هذه الآيات- هو الذي خلق، وهو الذي ذرأ، وهو الذي سخَّر، وهو الذي ألقى.. وكل ذلك يوصلنا إلى النتيجة المنطقية التي صرّحت بها الآيات: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

ويظهر لنا من كل ما سبق أن العالَم المحسوس لا يمثل في الرؤية القرآنية مجرد ظرف مكاني أو بيئة حيويّة تُيسّران للإنسان سبل العيش واستمرارية الوجود، ولا مجرد موضوع للعلوم الطبيعية التي يستخدمها الإنسان لأجل منافعه أو لأجل الارتقاء بمستوى حياته، بل إنه يمثل علاوة على ذلك كله موضوعًا للتفكير والتأمّل، وآية إلهية بيّنة تمدّ الإنسان ببعض أسباب معرفة عالم الغيب، وتفتح له كُوَّة على المطلق، وتمهّد له الطريق للتعرف على مبدئه، وإدراك مصدر وجوده، ومعرفة من أين تأتيه النِّعَم التي تفيض عليه.

وعلى هذا النهج القرآني نفسه يسير أدب الدعاء، وهو ما سوف نبيّنه من خلال النماذج التالية.

النموذج الأول: الهلال

ونستهل نماذجنا بمقطع من دعاء للإمام السجاد (عليه السلام) كان يدعو به إذا نظر إلى الهلال، وفيه يقول: "أَيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطِيعُ، الدَّائِبُ السَّرِيعُ، الْمُتَرَدِّدُ فِي مَنَازِلِ التَّقْدِيرِ، الْمُتَصَرِّفُ فِي فَلَكِ التَّدْبِيرِ. آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ، وأَوْضَحَ بِكَ الْبُهَمَ، وجَعَلَكَ آيَةً مِنْ آيَاتِ مُلْكِهِ، وعَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ سُلْطَانِهِ، وامْتَهَنَكَ بِالزِّيَادَةِ والنُّقْصَانِ، والطُّلُوعِ والأُفُولِ، والإِنَارَةِ والْكُسُوفِ، فِي كُلِّ ذَلِكَ أَنْتَ لَهُ مُطِيعٌ، وإِلَى إِرَادَتِهِ سَرِيعٌ.

سُبْحَانَهُ مَا أَعْجَبَ مَا دَبَّرَ فِي أَمْرِكَ وأَلْطَفَ مَا صَنَعَ فِي شَأْنِكَ جَعَلَكَ مِفْتَاحَ شَهْرٍ حَادِثٍ لأَمْرٍ حَادِثٍ.

فَأَسْأَلُ اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكَ، وخَالِقِي وخَالِقَكَ، ومُقَدِّرِي ومُقَدِّرَكَ، ومُصَوِّرِي ومُصَوِّرَكَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وأَنْ يَجْعَلَكَ هِلَالَ بَرَكَةٍ لا تَمْحَقُهَا الأَيَّامُ، وطَهَارَةٍ لَا تُدَنِّسُهَا الآثَامُ هِلَالَ أَمْنٍ مِنَ الْآفَاتِ، وسَلامَةٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، هِلالَ سَعْدٍ لَا نَحْسَ فِيهِ، ويُمْنٍ لا نَكَدَ مَعَهُ، ويُسْرٍ لا يُمَازِجُهُ عُسْرٌ، وخَيْرٍ لا يَشُوبُهُ شَرٌّ، هِلالَ أَمْنٍ وإِيمَانٍ ونِعْمَةٍ وإِحْسَانٍ وسَلامَةٍ وإِسْلامٍ" ([21]).

يكشف لنا هذا المقطع وبشكل واضح عن واقع تأثر أدب الدعاء بالقرآن الكريم، فهو يستمد من القرآن تصوره للوجود المحسوس، ويسير على نهجه في طريقة عرض مشاهد هذا الوجود، كما أنه يقصد إلى الغاية نفسها التي يقصد إليها القرآن من عرض تلك المشاهد.

ومن هنا نجد أن مشهد الهلال في هذا الدعاء يستبطن الوظائف الثلاث عينها التي لمسنا حضورها في مشاهد الطبيعة في القرآن الكريم. ونحن كنا قد أوضحنا سابقًا أن الوظيفة الأولى ترتبط بالوصف الحسيّ لكائنات الطبيعة، والذي تناط به مهمة إيقاظ مداركنا الحسية، بغية أن نجدد لقاءنا بهذه الكائنات، ونستشعرَ ما تفيض به من حيويًة وبهاء. وتظهر هذه الوظيفة في الدعاء الذي بين أيدينا من خلال الوصف الحسيّ للهلال، ولما يتوارد عليه من أحوال وتقلبات. وأول ما يطالعنا من ذلك هو وصف حركة الهلال في سيرورتها الدائبة المستمرة: "أيها الخلق المطيع الدائب السريع، المتردّد في منازل التقدير، المتصرف في فلك التدبير". فالهلال يجري -على ما يصوره لنا الدعاء- عبر المنازل التي قدّرتها له الحكمة الإلهية، ويدور في الفلك الذي أعدّه له التدبير الإلهي، وهو في كل ذلك لا يَنِي، ولا يستريح، بل يمضي في تنفيذ مهمته دائبًا سريعًا، منقادًا لإرادة الله، طائعا لأمره، ومستسلمًا لمشيئته.

على أن ما يجدر بنا ملاحظته هنا هو أن الدعاء لم يسجّل وصفه لحركة الهلال بطريقة تقريريّة محضة، بل عبّر عنها بأسلوب بياني خاص، ولوّنها بعدد من المؤثرات الفنية المتنوعة. وكشاهد([22]) على ذلك يمكننا الإشارة إلى أسلوب استخدام النعوت التي تصف حركة الهلال، فنلاحظ -مثلاً- أن الدعاء قد أورد عددًا من النعوت المتنوّعة لهذه الحركة (المطيع، الدائب، السريع، المتردد، المتصرّف)، لكنه وفي الوقت ذاته أشار بتلك النعوت -على تعدّدها وتنوّعها- إلى مدلول مشترك واحد (حركة الهلال الدائبة في طاعة الله). ومما لا ريب فيه أن تنويع صور البيان على المدلول الواحد يمكنه أن يساهم مساهمة فعالة في تأكيد المراد، وإغناء الصورة، وذلك لما يمكن أن يضفيه هذا التنويع من ألوان وظلال على المدلول، فيلهم بذلك الخيال، ويجتذب الحواس، الأمر الذي يوقظ النفس، ويحرك فيها الأشواق للقاء الموصوف، والتملي من النظر إليه واستجلاء معانيه.

 ثم والى جانب ما ألمحنا إليه من تعدد النعوت، يمكننا أن نشير أيضًا إلى لون آخر من المؤثرات، وهو يتمثل هذه المرة في الصيغ التي بنيت عليها النعوت المذكورة، والملاحظ هنا هو أن تلك النعوت جميعها قد تمّ بناؤها على صيغة اسم الفاعل، أو الصفة المشبهة بالفعل. وهما -بلا ريب- صيغتان ملائمتان تمامًا للإيحاء بدوام حركة الموصوف وتجدّّدها.

وبتضافر ما بينّاه من المؤثرات، ومعها غيرها مما لا يتسّع المجال لبيانه، يشعرنا الدعاء بأنا أمام مخلوق جاد نشيط، يجري بأمر خالقه، ويسلك في طاعة مولاه مستسلمًا مطمئنًا، لا يدركه في ذلك تعب، ولا يداخله سأم.

وبذا تتمهد السبل أمام الدعاء لكي يؤثر فينا عن طريق الإيحاء، فيبثّ في نفوسنا الطمأنينة، ويَرُوضُها على التسليم، كما يجدد فينا العزيمة ويملأ كياننا بالحيوية والنشاط، لنُقبل حينئذ بكل وجودنا على المولى تعالى عند ابتهالنا إليه ودعائنا إياه.

ثم وبعد أن يفرغ الدعاء من وصف ما قصد إلى وصفه من حركة الهلال، يمضي إلى وصف بعض مظاهره الحسيّة الأخرى، فيقول: "وامْتَهَنَكَ بِالزِّيَادَةِ والنُّقْصَانِ، والطُّلُوعِ والأُفُولِ، والإِنَارَةِ والْكُسُوفِ"، وهنا يضعنا الدعاء أمام مختلف الأطوار والمظاهر التي يتلبّس بها الهلال، سواء ما يحدث منها بشكل يومي (الطلوع والأفول)، أو ما يتدرج عبر الشهر الواحد (الزيادة والنقصان)، بالإضافة إلى ما يحصل خلال فترات زمنيّة متباعدة (الكسوف المقابل للإنارة)، وبذا يحيط الدعاء بمختلف حالات الهلال وأوضاعه، جامعًا إياها في مشهد واحد، وفي صورة أدبيّة شديدة التركيز.

ومن الطبيعي أن تؤدّي الصورة الأدبيّة المكثفة والمحيطة بعناصر الموضوع إلى جذب انتباه القارئ، وتوسعة مداركه، وإغناء رؤيته للواقع.

لذا فإن التلاوة المتدبرة لهذا الدعاء تُفضي بالمرء إلى استحضار جميع حالات الهلال وأطواره، وفي لحظة واحدة، وذلك على الرغم من أن الهلال إنما يكون متلبسًا في تلك اللحظة بحالة واحدة فقط من تلك الحالات، وبطور خاص من تلك الأطوار، ويعود الفضل في ذلك إلى ما تمتلكه الصورة الفنية من قوة الإيحاء والتأثير، فهي تحرر الذهن من أَسْر النظرة الآنيّة وقيودها، وتهيؤه للنفاذ من الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام، ليسموَ بذلك إلى مرتبة الإدراك الكلي والرؤية الشاملة.

وهكذا نجد أن الدعاء، وعن طريق وصفه الفنيّ الأخّاذ لحركة الهلال ولمظاهره الحسيّة الأخرى، قد راعى معطيات الوظيفة الأولى من الوظائف الثلاث التي مرّ ذكرها، حيث سعى من خلال وصفه هذا إلى إيقاظ أحاسيسنا تجاه المشهد المألوف للهلال، وعمل على تجديد لقائنا به، لينقذنا بذلك من تبلّد الحواس، ومن طغيان العادة.

إلا أن الدعاء لم يَقْصُرْ مهمته على مراعاة الوظيفة الأولى فقط، بل إنه وتبعًا للمنهج القرآني، أَوْلى الوظيفة الثانية قَدْرًا ملحوظًا من عنايته، ولذلك نراه يتخذ من تأمل مشهد الهلال ومن وصفه إياه، مُنْطَلقًا للكشف عما يستبطنه هذا المشهد الطبيعي من دِقّة في النظم، وإتقان في الصنع، ومن حكمة وتدبير.

ومن هنا نجد الدعاء ينصّ نصًا صريحًا على أن الهلال متردد في منازل التقدير ومتصرِّف في فَلَكِ التدبير، فهو لا يجري بطريقة عشوائية، ولا تتحكم به الصُّدَف، بل إنه يتبع مسارًا محددًا وخطة مرسومة، ولذلك فإن ما نراه من حالاته وأطواره المختلفة، كالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، تخضع كلها لتقدير دقيق، وتدبير واعٍ، فلا يصدر شيء منها عن الفوضى، ولا يعبّر أي منها عن العبث.

وكذلك ينصّ الدعاء وبشكل صريح أيضًا، على ما يختص به الهلال من منافع، فيشير إلى أنه مفتاح شهر حادث، وأنه الوسيلة لتنوير الظُّلَم وإيضاح البُهَم، فبواسطته نتمكن من معرفة بداية الشهور، وهي معرفة تبتني عليها منافع أخرى كثيرة، حسابية وعبادية، كما أنه هو الوسيلة لكشف ظلمة المكان، وإيضاح ما يخفى على الباصرة من المرئيات عند انعدام النور.

وخلاصة القول هي أنه قد تسنى للدعاء أن يكشف عما يستبطنه مشهد الهلال من دِقّة وإتقان، وعما يقف وراء ذلك من وعي وحكمة وتدبير، وبذلك يتجلّى الحضور الواضح للوظيفة الثانية في المشهد الذي يرسمه الدعاء للهلال.

ويأتي بعد ذلك دور الوظيفة الثالثة، ومهمة هذه الوظيفة كما بيّنا هي النفاذ من المعاني والصفات التي تكشف عنها الوظيفة الثانية -أي النفاذ من وجود الدقة والإتقان والحكمة والتدبير- إلى معرفة الوجود الأسمى، أي وجود الله تعالى، والذي ترجع إليه كل تلك المعاني والصفات.

وقد برزت هذه الوظيفة جليّة في متن الدعاء، وذلك كما في العبارات التالية: (آمنت بمن نوَّر بك الظُّلَم..)، (وجعلك آيةً من آيات مُلْكِه، وعلامة من علامات سلطانه)، (سبحانه ما أعجب ما دبَّر من أمرك! وألطف ما صنع من شأنك)، (فأسأل الله ربّي وربّك، وخالقي وخالقك، ومقدّري ومقدّرك، ومصوّري ومصوّرك...).

وهي عبارات واضحة في دلالتها على النظر إلى الهلال كآية أو علامة، تقود إلى المعرفة الواعية بخالق الهلال ومصوّره ومدبّره، ومن ثَمَّ التوجه إليه بالدعاء، وقد بات الداعي على معرفة ثابتة وإيمان راسخ بالمدعو، وبما يتصف به من العظمة والشأن، فيدعوه عندها وهو على يقين بما يمتلكه من قدرة، وما يتصف به من علم وحكمة.

وهكذا تكشف لنا مطالعة النموذج الأول عن مدى تأثر أدب الدعاء بالقرآن الكريم، إذ إننا قد رأينا رأي العين كيف يستمد دعاء الهلال تصوّره للوجود المحسوس من التصوّر القرآني لهذا الوجود، كما رأينا أيضًا كيف يوظّف الدعاء المذكور مشاهد هذا الوجود للغايات نفسها التي يقصد إليها القرآن الكريم.

فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله أن الدعاء الذي بين أيدينا لا يقتصر على استلهام المعاني والدلالات القرآنية فحسب، بل هو يستمد منه الألفاظ والتعابير([23]) أيضًا، فإنه يتأكّد لنا بذلك أكثر فأكثر مدى ارتباط أدب الدعاء بالقرآن الكريم، وشدة تأثره به، سواء لجهة المضامين والمقاصد، أو لجهة اللغة والتعبير.

النموذج الثاني: الصباح والمساء

نتوقف في هذا النموذج عند مشهد آخر من مشاهد الطبيعة، ونستعرض لأجل ذلك نصين من نصوص الأدعية التي تعرضت له. أحدهما للإمام السجاد (عليه السلام)، والآخر لجده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):

  أ-دعاء الصباح والمساء للإمام علي بن الحسين (عليه السلام)

ونقتطف من هذا الدعاء المقطع التالي: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ بِقُوَّتِهِ، ومَيَّزَ بَيْنَهُمَا بِقُدْرَتِهِ، وجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا مَحْدُودًا، وأَمَدًا مَمْدُودًا، يُولِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ، ويُولِجُ صَاحِبَهُ فِيهِ بِتَقْدِيرٍ مِنْهُ لِلْعِبَادِ فِيمَا يَغْذُوهُمْ بِهِ، ويُنْشِئُهُمْ عَلَيْهِ، فَخَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ مِنْ حَرَكَاتِ التَّعَبِ ونَهَضَاتِ النَّصَبِ، وجَعَلَهُ لِبَاسًا لِيَلْبَسُوا مِنْ رَاحَتِهِ ومَنَامِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ جَمَامًا وقُوَّةً، ولِيَنَالُوا بِهِ لَذَّةً وشَهْوَةً، وخَلَقَ لَهُمُ النَّهَارَ مُبْصِرًا لِيَبْتَغُوا فِيهِ مِنْ فَضْلِهِ، ولِيَتَسَبَّبُوا إِلَى رِزْقِهِ، ويَسْرَحُوا فِي أَرْضِهِ، طَلَبًا لِمَا فِيهِ نَيْلُ الْعَاجِلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، ودَرَكُ الآجِلِ فِي أُخْرَاهُمْ، بِكُلِّ ذَلِكَ يُصْلِحُ شَأْنَهُمْ، ويَبْلُو أَخْبَارَهُمْ، ويَنْظُرُ كَيْفَ هُمْ فِي أَوْقَاتِ طَاعَتِهِ، ومَنَازِلِ فُرُوضِهِ، ومَوَاقِعِ أَحْكَامِهِ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا، ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. اللَّهُمَّ فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا فَلَقْتَ لَنَا مِنَ الإِصْبَاحِ، ومَتَّعْتَنَا بِهِ مِنْ ضَوْءِ النَّهَارِ، وبَصَّرْتَنَا مِنْ مَطَالِبِ الأَقْوَاتِ، ووَقَيْتَنَا فِيهِ مِنْ طَوَارِقِ الآفَاتِ" ([24]).

يبرز في هذا المقطع أيضًا، وبصورة واضحة، تأثر أدب الدعاء بالقرآن الكريم، وهو ما يمكننا تلمّسه من خلال ما نشاهده من استحضار الدعاء الذي بين أيدينا للوظائف الثلاث التي سبق الحديث عنها، وكذلك من خلال استلهام هذا الدعاء للعديد من المضامين والتعابير الواردة في القرآن الكريم.

ويكفينا للتدليل على هاتين الناحيتين ذكر شيء من أمثلتهما، وذلك لشدة وضوحهما وسهولة إدراكهما، سيما وأن ما بيّناه في النموذج الأول يوطِّئ السبيل لملاحظتهما، ويغنينا عن الاطالة في البيان.

ونبدأ بالناحية الأولى المتعلقة باستحضار الدعاء للوظائف الثلاث فنقول: إن هذه الوظائف بارزة بروزًا جليًا في الدعاء، فنحن نلتقي بالوظيفة الأولى في المشهد كله الذي يعرضه الدعاء للصباح والمساء، ولبيان هذا الأمر يمكننا تكرار عين ما ذكرناه في النموذج الأول حول هذه الوظيفة، إذ إننا نجد أن الدعاء الحالي وعند تصويره لمشهد الصباح والمساء، لم يقم -هو أيضًا- بتصوير الواقع المعروض في هذا المشهد بطريقة تقريريّة محضة، بل ألّف بين عناصره بطريقة متميِّزة، وعبّر عنه بأسلوب بيانيّ خاص، فاستطاع بذلك أن يُخرج هذا الواقع من رتابته، ويخلقه خلقًا فنيًا جديدًا، ليُمكِّننا من ملاقاته وكأننا نراه للمرة الأولى، فنقبل على تأمله بحسٍ مرهف، وذهنٍ متوقد، ساعين إلى استنباط ما يتضمنه من معانٍ وما يختزنه من دلالات.

وأما الوظيفة الثانية: فهي تتجلّى فيما يدل عليه وجود الصباح والمساء من الدقّة والاتقان والتقدير، وفيما لوجودهما من المنافع المهمة التي تتقوّم بها حياة العباد.

ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام السجاد (عليه السلام): "وجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا مَحْدُودًا، وأَمَدًا مَمْدُودًا، يُولِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ، ويُولِجُ صَاحِبَهُ فِيهِ بِتَقْدِيرٍ مِنْهُ لِلْعِبَادِ".

فالصباح والمساء يخضع كل منهما لحدود معينة تبعًا للأزمنة والأمكنة التي يحلاّن فيها، وكذلك فإنّ لكل منهما أمدًا ممدودًا، أي عمرًا ذا امتداد، ينتهي عند قيام الساعة، كما أن كل واحد منهما يدخل في صاحبه ويدخل صاحبه فيه، وذلك عند ازدياد طول أحدهما ونقصان طول الأخر، فيأخذ الذي يزداد طوله من وقت الأخر الذي نقص طوله، فيدخل بذلك في الزمان الذي كان يشغله هذا الأخير، وكل ذلك يعبّر عن وجود تقديرٍ دقيق وخطة موضوعة ونظام متبع، ويكشف تاليًا عن ارتباط هذه الأمور كلها بغايات مقصودة، تشكلت على أساسها ملامح الخطة، وتحددت معالم النظام، ورُسِمَتْ حدود التقدير.

وقد نصَّ الدعاء صراحة على وجود تلك الغايات، مبيّنا المنافع المترتبة على وجود الصباح والمساء، وما يحكمهما من نظام ويحدّهما من تقدير، وكمثال على ذلك نعود لقراءة النص التالي: "فَخَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ مِنْ حَرَكَاتِ التَّعَبِ ونَهَضَاتِ النَّصَبِ، وجَعَلَهُ لِبَاسًا لِيَلْبَسُوا مِنْ رَاحَتِهِ ومَنَامِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ جَمَامًا وقُوَّةً، ولِيَنَالُوا بِهِ لَذَّةً وشَهْوَةً، وخَلَقَ لَهُمُ النَّهَارَ مُبْصِرًا لِيَبْتَغُوا فِيهِ مِنْ فَضْلِهِ، ولِيَتَسَبَّبُوا إِلَى رِزْقِهِ، ويَسْرَحُوا فِي أَرْضِهِ، طَلَبًا لِمَا فِيهِ نَيْلُ الْعَاجِلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، ودَرَكُ الآجِلِ فِي أُخْرَاهُمْ".

وبهذا يصل بنا المقام إلى الوظيفة الثالثة، والتي يمكننا التمثيل لها بقوله: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ بِقُوَّتِهِ، ومَيَّزَ بَيْنَهُمَا بِقُدْرَتِهِ.."، وبقوله أيضًا: "يُولِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ، ويُولِجُ صَاحِبَهُ فِيهِ بِتَقْدِيرٍ مِنْهُ لِلْعِبَادِ...".

فالدعاء يتوجه في هذه العبارات إلى خالق الليل والنهار، فيحمده على بديع خلقه وفيض نعمه، لأنه هو الذي برأ وصوّر، وهو الذي قدّر ودبّر. وبذلك يظهر لنا حضور الوظيفة الثالثة من الوظائف التي تقترن بمشاهد الطبيعة في القرآن الكريم، وهي الوظيفة التي أنيطت بها مهمة النفاذ من وجود الحكمة والاتقان والتدبير إلى معرفة الله سبحانه([25])، ومعرفة ما يختص به من الأسماء الحسنى والصفات العليا.

والآن.. وبعد أن فرغنا من تبيان الناحية الأولى المرتبطة بالوظائف الثلاث، ننتقل إلى الناحية الثانية المتعلقة باستلهام أدب الدعاء للمضامين والتعابير القرآنية. والدعاء الذي بين أيدينا يشتمل على الكثير من أمثلتها، غير أننا سنكتفي بإيراد شيء يسير منها، وذلك التزاما منا بما بيَّناه في مطلع هذا النموذج من عدم الحاجة إلى الإطالة في المقام.

ونقرأ من هذه الأمثلة قوله (عليه السلام): "يُولِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ، ويُولِجُ صَاحِبَهُ فِيهِ.."، وهو مستقى من الآيات القرآنية من قبيل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}([26]).

ونقرأ منها أيضًا: "فَخَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ مِنْ حَرَكَاتِ التَّعَبِ ونَهَضَاتِ النَّصَبِ، وجَعَلَهُ لِبَاسًا لِيَلْبَسُوا مِنْ رَاحَتِهِ ومَنَامِهِ.. "، وهذا مستمد أيضًا من القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}([27])، وكقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا}([28]). ونقرأ أخيرًا قوله (عليه السلام): "وخَلَقَ لَهُمُ النَّهَارَ مُبْصِرًا لِيَبْتَغُوا فِيهِ مِنْ فَضْلِهِ، ولِيَتَسَبَّبُوا إِلَى رِزْقِهِ، ويَسْرَحُوا فِي أَرْضِهِ"، وهو مستلهم من مثل قوله جلّ اسمه: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}([29]).

ب-دعاء الصباح للإمام علي (عليه السلام)

ونقرأ من هذا الدعاء المقطعين التاليين([30]):

أولهما هو قوله (عليه السلام): "اَللّـهُمَّ يا مَنْ دَلَعَ لِسانَ الصَّباحِ بِنُطْقِ تَبَلُّجِهِ، وَسَرَّحَ قِطَعَ الّلَيْلِ الْمُظْلِمِ بِغَياهِبِ تَلَجْلُجِهِ، وأتْقَنَ صُنْعَ الْفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقاديرِ تَبَرُّجِهِ، وَشَعْشَعَ ضِياءَ الشَّمْسِ بِنُورِ تَأجُّجِهِ، يا مَنْ دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ وَتَنَزَّهَ عَنْ مُجانَسَةِ مَخْلُوقاتِهِ وَجَلَّ عَنْ مُلاءَمَةِ كَيْفِيّاتِهِ، يا مَنْ قَرُبَ مِنْ خَطَراتِ الظُّنُونِ وَبَعُدَ عَنْ لَحَظاتِ الْعُيُونِ وَعَلِمَ بِما كانَ قَبْلَ أنْ يَكُونَ، يا مَنْ أرْقَدَني في مِهادِ أمْنِهِ وَأَمانِهِ وَأيْقَظَني إلى ما مَنَحَني بِهِ مِنْ مِنَنِهِ وَإحْسانِهِ وَكَفَّ أكُفَّ السُّوءِ عَنّي بِيَدِهِ وَسُلْطانِهِ".

وأما المقطع الثاني فهو قوله (عليه السلام): "فَاجْعَلِ اللّـهُمَّ صَباحي هذا ناِزلاً عَلَيّ بِضِياءِ الْهُدى وَبِالسَّلامَة فِي الدّينِ وَالدُّنْيا، وَمَسائي جُنَّةً مِنْ كَيْدِ الْعِدى، وَوِقايَهً مِنْ مُرْدِياتِ الْهَوى، إنَكَ قادِرٌ عَلى ما تَشاءُ تُؤتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِ عُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ اِنَّـكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ، تُولِجُ اللَيْلَ في النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِساب، لا إلـهَ إلاّ اَنْتَ سُبْحانَكَ اللّـهُمَّ وَبِحَمْدِكَ مَنْ ذا يَعْرِفُ قَدْرَكَ فَلا يَخافُكَ، وَمَن ذا يَعْلَمُ ما أنْتَ فَلا يَهابُكَ، ألَّفْتَ بِقُدْرَتِكَ الْفِرَقَ، وَفَلَقْتَ بِلُطْفِكَ الْفَلَقَ، وَأنَرْتَ بِكَرَمِكَ دَياجِي الْغَسَقِ، وَأنْهَرْتَ الْمِياهَ مِنَ الصُّمِّ الصَّياخيدِ عَذْبًا وَأُجاجًا، وَأنْزَلْتَ مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجًا، وَجَعَلْتَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِلْبَرِيَّةِ سِراجًا وَهّاجًا، مِنْ غَيْرِ أنْ تُمارِسَ فيما ابْتَدَأتَ بِهِ لُغُوبًا وَلا عِلاجًا، فَيا مَنْ تَوَحَّدَ بِالْعِزِّ وَالْبَقاءِ، وَقَهَرَ عِبادَهُ بِالْمَوْتِ وَالْفَناء،ِ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الأتْقِياءِ، وَاسْمَعْ نِدائي وَاسْتَجِبْ دُعائي وَحَقِّقْ بِفَضْلِكَ أمَلي وَرَجائي".

يلتقي المرء عند ابتهاله بهذا الدعاء([31]) بالعديد من المعاني والتعابير القرآنيّة، بل إنه ليشعر لدى تلاوته إياه بأنه يعيش في أجواء قرآنيّة صرفة. ولذا فلست أجد من حاجة إلى الإفاضة في تبيان مواطن اللقاء أو التنبيه على أمثلتها، وذلك لأنه وعلاوة على وضوح هذه الأمثلة بذاتها، فإنه قد سبقت منّا الإشارة إلى بعض مثيلاتها مما كان قد تكرر ذكره في الدعاء السابق([32]).

النموذج الثالث: السحاب والبرق والرعد

نلتقي في هذا النموذج بدعاء الإمام السجاد (عليه السلام) والذي كان يدعو به إذا نظر إلى السحاب والبرق وسمع صوت الرعد. ونقرأ من هذا الدعاء المقطع التالي: "اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَيْنِ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِكَ، وهَذَيْنِ عَوْنَانِ مِنْ أَعْوَانِكَ، يَبْتَدِرَانِ طَاعَتَكَ بِرَحْمَةٍ نَافِعَةٍ أَوْ نَقِمَةٍ ضَارَّةٍ، فَلا تُمْطِرْنَا بِهِمَا مَطَرَ السَّوْءِ، ولا تُلْبِسْنَا بِهِمَا لِبَاسَ الْبَلاءِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وأَنْزِلْ عَلَيْنَا نَفْعَ هَذِهِ السَّحَائِبِ وبَرَكَتَهَا، واصْرِفْ عَنَّا أَذَاهَا ومَضَرَّتَهَا، ولا تُصِبْنَا فِيهَا بِآفَةٍ، ولا تُرْسِلْ عَلَى مَعَايِشِنَا عَاهَةً"([33]).

إن المعاني والأجواء القرآنية واضحة الحضور في هذا المقطع من الدعاء، حيث نرى أن الكائنات والظواهر الطبيعية كالسحاب والبرق والرعد لا يُنظر إليها فيه على أنها مجرد أمور تنتمي إلى عالم الطبيعة، وتخضع لسننه وقوانينه المقدَّرة، بل هي تمثل علاوة على ذلك آيات إلهية مسخَّرَة بأمره، وقد يرسلها سبحانه رحمة أو نقمة، والإمام (عليه السلام) يبتهل إلى الله تعالى أن يجعلها رحمة لا نقمة.

* * *

وبهذا نكون قد انتهينا من إيراد ما أردنا إيراده من نماذج أدب الدعاء التي تتعرض للوجود المحسوس، وقد كان لنا في هذه النماذج خير شاهد على استمراريّة الإنتاج الفني لدي العرب عند ظهور الإسلام، وعلى عدم احتياج هذا الإنتاج للجوء إلى الجاهليّة ومقاييسها الأدبية، بل رأينا أن هذا الإنتاج متمثلاً بأدب الدعاء قد يمّم وجهه شطر القرآن الكريم ليستمد منه المعاني وطرائق التعبير، وليستلهم منه أيضًا رؤيته الفلسفية للوجود المحسوس، وهي الرؤية التي تتخذ من هذا الوجود موضوعًا للتفكر، فلا تقتصر على اعتباره مجرد ظرف مكاني أو بيئة حيوية تختص بدراسته العلوم الطبيعيّة. بل ترى فيه -علاوة على ذلك- آية إلهيّة بيِّنة تشير إلى عالم الغيب، وتقود إلى معرفة الله جل وعلا.

ويظهر لنا من كل ذلك أن ما يزخر به أدب الدعاء من مشاهد الوجود المحسوس لم يكن صادرًا عن أزمة تيهٍ أو شعور بالضياع، بل جاء كتعبير عميق عن الإحساس بالوجود، وعن إدراكه إدراكًا نافذًا، وعلى أيدي مبدعين ملهَمين، قد تهيأت لهم جميع الأسباب المعرفية والفنية اللازمة للتعبير عن تجربة الإحساس بالوجود، والامتلاء به، والشعور بمحبته.

( وللبحث صلة بعون الله تعالى )


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) محمد قطب: منهج الفن الإسلامي، دار الشروق، بيروت والقاهرة، 1393هـ - 1973م، ص 7.

([2]) المصدر نفسه ص 7.

([3]) المصدر نفسه ص 12.

([4]) المصدر نفسه ص 7.

([5]) المصدر نفسه ص 7.

([6]) المصدر نفسه ص 7.

([7]) المصدر نفسه ص7- 8.

([8]) المصدر نفسه ص 7.

([9]) المصدر نفسه ص8-9.

([10]) المصدر نفسه ص9.

([11]) المصدر نفسه ص10.

([12]) المصدر نفسه ص10.

([13]) المصدر نفسه ص10-11.

([14]) المصدر نفسه ص11.

([15]) المصدر نفسه ص11.

([16]) المصدر نفسه ص11.

([17]) المصدر نفسه ص13.

([18]) المصدر نفسه ص13.

([19]) المصدر نفسه ص13.

([20]) النحل: 5-18.

([21]) الصحيفة السجادية، من دعائه إذا نظر إلى الهلال .

([22]) لا نرمي في هذا البحث إلى دراسة نصوص أدب الدعاء دراسةً تحليليةً أو فنيّة مفصّلة، بل كل مرادنا هو الكشف عن علاقة هذا الأدب بالقرآن الكريم، واستمداده منه تصوره للوجود. ولكن قد يفرض علينا سير البحث أحيانًا أن نتعرّض لبعض اللمحات الفنية، فنعمد حينئذ إلى إيراد بعض الأمثلة منها وبالمقدار الذي يستدعيه البحث. ورجاؤنا بعد هذا هو أن تلفتَ هذه اللمحات بعض المعنيين، علّهم يبادرون إلى التوسّع في إغناء الدراسات التحليلية والفنية لنصوص أدب الدعاء.

([23]) انظر مثلا قوله تعالى: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ}(إبراهيم: 33)، وقوله تعالى: {وَالْقَمَرَ نُورًا}(يونس: 5)، وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}(يس: 39)، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(الأنبياء: 33) ... ثم لاحظ كيف تتردد هذه التعابير في الدعاء بأعيانها أو ببعض تصاريفها، وذلك من قبيل قوله (عليه السلام): (دائب)، و(نوّر)، و(منازل التقدير)، و(فلك التدبير) ..

([24]) الصحيفة السجادية، من دعائه عند الصباح والمساء .

 ([25]) قد تُقدِّم بعض الأدعية ذكر آيات الله في الكون، فتصوّر المشهد الطبيعي وما ينطوي عليه من حكمة ونظام، لتنطلق منه إلى ذكر خالق هذه الآيات ومبدعها، وهو ما شهدنا مثاله في دعاء الهلال، حيث رأيناه يبدأ بمخاطبة الهلال: (أيها الخلق المطيع... )، ثم ينتقل بعدها إلى التعبير عن إيمانه بخالق الهلال.. وربما ينعكس الأمر في أدعية أخرى، كما في دعاء الصباح والمساء، حيث يبدأ هذا الدعاء بحمد الله: (الحمد لله الذي خلق الليل والنهار... )، ثم يشرع في بيان ما تنطوي عليه آياتا الليل والنهار من جميل الصنع وبديع النظم. إلا أننا كنّا قد سكتنا في أثناء البحث عن هذا الاختلاف والتنويع الذي تراعيه نصوص الأدعية، وذلك لعدم تعلق أغراضنا الحالية ببيان مثل هذه الفوارق الأسلوبيّة اللطيفة، إذ كان جلُّ همنا منصبًا على التنبيه على استمرارية الإنتاج الأدبي لدى العرب بعد ظهور الإسلام، وعلى تأثر هذا الإنتاج بخصائص الدين الجديد، واستمداده منه الكثير من العناصر.

([26]) الحج : 61.

([27]) الأنعام: 96.

([28]) الفرقان من الآية 47.

([29]) الإسراء : 12.

([30]) بحار الأنوار ج33 ص339 ، دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عليه السلام).

([31]) لقد عمدنا عند تعقيبنا على ما نستشهد به من نصوص الأدعية إلى الاقتصار على ذكر ما نجد ذكره ضروريًا مما يتلاءم مع القضية المبحوث عنها في المقام، وهي قضية استلهام أدب الدعاء الرؤى والمعاني وأساليب التعبير من القرآن الكريم.

     وإلا فإنه يوجد في الأدعية التي استشهدنا بها جوانب أخرى كثيرة جديرة بالبحث والاهتمام، ومنها الدعاء الذي هو موضع كلامنا الآن، عنيت به دعاء الصباح، فهذا الدعاء يمثل واحدًا من النصوص الأدبية النادرة، والتي تبلغ ذروة الإبداع الفني، وذلك لما يتّصف به من غنى مكوّناته وتكامل عناصره، الأمر الذي يرشّحه ليكون موردًا للدراسة المتأنية والشاملة، والتي يمكنها أن تتناوله من ناحية مضامينه ومعانيه السامية، من مثل قوله : (يا من دلَّ على ذاته بذاته، وتنزَّه عن مجانسة مخلوقاته..)، وقوله (عليه السلام): (يا من قَرُبَ من خطرات الظنون، وبَعُدَ عن لحظات العيون..). أو تتناوله من ناحية لغته وتعابيره البديعة، من قبيل قوله (عليه السلام) : (اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه..). كما يمكنها أن تتناوله أيضًا من ناحية موسيقاه العذبة والمبهِجة، وهي بارزة بيِّنة الحضور على امتداد النص كله.

([32]) وذلك من قبيل ما قدمناه من الأمثلة التي تتحدث عن إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، أو تلك التي  تتحدث عن نعمة الضوء.

([33]) الصحيفة السجادية، من دعائه إذا نظر إلى السحاب والبرق وسمع صوت الرعد .

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع والعشرون