السنة الحادية عشرة / العدد السابع والعشرون / حزيران  2015م / ربيع أول  1436هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

أدب الدعاء الفن المنفي

 القسم الخامس

الشيخ مصطفى الشيخ سليمان يحفوفي

 

 

مقدمة

بعد أن انتهينا من الحديث عن صورة الوجود في أدب الدعاء، فإنه لم يبقَ أمامنا بعد ذلك سوى معالجة مسألة واحدة من المسائل المهمة ذات الصلة بقضية التعبير الفني عن الإحساس بالوجود وهي مسألة "أزمات الوجود"، والتي سبقت منّا الإشارة إليها تحت عنوان (ملاحظة مهمة)، وذلك في أثناء حديثنا عن السبب الرابع من الأسباب التي ذكرها محمد قطب، والتي أدّت بحسب رأيه إلى انقطاع العرب عن التعبير الفني. وقد وعدنا هناك بالعودة إلى هذه المسألة، لكي نعالجها بشيء من التفصيل. وهذا ما سنحاوله عبر الصفحات التالية.

أنواع الأزمات، وجديد أدب الدعاء

ذكرنا سابقًا أن "قطب" يرى أن التعبير الفني يكون أقرب مأخذًا وأسهل منالاً عندما يكون الدافع إليه هو معاناة أزمة كأزمة الشعور بالضياع وعدم الإحساس بالوجود والرضى بهذا الوجود. بينما تشتد صعوبةُ التعبير كثيرًا عند ذهاب الأزمة وحلول الإحساس بالوجود والامتلاء به محلها. والسر في ذلك هو أن التعبير عن الإحساس بالوجود -وخلافًا للتعبير عن أزمة الشعور بالضياع- يحتاج إلى طاقة فنية ضخمة لا توهب لكل إنسان.

وبناء على هذا يخلص "قطب" إلى أن أحد الأسباب المهمة التي أدّت إلى انقطاع المسلمين الأوائل عن التعبير الفني هو أنهم حين واجهوا تجربة الإسلام الفريدة التي ملأت نفوسهم بالوجود، لم يكونوا يمتلكون الطاقة الفنية اللازمة للتعبير عما حملته إليهم هذه التجربة من إحساس عميق بالوجود، الأمر الذي أدّى بهم إلى التخلي عن الإبداع والانصراف عن التعبير.

إلا أن باحثنا يسجل بعد ذلك استدراكًا مفاده: أن مواجهة المسلمين للتجربة الجديدة، وامتلاء نفوسهم بالوجود نتيجة لهذه التجربة لا يعني بحال أن هذا الوجود قد كان خِلوًا من الأزمات. بل الحقُّ أنه قد كانت لهذا الوجود أزماته، وهي تلك الابتلاءات المتلاحقة التي عاشها المسلمون الأوائل، حتى استتب لهم الأمر وظهر الدين واستقر. غير أن هذه الأزمات -وعلى الرغم من أهميتها- لم تكن كافية لتحفيزهم على التعبير الفني، إذ حالت دون ذلك أسباب وموانع أخرى أشار إليها "قطب" في بحثه.

والأمر الذي يهمنا في المقام هو التنبيه على أن أدب الدعاء قد كشف عن وجود أزمات أخرى، تتصف بالجِدَّة والعمق، وهي من الأزمات التي لم يتسنَّ لقطب ولا لمن يذهب مذهبه من الباحثين أن يهتدوا إليها ويتعرفوا على دقائق معانيها.

ولبيان هذا الأمر نقول: إن غاية ما استطاع أن يهتدي إليه "قطب" من أنواع الأزمات نوعان:

أولهما: هو النوع المتمثِّل في أزمة الشعور بالضياع وعبث الجهد.

وثانيهما: هو النوع الحاكي عن الأزمات الخارجية، كالأزمات السياسية والاجتماعية وما يماثلها من الابتلاءات التي تعرَّض لها المسلمون الأوائل.

 وهنا يجب أن نلاحظ أن أيًّا من النوعين السابقين لم يكن السبب في نشوء أزماته هو الإحساس بالوجود والتعمق في فهم حقيقته، وإنما كان السبب في نشوء أزمات النوع الأول هو الشعور بالغربة تجاه هذا الوجود، والضلال عن طريقه، وإضاعة الاتجاه الصحيح نحوه. وهو ما يجرّ المرء إلى مزالق العدمية والعبث.

وأما النوع الثاني، فقد كان السبب في نشوء أزماته هو العوامل الخارجية وظروف الواقع المعاش، ولم يكن سبب نشوئها هو الإحساس بالوجود وفهمه فهمًا إيجابيًا معمقًا.

وكل ذلك يكشف لنا عمّا تتسِم به الأزمات التي يضيفها أدب الدعاء من الخصوصية والتميّز، إذ المُلاحَظ أن هذه الأزمات -وخلافًا لأزمات النوعين السابقين- إنما تنبع من باطن الإحساس بالوجود، وتظهر لمن أمعن النظر في حقيقة هذا الوجود، إذ تنكشف أمام ناظرَيه فضاءاتٌ واسعة، ومساحاتٌ لامتناهية، تغلِّف معالمَها الحجبُ، وتحيط بحقائقها الأسرارُ، حتى لتعجزَ العين([1]) عن مشاهدة تخومها، ويكلّ الذهن عن إدراك شؤونها، فينشأ نتيجة لذلك عددٌ من الأزمات المختلفة، والتي هي في حقيقة أمرها من بنات التأمل في الوجود، ومتولِّدة من رَحِم التعمق في معرفته، وليست صادرةً عن إضاعته والجهل به، ولا عن ظروف الواقع الآنية والمتبدِّلة.

ولأجل بيان ماهية هذا النوع الخاص من الأزمات التي يثيرها أدب الدعاء، نورد بعض النماذج المستقاة من نصوص هذا الأدب.

النموذج الأول: تعالي مبدأ الوجود، وقصور الإدراك الإنساني

إن إحدى الأزمات الكبرى التي يثيرها أدب الدعاء هي أزمة الحيرة والذهول اللذَين يصيبان المرء عند محاولته التعرف على حقيقة مبدأ الوجود وبعضِ ما يخصُّه من الأمور والشؤون.

ويُرجِع هذا الأدب نشوء الأزمة المذكورة إلى عاملَين متضافرَين، أولهما تعالي مبدأ الوجود، وثانيهما قصور الإدراك الإنساني. والنصوص الدالة على هذين العاملَين كثيرة جدًا، نكتفي بإيراد بعض أمثلتها، ونبدأ بذكر شواهد العامل الأول.

يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في بعض أدعيته مخاطِبًا الله تعالى: [فَتَعَالَيْتَ عَنِ الأَشْبَاهِ والأَضْدَادِ، وتَكَبَّرْتَ عَنِ الأَمْثَالِ والأَنْدَادِ]([2]).

ويقول في دعاء آخر: [أَنْتَ الَّذِي لا تُحَدُّ فَتَكُونَ مَحْدُودًا، ولَمْ تُمَثَّلْ فَتَكُونَ مَوْجُودًا([3])]([4]).

ويقول في هذا الدعاء نفسِه: [سُبْحَانَكَ لا تُحَسُّ ولا تُجَسُّ ولا تُمَسُّ([5])].

وإلى مثل هذه المعاني يشير الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في دعاء الصباح حيث يقول: [يَا مَنْ دَلَّ عَلَى ذاتِهِ بِذاتِهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مُجانَسَةِ مَخْلوقاتِهِ وَجَلَّ عَنْ مُلائَمَةِ كَيْفِياتِهِ ([6]).

تشترك هذه النصوص جميعها في الدلالة على تسامي حقيقة مبدأ الوجود، فتصرح بأن حقيقة هذا المبدأ هي في ذاتها -وبقطع النظر عن محدودية عقولنا- حقيقة متعالية تجلّ عن مجانسة المخلوقات، وعن ملاءمة ما تتصف به هذه المخلوقات من الكيفيات، فليس لتلك الحقيقة في عالم الوجود شبيه ولا نظير، وإنما هي حقيقة متفرِّدة يأبى كنهها عن التعيين، ويسمو جوهرها عن التحديد([7]).

ونصل بعد هذا إلى شواهد العامل الثاني والتي تتضمن الإشارة إلى قصور إدراك الإنسان، وعجز عقله عن الإحاطة بالحقائق المطلقة والواقعيات اللامحدودة.

ونقرأ من هذه الشواهد قول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة: [أَنْتَ الَّذِي قَصُرَتِ الأَوْهَامُ عَنْ ذَاتِيَّتِكَ، وعَجَزَتِ الأَفْهَامُ عَنْ كَيْفِيَّتِكَ، ولَمْ تُدْرِكِ الأَبْصَارُ مَوْضِعَ أَيْنِيَّتِكَ]([8]).  

ونقرأ أيضًا قوله (عليه السلام) في مناجاة العارفين: [وَعَجَزَتِ العُقُولُ عَنْ إدْراكِ كُنْهِ جَمالِكَ وَانْحَسَرَتِ الأَبْصارُ دُونَ النَّظَرِ إِلى سَبُحاتِ وَجْهِكَ وَلَمْ تَجْعَلْ لِلْخَلْقِ طَرِيقًا إِلى مَعْرِفَتِكَ إِلاّ بِالعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِكَ]([9]).

ونقرأ كذلك قوله (عليه السلام) في دعائه بعد الفراغ من صلاة الليل: [ضَلَّتْ فِيكَ الصِّفَاتُ، وتَفَسَّخَتْ دُونَكَ النُّعُوتُ، وحَارَتْ فِي كِبْرِيَائِكَ لَطَائِفُ الأَوْهَامِ]([10]).

وتتكرر أمثال هذه المعاني والمضامين في الكثير من الأدعية الأخرى، وذلك من قبيل ما نجده في بعض أدعية الإمام الحسين (عليه السلام) حيث يقول: [إِلهِي أَنا الجاهِلُ فِي عِلْمِي فَكَيْفَ لا أَكُونُ جَهُولاً فِي جَهْلِي؟]([11]).

وكذلك ما نجده في دعائه (عليه السلام) [يا مَنْ لا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلاّ هُوَ، يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ إِلاّ هُوَ، يا مَنْ لا يَعْلَم ما يَعْلَمُهُ إِلاَّ هُوَ]

وقريب منه ما جاء في دعاء المشلول: [يا هُوَ، يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ، وَلا كَيْفَ هُوَ، وَلا أَيْنَ هُوَ، وَلا حَيْثُ هُوَ إِِلاّ هُوَ]([12]).

ومن الجليّ أن هذه الشواهد كلّها قد جاءت لتحكي عن أمر واحد مشترَك، هو محدودية عقل الإنسان وعجزه عن الإحاطة بالحقيقة الإلهية المطلقة، ولكنها لجأت في تعبيرها عنه إلى استخدام طرقٍ فنية مختلفة، وأساليبَ بيانية متنوعة.

ولأجل إعطاء لمحة توضيحية عن هذه الطرق والأساليب نقول: إن شواهدنا المتقدمة لم تلجأ في تعبيرها عن قصور إدراك الإنسان وعجزه إلى استخدام اللغة التقريرية المباشرة، بل توسَّلت إلى ذلك بلغة إبداعية رفيعة، وأسلوب بياني شيّق، وهو ما يمكننا التمثيل له بما قرأناه آنفا من قول الإمام السجَّاد (عليه السلام): [وَلَمْ تَجْعَلْ لِلْخَلْقِ طَرِيقًا إِلى مَعْرِفَتِكَ إِلاَّ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِكَ]، حيث نلاحظ أن النص حين أراد أن يدلنا على طريق معرفة الله سبحانه، فقد عبَّر عنه بأسلوب الحصر المسبوق بأداة النفي، فنفى بذلك كل الطرق المؤدية إلى المعرفة، ثم استثنى منها طريقًا واحدًا فقط، واعتبره هو الطريق الممكن الوحيد.

وهنا تتأجَّج مشاعر الشوق في نفس القارئ، وتستيقظ لديه حاسّة الفضول لمعرفة هذا الطريق المستثنى والوحيد. وسرعان ما يأتيه الجواب على تساؤله، ولكنه جواب صادم، وخارج عن كل ما هو متوقَع أو منتظَر، إذ يتبيَّن له أن طريق الوصول الوحيد إنما هو طريق العجز واللاوصول، وهذا ما يُبصِّره بحدود قدرته، ويكشف له عن أن السبيل الوحيدة المشرعة أمامه هي أن يبقى سالكًا في الطريق باتجاه المقصد، وإن امتنع عليه الوصول.

على أنه من المهم في البَين أن نلتفت إلى أن هذا السنخ من السلوك، وإن كان لا يمكنه إيصال الإنسان إلى الإحاطة بكنه الحقيقة المطلقة، إلا أنه يفتح أمامه آفاقًا معرفية واسعة، ويجعله في معرض الترقي والتكامل الدائمَين([13]).

ويمكننا أيضًا أن نمثِّل لطبيعة اللغة المستخدمة بنص آخر من النصوص الآنفة، وهو قول الإمام السجَّاد (عليه السلام): [ضَلَّتْ فِيكَ الصِّفَاتُ، وَتَفَسَّخَتْ دُونَكَ النُّعُوتُ]. فنلاحظ أن النص قد استخدم لغةً تصويرية موحية، حيث نَعَتَ الصفات بالضلال، ووَصَفَ النعوت بالتفسخ، وهذه صورة تثير الدهشة حقًا، إذ من العجيب أن نرى الصفات وهي تضل طريقها إلى الموصوف، أو نتخيل النعوتَ وهي آخذةٌ في التقطع والتفسخ، وذلك عندما نحاول أن ننعت بها الحقيقة المطلقة، أي حقيقة الذات الإلهية المقدَّسة والمتعالية عن الوصف والتحديد. وهذا ما يضع بين أيدينا شاهدًا آخر على مدى التناغم بين جمال التعبير وعمق المؤدى في نصوص مدرسة أدب الدعاء.

ونعود بعد هذه اللمحة التوضيحية إلى حديثنا السابق حول العاملَين اللذَين كشفت عنهما شواهدنا المزبورة كلها، وهما تعالي مبدأ الوجود من جهة، وقصور الإدراك الإنساني من جهة ثانية، فنقول: إن كلاً من ذينك العاملَين يكفي وحده في تسبيب أزمة الحيرة والذهول عند محاولة الإنسان التعرف على حقيقة مبدأ الوجود. فما بالك -إذًا- إذا ما اجتمع هذان العاملان معًا، وتضافرا على التأثير؟!

لا ريب أن الإنسان سيدرك في هذه الحال أنه يسعى إلى طلب المستحيل، إذ ستكون حاله ساعتئذ أشبه بحال من يحاول حيازة ماء البحر كله بواسطة كوب واحد صغير.

ونختتم كلامنا في النموذج الأول بالتذكير بأن الأزمة المطروحة في هذا النموذج، إنما هي واحدة من الأزمات الناتجة عن محاولة التعمق في معرفة كنه حقيقة مبدأ الوجود، فهي أزمة متولِّدة عن الإحساس بالوجود، والامتلاء به، وما هي بأزمة انحراف عنه أو ضلال عن سبيله.

وقد تولَّى أدب الدعاء طرح هذه الأزمة، وتبيان معالمها، ليكشف لنا بذلك عن عظمة الحقيقة الإلهية، وعمَّا يعتري النفس الإنسانية من الدهشة والذهول أمام عجائب شؤونها وغوامض أسرارها. وهذا ما يُفصِح عنه الإمام السجَّاد (عليه السلام) بكلمة موجزة جامعة، إذ يقول: [يا مَنْ لا تَنْقَضِي عَجَائِبُ عَظَمَتِهِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاحْجُبْنَا عَنِ الإلْحَادِ فِي عَظَمَتِكَ]([14]).

النموذج الثاني: أزمة التقصير عن تأدية الشكر

يكشف لنا هذا النموذج عن أزمة أخرى من أزمات الانفتاح على الوجود، وهي الأزمة التي تواجه المرء عند محاولته شكر مفيض الوجود سبحانه على ما يمنُّ به على الإنسان من واسع فضله وسابغ نعمه، وهي أزمة يتردد ذكرها في العديد من أدعية الإمام السجَّاد (عليه السلام) ومناجياته، ومن أمثلة ذلك ما ورد في دعائه الذي يحمل عنوان "في الاعتراف بالتقصير عن تأدية الشكر" وكذلك ما ورد في مناجاته المعروفة بـ "مناجاة العارفين"، وأيضًا ما جاء في "مناجاة الشاكرين". ونحن سوف نكتفي باقتطاف بعض المقاطع من المناجاة الأخيرة فقط.

يقول (عليه السلام) في أحد مقاطع هذه المناجاة : [إلهِي أَذْهَلَنِي عَنْ إقامَةِ شُكْرِكَ تَتابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَنِي عَنْ إحْصاءِ ثَنائِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحامِدِكَ تَرادُفُ عَوائِدِكَ، وَأَعْيانِي عَنْ نَشْرِ عوارِفِكَ تَوالِي أَيادِيكَ، وَهذَا مَقامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النَّعْماءِ، وَقابَلَها بِالتَّقْصِيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالإهْمالِ وَالتَّضْيِيعِ]([15]).

يكشف لنا الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع عن أحد وجوه الأزمة المذكورة، ويضع أيدينا على السبب الأول من أسبابها، وهو ما يبيّنه (عليه السلام) بقوله: [وَهذَا مَقامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النَّعْماءِ، وَقابَلَها بِالتَّقْصِيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالإهْمالِ وَالتَّضْيِيعِ]. فنِعَمُ المولى سبحانه على عباده سابغة كثيرة، وثمّةَ عباد يدركون عِظمَ هذه النعم، ويرغبون في تأدية واجب الشكر عليها، ولكنهم رغم ذلك يقابلونها بالتقصير، ويشهدون على أنفسهم بالإهمال والتضييع.

فما الذي يوقعهم في ذلك؟ وما الذي يدعوهم إلى إهمال واجب الشكر بعد اعترافهم بسبوغ نِعم المولى عليهم؟!

تجيبنا المناجاة على هذا التساؤل بالقول : [إلهِي أَذْهَلَنِي عَنْ إقامَةِ شُكْرِكَ تَتابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَنِي عَنْ إحْصاءِ ثَنائِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحامِدِكَ تَرادُفُ عَوائِدِكَ، وَأَعْيانِي عَنْ نَشْرِ عوارِفِكَ تَوالِي أَيادِيكَ].

تفصح هذه العبارات عن وجه العذر في تقصير العبد عن إقامة الشكر. وما أروع طريقة إفصاحها، وما أبدع ما تُفصح عنه! إذ هل يمكننا أن نتصور أسلوبًا نعتذر به إلى الكريم عن التقصير أبلغ وأجمل من الاعتذار إليه بأن الذي شغلنا عن إقامة شكره إنما هو فيض فضله، وترادف عوائده، وتوالي أياديه؟!.

فَسِعَة كرمه هي ما يفضي بالمرء إلى الانشغال بتلقي الهبات المترادفة، والعطيات المتتالية، فيذهله ذلك عن إقامة الشكر وذكر المحامد، ونشر العوارف.

وتذكر المناجاة بعد ذلك السبب الثاني من أسباب عدم أداء العبد لواجب شكر المولى تعالى، وهو ما يكشف عنه الإمام (عليه السلام) بقوله: [إلهِي تَصاغَرَ عِنْدَ تَعاظُمِ آلائِكَ شُكْرِي، وَتَضَاءَلَ فِي جَنْبِ إكْرَامِكَ إيَّايَ ثَنائِي وَنَشْرِي، جَلَّلَتْنِي نِعَمُكَ مِنْ أَنْوَارِ الإِيْمانِ حُلَلاً، وَضَرَبَتْ عَلَيَّ لَطائِفُ بِرِّكَ مِنَ الْعِزِّ كِلَلاً، وَقَلَّدَتْنِي مِنَنُكَ قَلائِدَ لا تُحَلُّ، وَطَوَّقَتْنِي أَطْوَاقًا لا تُفَلُّ، فَآلاؤُكَ جَمَّةٌ ضَعُفَ لِسانِي عَنْ إحْصائِها، وَنَعْماؤُكَ كَثِيرَةٌ قَصُرَ فَهْمِي عَنْ إدْرَاكِها فَضْلاً عَنِ اسْتِقْصائِها] ([16]).

نلمَح في هذا المقطع نحوًا من الترقي في بيان قوة الأسباب الحائلة دون تأدية العبد حق الشكر، ويدلنا على ذلك أن المناجاة كانت قد أرجعت السبب الأول إلى التقصير، ومسؤولية التقصير تقع -في نهاية المطاف- على عاتق المقصِّر. بينما هي تُرجِع السبب الثاني إلى القصور، وهو نوع من أنواع العجز الذي لا يقع تحت قدرة العبد، فلا يكون العبد مسؤولا عنه.

والوجه في رجوع هذا السبب إلى القصور، هو أن العبد مهما كان شكورًا ومهما قدّم من آيات الحمد والثناء، فإن شكره سوف يتصاغر عند تعاظم آلاء المولى تعالى، وثناؤه سوف يتضاءل في جنب سعة كرمه وعطائه، بل إن لسانه ليضعف عن إحصاء ما يغمر وجوده من النعم الإلهية اللامتناهية، وفهمه ليقصر عن إدراكها، وعن استقصائها والإحاطة بها.

وبعد أن تنتهي المناجاة من بيان السبب الثاني، تنتقل بنا إلى ذكر السبب الثالث فتقول : [فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ، وَشُكْرِي إيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْرٍ، فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الْحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الْحَمْدُ].

يحكي لنا هذا المقطع عن حال العبد وهو يقف بين يدي مولاه متسائلاً: كيف لي يا رب بتحصيل شكرك، فأنت الذي أنعمت عليَّ بنعمك التي لا تحصى، من نعمة الإيجاد، إلى نعمة الحياة، إلى نعمة العقل، إلى نعمة الهداية.. فهيّأتَ لي بذلك كله أن أكون من الشاكرين. فلك الشكر يا رب على ما أنعمت، ولك الحمد على ما تفضّلت.

لكن يا إلهي أليس ما نطقتُُ به الآن من الشكر على النعم السابقة هو نعمة جديدة أنعمتها عليّ بفضلك وإحسانك؟ فمن واجبي إذًا أن أشكرك عليها.. غير أن شكري إياك على هذه النعمة الحادثة هو أيضًا من فضل إحسانك! فهو يستوجب مني أن أشكرك شكرًا جديدًا عليه.

وهكذا يتصاعد الأمر ويتسلسل إلى ما لا نهاية، فأدرك بذلك أنه من المحتّم عليّ أن أبقى مقيمًا أبدًا في بَوتَقة العجز، ويستحيل عليّ أن أقوم بواجب الشكر مهما سعيت وحاولت واجتهدت.

ونلاحظ هنا أيضًا أن المناجاة قد ترقّت مرة أخرى في طرحها للأسباب، حيث نجدها في طرحها للسبب الثالث تتجاوز عاملَي التقصير والقصور، لترجعه إلى عامل آخر، هو عامل الاستحالة المنطقية التي ينتج عنها استحالة عملية، تحول دون تمكّن العبد من تحصيل واجب الشكر.

ويتجلّى لنا من كل ما تقدم أنه لا يمكن للعبد أبدًا أن يؤديَ واجب الشكر، وذلك إما لابتلائه بالتقصير، وإما لأنه محكوم بالقصور، أو لأنه يواجه نوعًا من الاستحالة المنطقية، فهو يعاني في نهاية الأمر وجود أزمة مستعصية لا سبيل إلى حلها أو الخروج منها، فلا يبقى أمامه حينئذ سوى سلوك الدرب الوحيدة التي تبقى مفتوحة أمامه، وهي درب التعبير عما يعترضه من الصعاب، وما يعتري نفسه من الحيرة، فيناجي ربه مُظهِرًا واقع حاله، ومُقِرًّا معترفًا بضعفه وقصوره وعجزه.

ولعله من نافل القول هنا أن نذكّر بأن الأزمة المطروحة في هذا النموذج، هي أيضًا من الأزمات الصادرة عن شدة الإحساس بالوجود، وقوة الارتباط به، وعن إدراك الإنسان لسعة كرم مبدأ الوجود، وفيض فضله، وتتابع إحسانه.

النموذج الثالث : أزمة عصيان المولى ومخالفة أوامره

يقول تعالى في كتابه العزيز: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}([17])، وضعفُه هذا قد يجرّه إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب، الأمر الذي يوقعه في أزمة، ويسبب له المعاناة، وهي واحدة من الأزمات التي يثيرها أدب الدعاء، فيكشف عن معالمها، ويدلنا على طريق التعامل معها. وكمثال على ذلك نقرأ بعض العبارات الواردة في مناجاة التائبين للإمام السجاد (عليه السلام)، ونبدأها بقوله (عليه السلام): [إِلـهي ألْبَسَتْنِى الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتي، وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتي وأمَاتَ قَلْبي عَظيمُ جِنايَتي].

  تصوّر لنا هذه العبارات بعض ما يصيب الإنسان من آثار خطاياه، فهي تلبسه لباس المسكنة، وتدثره بثوب المذلة وتسبب له موت القلب. فكيف السبيل عندها لكي يلقي الجاني عن نفسه هذا الثوب، ويستعيد من ثَمَّ حياة قلبه؟

تجيبنا المناجاة بأن السبيل إلى ذلك هي رجوع العبد إلى مولاه نادمًا مستغفرًا، مبتهلاً إليه أن يتوب عليه، ولذلك فهي تردف بالقول: [فَأَحْيِهِ بِتَوْبَةٍ مِنْكَ يا أَمَلي وَبُغْيَتي وَيا سُؤْلي وَمُنْيَتي فَوَعِزَّتِكَ ما أَجِدُ لِذُنوُبي سِواكَ غافِرًا، وَلا أَرى لِكَسْري غَيْرَكَ جابِرًا].

ثم لما كان المقتضي لهذه الأزمة -عنيتُ به الضعف البشري- هو من الأمور المتجذّرة في طبيعة الإنسان، وكان الناس عمومًا معرّضين للوقوع فيها ومعاناة آثارها، فلذلك نجد أن أدب الدعاء قد أولاها عناية خاصة، فخصّها بجملة كبيرة من نصوصه، وهي نصوص تفيض جميعها برقة الإحساس، وتتصّف بحلاوة البيان وعذوبة التعبير.. كما أنها تشترك في النفاذ إلى أقصى مكامن النفس الإنسانية، لتلتقط نبض مشاعرها الخفية، ثم لتبوح بها بعد ذلك، معبرة عنها بصورة فنية موحية، تفصح عن حالات انكسار القلب ومعاناة الروح، وتكشف عن دروب الخلاص ومنافذ الأمل، مبيّنة في أثناء ذلك أمثل طرق مخاطبة الله تعالى، وأجمل أساليب مناجاته.

وتلك أمور يبعدنا بيانها ودراسة تفاصيلها عن مقاصد بحثنا الحالي، فلذلك سنقتصر هنا على إيراد بعض الشواهد المرتبطة بموضوع العصيان والتوبة، لِنُدَلِّلَ بها على ما يطرحه أدب الدعاء من صنوف الأزمات الصادرة عن إحساس الإنسان بالوجود، وعن صلته الوثيقة بهذا الوجود وتعمّقه في فهم حقيقته. وسنكتفي من تلك الشواهد بذكر فقرات قليلة من دعاء السحر للإمام السجاد (عليه السلام)، والذي يُعَدُّ واحدًا من أجمل ما سطّرته يد الإبداع الإنسانية في عالم النصوص.

يُعدّد الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء السحر جملة من النعم الإلهية التي يمنّ بها الله تعالى على الإنسان، ومن أمثلتها ما جاء في قوله (عليه السلام): [سَيِّدِي أَنا الصَّغِيرُ الَّذِي رَبَيْتَهُ، وَأَنا الجاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتهُ، وَأَنا الضَّالُّ الَّذِي هَدَيْتَهُ، وَأَنا الوَضِيعُ الَّذِي رَفَعْتَهُ، وَأَنا الخائِفُ الَّذِي آمَنْتَهُ، وَالجائِعُ الَّذِي أَشْبَعْتَهُ، وَالعَطْشانُ الَّذِي أَرْوَيْتَهُ، وَالعارِي الَّذِي كَسَوْتَهُ، وَالفَقِيرُ الَّذِي أَغنَيْتَهُ، وَالضَّعِيفُ الَّذِي قَوَّيْتَهُ، وَالذَّلِيلُ الَّذِي أَعْزَزْتَهُ، وَالسَّقِيمُ الَّذِي شَفَيْتَهُ، وَالسَّائِلُ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ، وَالمُذْنِبُ الَّذِي سَتَرْتَهُ، وَالخاطِئُ الَّذِي أَقلْتَهُ، وَأَنا القَلِيلُ الَّذِي كَثَّرْتَهُ، وَالمُسْتَضْعَفُ الَّذِي نَصَرْتَهُ، وَأَنا الطَّرِيدُ الَّذِي آوَيْتَهُ]([18]).

ولما كان من حق المنعم علينا أن نقابل إنعامه بالشكر والحمد والثناء، فلذلك نجد الدعاء الذي بين أيدينا يفيض بالتعبير عن مثل هذه الأمور، وذلك من قبيل قوله (عليه السلام): [يا مُحْسِنُ يا مُجْمِلُ يا مُنْعِمُ يا مُفْضِلُ، لَسْتُ أَتَّكِلُ فِي النَّجاةِ مِنْ عِقابِكَ عَلى أَعْمالِنا بَلْ بِفَضْلِكَ عَلَيْنا لأنَّكَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ تُبْدِئُ بِالإحْسانِ نِعَمًا وَتَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ كَرَمًا، فَما نَدْرِي ما نَشْكُرُ أَجَمِيلَ ما تَنْشُرُ أَمْ قَبِيحَ ما تَسْتُرُ أَمْ عَظِيمَ ما أَبْلَيْتَ وَأَوْلَيْتَ أَمْ كَثِيرَ ما مِنْهُ نَجَّيْتَ وَعافَيْتَ؟ يا حَبِيبَ مَنْ تَحَبَّبَ إِلَيْكَ وَيا قُرَّةَ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ وَانْقَطَعَ إِلَيْكَ. أَنْتَ المُحْسِنُ وَنَحْنُ المُسِيئُونَ، فَتَجاوَزْ يا رَبِّ عَنْ قَبِيحِ ما عِنْدَنا بِجَمِيلِ ما عِنْدَكَ، وَأَيُّ جَهْلٍ يا رَبِّ لا يَسَعَهُ جُودُكَ وَأَيُّ زَمانٍ أَطْوَلُ مِنْ أَناتِكَ؟ وَما قَدْرُ أَعْمالِنا فِي جَنْبِ نِعَمِكَ وَكَيْفَ نَسْتَكْثِرُ أَعْمالاً نُقابِلُ بِها كَرَمَكَ، بَلْ كَيْفَ يَضِيقُ عَلى المُذْنِبِينَ ما وَسِعَهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ؟!].

ولكن ربما يصدر من الإنسان خلاف المطلوب، فيقابل النعم بالكفران بدل مقابلتها بالحمد والشكر، وهو ما يصوِّره لنا الإمام (عليه السلام) بقوله: [أَنا يا رَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الخَلاءِ وَلَمْ أُراقِبْكَ فِي المَلاءِ، أَنا صاحِبُ الدَّواهِي العُظْمى، أَنا الَّذِي عَلى سَيِّدِهِ اجْتّرى، أَنا الَّذِي عَصَيْتُ جَبَّارَ السَّماء، أَنا الَّذِي أَعْطَيْتُ عَلى مَعاصِي الجَلِيلِ الرُّشا، أَنا الَّذِي حِينَ بُشِّرْتُ بِها خَرَجْتُ إِلَيْها أَسْعى. أَنا الَّذِي أَمْهَلْتَنِي فَما ارْعَوَيْتُ، وَسَتَرْتَ عَلَيَّ فَما اسْتَحْيَيْتُ، وَعَمِلْتُ بِالمَعاصِي فَتَعَدَّيْتُ، وَأَسْقَطْتَنِي مِنْ عَيْنِكَ فَما بالَيْتُ، فَبِحِلْمِكَ أَمْهَلْتَنِي وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَنِي حَتَّى كَأَنَّكَ أّغْفَلْتَنِي وَمِنْ عُقُوباتِ المَعاصِي جَنَّبْتَنِي، حَتَّى كَأَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَنِي].

وقد تبْدُر من الإنسان التفاتة إلى سوء فعله وما يصدر عنه من كفران النعم، فيشرع في التساؤل عن الأسباب التي توقعه في المعصية، وتجرّه إلى الكفران، وكمثال على ذلك نقرأ قول الإمام (عليه السلام): [مالِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ، سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفًا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضًا عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلف مَجالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعائِي فَباعَدْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وَجَرِيرَتِي كافَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائِي مِنْكَ جازَيْتَنِي؟].

نعم قد يرتكب الإنسان شيئًا من المعاصي التي يعدّدها المقطع السابق، والتي تودي به إلى البعد والخذلان، إلا أن باب التوبة يبقى مفتوحًا أمامه رغم ذلك، فعليه إذًا أن لا ييأس من رَوح الله تعالى ولا يقنط من رحمته، بل عليه أن يتوجّه إليه تعالى نادمًا معتذرًا، طالبًا منه العفو والغفران، وهو ما نجد مصداقه في قول الإمام (عليه السلام): [إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ، فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخالَفْتُكَ بِجُهْدِي؛ فَالآنَ مِنْ عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي وَمِنْ أَيْدِي الخُصَماءِ غَدًا مَنْ يُخَلِّصُنِي وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ أَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي؟ فَواسَوْأَتا عَلى ما أَحْصَى كِتابُكَ مِنْ عَمَلِي الَّذِي لَوْلا ما أَرْجو مِنْ كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ وَنَهْيكَ إِيَّايَ عَنْ القُنُوطِ لَقَنَطْتُ عِنْدَما أَتَذَكَّرُها، يا خَيْرَ مِنْ دَعاهُ داعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راجٍ] ([19]).

يرشدنا هذا المقطع إلى طريقٍ من أجمل طرق التوبة والاعتذار إلى المولى تعالى، فهو يمهّد لطلب الصفح بالإقرار بالذنب والاعتراف بالخطيئة، إذ من غير المعقول أن يبادر المرء إلى الاعتذار وطلب التوبة، وهو غير مدرك لخطئه، ولا مقرّ بسوء فعله، بل إنه بإقراره هذا إنما يخلع عن نفسه رداء المكابرة والعناد، مما يجعل دعاءَه في معرض الاستجابة وسؤالَه أقرب إلى القبول.

ثم بعد الفراغ من الإقرار بالذنب يمضي المقطع إلى بيان وجه العذر في ارتكاب الذنب، ويمثل هذا البيان بيت القصيد في المقام، وذلك لفرادة منطقه وخصوصية تعليله لإقدام المرء على المعصية، وهو ما يمكننا أن نتلمّسه في قوله (عليه السلام): [إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ].

كلا يا رب.. لم يكن الذي دفعني إلى معصيتك هو الجحود بربوبيتك، ولا الاستخفاف بأمرك، ولا عدم المبالاة بعقوبتك، ولا التهاون لوعيدك، بل أنا مؤمن بوحدانيتك، ومقرٌّ بطاعتك، فحاشا أن يكون عصياني ناتجًا عن التمرّد أو التحدّي، أو يكون كفراني منتهيًا إلى الكفر([20]).

كلا يا رب، فما ذلك شأني، وإنما الذي جرّني إلى مخالفتك وأوقعني في معصيتك هو الضعف البشري المتمكّن مني، وغلبة هواي، ثم سترك عليّ وعدم فضحك إياي.

وها أنا ذا أقف بين يديك يا إلهي شاعرًا بالسوء لما أحصاه كتابك من عملي، وخائفًا من عذابك الذي لا يمكن أن يردّه عني سوى كرمك وسعة رحمتك، واللذين لولاهما، ولولا نهيك عن القنوط، لكنت من القانطين.

والآن.. وبعد أن أقرّ العبد بذنبه، وبعد أن بيّن وجه عذره مصرحًا بعدم انتهاء معصيته إلى جحود مولوية مولاه، فإنه يغدو من اللائق حينئذ أن يتوجّه إلى مولاه، سائلاً إياه الرحمة والعفو. ولذلك نرى الإمام (عليه السلام) يُردف في دعائه بالقول : [يا خَيْرَ مِنْ دَعاهُ داعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راجٍ، اللّهُمَّ بِذِمَّةِ الإسْلامِ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ وَبِحُرْمَةِ القُرْآنِ أَعْتَمِدُ عَلَيْكَ، وَبِحُبِّي النَّبِيَّ الأُمِّيَّ القَرَشِيَّ الهاشِمِيَّ العَرَبِيَّ التِّهامِيَّ المَكِّيَّ المَدَنِيَّ أَرْجُو الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ].

وخلاصة القول هي أن النصوص السابقة، والتي اقتطفناها من دعاء السحر، تكشف لنا عن واحدة من الأزمات المقلقة التي يتعرّض لها الإنسان، فتشغل تفكيره، ويهتزّ لها كيانه، فيسعى حينئذ جاهدًا إلى الخروج منها والفكاك من ربقتها. وإن المرء ليجد في أدب الدعاء خير معبّر عن عناصر هذه الأزمة ومكوّناتها، كما يجد فيه أيضًا خير هادٍ إلى سبل تجاوزها، والمصير إلى منازل الخلاص وبرّ الأمان.

والمهم في البين هو أن نتذكّر أن الأزمة هذه هي من الأزمات التي يثيرها الوعي العميق بحقيقة مبدأ الوجود وبواسع نعمه وأفضاله، وبما له من الحقوق العظيمة على الإنسان، وهي حقوق كثيرًا ما يقابلها الإنسان بالمعصية والكفران، فتنشأ لديه بسبب ذلك أزمة تصدر عن الإحساس بالوجود والامتلاء به، لا عن تضييعه والضلال عنه، ولا عن الظروف الاجتماعية وملابسات الواقع الخارجي.

* * *

وأخيرًا يمكننا القول بأن نماذجنا الثلاثة الأخيرة، والتي أوردناها كشواهد على الأزمات النابعة من فهم الوجود ووثيق الصلة به قد آتَتْ أُكُلَها، فأظهرت نوعًا مختلفًا من أنواع الأزمات، مما لم يتسنَّ للأستاذ محمد قطب ولا لمن يذهب مذهبه أن يهتدي إليها ويدرك أهميتها.

وهنا يجدر بنا أن ننبّه على أنه لم يكن مقصودنا من إيراد هذه النماذج استقراء جميع أزمات الإحساس بالوجود التي يثيرها أدب الدعاء، بل كان كل مرادنا هو التدليل فقط على أن هذا الأدب قد طرح نوعا مختلفا من الأزمات، وهي أزمات قد غفل عنها الباحثون في هذا الميدان، فأهملوا ذكرها، وأعرضوا عن معالجة شؤونها.

وإلا فإن أدب الدعاء يتناول العديد من أزمات هذا النوع مما لم نتعرّض لذكره، ومن ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- أزمة حرية الاختيار، والتي يمكننا أن نستشهد لها بالنص التالي: [إلهي كيف أعزم وأنت القاهر، وكيف لا أعزم وأنت الآمر]([21])، وهو تعبير آخر عن موقف آل بيت النبوة (عليهم السلام) من مسألة الجبر والاختيار، والذي لخّصه الإمام الصادق (عليه السلام) بالقول : (لا جبر ولا تفويض، ولكن أمرٌ بين أمرين)([22]).

وبهذا نكون قد بلغنا نهاية المطاف في استعراض ما أردنا استعراضه من النماذج المرتبطة بصورة الوجود في أدب الدعاء، والتي أوضحنا من خلالها رؤية أدب الدعاء للوجود المحسوس، وللحقيقة الإلهية وتجلّياتها، وللأزمات النابعة من الإحساس بالوجود والتعمّق في فهمه. وقد أقمنا بذلك الأساس المتين الذي يمكن الاعتماد عليه لمناقشة دعوى القطيعة بين الأدب العربي والإسلام، وهي المناقشة التي سنبادر إلى طرحها الآن.

نصوص أدب الدعاء تُسقط دعوى القطيعة

ذكرنا سابقًا أن دعوى القطيعة هي دعوى قد تسالم عليها العديد من الكتَّاب والمؤلفين، وذكرنا أيضًا أننا آثرنا أن نعتمد في عرضها على كتاب "منهج الفن الإسلامي" لمحمد قطب، وذلك لما اختص به هذا الكتاب من إفاضةٍ في العرض، ومن تفصيلٍ في بيان الأدلة وذكر البراهين.

ولذلك فإن مناقشتنا لطروحات "قطب" لا تقتصر عليه وحده، وإنما هي تشكِّل في واقع الأمر مناقشةً لأسس هذه الدعوى نفسها، وردًّا على كل من يتبنّاها.

وهنا لا بد لنا من أن نبيّن بأننا سنعتمد في مناقشتنا أسلوب الإيجاز، وذلك لأن الكثير من النقاط التي سنثيرها هنا، كنّا قد تعرّضنا لها في مطاوي البحث، ولمناسبات فرضتها سيرورة البحث نفسه، ونحن سوف نتدرّج في المناقشة وفقًا للترتيب الذي اعتمده "قطب" في بحثه، ونبدأ بالمقولة الأساس التي تتبناها دعوى القطيعة، والتي حشد لها "قطب" ما استطاع من الأدلة والبراهين، ثم نمضي بعدها إلى تفنيد الأدلة ونقض البراهين.

مناقشة المقولة الأساس لدعوى القطيعة

مرّ بنا سابقًا أن المقولة الأساس التي تطرحها دعوى القطيعة تتألف من قضيتين، تذهب أولاهما إلى أن العرب قد انصرفوا في الفترة الأولى لظهور الإسلام عن التعبير الأدبي في الكثير من فنونه، وتذهب ثانيتهما إلى أنهم حين عادوا إلى التعبير لم يلجأوا إلى الرصيد الجديد للإسلام، بل عادوا إلى الجاهلية ومقاييسها الفنيّة.

ولسنا نحتاج في الرد على هذه المقولة بشقَّيها إلى أي كلام جديد، إذ إن بحثنا بطوله إنما ينهض دليلاً على بطلانها، وذلك لما بيَّناه من أن أدب الدعاء قد كان حاضرًا من أول الأمر، وعلى يد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والذي كان معاصرًا لصاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله)، ولما بيَّناه أيضًا من أن هذا الأدب قد استطاع أن يستلهم القرآن الكريم برؤيته الكونية، وبخصائصه الفنية، بأجمل صورة ممكنة، وعلى أكمل وجه مستطاع، ودون أن يحوجه الأمر لأن يرجع إلى الجاهلية، ليستمد منها المشاعر والإيحاءات، أو يستلهم منها أغراض التعبير وطرائقه.

مناقشة أسباب القطيعة

طرح "قطب" في بحثه أربعة أسباب كانت هي المسؤولة برأيه عن انصراف العرب عن التعبير الفني في الفترة الأولى بعد ظهور الإسلام، ونحن سوف نأتي على ذكر هذه الأسباب تباعًا، ونناقشها على نحو الاختصار.

السبب الأول: يَرجع هذا السبب -حسب رأي قطب- إلى بناء العقيدة الجديدة وانفعال النفس بها، وهو يبيّن هذا الأمر عبر الحديث عن جهتين تكشفان عن حقيقة السبب المذكور.

وخلاصة الجهة الأولى هي أن بناء العقيدة الجديدة -أي الإسلام- قد شغل الطاقة الحيوية كلها لدى المسلمين، حتى لم يعد لديهم أي متسع للخلق الفني والإبداع.

وأما الجهة الثانية فيمكن تلخيصها بالقول: إن من شأن العقيدة الجديدة أن تزيل المفاهيم القديمة وتستبدلها بمفاهيم جديدة تُستمَد من العقيدة الجديدة نفسها، والحال أن هذا الرصيد الجديد من المفاهيم يحتاج إلى فترة زمنية ملائمة لكي يختمر في النفوس ويصبح صالحًا للأداء الفني، ولا بد في هذه الفترة من حدوث انقطاع عن عملية الإنتاج.

وفي مقام الرد على ما يذهب إليه "قطب" نقول: ها هو أدب الدعاء بين أيدينا، وهو يبرهن برهانًا قاطعًا على بطلان السبب الثاني بجهتيه. ويكفينا في رد الجهة الأولى أن نقول: إن جملةً من نصوص أدب الدعاء التي أبدعها أئمة آل البيت (عليهم السلام) ترجع إلى الفترة نفسها التي اعتبر "قطب" أنها فترة انقطاع، وشاهِدُنا على ذلك هو ما أوردناه في بحثنا من أدعية الإمام علي (عليه السلام)، وكذلك ما أوردناه من أدعية الإمام الحسين (عليه السلام)، وأيضًا ما أوردناه من أدعية الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، وليس يخفى أن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان معاصرًا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وللعقيدة الجديدة عند ظهورها، كما أن الإمام الحسين (عليه السلام) هو ابن الإمام علي (عليه السلام)، وأن الإمام السجاد (عليه السلام) هو ابن الإمام الحسين (عليه السلام) وحفيد الإمام علي (عليه السلام)، فهذه سلسلة متصلة متكاملة، لا يوجد بين حلقاتها أي فراغ، ولم يحدث على امتدادها أي انقطاع، وقد ترك كل واحد من هؤلاء الأئمة، والذين يشكلون حلقات هذه السلسلة، جملة بديعة من نصوص أدب الدعاء، ولم يستنفد بناء العقيدة الجديدة طاقتهم الحيوية، ولم يسدّ دونهم نوافذ الإنتاج الفني، بل بقي لديهم المجال واسعًا لكي يمارسوا عملية الخلق، وتظهر على أيديهم أرفع أنواع الإبداع.

وأما الجهة الثانية، فيشهد على بطلانها أيضًا أدب الدعاء نفسه، وهو الأدب الذي استلهمت نصوصُه مفاهيمَ القرآن وتصوراته وخصائصه الفنية على أكمل وجه، وهذا ما بيَّنا الكثير من تفاصيله فيما تقدم من البحث.

وكل ذلك يدلنا دلالة واضحة على أن العقيدة الجديدة قد اختمرت في نفوس أئمة أهل البيت (عليهم السلام)  كل الاختمار، وأن الرصيد الجديد من المفاهيم والتصورات والقيم قد بلغ عندهم مرحلة النضج الكاملة، ودون أن يحتاجوا إلى أيَّة فترة زمنية لكي تتم لديهم عملية الاختمار التي افترض "قطب" أنه لا بد منها لأجل أن تصبح المفاهيم الجديدة صالحة للأداء الفني وممارسة عملية الإنتاج.

السبب الثاني: يدور كلام "قطب" في السبب الثاني حول الأغراض والمواضيع التي يُعنى الأدب بالتعبير عنها، فيذهب إلى أن الأغراض التقليدية من قبيل الفخر والمديح والهجاء والمجون.. لم تعد أغراضًا صالحة للتعبير الفني، وذلك لأن هذه الأغراض كانت قد تغيَّرت من أساسها بفعل العقيدة الجديدة، فكان أن هُجِرت لتُخليَ مكانها لأغراض جديدة مستمَدة من العقيدة الجديدة.

ومنطق الأمور يقتضي بالضرورة أن تمرّ الأغراض الفنية الجديدة وما يناسبها من طرائق التعبير بفترةِ حضانةٍ، لكي تتبلور وتصبح ملائمة لمقتضيات العقيدة الجديدة، وما تحمله هذه العقيدة من معان وما تفتحه من آفاق.

وحاصل الأمر هو أن الأغراض القديمة كانت قد هُجِرت لأنها لم تعد ملائمة، والأغراض الجديدة لم تكن قد استوفت حقها بعدُ من الحضانة والتبلور الفني، فآل الأمر -نتيجةً لهذا وذاك- إلى انقطاع العرب عن التعبير وتوقفهم عن الإنتاج.

ويكفينا للرد على ما سطره "قطب" في المقام أن نذكِّر ببعض الأغراض الجديدة التي تناولها أدب الدعاء، والتي كنا قد تعرّضنا لها في ما مضى من البحث، ومن الأمثلة على ذلك موضوع الوجود المحسوس وما له من دلالات، وموضوع الحقيقة الإلهية وتجلياتها، وأيضًا موضوع أزمات الإحساس بالوجود، وغير ذلك من المواضيع التي ذكرناها وفصَّلنا الكلام فيها في ثنايا البحث.

ويضاف إلى هذا تلك الكثرة الكاثرة من المواضيع والأغراض التي لم تقع موردًا لبحثنا، ولكننا أشرنا إليها سابقًا عند الحديث عن فرضية النقص الكمي في أدب الدعاء، وكان مما أشرنا إليه هناك: أدعية الأيام، وأدعية المناسبات الدينية، وأدعية التسليم على الملائكة والأنبياء والرسل، وكذلك الأدعية المخصصة للتوبة وسؤال المغفرة، أو لاستنزال الرزق وطلب الشفاء، إضافة إلى ما يُدْعى به لأهل الثغور، أو للجيران والأقارب، وكذلك ما يدعى به للأمة جمعاء. 

ويتجلّى لنا من هذا كله أن المواضيع والأغراض المذكورة وما يماثلها، إنما هي مستمَدّة من العقيدة الجديدة، وملائمة كل الملائمة لمقتضياتها، ولم تكن بحاجة إلى فترة حضانة لكي تتبلور تبلورًا فنيًا، وتصبح صالحة للتعبير عن المعطيات الجديدة.

السبب الثالث: يرى "قطب" أن السبب الثالث من أسباب التوقف عن الإنتاج الأدبي هو أن العرب قد تلقَّوا القرآن مبهورين، فشغَلَهم جمال التلقي والانفعال عن جمال التعبير والأداء.

ونقول في الرد على هذا الكلام: إن نصوص أدب الدعاء قد تسنَّمت الذروة العليا من جمال التعبير وحسن الأداء، فلم يشغلها جمالٌ عن جمالٍ، بل اتخذت من جمال التلقي والانفعال مَعْلَمًا هاديًا لجمال الإبداع والعطاء.

السبب الرابع: يذهب "قطب" في تقريره للسبب الرابع إلى أن وجود الأزمات كأزمة الضياع وعدم الإحساس بالوجود يشكِّل خير محفِّز على التعبير الفني، بينما وفي المقابل، فإن غياب الأزمة وشعور المرء بالرضى بالوجود، يولِّد عقبةً تعيق عملية الخلق والإبداع، وذلك لأن الإحساس بالوجود والشعور بالرضى تجاهه، يحتاج إلى طاقة فنية ضخمة لا توهَب لكل إنسان.

والحال -كما يرى "قطب"- أن المسلمين الأوائل لم يكونوا يمتلكون مثل هذه الطاقة المطلوبة، فآل بهم المطاف نتيجة لذلك إلى ترك التعبير والانصراف عن الإنتاج.

وللتدليل على بطلان ما يقرره "قطب" في المقام، نعود لنكرر بعض ما عقّبنا به على النصوص الحاكية عن صورة الوجود في أدب الدعاء، حيث ذكرنا في بعض تلك الموارد أن مبدعي نصوص أدب الدعاء قد امتلكوا كل ما يلزم من الأسباب المعرفية، ومن الطاقة الفنية والقدرة الإبداعية، لكي يُعبٍّروا عن إحساسهم العميق بالوجود، وعن ارتباطهم الوثيق به، وعن محبتهم اللامتناهية له. وهذا ما هيّأ لهم أن يكونوا هم -دون سواهم- رواد الكشف عن تلك الأزمات الخاصة التي يثيرها الإحساس بالوجود والتعمق في معرفته.

وبهذا نكون قد أتممنا الكلام في بيان بطلان دعوى القطيعة، وبطلان ما افترض لها من أسباب، ومنه نصل إلى بيان بطلان الدعوى الثانية، وهي دعوى عودة العرب إلى الجاهلية ومقاييسها الفنية.

بطلان دعوى العودة إلى الجاهلية ومقاييسها

بعد أن يقرر "قطب" الدعوى المذكورة، فإنه يفترض وجود سببين لها، ويذهب  إلى أن السياسة كانت هي المسؤولة عن وجود السبب الأول، وذلك لأن السياسة كانت قد ارتدَّت -منذ العهد الأموي أو قُبَيله- إلى العصبية الجاهلية، وجرفت معها الشعراء([23]) الذين ارتدّوا هم أيضًا -وبتأثير تلك السياسة- فراحوا يحاكون فنون الأدب الجاهلي في إنتاجهم، ويتخذون من طرائقه وأغراضه طرائق وأغراضًا لهم. وأما السبب الثاني فالمسؤول عنه -برأي "قطب"- هم النقّاد الأوائل، والذين جمدوا في نقدهم على ما كان موجودًا من قواعد النقد الجاهلي، وعلى ما كان يَتَمسَّك به هذا النقد من شروط ومقاييس، الأمر الذي ترك أثره البيّن على الشعراء وعلى اتجاهاتهم الفنية، وعلى طبيعة ما خلّفوه من إنتاجهم الشعري.

وقبل أن نبادر إلى مناقشة ما أفاده "قطب" في المقام، فإنه يتوجب علينا أن نسأل أولاً عن حدود دعواه، فهل هو يقصد في دعواه هذه أن الشعراء هم وحدهم الذين عادوا إلى الجاهلية وأحكامها دون سواهم من الأدباء؟ أم أنه يرى أن الأدباء عمومًا قد ذهبوا هذا المذهب، ولكنه ذكر في حديثه الشعراء وحدهم من باب المثال؟

فإذا كان مراده هو الأول، فهو أمر خارج عن موضوع بحثنا، ولا داعي للتعليق عليه في حدود هذا البحث.

وأما إذا كان مراده هو الثاني -وهو ما يظهر من جملة بحثه وكلماته- فيمكننا حينها أن نواجهه مرة أخرى بأدب الدعاء، فنكرر القول بأن نصوص هذا الأدب -وكما بات واضحًا- تُعدّ خير شاهد على وجود نصوص أدبية رفيعة، تستمد تصوراتها من الرؤية الكونية للإسلام، وتستلهم مقاييسها وخصائصها الفنية من المقاييس والخصائص الفنية للقرآن، ولم تضطرها السياسة ولا النقّاد لكي ترتد إلى روح الجاهلية ومشاعرها القبلية، بل العكس هو الصحيح، والشاهد على ذلك هو ما جاء منّا بيانه على امتداد هذا البحث، والذي دلّلنا فيه على أن أدب الدعاء قد امتلك زمام المبادرة، فكانت له الريادة في بعث أدب ينطلق من منطلقات الإسلام، ويعكس مفاهيمه وتصوراته، ويجسد خصائصه وإيحاءاته.

ونتيجة لمناقشاتنا المتقدمة كلها نستطيع القول: إن حكاية الانقطاع عن الإنتاج الأدبي، والعودة من ثَمَّ إلى الروح الجاهلية، ما هي سوى خرافة يأنس لها الغافلون -أو المتغافلون- عن أدب الدعاء، وأما أهل اليقظة والعارفون بهذا الأدب، فهم بمنجى عن تبنّي مثل هذه الأوهام أو تصديق مثل هذه الخرافات.

خاتمة

أثرنا في القسم الأول من البحث مشكلة نفي أدب الدعاء، وبيّنا بطلان ما يمكن أن يُتمسَّك به من الأسباب لإهمال هذا الأدب.

ثم استعرضنا في الأقسام التالية منه نماذج من نصوص الأدب المذكور، فدلَّلنا بها على سموِّ هذا الأدب ورفعة شأنه، وأظهرنا من خلالها فساد دعوى القطيعة وزيف أدلتها، لنثبت بالمقابل استمرار عملية الإنتاج الأدبي لدى العرب، حتى بلغوا ببعض أنواع هذا الإنتاج صورته المثلى، ووصلوا به إلى غايته القصوى.

 ونتيجة لذلك كلّه يمكننا القول: إنه لم يعد من الجائز إغفال أدب الدعاء، لا في المناهج التعليمية، ولا في الدراسات الأدبية، بل بات من الواجب على جميع المعنيين أن يسعوا لإعادة الاعتبار إلى هذا الأدب، وذلك استجابة منهم لما يفرضه عليهم المنهج العلمي، ويلزمهم به الواجب الأخلاقي، وتدعوهم إليه المسؤولية الإنسانية، خصوصًا وأن إعادة استحضار هذا الأدب تنطوي على الكثير من الفوائد، والتي  تشمل عددًا من الميادين المختلفة والمتنوعة.

ونحن كنّا قد أشرنا في سياق البحث إلى بعض أمثلة هذه الفوائد، وذلك من قبيل ما ذكرناه من أن غنى نصوص أدب الدعاء يمكنه أن يضفي غنى على الأدب العربي عمومًا، فيرفع بذلك من قيمته، ويعلي تاليًا من شأنه بين آداب الشعوب الأخرى، مما يهيئ له الفرصة للحلول في المرتبة التي يستحقها بين الآداب العالمية.

ومن تلك الفوائد أيضًا ما يرتبط بالمجتمع العربي وبالأحكام التي يمكن إصدارها عليه، ولذلك نجد أن الباحثين الذين أغفلوا أدب الدعاء واستبعدوا نصوصه قد تسالموا على القول بأن المجتمع العربي لم يستطع أن يُنجِب مبدعين قادرين على استلهام القرآن الكريم والاستمداد من خصائصه الفنية، لكن -المقابل- نجد أن الاعتراف بأدب الدعاء يؤدي إلى حكم مناقض لحكمهم المزبور، حيث يمكن أن يقال حينها بأن المجتمع المذكور قد تسنّى له إنجاب مبدعين من الطراز الأول -هم أصحاب أدب الدعاء- وأن هؤلاء المبدعين قد استطاعوا أن يستلهموا أسمى المعاني من كتابهم المقدس، وأن يستمدّوا منه خصائصه الفنية على أكمل وجه ممكن.

وثمة فائدة أخرى يمكننا ذكرها في المقام، وهي ترتبط بالحكم على طبيعة الأدب العربي وحركة تطوره، وهنا نلاحظ أن استبعاد أدب الدعاء قد أدّى إلى القول بأن الأدب العربي عمومًا قد بقي جاهليًا في الكثير من معطياته وخصائصه، بينما يؤدي استحضار أدب الدعاء إلى نتيجة معاكسة تمامًا، وهي أن قافلة الأدب العربي قد انطلقت مع أدب الدعاء نحو آفاق جديدة، حيث اتخذ هذا الأدب من القرآن الكريم أنموذجًا يُحتذى، فاستلهم منه ما جاء به من المعاني الجديدة ومن الخصائص والمقاييس الفنية المبتكرة.

ويضاف إلى الفوائد السابقة فائدة تختص بحكمنا على القرآن الكريم وقدرته على التأثير، وهنا تتناقض الأحكام أيضًا، وتنعكس النتائج، إذ يضطر النافون لأدب الدعاء لأن يذهبوا إلى القول بأنه لم يتسنَّ للقرآن الكريم أن يكون ذا فعالية وتأثير من الناحية الفنية، بل ظل هذا الكتاب -وبكل ما اتسم به من إعجاز بياني وجدة فنية- صوتًا صادحًا في الآفاق، ودون أن يتردد له أي صدى في الميدان الأدبي، بينما يمكن لهذا الحكم أن ينقلب رأسًا على عقب عند أخذنا أدب الدعاء بعين الاعتبار، فيقال حينئذ بأن الكتاب العزيز قد استطاع أن يؤثر أبلغ تأثير على الأدب من الناحية الفنية، بل إن هذا التأثير قد بدأ في فترة مبكرة جدًا، وهو ما نجد مصداقه الواضح في نصوص أدب الدعاء نفسه.

ونشير أخيرًا إلى ما يمكن أن يعود به أدب الدعاء من فوائد على الفرد وعلى المجتمع، إذ بمقدور هذا الأدب أن يطوِّر من فهم الإنسان لنفسه وللوجود وللمجتمع، فهو يبصِّره بحقيقة نفسه، كما يبصِّره بحقيقة الوجود والمجتمع، ثم يرشده إلى ما يربطه بهما من علاقات إيجابية، فيبدل بذلك من نظرة الإنسان لنفسه وللعالم، ولما يجري حوله من الأحداث والوقائع، وهذا ما يجعله يواجه الكون والحياة بحكمة وبصيرة، ويزوِّده في مواقفه كلها بالقوة والثبات.

فهل يعقل بعد هذا كله أن نظل غارقين في سباتنا العميق؟! أم أنه قد آن الأوان لكي نستيقظ، ونفتح أبصارنا وبصائرنا لتلقّي فيوضات أنوار أدب الدعاء؟!

وبعد ذكر هذه الجملة من الفوائد، أود أن أشير أخيرًا إلى عدد من النقاط المرتبطة بأدب الدعاء، والتي لم يسمح لنا سياق البحث بالتعرض لها.

النقطة الأولى

وأود أن أشير في هذه النقطة إلى أن تركيز اهتمامنا في البحث على بعض جوانب الدعاء لم يكن القصد منه هو قصر الاهتمام على تلك الجوانب، وإنما كان مرادنا من ذلك هو التذكير بوجود هذا الأدب، والإلماح إلى علو مضامينه، والإضاءة على رفعة أدائه الفني، وذلك لكي نمهد السبيل لإعادة الاعتبار إليه، والعمل على وضعه بين أيدي الطلبة والباحثين مما يوسع دائرة الاهتمام به، ويفضي تاليًا إلى مشاركة أوسع في دراسة جوانبه المختلفة، خصوصًا وأن نصوص أدبنا هذا تشكِّل دائرة معارف واسعة، تشمل الكثير من القضايا الإسلامية والإنسانية، وهي قضايا لم يخلُ بحثنا من الإلمام ببعضها، وذلك من قبيل ما ذكرناه من الموقف الفلسفي لأدب الدعاء حول صورة الوجود، وكذلك ما أشرنا إليه من الجوانب التربوية في هذا الأدب، والتي يمكن أن نذكر من أمثلتها ما بيَّناه من تجديد لقائنا بالوجود المحسوس، أو ما عقَّبنا به على دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) إذا مرض، وكذلك ما تحدّثنا به عن واجب الشكر، ومثل ذلك ما ذكرناه من مقاصد دعاء الجوشن الصغير.

ويبقى وراء هذا الكثير من القضايا التي لم نتعرض لها، والتي تتسع دائرتها للعديد من الدراسات النفسية والخلقية والاجتماعية..، ناهيك عن الدراسات الأدبية والفنية، وما يدور في فلكها.

النقطة الثانية

ويهمنا أن نشير في نقطتنا الثانية إلى أن دراسة أدب الدعاء من ناحية مضامينه وخصائصه الفنية، لا تمثل نهاية المطاف، وإنما يمكن لهذا النوع من الدراسة أن يشكل منطلقًا نحو أنواع أخرى من الدراسات، وذلك من قبيل دراسته دراسة مقارنة، أو دراسته من جهة كونه ممثلاً حيًا لمنهج الفن الإسلامي، وغير ذلك من الدراسات.

ولأجل إيضاح هذا الأمر -ولو بصورة سريعة ومختصرة- نقول: إن دراسة أدب الدعاء من ناحية مضامينه وخصائصه الفنية تمهد لنا السبيل نحو الدراسات المقارنة بين أدبنا هذا وبين أدب الدعاء لدى الأديان والشعوب الأخرى، ومن ذلك مثلاً المقارنة بين الصحيفة السجادية وبين مزامير داود (عليه السلام) الواردة في العهد القديم.

ولا يخفى ما يمكن أن ينتج عن مثل هذه الدراسات المقارنة من فوائد معرفية وفنية، وكذلك ما قد يترتب عليها من تقدير للذات، أو ما يمكن أن ينتج عنها من تلاقح للأفكار، وتفاعل بين الثقافات، ومن تقاربٍ بين الأديان والشعوب المختلفة.

هذا فيما يتعلق بالجهة الأولى. وأما الجهة الثانية، والتي ترتبط بمنهج الفن الإسلامي، فخلاصة القول فيها هي أن أدب الدعاء -وكما اتضح جليًا من خلال البحث- يجسِّد الرؤية الكونية للإسلام، ويستمد خصائصه الفنية من القرآن، ولذلك فإن من شأنه أن يعكس صورة بيِّنة عن معالم منهج الفن الإسلامي. وبناء عليه، فإنه يمكننا عن طريق دراسة أدب الدعاء أن نستنبط خصائص المنهج المذكور، ونتعرّف على بعض تطبيقاته، وهو ما يمكننا التمثيل له بالقضية التي باتت تشكل إحدى مسائل علم الجمال المهمة، وهي القضية التي يدور الكلام فيها حول موضوع العلاقة بين الفن والمنفعة، أو قل بين الوسيلي والجميل.

وقد أدّى اختلاف المواقف من هذه القضية إلى ظهور مذاهب فنية متعارضة، نذكر منها مذهبين، هما: مذهب الفن للفن، والذي يتبنَّى القول بالانفصال بين الفن والمنفعة، ومذهب الأدب الملتزم، والذي تبنَّى موقفًا مقابلاً للموقف السابق.

وأما موقف منهج الفن الإسلامي، فيمكننا الاهتداء إليه عن طريق أدب الدعاء، وذلك لأن هذا الأدب يمثل الإنتاج الإنساني الذي تجلَّت فيه التطبيقات الحية للمنهج المزبور، وهو المنهج الذي وضع أُسُسَه القرآن الكريم.

وهنا يمكننا القول بأن منهج الفن الإسلامي يذهب إلى عدم وجود انفصال بين الجمال والمنفعة، ويكفينا للتدليل على ذلك أن نرجع إلى بعض ما بيناه في سياق البحث، وذلك عند حديثنا عن الوظائف الثلاث التي تراعيها نصوص أدب الدعاء التي تستعرض مشاهد الوجود المحسوس، فقد لاحظنا هناك أن هذه النصوص قد صوَّرت تلك المشاهد بطريقة فنية جميلة وموحية، ولكنها لم تقصد من تصوريها الجميل ذاك إثارة المتعة الفنية فحسب، بل إنها علاوة على ذلك، قد اتخذت من جمال التصوير وسيلة لبلوغ غايات أخرى، كالتدليل على ما في الكون من الدقة والنظام، وأيضًا على ما تستلزمه هذه الدقة وهذا النظام من وجود خالق مدبر، عاقل وحكيم..

 وقياسًا على هذا المثال يمكن لأدب الدعاء أن يرشدنا إلى معالم وخصائص أخرى من معالم منهج الفن الإسلامي وخصائصه.

النقطة الثالثة

وفي ختام نقاطنا هذه يجمل بنا أن نذكر بعض الملاحظات المرتبطة بمبدعي أدب الدعاء ومنشئي نصوصه، ونود أن نسجل في المقام ملاحظتين:

ونشير في أولى هاتين الملاحظتين إلى أن دراسة أدب الدعاء دراسة مُعَمَّقَة، وإدراك ما ينطوي عليه من قِيَمٍ فكرية ودينية وإنسانية، ثم معرفة ما يختص به هذا الأدب من أداء فني رفيع، إنما يكشف ذلك كله عن بعض ما يمتلكه مبدعوه من المعارف الفكرية والدينية والإنسانية، وكذلك عما يمتلكونه من القدرات البيانية والفنية الخاصة.

وهذا كله يؤكد لنا على ما لآل بيت النبوة (عليهم السلام) من مقام عال ومجيد، حيث كانوا هم الرواد الأوائل لإبداع نصوص أدب الدعاء، وعلى أيديهم ظهرت أسمى هذه النصوص التي تجلَّت فيها حقائق الإسلام، وترددت أصداء المقاييس الفنية للقرآن. فكانوا هم الحمَلَة الفنيين الذين يبلغون رسالة القرآن الفنية، كما كانوا هم الحملة الرساليين الذين يبلغون رسالاته الدينية والفكرية والاجتماعية...

وهذه قضية شديدة الأهمية، يجب الاستفادة منها في علم الكلام، كما يستفاد منها في مختلف البحوث الأدبية، وباقي دراسات العلوم الإنسانية.

وأما الملاحظة الثانية، فنخصِّصها لوقفة سريعة مع الرأي القائل بأن الدافع الذي دعا الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) للاهتمام بأدب الدعاء والتوسع في إنتاج نصوصه، إنما يرجع إلى طبيعة الظروف السياسية التي عايشها الإمام (عليه السلام).

وكمثال على ذلك نقرأ كلام العلامة الشيخ محمد رضا المظفر (ره) في كتابه عقائد الإمامية حيث يقول: [بعد واقعة الطف الأليمة، التي أوغل فيها بنو أمية في الاستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا بكل القيم، بقي الإمام زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام) جليس داره ثاكلاً، لا يتصل به أحد ولا يستطيع أن يفضي إلى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم. فاضطر أن يتّخذ من أسلوب الدعاء (الذي قلنا أنه أحد الطرق التعليمية لتهذيب النفوس) ذريعة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت، ولتلقين الناس روحية الدين والزهد، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق، وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجة لهم، فلذلك أكثر من هذه الأدعية البليغة] ([24]).

ولكن يبدو أنه لا يمكن التسليم بصحة ما يوحي به هذا النص، من أن الظروف السياسية القاهرة التي أحاطت بالإمام السجاد(عليه السلام) كانت هي التي ألجأته مضطرًا إلى التوسع في إبداع ما أبدعه من نصوص أدب الدعاء، وأنه لولا وجود تلك الظروف وتأثيرها الضاغط لكان مصير الكثير من هذه النصوص- أو ربما أكثرها- هو الإهمال والبقاء في طيات العدم، ولَما تسنَّى لها أن تبصر النور وتظهر إلى ساحة الوجود.

ولأجل بيان السبب الذي يمنعنا من التسليم بالفرض المذكور، دعنا نمهد بإيراد نص آخر للعلامة المظفر نفسه، يقول فيه: [وفي الحقيقة أن الأدعية الواردة عن النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام خير منهج للمسلم -إذا تدبَّرها- تبعث في نفسه قوة الإيمان، والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرِّفه سرَّ العبادة، ولذة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه، وتلقِّنه ما يجب على الإنسان أن يعلمه لدينه وما يقرِّبه إلى الله تعالى زلفى. ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة. وبالاختصار إن هذه الأدعية قد أُودِعت فيها خلاصة المعارف الدينية من الناحية الخُلقية والتهذيبية للنفوس، ومن ناحية العقيدة الإسلامية، بل هي من أهم مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلمية في الإلهيات والأخلاقيات]([25]).

يعدِّدُ هذا النص جملة من الفوائد المتنوعة والجليلة التي ينهض بها أدب الدعاء، ولا ريب في أن مثل هذه الفوائد المذكورة تضفي على أدب الدعاء أهمية ذاتية، وتجعل منه حاجة إنسانية دائمة، وضرورة دينية ملحة.

وعليه، أفلا يقتضي منطق الأمور أن يكون الداعي الحقيقي الذي يقف وراء عملية التوسع في إبداع نصوص أدب الدعاء هو تلك الأهمية الذاتية التي يتصف بها هذا الأدب، وما يترتب عليه من الفوائد المهمة التي تعتبر من الحاجات الدائمة والضرورات الملحة؟! سيما وأنه يستحيل السعي إلى تحقيق تلك الفوائد جميعها إلا من خلال التوسع في إنتاج النصوص، بغية مراعاة تنوع المواضيع، وتعدد الأغراض، واختلاف الغايات؟!

وبهذا يتبيَّن أن التوسع في إبداع روائع أدب الدعاء لم يكن مجرد ذريعة اضطر الإمام السجاد (عليه السلام) إلى التوسل بها كبديل عن وسائل العمل الأخرى التي حالت بينه وبينها ظروف السياسة وملابساتها، بل كان هذا التوسع أمرًا مقصودًا بالذات، أريد منه جعل أدب الدعاء يتصف بصفة الشمول، ويبلغ درجة الاكتمال، وهو أمر تقع مسؤولية تحقيقه على عاتق أئمة آل البيت (عليهم السلام)، وذلك لما يتميزون به من الخصائص الدينية والعلمية، ولما يمتلكونه من القدرات الفنية والأدبية، ولذا فقد كان لا بد لهم من إنجاز هذا الأمر عاجلاً أو آجلاً. ومن ثَمَّ فقد شاءت العناية الإلهية أن يتولى الإمام السجاد (عليه السلام) مسؤولية القيام بهذا الدور، وتأدية هذه الوظيفة.

ونحن سواء استطعنا أن ندرك السبب الذي يقف وراء تولي الإمام السجاد (عليه السلام) بالخصوص لهذه المسؤولية، أم لم نستطع إدراكه. إلا أنه يمكننا الجزم على كل حال -وبناءً على ما بيَّناه- بأن الداعي الأصيل الذي أدّى إلى اكتمال مدرسة الدعاء لم يكن مجرد أمر عارض، لو لم يتفق حدوثه، لبقيت معظم روائع أدب الدعاء مطوية في ظلمات العدم، بل كان الداعي الحقيقي لذلك هو ما ينطوي عليه هذا الأدب من الخصائص الفريدة، والقيم الرفيعة، والغايات المتنوعة، مما يجعله أمرًا مقصودًا بالذات، وذلك لما يترتب عليه من الفوائد المهمة والآثار العظيمة.

ويجب أن لا يفهم من كلامنا هذا أننا ننفي كل تأثير للظروف السياسية وبقول مطلق، وإنما أردنا أن نؤكد فقط على أنه لا يمكن اعتبار مثل هذه الظروف هي المقتضي الحقيقي والداعي الأصيل لعملية الإبداع، وإن كان يمكنها التأثير من نواحٍ أخرى. حيث يمكن -مثلاً- لبعض الظروف السياسية أن تشغل الإمام بمواجهتها، فتصرفه عن التوجه إلى عملية الإبداع، أو ربما تؤدي ظروف سياسية أخرى إلى محاصرة الإمام (عليه السلام) والتضييق عليه، فيمنعه ذلك من ممارسة العمل السياسي، ويفتح أمامه المجال لكي ينصرف إلى العمل الإبداعي وينجز ما أُلقي على عاتقه من مسؤولية هذا العمل.

ولو فرضنا أن الإمام السجاد (عليه السلام) قد عايش مثل هذا النوع الأخير من الظروف، الأمر الذي أفسح أمامه المجال لكي يبدع ما أبدعه من روائع أدب الدعاء، إلا أن ذلك لا يؤدّي بنا إلى اعتبار تلك الظروف هي المقتضي الحقيقي لعملية الإبداع، بل يظل المقتضي هو ما أشرنا إليه من الخصائص الذاتية لهذا الأدب، ويبقى للظروف المحيطة دور العوامل المعيقة التي تعرقل عميلة الإنتاج الفني، أو دور العوامل المساعِدة التي تفسح المجال أمام هذه العملية وتُعِين على إنجازها.

وأخيرًا.. ومهما يكن من أمر، فإن المهم في البَيْن هو أن روائع أدب الدعاء قد تم إنجازها على أيدي أئمة آل البيت (عليهم السلام)، فوضعوا بين أيدينا بذلك فنًا من أعظم الفنون وأجلّها.

فهل نرقى نحن بدورنا إلى مستوى حمل هذه الأمانة، فنقدِّر تلك الروائع حق قدرها، ونسعى إلى تدبرها، والتعمق في مضامينها، والاستفادة من مختلف معطياتها.. ثم نعمل بعد هذا على نشرها، وإيصالها إلى الأمم الأخرى، علَّنا نتيح بذلك فرصة الانتفاع بها أمام الناس كافة، وعلَّنا نساهم أيضًا في تعريفهم على الصورة الحقيقية لتلامذة مدرسة القرآن، وعلى ما يمكن أن يقدِّموه للإنسانية جمعاء من آيات الفكر وروائع الجمال، فَنُعلي بذلك كله من شأن أدبنا وصورة ثقافتنا وقيم حضارتنا؟

أم نتخلى عن المسؤولية المُلقاة على عاتقنا، لنغدو عندها مصداقًا صريحًا للمثل القائل: على من تقرأ مزاميرك يا داود؟!


 

([1]) أي عين الباطن.

([2]) الصحيفة السجادية: مِنْ دُعَائِهِ (عليه السلام) مُتَفَزِّعًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.

([3]) أي لم تكن موجودًا بعد العدم كما هو حال الموجودات الأخرى.

([4]) الصحيفة السجادية: مِنْ دُعَائِهِ (عليه السلام) فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.

([5]) لا تُحس: أي لا تُحسّ بالحواس الخمس. ولا تُجسّ: أي لا تُعلم أخبارك. ولا تُمسّ: أي لا تُمس بحاسة اللمس، لأنه تعالى ليس بجسم.

([6]) المجلسي: بحار الأنوار، دار إحياء التراث-لبنان، ط2، 1403هـ-1983، ج84، ص339.

([7]) يظهر جليًا من النصوص التي استشهدنا بها أنها جاءت مبيّنة لتفصيل مضمون الكلمة القرآنية الجامعة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} غير أنها عبّرت عن هذا المضمون بألوان إبداعية مختلفة، وبأساليب بيانية متنوعة.

([8]) الصحيفة السجادية: مِنْ دُعَائِهِ (عليه السلام) فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.

([9]) المناجاة الخمس عشرة: مناجاة العارفين.

([10]) الصحيفة السجادية: مِنْ دُعَائِهِ (عليه السلام) بعد الفراغ من صلاة الليل.

([11]) مِنْ دُعَائِهِ (عليه السلام) في يوم عرفة.

([12]) المجلسي: بحار الأنوار، دار إحياء التراث-لبنان، ط2، 1403هـ-1983، ج92، ص395.

([13]) إن المعرفة المستحيلة على الإنسان هي الإحاطة المعرفية الكاملة بحقيقة الباري تعالى، وأما ما دون ذلك فقد يكون من الأمور الممكنة، والتي يؤتى كل امرئ منها بحسبه، ويختصُّ أكملَها بالكمَّل من بني آدم (عليه السلام).

([14]) الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) لنفسه وخاصته.

([15]) مناجاة الشاكرين، للإمام السجاد (عليه السلام).

([16]) مناجاة الشاكرين، الإمام السجاد (عليه السلام).

([17]) النساء: من الآية 28.

([18]) دعاء السحر للإمام السجاد (عليه السلام)، المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.

([19]) دعاء السحر للإمام السجاد (عليه السلام)، المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.

([20]) وقريب من هذا المعنى ما نجده في الجزء الأخير الملحق بدعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) حيث يقول: [إلهي إنك تعلم أني وإن لم تدم الطاعة مني فعلاً وجزمًا، فقد دامت محبة وعزمًا].

([21]) دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) في قسمه الأخير. وقد علّقنا على نسبة هذا القسم إلى الإمام (عليه السلام) في هامش الصفحة التي تحدّثنا فيها عن موضوع الحقيقة الإلهية في أدب الدعاء، وذلك عند استشهادنا بالنموذج الأول والذي أوردناه تحت عنوان: (جـ-دعاء عرفة). راجع العدد 25 من مجلة رسالة النجف ص27.

([22]) الكليني: الكافي. ج1 ص160 ح13.

([23]) يجدر بنا أن ننبه هنا على أن كلام "قطب" وإن كان يدور في المقام حول الشعر والشعراء، إلا أن الدعاوى التي يسعى إلى إثباتها في بحثه لا تقتصر على الشعر وحده، بل تعمّ الفنون الأدبية الأخرى أيضًا، وهو ما يمكن تلمّسه بالرجوع إلى ما بيّناه من آرائه في موضع سابق من البحث، حيث استعرضنا كلامه حول كلا دعوييه، كما استعرضنا الأسباب التي يعلل بها هاتين الدعويين، راجع العدد 25 من مجلة رسالة النجف.

([24]) الشيخ محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية، دار الحوراء، بيروت-لبنان، ط8، 1409هـ 1988م، ص 119.

([25]) الشيخ محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية، دار الحوراء، بيروت-لبنان، ط8، 1409هـ 1988م، ص 113.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والعشرون