السنة الحادية عشرة / العدد السابع والعشرون / حزيران  2015م / ربيع أول  1436هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تساوي القوي والضعيف في نهج البلاغة*

الشيخ سليمان يحفوفي (قده)

  

مقدمة

الحمد لله الذي خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعِنْ على خلقها بأحد من خلقه، واختار آدمَ (عليه السلام) خيرة منهم، وجعله أولَ جِبِلَّته، وأسكنه أرضه، وجعله خليفته ليعمرها بنسله، وليقيم الحجة به على عباده.

فساوى بينهم في الخلق عدلاً منه وإنصافًا، وأمرهم باتِّباع الحق حفظًا لهم من التفرق والضلال، وأرسل رسلَهُ ليعيدوا من أَخَذَهُ الكِبْرُ على أمثاله من أبناء أمِّه وأبيه إلى صوابه، ويذكِّروه مَنْسِيَّ نعمةَ ربه، ويستأدوه ميثاقَ فطرته، فقد ساوى سبحانه بينهم في الخلق كما تساووا في الميثاق.

كيف نهَجَ الإمام (ع) في تساوي القوي والضعيف بالحق؟

نَهَجَ الإمام (عليه السلام) في التساوي بين الأقوياء والضعفاء في الحقوق من مبدأ التساوي في الخلق والحق، والتفاضل في التقوى والعمل.

فالمَنشأ واحد يتساوى فيه الجميع، والمصير كذلك، والدنيا دار ابتلاء وامتحان، فيها يتفاضلون ليميزَ الله الخبيث من الطيِّب، وتُجزى كل نفس بما كسبت.

على هذا المنوال نسج الإمام (عليه السلام) عدالته، وساوى بين الحقوق والواجبات، وقد ركَّز اهتمامه على أربع نقاط، ليتمكَّن من تثبيت دعائم الحق ونشر لوائه، وحفظه لأصحابه.

النقطة الأولى: معالجة الأسباب الداعية للاعتداء على حقوق الآخرين.

النقطة الثانية: استثارة النفوس ومواطن الخير فيها، لتحافظ على حقوق الآخرين ذاتيًا.

النقطة الثالثة: وضع خطة عمل لإرجاع الحقوق لأصحابها حال الاعتداء عليها.

النقطة الرابعة: المباشرة الفعلية لإعادة الحقوق لأصحابها.

وقد دفع (عليه السلام) حياته الشريفة ثمن تلك العدالة، ليبقيها نصرًا أبديًا لِلْحَقِّ على الباطل، أسلوبًا ومنهجًا وعملاً.

النقطة الأولى: ما هي الأسباب الداعية للاعتداء على حقوق الضعفاء؟

خُلِقَ الإنسان ضعيفًا، والضعفُ مركَّب نقصٍ فيه، يحاول أن يسدَّه بكل جهده، يسعى للكمال فيُعْْجِزه القصد، فمنال الكمال بعيد ودربُه شاق، ولا يتأتى إلا بشِقّ الأنفس، فيقعد عنه ممتلئًا حقدًا.

يأكل الحقد قلبه، فينتصب عدوًا لكل معاني السموِّ في الحياة، تثور نفسه متغذية بحقدها الدفين، إذا لاح في الأفق بارقة كمال تشعُّ من نفس مطمئنة، بذلت جهدًا حثيثًا في الوصول إليه.

وكعادة الأنفس المريضة -وما أكثرها- يروح ينتقص الكاملَ، واضعًا للكمال أسماء جديدة تتلاءم وخُبْث نفسه المقصِّرة، فهو إذ ذاك ثائر العصبية مهتاج الحمية، متفجِّر الكبرياء، متلبِّسًا بلباس الحميّة، ومتسربلاً سربال العصبيّة، ومدرَّعًا درع الكبرياء.

كبرياء وعصبيّة وحميّة، تلك بذور اعتداء القوي على حقوق الضعيف، وضع الإمام (عليه السلام) يده على هذه البذور فأراد اقتلاعها من الجذور، فكشف عنها ثم عالجها.

كشف عنها بقوله: [فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد -وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا يُدرى أَمِنْ سِنِيّ الدنيا أم من سِنِيّ الآخرة- عن كِبْرِ ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ (...) فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزَّكم بندائه]([1]).

حرَّك النفس في الأعماق لتنتفض على ذاتها، وتحسّ مركَّب النقص الذي تعيش فيه، فتثور عليه، وتسعى صعدًا سلم الكمال لتصل لدستور الحياة المقدس، وتسرح في مراتع العدل والمساواة، فالناس متساوون في الخلق لا تمايز بينهم.

فَكِّرْ أيها الإنسان من أين أوتيت؟ وكيف تسربَتْ إليك أمراض الحَمِيَّة والكبرياء والعصبية؟ وهل لك امتياز عن إنسانٍ غيرك لتحمل عليه بأمراضك الوَبِيَّة؟

فإذا كان لا! لاشتراكك وتساويك معه في الخلق، فأسباب الاعتداء غير متوفرة، ففيمَ التعالي والاستكبار؟!

انظر إلى أصلك تجد نَفْسَك على حقيقتك المجردة كما قال (عليه السلام): [أنشأ الخلق إنشاءً، وابتدأه ابتداءً، (...) ثم جمع سبحانه من حَزَنِ الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها تربةً سنَّها بالماء (...) فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول، (...) ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانًا ذا أذهان يجيلها، وفِكَرٍ يتصرف بها (...) ومعرفةٍ يفرُق بها بين الحق والباطل (...) وأهبطه إلى دار البلية، وتناسل الذرية]([2]).

فمبدأ الخلق يبتدئ بالمخلوق الأول، صاحب الذهن والفكر والمعرفة التي يفرُق بها بين الحق والباطل.

هذا المخلوق مزيجٌ من مواد مختلفة ورغبات شتى: موادٌ تختلف باختلافها طبائع الإنسان بين اللين والشدة، والعذوبة والملوحة.

ورغبات تتنازعه في شتى الاتجاهات، فبينما هو يمارس الحقَّ حتى يذوب فيه، إذ برغبة تنتابه فتنقله إلى النقيض، فيصبح شرًا محضًًا، وباطلاً صرفًا.

وأعطت القدرةُ المنشِئَة هذا المخلوق العجيب قوةً يتحكم بها على كبح جماح هذه الرغبات وتلك الاتجاهات، حتى لا يطغى بعضها على بعض، ولا تخرج عن إرادته، وأصبح سيد الموقف يُصدِر أوامره للجوارح، فتمتثل ذاهبةً إلى أي اتجاه شاء، أو رغبة أحب، فهو لا يختلف عن غيره في شيء إلا في استعمال تلك الكوابح والضوابط، فإذا طغت عنده رغبة على أخرى ولم يستعمل ضوابطه لكبحها، برزت عنده روح العصبية والكبرياء والحميَّة.

هذه الظاهرة المَرَضِيَّة تحتاج لعلاجٍ، فتصدَّى الإمام (عليه السلام) لعلاجها بأسلوبه الجذاب، وهو إذ يصوِّر شيئًا يُخرِجه إلى الوجود ينبضُ بالحياة، لأن ريشتَه عطاءُ نفسٍ، ومدادَه دماءُ قلبٍ، وصورتَه بلاغةُ لسانٍ.

فهو بعد أن كشف عنها عالجها بقوله:

[فأطفئوا ما كَمَنَ في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحميَّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته، ونزغاته ونفثاته. واعتمدوا وَضْعَ التذللِ على رؤوسكم، وإلقاءَ التعززِ تحت أقدامكم، وخلعَ التكبرِ من أعناقكم]([3]).

فبداية العلاج تكون باستعمال الكوابح، وهي إطفاء نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، وهذه تقتل نوازغَ الشيطان، وتحمي من الوقوع في حبائله ونخواته ونفثاته.

وأُخرى تكون أجدى في الحفاظ على معاني الإنسانية المشتركة بين بني الإنسان، وهي اعتماد وضع التذلل فوق الرؤوس، واجتناب التعزز والكبرياء.

وما الفضل في الكبرياء؟ بل من أين أتى؟ إنها حماقة لَحِقَتْ بالإنسان من الرغبات المختلفة التي رافقت تكوينه، فانقدحت في قلبه نارُ العظمة، وألهبتها عداوةُ الحسد، وأجَّجها الغضبُ، فاستغلها الشيطانُ غنيمةً باردة، فأثار في أنفه ريحَ الكِبْر المميت، وأعقبه الخسران المبين، بينما يتحقق للإنسان ما يريد من هذه الرغبات بالتحكم بإدارة الضوابط الإنسانية الخاضعة له، فهو إذ يريد: يتمكن من إجراء محاسبة دقيقة تجعله رابحًا في جميع الأحوال، ومحقِّقًا لرغباته في كل الظروف.

فماذا يريد المتكبر بكبريائه؟

ليس عند المتكبر من قضية تأكل نفسه أكثر من رغبة تُشبِع نهمَ الأنانية التي نفخها الشيطان فيه، فأصبحت عنده حب "الأنا"، فوق كل اعتبار، فهو يسعى دائمًا لتلبية تلك الرغبة على حساب أي شيء كان، لا بل وكل شيء.

فإذا ما اعترض سبيله إنسانٌ تألَّقت "أناه" بصفات مثالية، واكتملت شخصيته بمعالم النبل والسمو الأخلاقي، ثارت عصبيته وتفجر حقده، ونفث حسدُه سمَّه، وانقضَّ بحميته ينهش في الفضائل، ويحطم من اتصفت به، واتصف بها.

فالتكبر يعبِّر عن صفة ضعف في المتكبر، يريد أن يسدَّها بالحقد والحسد والانتقام، بينما يتمكن أن يسدَّ خلةَ نقصه هذه دون أن يمسَ الكمال بسوء، أو ينهش الفضائلَ بناب الأفعى.

ذلك أن المتكبر يمكنه استعمال كوابح تكبّره، فيستقرئ صفات الكمال والفضائل من أي باب دخلت في شخصية الكامل الفاضل.

فإذا كان الكامل ولج هذا الباب -أي باب الكمال- ليسدَّ ضعفًا كان ينتابه فقد شارك المتكبر في ضعفه، ولكنه سعى ليسدَّ ضعفه بالصعود في سلم الكمال، لا الهبوط في مزالق الكبر والحقد والبغضاء.

فالكامل سعى بتواضعه ليرفع ما به من خسيسة وضعف، فتواضع وتذلل وخلع التكبر والتجبر، واقترب من مقام الجبار المتكبر الذي أنشأ الخلق إنشاءً، وابتدأه ابتداءً، ليستمدَّ منه القوة التي تحمي ضعفه، وترفع خِسَّته، فتجلبب جلباب السكينة والوقار، وتخلَّق بأخلاق الضعفاء، وخالط الحكماء وتذلل وخضع، فنال ما أراد.

والمتكبر سعى بتكبره ليرتفع على ابن أمه من غير فضل جُعِل فيه، ونازع ذا القوة والسلطان في ملكوت سلطانه، وادّعى مشاركته له في مخلوقاته، فأراد أن يستعبدهم ويتكبر عليهم ليسدَّ نقصه، ويرفع ضعفه، فهوى به جهله في ظلام سحيق.

والمتكبر والكامل يسعيان لسدِّ النقص، ورفع الضعف، ولكن باتجاهين متدابرين، فذا يتكبر ويتجبر ويحسد ويحقد ويبغض، ليرفع بذلك نقصه ويجبر ضعفه. وذا يتواضع ويتذلل ويخشع ويخضع، ويتقرب من ذي القوة والكمال لينالَ نفس المنال.

فأولى بمن يسعى لذلك أن يستعمل قوته الممنوحة له، وضوابطه المسلَّط عليها، في إطفاء نار العصبية، وإخماد أحقاد الجاهلية، ليسلم من حمية الشيطان الذي يريد أن يوقعه في حبائله، ويستفزَّه بنخواته ونفثاته ليورده مورد الهُلاَّك.

هذا العلاج لاعتداء القوي على الضعيف -بعد الكشف عن بذور الاعتداء- يأتي في المقطوعة التالية:

[ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله الله فيه، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة]([4]).

فالتكبر لا يكون إلا لمزيد فضل في المتكبر مُنِحَه من ذي الفضل الذي أنشأ، والممنوحُ فضلاً من عادته أن يتواضع ويخشع ويخضع للمانح، فلا يحتمل في حقه التكبر.

فصفة التكبر لا تكون إلا بتلبية الرغبات المجبولة عليها النفس من حبِّ العظمة القائمة على الحسد، والكبرياء والغضب، وكلها من روح الشيطان الخبيث.

فلا بد من الاجتناب عن هذه المزالق ليصل الإنسان إلى منيته عن غير هذا الطريق، فالنفس تصل إلى أعلى مرتقى من الشعور الإنساني بالتواضع، وتبلغ أسمى درجات المجد والرفعة في محاربة الكبر.

ومَنْ غَلَبَتْهُ نفسُه على ما تهوى، فقد أهوى بالإنسانية في مضائق الضياع والحيرة، وكل هذا يصيب الإنسانية في صميمها ويتتبع مقاتلها:

[ألا وقد أمعنتم في البغي، وأفسدتم في الأرض مصارحة لله بالمناصبة، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة. فالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية، فإنه ملاقح الشنآن ومنافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية]([5]).

وهكذا تهوي أنفس وترتفع أخرى، هذه تتخلق بأخلاق الله، فترتفع في ملكوته، وتسبح في جنانه ملتحقة بالرفيق الأعلى في سمو وبهاء، وتلك تتخبط في ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان الخدَّاعة.

النقطة الثانية: استثارة النفوس ومواطن الخير فيها لتحافظ على حقوق الآخرين ذاتيًا:

[ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبَّروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه، فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة (...) فاعتبِروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته]([6]).

وهنا يأتي العلاج على نهايته، فمبدأ الخلق واحد، وجميع الناس متساوون فيه، فالحذر من الانحراف عن هذا المبدأ، والانجرار خلف الأهواء والكُبَراء، وحسبك أن تعيد النظر فيما خُوِّلْتَه، فهل تجد لك مندوحة في التكبر والتعالي على غيرك؟

أَوَلَستَ مع من تتكبر عليه من أصل واحد، وحسب ونسب واحد؟

فعلى من تتكبر؟ أعلى أصلك؟ أم على نفسك؟ فمن المتكبَّر عليه؟ هو أنت؟ ومن المتكبِّر هو أنت. فتكون بعبارة موجزة واضحة: أنت... تتكبر على أنت...؟!

احفظ هذه العبارة في ساحة فكرك، وأَعِدْ التفكير بها عدة مرات، فهل تجد أن التكبر يتجاوز نفسك؟ أم هو منها وعليها؟

أم أنك تحاول أن تجد مبررًا لتكبّرك، فتحاول ستر نقصك بالمجاحدة والمكابرة، فتُلقي الملامة والهجينة على ربك، مدعيًا لنفسك مزيد فضل برفعة أصلك وشرف معدنك، بينما أصل الآخرين خسيس ووضيع.

فمن أنشأك وما هو أصلك؟ وبماذا تختلف عن غيرك؟ ليس لك سبيل على الهروب من الاعتراف بأصلك، إلا الجحود لصنيع الله بك، والمكابرة لقضائه، والمغالبة لآلائه، وبها تدَّعي لنفسك ما اختص الله به نفسه، من إنشاء الخلق وإبداعه.

تلك مكابرة تتجاوز الحوار والتبصر، ولم يعد أمامها سوى التذكر والاعتبار -إن وَجَدا مكانًا للتوطن- وإلا فالمبارزة: [فاعتبِروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته]([7]).

وقبل الدخول في المبارزة مع الله لا بد من تذكير تنتفع به:

الاستكبار منازعة الله في سلطانه، ومجاحدة له في خلقه، ومبارزة له في القدرة والقضاء، فمن رام سد عجزه، وستر نقصه بهذا الأسلوب من المجاحدة والمعاندة، فما عليه إلا الاعتبار بمصائب الأمم السابقة وكيف تم تدميرهم، واستقراء التاريخ، وتتبع سيرة من جعل الله فيهم الفضل، وميَّزهم عن سائر خلقه، فيجد أن صفة الاستضعاف هي المائز لهم عما سواهم، وسيماء التذلل والخضوع هو وسام الشرف الذي يفخرون به، والتواضع وخفض الجناح هما القوة التي يمتلكون بها العالم.

ذلك أنهم ألقَوا بضعفهم أمام القوة المطلقة، التي لا توصف، تفعل ما تشاء، كيف تشاء، وأنى تشاء. فكل قوة أمامها هباء.

وخفضوا أجنحتهم هيبة لها وإجلالاً لقدرتها، وتذللوا لها، وخضعوا أمامها، وألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا بالتراب وجوههم، اعترافًا وخشوعًا وخضوعًا، فما من قوة مطلقة سواها، ولا يستطيع مخلوق أن يستمد القوة من غيرها.

هؤلاء على النقيض من المستكبرين الذين نازعوا هذه القوة سلطانها، وجحدوها حقها وألقوا الهجينة عليها.

هؤلاء ألصقوا أنفسهم بهذه القوة، بحيث استمدوا منها كل شيء، فلا حول ولا قوة لهم إلا بها، فألجأوا أنفسهم إلى ركن حريز، وملاذ أمين، هو مصدر كل قوى العالم، فقلبوا ضعفهم قوة، وتواضعهم عزة، وتذللهم عظمة، وخضوعهم رفعة، ومع ما بلغوا من الشأو والشأن لم يُرخَّص لهم في الكبر والاستكبار، فانظر إليهم ينفعك ذكرهم:

[فلو رخَّص اللهُ في الكبر لأحد من عباده لرخَّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه، ولكنه سبحانه كرَّه إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع. فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفَّروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قومًا مستضعفين]([8]).

فهؤلاء بلغوا بضعفهم وتواضعهم غاية يستحيل على غيرهم بلوغها، آية ذلك أنهم يستمدون قوتهم من معين لا ينضب، ومن قوة لا تُقهَر، فهي وحدها التي توزع قوى العالم، وهم ألصق من في العالم بها، وكلما شعروا بالخوف والضعف والاستضعاف، استندوا إليها وازدادوا تمسكًا بها، لتجبر ضعفهم، وتسد خلتهم، وهكذا كان أنبياء الله.

إنهم يقتحمون القصور على جباريها، بلا خوف ولا وجل، ويخاطبونهم بكل رباطة جاش، محذرين ومنذرين بكل جرأة، إنه دأب الأقوياء المعتقدين بأن قوتهم لا تُقهَر -ومن أقوى من موسى (عليه السلام)-:

[ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون، وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي، فشرطا له -إن أسلم- بقاء ملكه ودوام عزه فقال: "ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاَّ ألقي عليهما أساورة من ذهب"]([9]).

لقد جعل فرعون الذهب معيار القيم، والإنسان محصولاً ماديًا، والفقر والغنى ميزانه، وهو دأب المستكبرين وأتباعهم ممن اعتادوا وزن المحاصيل بالأوزان والمكاييل مما تنبت الأرض من الزروع والضروع.

وقد فاته أن الإنسان محصول روحي، مقياسه القيم، ومعياره الأخلاق، فإذا ما قيسَ بغيرهما انقلب الإنسان منكوسًا، وفقدت الأسماء معانيها، والمسميات مدلولاتها، وتبدلت المفاهيم، واضمحلت القيم، ولم يبقَ إلا الرغبة والرهبة تتحكم في مصائر البشر.

أما القيم التي هي مصدر أساسي لوجود الإنسان، والتي تغذي روحه وتسعد نفسه بلذة التأمل، وتريحه في خشوع الاستسلام، وراحة الاستكانة لله، فتصبح غير ذات شأن، إذ إنها لا تخضع لموازين المادة.

فالروح لها علاقة بالقيم يستحيل تحديدها بغير الموازين الروحية، فهي مرتبطة بالقيمة المطلقة ارتباطًا وثيقًا يتجاوز كل ما هو مادي، وهذا الارتباط يزداد متانة بسمو الأنفس والأرواح، حتى تصبح نفس المؤمن في بعض المراحل بين يدي الله يقلبها كيف يشاء.

وفي هذه الحال يصبح المؤمن على الأرض ظل الله، لا يتحرك إلا بإرادته وفيما يرضيه، فهو يتوقف عندما يرى أن التوقف رضىً لله، ويتحرك ويمضي إذا رأى المضي في رضى الله.

بهذا المقياس تقاس العلائق الروحية والارتباطات النفسية، وهو مقياس الأنبياء في تصرفاتهم ومأكلهم وملبسهم، وإذا تبدلت هذه المقاييس تبدلت المفاهيم، وأصبح اتِّباع الأنبياء خوفًا وطمعًا، وعندها يبطل الثواب والعقاب.

[ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان (...) لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، (...) ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى]([10]).

فعلائق الأنبياء بالقيمة المطلقة علائق لا تنفصم ولو تقطعت كل العلائق المادية، لأنها علائق العزائم والأرواح، وليست علائق النفائس والأشباح.

إذ [لو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام وعزة لا تُضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتُشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة]([11]).

وعندما تصبح الروابط والعلائق مع الأنبياء (عليهم السلام) مادية، تخضع لما يملكون من كنوز الذهب ومعادن العقيان الثمينة، والجنان الكثيرة، وبيدهم القوى المادية المسيطرة، والملك المترامي الأطراف، والقوة التي لا تُقهَر، يصبح الأتباع أكثر من أن يحصوا، ويصبح إيمانهم شكليًا يخضع لقوة قاهرة أو لطمع مادي، أو مطمح سياسي، وعندها تضيع المقاييس فلا يُعرَف التِّبْرُ من التبن.

ولا بد في مثل هذه الحال من تخليص الحق من الباطل، حتى تتميز العلائق والارتباطات، فكانت موازين القيم هي التي تضبط تلك العلائق.

وعندما تكون العلائق مبنية على الضعف المطلق في جانب، والقدرة المطلقة في الجانب الآخر، والحاجة الدائمة من جهة، والغنى والعطاء المطلق والمتواصل من الجهة الثانية، تصبح العلاقات غير قابلة للانفصام، وتعتدل الموازين، وهي التي جعلها الله موازين الاتِّباع لرسله (عليهم السلام).

[ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتِّباع لرسله، والتصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته أمورًا له خاصة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل]([12]).

تلك مناجاة نفس تجعلها تذوب شوقًا، طمعًا في الثواب، ورغبة في اللقاء، وما أحراها أن تبعث النفس من سباتها، وتبعد بها عن آفاتها.

النقطة الثالثة: وضع خطة العمل لإعادة الحقوق لأصحابها

تبتني خطة الإمام (عليه السلام) لإعادة الحقوق لأصحابها على أمرين:

الأمر الأول: التذكير بتساوي الناس في الخلق والحق:

أ- التذكير بالتساوي في الخلق.

ب- التذكير بالتساوي في الحق.

الأمر الثاني: أسلوب الاستنقاذ:

أ- عودة لمعالجة أسباب الاعتداء وإثارة منابع الخير في الأنفس.

ب- حسم الأمر بالقهر.

الأمر الأول: التذكير بتساوي الناس في الخلق والحق.

أ- التذكير بالتساوي في الخلق.

قال (عليه السلام): [لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، ولا تخوف من عواقب زمان، ولا استعانة على نِدٍ مثاور، ولا شريك مكاثر، ولا ضد منافر، ولكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون]([13]).

فجميع المخلوقات أنشأها الله ابتداءً بدون حاجة إليها، والإنسان أشرف هذه المخلوقات وأفضلها، وإن كان خَلْقَه من مجموعة متباينة من شتات الأرض فيها الشريف والوضيع، والخسيس والرفيع، ولكن الذي حسَّن خلقه هي نفحة الروح الإلهية التي جعلت ذلك الشتات: ذهنًا يُجال، وفكرًا ينال كل شيء، وفي كل مجال، فضلاً عن الحواس والجوارح التي يستخدمها في كل ما يحتاج إليه.

فلم يفضل إنسان إنسانًا في الخلق فهم فيه سواء، وإنما التفاضل في ميدان السباق، فالسبقة الجنة والغاية النار.

وبرز على الساحة عدو الإنسان اللدود، فاغتره نفاسة عليه بدار المقام، ومرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكه، فأُهبِط إلى دار البلية وتناسل الذرية.

وفي هذه الدار بدَّل أكثر الخلق عهد الله إليهم فجهلوا حقه، فبعث فيهم رسله ليذكِّروهم منسيَّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، وأخذت الرسل تترى ليذكِّروا بآيات المقدرة، وتتابع الأحداث والأعراض والأمراض، حتى لا ينسى الإنسان أصله، ويتكبر على ابن أمه، ويعتدي على نظيره.

ب- التذكير بتساوي الناس في الحق.

الحقوق متبادلة بين الناس يوجب بعضها بعضًا، فما من حق إلا ويقابله حق آخر، (أي واجب آخر)، وهي من أعظم الحرمات التي يجب أن تُراعى، فالمجتمع الذي لا يراعي الحقوق بين الأفراد يصبح في دور الانقراض، وإنما يموت المجتمع بتفريطه بحقوق أفراده، فرعاية هذه الحقوق نموٌ للمجتمع، وسَيْرٌ به نحو الكمال، وأرقى المجتمعات التي تبلغ النضج هي التي تحافظ وترعى حقوق جميع الأفراد، ولا تفرِّط بشيء منها، وأي تفريط بحق أي فرد من الأفراد يخلُّ بكمال المجتمع ويؤخر نضجه، ويغرس فيه جرثومة فساده.

فالمجتمع الناضج والكامل هو الذي يرعى حقوق كل المخلوقات الحيَّة، بشرية أم نامية، ونظرة الإمام (عليه السلام) إلى الحقوق المتبادلة تتجاوز حقوق الناس بين بعضهم، لتؤكِّد على الحق المتبادل بين الخالق والمخلوق، فتجعل لله حقوقًا على الإنسان، يقابلها حقوق الإنسان على الله، وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه مجتمع من المجتمعات الراقية الناضجة.

يقول (عليه السلام): [أوصيكم بتقوى الله فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله]([14]).

فحق الله سبحانه على الإنسان يقابله حق الإنسان على الله، والتقوى هي الموجبة للحقين، فقد فرضها سبحانه على عباده، فإذا أدّوها حقها أوجب لهم على نفسه مقابلاً لها وعوضًا.

فالتقوى هي أداء الله حقه فيما فرض من واجبات ونهى عنه من محرمات، وكل ملتزم بهذين الفرضين يستحق على الله المخرج من الفتن، والخلد فيما اشتهت نفسه في منزل الكرامة عند ربه، والتقوى اليوم هي الحرز والجُنَّة، وفي غدٍ الطريق إلى الجَنَّة.

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب} ([15])، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}([16])، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}([17])، فتقوى الله تستوجب عليه سبحانه جميع هذه الحقوق.

وقد أفصح عنها الإمام (عليه السلام) بقوله: [وأوصاكم بالتقوى وجعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه، فاتقوا الله الذي أنتم بعينه، ونَوَاصِيكُم بيده، (...) قد وكَّل بذلك حفظة كرامًا لا يسقطون حقًا، ولا يثبتون باطلاً، واعلموا أنه من يتقِ الله يجعل له مخرجًا من الفتن ونورًا من الظُلَم، ويخلِّده فيما اشتهت نفسه]([18]).

أما الحقوق بين الناس فهي حقوق متساوية متبادلة تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضًا، فما من حق إلا ويقابله واجب، ولا يؤدّى واجب إلا ويقابله حق، وليست الحقوق رموزًا تُرسَم، ودساتير تُعلَّق، وإنما هي ممارسة عملية بين طرفين فمن أخلَّ بحق زعزع المجتمع، وشرخ فيه شرخًا قد يقضي عليه، لأن العمل يتحوَّل إلى جانب واحد وفقدانه في الجانب الآخر، وهذا يهدد بكارثة الانهيار من الجانب الضعيف.

وعليه نفهم كلمة الإمام (عليه السلام): [من قضى حق من لا يقضي حقه فقد عبده]([19]).

وعبادة غير الله موت المجتمع وركوده، لأن العمل إذا استمر من جانب واحد، يخلّ بتوازن الكائن في الجانب الآخر، فتوازن الحقوق وتكافؤها وتساويها يختلّ، ونظامها يضطرب عندما يُلتزَم به من جهة واحدة، لأن الحق التزام وعمل وليس توصيفًا وأملاً.

فأعظم الحقوق بعد حق الله سبحانه هو حق الراعي على الرعية، ويقابله حق الرعية على الراعي، وفي هذا الحق يقول (عليه السلام):

[أما بعد فقد جعل الله  سبحانه لي عليكم حقًا بولاية أمركم، ولكم عليَّ من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له]([20]).

فنظام الحقوق هو نظام التقابل بينها، حتى تبقى ركائز المجتمع سليمة، وهذا النظام هو ممارسة عملية لأداء الحق، وليس فكرة نظرية تُستكمَل بالبرهان والتنظيم، فصاحب الحق المطلق هو الذي فرض هذا النظام كما يقول (عليه السلام):

[ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقًا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضًا، ولا يُستوجَب بعضها إلا ببعض]([21]).

فالحقوق بين الناس هي حقوق الله المفترَضة عليهم من كل الجوانب، وقد جعلها بحكمته متوازنة متكافئة في وجوهها، فقيام مخلوق بتأدية حق يوجب على الآخر تأدية حق يقابله، ولا يتوجب على إنسان القيامُ بأداء حق إلا إذا استُوجِب عليه بحق أُدِّي إليه.

وبهذا تنتظم الأمور ويحسُّ كلُّ من أدَّى حقًا بالعوض، وأن جهده لم يذهب هدرًا.

وإنما تستقيم الأمور على أكمل وجه وأفضل نظام، عندما يتولّى الوالي مسؤوليته وتتحمل الرعية عبئها:

[فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها، عزَّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطُمِع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء]([22]).

فصلاح الرعية لا يكون إلا بصلاح الولاة، ولا يمكن للولاة أن يصلحوا إذا لم تستقم الرعية، لأن اعتداء بعض الناس يُربِك الوالي، وعدم قيام البعض الآخر بواجباتهم يجرِّئ الآخرين على العصيان، وإذا حدث هذا فسد النظام، وانطمست معالم الحق، وتفرَّقت الكلمة، وظهرت معالم الجور، وأصبحت كل مجموعة تعمل وِفْقَ هواها، وتزيد من اضطراب الأوضاع، وتردّي الأحوال، متذرعة بالأهواء ومستخفية وراء الألفاظ التي تصف الحق ولا تعمل به، وتذم الظلم وتتمادى في ارتكابه، وتقود المجتمع إلى مصيره المشؤوم وموته المحتوم في ظل دولة الأشرار وذل الأبرار، لأن الأمر أفلت من أيديهم، فأصبحوا يسامون الهوان.

بينما تكافؤ الحقوق في وجوهها، والتزام كل طرف بأداء حق غيره، يُعِزُّ الحق بين الأطراف، ويُقيم معالم العدل، ويُصلِح الزمان، ويتنامى المجتمع حتى يصل إلى غاية النضج والكمال.

ومثل هذا المجتمع لا يطمع به الأعداء أن يطالوه بِشَرٍّ، أو يُلحقوا به الأذى، أو ينالوا منه غنيمة، فهو متماسك بشقَّيه القيادي والقاعدي، ومؤهَّل للبقاء واستمرارية الدولة.

وإذا تباعدت القاعدة عن القيادة، أو أجحفت القيادة بحق القاعدة، ساءت الأوضاع وانحدر المجتمع في طريق الهاوية، ورُشِّح للدمار، وذلك عندما تتغلب الرعية على راعيها:

[وإذا غلبت الرعية واليَها، وأجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور (...) وكَثُرَت علل النفوس، فلا يُستوحَش لعظيم حق عُطِّل، ولا لعظيم باطل فُعِل، فهنالك تَذِلُّ الأبرار وتَعِزُّ الأشرار]([23]).

وفي هذه الحال يجب وبسرعة، تدارك كل نقصان أو إخلال بحقوق الآخرين، حتى لا يستشري الفساد، ويلتهمَ المجتمعَ فيقضي عليه.

ولمَّا كانت الحقوق متساوية، فلا يجري لأحدٍ حقٌّ إلا جرى عليه حق، ولا يجري عليه حقٌّ إلا جرى له حق، فلا مجال للفساد عند المحافظة على هذه الحقوق، فإن عدالة الحياة تستقيم عندما يُطبَّق العدل، فالتقابل بين الحق والحق، والتبادل بينهما  -بحيث لا يؤخذ حق إلا بإعطاء حق، ولا يُعطى حق إلا بأخذ مثله- صمام أمان لاستمرار دورة الحياة العادلة.

فالمجتمع الذي يريد أن يحمي نفسه ويطيل أمد بقائه، عليه أن يحافظ على تبادل الحقوق وتقابلها بين أفراده، وفي أي وقت يتخلى عن ذلك يكون قد اتجه نحو الكارثة.

[فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحد (...) ببالغ حقيقة ما الله سبحانه أهلُهُ من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم. وليس امرؤ -وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته- بِفَوْقِ أن يُعان على ما حمَّله الله من حقه]([24]).

فواجب الأمة أن تسعى للتناصح فيما بينها، والتعاون على إقامة الحق بين أفرادها، والضرب بيدٍ من حديد على المعتدين على حقوق الآخرين، والمانعيها عن أصحابها، حتى يُعزَّ الحقُّ بينهم، وتظهرَ معالم العدل، ويصلح الزمان، وتتركز دعائم الدولة ويطول بقاؤها.

وهذا ميثاق أخذه الله على كل فرد من أبناء المجتمع، فالمجتمع مجتمعهم، وكلهم مسؤولون عنه، وأي امرئ مهما عَظُمَ في أداء الحقوق لأصحابها، وتقدّم في الفضائل الإنسانية، ليس بأكبر من أن يُعان على أداء الحقوق لأصحابها، ولو بإنقاذها من مغتصبيها، أو بإجبار المتقاعسين على أدائها.

كما وأنه ليس امرؤ -وإن صغَّرَته النفوس وحقَّرَته العيون- بدون أن يعين على أداء حقوق الله أو يُعان على ذلك.

فهذا التكافل والتضامن بين أبناء المجتمع، كفيل بالقيام بميثاق الله الذي أخذه عليهم، "وهو أن جعل من حقوقه حقوقًا افترضها لبعض الناس على بعض".

فالمسؤولية عامة أمام اختراق بعض الحقوق، أو التقصير في أدائها، لأنها من حق الله على العباد.

وأعظم المسؤولية تقع على عاتق علماء الأمة حيث:

[أخذ الله على العلماء أن لا يُقارُّوا على كِظَّة ظالم ولا سَغَبِ مظلوم]([25]).

فهم رموز الأمة، ما لم يُغلَبوا على أمرهم فواجبهم أعظم، والمسؤولية عليهم أضخم، طالما أن باستطاعتهم التصدي للظالم، واستنقاذ حق المظلوم منه، لأن محاباتهم للظالم خيانة لميثاق الله المأخوذ عليهم، "وهو عدم إقرار الظلم"، كما وأنه خروج على نظام العدل الذي يحمي المجتمع من الفوضى والفساد، ويؤول إلى موته، لأن تقابل الحقوق وتبادلها حياة المجتمع وبقاؤه، فهضم حق المظلوم أول رصاصات الموت في جسد العدل([26]).

الأمر الثاني: الأسلوب :

أسلوب استنقاذ الحقوق لأصحابها من مغتصبيها يتدرج من مرحلة معالجة أسباب الاعتداء، إلى علاج الأنفس وإثارة منابع الخير فيها لتغلب إرادتُها دواعي الشرّ، ومع عدم جدوى ذلك فلا بد من حسم الأمر بنفس الأسلوب الذي سبّب الاعتداء على حق الآخرين.

فالظالم إنما ظلم بفضل قوّته على المظلوم، جاعلاً تلك القوة معيارًا يفرّق فيه بين الحق والباطل، فما استطاعه حق، وما عجز عنه باطل، ولن يتنازل عن ظلمه طالما يجد لاستمساك قوته سبيلاً.

فاستنقاذ الحق منه في مثل حاله من أصعب الأمور مشقةً وأشدّها خطورةً، إذ لن يتراجع عن اعتدائه إلا بقوةٍ أعظم ترغمه على ذلك، وهنا يقع التصادم وتُسال الدماء.

قال (عليه السلام) : [إن أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل] ([27]).

فالقوة كما تُعتمد للاعتداء تُسخَّر لدفعه، لأن الشاغب يستعتب، والسيف يلمع فوق رأسه، فإن أبى فضربة تعيد الحق لنصابه، وترده صاغرًا لصوابه:

[وأيمُ الله، لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودَنّ الظالم بخزامته حتى أوردَه منهل الحق وإن كان كارهًا]([28]).

فلا قوة إلا للحق، ولا ذلّة إلا للباطل:

فـ [الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه]([29]).

لقد عاد المعيار هو الحق كما كان، والقوة تخدمه، وهوَت المعايير الباطلة التي تجعل القوة هي المعيار:

[وأيمُ الله، لأبقرنّ الباطل حتى أُخرِج الحق من خاصرته] ([30]).

ثم أتتبّعه في كل مكمن حتى أعيده كما كان:

[والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء، ومُلِك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجَور عليه أضيق] ([31]).

خطة صارمة عادلة لا يمكن لسواها أن تعدل الموازين، فعندما يستضعف الحق يبتلعه الباطل بقوّته، ويختزنه في جوفه، فيغدو رهين قوة الباطل المختزِنة، ولا يُفكّ أساره إلا بطعنة تبقر بطن الباطل لِتُخرج الحق من رهانه الخزين، فمن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق، إذ أن ظلمه قويًا سيُشرع باب الظلم أمام غيره ليغدو مظلومًا ضعيفًا، فليست القوة الظالمة وقفًا عليه، وانتقالها لغيره سيحيله مستضعَفًا يرسف بضيق الجور الذي سنّه نظامًا للحياة.

ففي العدل سعة، ولكن الباطل يضيق على ذوي البطش والجبروت:

[فلئن أَمِرَ الباطل لقديمًا فعل، ولئن قلّ الحق فلربما ولعل] ([32]).

فالحق لن يستعاد بالأماني والدعوات طالما صُمّت آذان الظالمين، وإنما السيف هو الحكم العدل في إمارة المفسدين:

[فإن أبَوا أعطيتهم حدّ السيف، وكفى به شافيًا من الباطل وناصرًا للحق]([33]).

وإن نبا السيف فالحق لا يخضع.. وإن أُخضع فهو لا يستذل، وإن استذل صرع، وإن صرع أهلك، فأهوى بالمصروع إلى النار:

[من صارع الحق صرعه]([34]). و[من أبدى صفحته للحق هلك] ([35]). [ومن أكله الباطل فإلى النار]([36]).

وإن تكالبت الأكلة على الحق فلن تجد شافيًا إلا مسح السوق والأعناق:

[أضربُ بالمقبل إلى الحق المدبرَ عنه، وبالسامع المطيعِ العاصيَ المريبَ أبدًا حتى يأتيَ عليّ يومي]([37]). غير هيّابٍ من ضلالهم وتكالبهم على الباطل، ولو ملأوا الأرض عدًّا والجبال جندًا. فالحق أُنس وحشتي، ومصدر قوّتي، ونصير وحدتي:

[ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة]([38]). [إني والله لو لقيتهم واحدًا وهم طِلاع الأرض كلها ما باليت، ولا استوحشت، وإني من ضلالهم الذي هم فيه، والهدى الذي أنا عليه، لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي]([39]).

فعلامَ التخاذل؟ والحق أنيس ونصير وشفيع؟ ولقد حدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: [يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها]([40]).

النقطة الرابعة: المباشرة لإعادة الحقوق لأصحابها إنما تكون:

بممارسة الأسلوب:

[والله لئن أبيت على حسك السعدان مُسهّدًا أو أُجَرّ في الأغلال مصفّدًا، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالمًا لبعض العباد أو غاصبًا لشيء من الحطام]([41]).

تنبعُ ممارسة الأسلوب من إيمان عميق في النفس، وشعور حاضر باستمرار، ويُترجَم الإيمان عملاً، والشعور التزامًا، والمجموع نظام حياة.

وينتصب عماد الحق معتمدًا على أركانه الثلاثة، إيمان وعمل والتزام:

[والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها]([42]).

ويغدو نظام الحياة يُحبَك بنفس المنوال، فتُخصف نعل عتيقة غير ذي قيمة بمخرز الحياة الخالدة التي ترفعها فوق قيمة الحياة الآمرة المتسلّطة:

[والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيمَ حقًا أو أدفع باطلاً]([43]).

ويصبح القائدُ العامل والقدوة، فيتساقط العاملون أمام عمله، ويقصّر المقتدون عن اللحاق به، ودائمًا يرتفع العظماء حتى تضيق العظمة بهم، فتتشرّف بالانتساب إليهم إذ يغدون ميزانها:

[ألا وإن لكل مأموم إمامًا يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد]([44]).

وترتسم الخطى أسلوبًا يضيء معالم الطريق، وكان عهدنا أن الأسلوب طريق يهدي إلى معالم الحق.

لقد أصبحت الخطى منارًا يضيء طريق الحق إذا درست معالمه، وأصبح كل واحد منهما يدل على صاحبه:

[فعلي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيث دار]

فمتى افتقدنا واحدًا اهتدينا إليه بالآخر، فهما جسد وروح وفي عالم الأحياء لا يفترقان:

[هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع]([45]).

[وأيمُ الله -يمينًا أستثني فيها بمشيئة الله- لأروضن نفسي رياضة تهشُّ معها إلى القرص إذا قَدَرْتُ عليه مطعومًا، وتقنع بالملح مأدومًا]([46]).

ومضى الحق يشقّ طريقه الكؤود وسط عجاج الباطل الثائر، يعفي آثاره ويمحو معالمه، حتى استمكن منه وحيدًا يعوزه الناصر ويخذله المعين.

جهاد الحق

[لا يحمل هذا العَلَمَ إلا أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق]([47]).

استفرِد الحق في ساح الجهاد فاستلأم السعادة بعيدًا عن الجبناء، فلقد خذل النصير وفارق الحميم وخان الرحم، وتهامس المستضعَفون.

وانتفض الحق مزمجرًا كالليث الهصور، يتمحور حول نفسه، ويحمي عرينه الذي لا يُضام، ويسفِّه رأي الاستضعاف الذي يؤثر السلامة والراحة، ويتوانى عن نصر الحقوق المشروعة.

[أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه!

والله لا أطور به ما سَمَر سمير، وما أمَّ نجم في السماء نجمًا]([48]).

فَسُوحُ الجهاد أبواب الجنان، وهي أروى للغليل من الخضوع للاستكبار، فمن اجتنبها طلبًا للراحة سيم خسفًا وذلاً وصَغارًا، وقضّى أيامه تعبًا ومشقة وشنارًا، فلا راحة أصاب، ولا حظًا أدرك، وأُلبس ثوب الذل والقماءة، شأن كل النفوس الضعيفة، وتعالت النفوس الكبار تسمو بالحق لمداره، فدار يتمحور حولها إذ غدت وحدها المحور:

[إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشترَوه، وأخذوهم بالباطل فاقتدَوه]([49]).

[إن الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبيء] ([50]).

وانطلق صوت الحق يدوّي بعيدًا في الآفاق، معلنًا أن الاضطهاد والنفي والإبعاد ليست مقاييس السعادة والوحشة، فالسعادة سرور نفس، والوحشة ظلمتها، ولا تُظلِم نفس تستمتع بالحق، ولا تسعد نفس تتخبط في ظلمات الباطل.

[لا يؤنسَنَّك إلا الحق ولا يوحشنَّك إلا الباطل]([51]).

فميزان الأنس هو الحق ولو في الغربة والوحدة، والباطل وحشة في الأوطان.

[أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شِبَعُها قصير وجوعها طويل]([52]).

وقد فاتهم ما يخبئ لهم الدهر من ثأر وانتقام إذ:

[يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجَور على المظلوم]([53]).

[فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق، وإنهم لعلى مزلّة الباطل]([54]).

ولم يجد بدًا من الاحتفاظ بمحور الحق في مدلهمات الظُلَم، كيلا ينفصل قطب البشرية عن رحاها:

[أقمتُ لكم على سَنَنِ الحق في جوادِّ المضلَّة، حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تُميهون]([55]).

ولم يترك الباطل للحق مجالاً، فقد ضيّق عليه الخناقَ متحفزًا لالتهامه، ودار الحق حول نفسه يرتئي بين الصول بيد جَذََّاء والصبر على طِخْية عمياء مسترسلاً في تفكير عميق، فلم يسعه إلا أن يصول:

[ولقد ضربت أنفَ هذا الأمر وعينَه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم أرَ لي فيه إلا القتال أو الكفر]([56]).

لقد بلغ السيل الزُبى، وأُخِذت على الحق مسالكه فلم يبقَ سوى حد السيف شافيًا.

لقد صُمَّت الآذان، وعميت الأبصار، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون:

[فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، ... وعظمت الطاغية، ... وصال الدهر صيال السبع العقور، .... وتواخى الناس على الفجور، وتهاجروا على الدين، وتحابوا على الكذب، وتباغضوا على الصدق، ..... وكان أهل ذلك الزمان ذئابًا، وسلاطينه سباعًا، وأوساطه أُكَّالاً، وفقراؤه أمواتًا، وغار الصدق، وفاض الكذب... وصار الفسوق نسبًا، والعفاف عجبًا]([57]).

وبقي الحق يصول ويجول، ويتشعب الباطل في نصب الحبائل والكمائن له.

[قد أعدّوا لكل حقٍ باطلاً، ولكل قائمٍ مائلاً، ولكل حيٍّ قاتلاً، ولكل باب مفتاحًا، ولكل ليل مصباحًا]([58]).

[فيا عجبًا! عجبًا -والله- يميت القلب ويجلب الهمَّ، من اجتماع هؤلاء القوم باطلهم، وتفرقكم عن حقكم]([59]).

ونُكر الحق [فإن أكثر الحق فيما تنكرون]([60]).

واستعيض عنه بالباطل وقديمًا فعل، وأصبح الحق غريبًا في أوطانه:

[والذي نفسي بيده، ليظهرن هؤلاءِ القومُ عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقي]([61]).

استشهاد الحق بالعدالة

[ألا وإن الشيطان قد ذمَّرَ حزبه، واستجلب جلبه، ليعود الجور إلى أوطانه، ويرجع الباطل إلى نصابه]([62]).

لقد حدد الحق موقفه من الأحداث فقال:

[والله لو أعطيتُ الأقاليمَ السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللهَ في نملة أسلبُها جُلبَ شعيرة ما فعلت]([63]).

وحدد الباطل موقفه فقال: [إن لله جنودًا من عسل]([64]).

وتهافت الذباب على العسل مسمومًا تهافته على الجيفة النتنة:

[وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أُسوَة، فهربوا إلى الأثرة فبُعدًا لهم وسحقًا]([65]).

[إنهم -والله- لم ينفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل]([66]).

واستصرخ الحق جنده فتخاذلوا، واستثار الباطل أعوانه فبادروا من كل صوب وحدب:

[مالي أراكم أشباحًا بلا أرواح، وأرواحًا بلا أشباح، ونُسَّاكًا بلا صلاح، ... وأيقاظًا نُوَّمًا، .... وناظرة عمياء، ... وناطقة بكماء، رايةُ ضلالة قد قامت على قطبها، .... تكيلكم بصاعها، وتخبطكم بباعها. قائدها خارج من الملة، قائم على الضِلَّة. فلا يبقى يومئذ منكم إلا ثُفالة كثُفالة القدر، .... تعرُكُكم عرك الأديم، وتدوسكم دوس الحصيد]([67]).

وازداد أنصار الحق تخاذلاً وإبطاء وتفرقًا، حتى شُنَّت عليهم الغارات ومُلِكَت عليهم الأوطان، وحاول الحق النهوض بلا جناح، فسقط كصاحب الجناح المهيض.

عاد يؤاسي جراحه بكبريائه المعهود.

[ولقد أصبحتْ الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيتي]([68]).

فنفسه تتمزق حسرات كتمزيق الحق نفسه، فهما صنوان لا يفترقان.

وللإصلاح مجال ولكنه مشوب بمجاوزة الحق، وهيهات أن يُرقَع بجرثومة فساده [كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها]([69]).

[الذليل والله من نصرتموه... وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أَوَدَكم، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي]([70]).

أبى له كبرياؤه أن يتنزَّل لحظة عن رفيع منزلته ويحكم الأبد.

[فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين]([71]).

واستحبَّ ضعاف النفوس (الموت في الحياة على الحياة في الموت)، فرضَوا عيشة الذل والهوان، وتفرقوا عن الحق أيدي سبأ.

[وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبأ]([72]).

لم يبقَ سواه غريبًا في أرضه ومضطهدًا في أوطانه، فاختار الحياة في الموت القاهر، والخلود في الوطن الثائر.

الرحيل

[يا أشباه الرجال ولا رجال! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة -والله- جرت ندمًا،... قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحًا، وشحنتم صدري غيظًا وجرعتموني نُغَبَ التهمام أنفاسًا، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان]([73]).

بعد هذه الحرقة المميتة، والغربة المقيتة، لا مقام لمتباعدين ولا جوار لمتنافرين، وانتحى كلٌّ ينشد وطنه، واستحث الحق خطاه مستعجلاً ساعة الوصول، وتاركًا الباطل يتخبط في ديجوره.

[اللهم إني قد مَلِلْتُهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي شرًا مني. اللهم مِثْ قلوبَهم كما يُماثُ الملح في الماء. أما والله لوددت أنَّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:

هنالك لو دعوت أتاك منهم

 

فوارس مثل أرمية الحميم]([74])

 

وارتحل الحق وحيدًا في رحلته، سعيدًا بأداء مهمته، مخلِّفًا بذوره المعطاء في عقول الرجال لمَّا لم تسعها الأرض، منتظرًا إيناعها بعد تفريخ.

وما أسرع ما تفاعلت الأفكار، ولبَّت نداء الحق فتحوَّلت نطفًا تتغذى من ندائه...

وتنمو على لبانه، وانطلقتْ كالمارد الجبار يهدر ويزأر ويزمجر: لبيك داعي الله، لبيك.

لقد أجيب دعاؤك فأُبدلت خيرًا ممن سئمت، وأُعطيت فوق ما طلبت، وَدِدْتَ ألف فارس من بني فراس بن غنم، فلبَّاك عشرون مليونًا، كلهم [كبني فراس بن]([75]) غنم مثل أرمية الحميم، يهدرون بصوت واحد كالصواعق: الله أكبر، الله أكبر.

قادهم ابنك، الذي عاش محنتك، فالتزم خطك [كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطَونه، ثم يطلبونه فلا يعطَونه، فإذا رأَوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطَون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء، أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر] ([76]).

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* هذه المقالة هي عبارة عن محاضرة كان قد ألقاها المصنف (قده) في مؤتمر نهج البلاغة العالمي الثالث في طهران 13 رجب 1403هـ 1983م. وقد عثرنا في أوراق المؤلف على تعديلات كان قد أجراها على قسم من البحث، وهو يشتمل على النقطتين الأولى والثانية وجزءًا من النقطة الثالثة، ولم نعثر على بقية التعديلات. ونحن نعيد نشر المحاضرة مع التعديلات المشار إليها، ولذلك قد يُلاحَظُ شيءٌ من الاختلاف بين التقسيم الوارد في بداية المحاضرة، وبين ما ورد في القسم الثاني منها.

([1]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، خطبة 192.

([2]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة الأولى.

([3]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([4]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)،الخطبة 192.

([5]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([6]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([7]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([8]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([9]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([10]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([11]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([12]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 192.

([13]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 65.

([14]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 191.

([15]) الطلاق من الاية 2.

([16]) الطلاق من الآية 4.

([17]) الطلاق من الاية 5.

([18]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 183.

([19]) نهج البلاغة، حكمة 164.

([20]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 216.

([21]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 216.

([22]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 216.

([23]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 216.

([24]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، الخطبة 216.

([25]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) الخطبة 3.

([26]) هنا ينتهي القسم الذي عثرنا على تعديلاته التي أجراها المؤلف، ويبدأ القسم الذي لم نعثر على تعديلاته.

([27]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) الخطبة 173.

([28]) من كلام له 136.

([29]) من كلام له 37.

([30]) خطبة 104.

([31]) من كلام له 15.

([32]) كلام 16.

([33]) خطبة 22.

([34]) حكم 408.

([35]) حكم 188.

([36]) رسائل 17.

([37]) خطبة 6.

([38]) رسائل 17.

([39]) رسائل 62.

([40]) كلام 164.

([41]) كلام 224.

([42]) خطبة 175.

([43]) خطبة 33.

([44]) رسائل 45.

([45]) رسائل 45.

([46]) رسائل 45.

([47]) خطبة 173.

([48]) كلام 126.

([49]) رسائل 79.

([50]) حكم 376.

([51]) كلام 130.

([52]) كلام 201.

([53]) حكم 341.

([54]) كلام 197.

([55]) خطبة 4.

([56]) كلام 43.

([57]) خطبة 108.

([58]) خطبة 194.

([59]) خطبة 27.

([60]) خطبة 87.

([61]) خطبة 97.

([62]) خطبة 22.

([63]) كلام 224.

([64]) قالها معاوية عندما بلغه وفاة مالك الأشتر بسم دسه له.

([65]) كلام 224.

([66]) كتاب 70.

([67]) خطبة 108.

([68]) خطبة 97.

([69]) خطبة 121.

([70]) كلام 69.

([71]) خطبة 51.

([72]) خطبة 97.

([73]) خطبة 27.

([74]) خطبة 25.

([75]) أضفنا هذه العبارة لأنه يظهر وجود نقص. (التحرير).

([76]) الغيبة، النعماني، عن أبي جعفر (عليه السلام).

 

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والعشرون