السنة الحادية عشرة / العدد الثامن والعشرون / نيسان  2016م / رجب  1437هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

دور الحسِّ في بناء الشخصية

الشيخ حاتم إسماعيل

 

 

تمهيد

إن مما لا شك فيه أن الإنسان كائن فاعل ومنفعل بما حوله من الموجودات، والفعل والانفعال يتطلبان إدراكًا لما حوله من كائنات مادية وغير مادية. وهذا يعني أنه لا بد وأن يكون مزوَّدًا بما تقتضيه معرفة كل كائن، وما يتناسب مع حقيقته، ليتمكن من التفاعل معه، والفعل فيه، والانفعال به.

من هنا اقتضت ضرورة الوجود، والعناية الإلهية بهذا الكائن، أن يتمتع ببُعدَين أساسيين، وهما البُعد العقلي والبُعد الحسي.

البُعد العقلي

أما البُعد العقلي فهو مما انفرد به هذا الكائن عما عداه من الكائنات، وهو الذي يمكِّنه من التطور والرقي والتقدم في وسائل العيش، والتغلب على مصاعب الحياة وتذليلها، والسعي إلى تحقيق السعادة والهناء. ولولا ذلك لما افترق الإنسان عن غيره من الكائنات الحيَّة.

ولكن ذلك لا يعني أن تلك الكائنات لا تتمتع بالبُعد العقلي أصلاً، فإن حبَّ البقاء، والمحافظة على الحياة، والهرب من الموت، غريزةٌ متأصلة في كل كائن حي، ولولا هذه الغريزة لما استقامت الحياة في هذا الكون لأي منها.

إن هذه الغريزة تدفع الكائنات الحية إلى المحافظة عليها، ولمَّا كانت مهدَّدة بالموت والفناء لزم أن تبحث عن مقتضيات بقائها، ودفع موجبات فنائها بكافة الوسائل المتاحة لها. وهو ما يستلزم لونًا من ألوان التفكير، وتطوير وسائل الدفاع عن النفس، سعيًا لتحقيق هذا الهدف.

غير أن هذه الكائنات كما تختلف في أجناسها وأنواعها، وفي مستوى تركيبها وتعقيداتها، كذلك تختلف في مستويات تفكيرها وبُعدِها العقلي، بما يؤمِّن لها أكبر قدر من الاستمرار والبقاء، والتفاعل في ما بينها.

وقد أكدَّ القرآن الكريم على هذه الحقيقة في جملة من الآيات المباركة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}([1]).

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}([2]).

وقوله تعالى: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}([3]).

وفي هذه الآيات الشريفة دلالة واضحة على أنها تتمتع بمستوى من التفكير أكثر من مجرد البُعد الغريزي الذي يؤمِّن لها البقاء والتناسل والحفاظ على الحياة. بل إن الآيات([4]) التي جرى الحديث فيها عن سليمان والهدهد، صريحةٌ في أنه يتمتع بقدرٍ عالٍ من التفكير والاحتجاج والإدراك العقلي.

وقد أثبتت الدراسات الحديثة صحة هذه الحقيقة، ولا زال الباحثون يحاولون معرفة كيفية تطوير هذه الكائنات وسائلَ الدفاع عن نفسها ومحاربة المبيدات الفتاكة، التي يبتدعها الإنسان في مكافحتها.

إلا أن القدرة العقلية، أو التدبيرية، لدى الكائنات الأخرى تنحصر في ما يمكِّنها من بقائها والحفاظ على حياتها ووجودها، دون أن يكون لها أي أمل في التطوير المعنوي أو المادي، الذي يوسِّع دائرة التفكير لديها، من خلال تطوير وسائل العيش، والسعي نحو التطور والرقي، أو أن تُغيِّر في قدراتها المعرفية، مما يولِّد لديها طموحًا في السيطرة على الكون، أو الاستفادة من مقدراته، من قبيل إعماره وغير ذلك، مما لا يرتبط بمجرد تأمين الطعام والشراب الذي يُبقي على حياته، كما خُلِق في بدايات أمره.

موقع العقل لدى الإنسان

إن الإنسان يتربع على عرش الكائنات، من حيث البُعد العقلي، وإعمال القوة المفكِّرة لديه، ذلك أن غايته في الوجود لا تقتصر على بقاء النوع، والمحافظة على الحياة، والهرب من الموت، بل لقد خُلِق ليعمُر الأرض، ويطوِّر الحياة، ويحقِّق السيطرة على هذا الكون بإذن الله تعالى، وهذا يستلزم أن يكون مزوَّدًا بكل ما يمكِّنه من التعرف على ما حواه الكون، أو يمكن أن يحويه، من موجودات، مادية أو غير مادية، ولإدراك قوانينها التي تحكمها، بغية التعامل معها والسيطرة عليها، وهو ما أكَّدته الآيات القرآنية المباركة، التي صرَّحت بأن كل ما في هذا العالم، من كائنات أرضية وسماوية، مسخَّرة لخدمة هذا الإنسان، فكانت القوة العقلية والإدراكية لديه متكاملة ومتنامية، كلما ازدادت خبرته، وتوسَّعت معارفه، واتسعت آفاقه، وكلما ارتقى في مدارج الكمال في مختلف المجالات، ليحقق إنسانيته بقدر ما يمكنه ذلك.

إن العلم -كما عرَّفه المناطقة- عبارة عن حضور صورة الشيء، أو حضور نفس الشيء عند العقل، وهذا يعني أن كل العلاقات في هذا الكون قائمة على العلم والمعرفة. ذلك أن الانفعالات والتفاعلات الناتجة عن الإدراك متوقفة على إمكان تحقق الإدراك، وهو بدوره متوقِّف على قابلية هذه المدركات لتكون مدرَكة من قِبَل الإنسان بنحو أو بآخر، فلا بد أن يكون مزوَّدًا بكل مقوِّمات الإدراك المرتبطة بهذا العالم، وأهمها ما يرتبط بالعقل. ولمَّا كان الله تعالى مع كل الأشياء لكن من دون مماهاة، ومغاير لكل الأشياء لكن لا بمباينة، فهو حاضر مع كل وجود وموجود، ليس فيه تعالى أي بُعد أو غيبة، كان من صفاته الذاتية أنه عالم بكل شيء، بل هو تعالى عين العلم والمعرفة فالإدراك قادر على معرفته تعالى وإدراك وجوده، وان لم يكن قادرًا على معرفة كنهه وحقيقته.

وبناء عليه، فإن المعرفة البشرية هي اتصال به تعالى بشكل أو بآخر، سواء التُفِت إلى ذلك الاتصال أم لم يُلتفَت، بل ولو أنكر حقيقة وجوده تعالى. وذلك لأنه تعالى عين الكمال المطلق والحقيقة المطلقة. فالسعي إلى المعرفة سعي نحو الكمال، مما يعني أنه لا يمكن أن تتحقق المعرفة من دون الاتصال بالكمال المطلق، من خلال الكشف في مكامن الموجودات. وربما تشير إلى ذلك الآية الشريفة: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}([5])، حيث خاطبت الإنسان بما هو إنسان، أي أنه ساع تكوينيًا للاتصال به تعالى، لأن كل مطلوب للإنسان موجود عنده تعالى وحده.

ولازم ما تقدم، أن العلم والمعرفة يشكلان البعد الحقيقي في تحقق الذات الإنسانية، ولما كانت الأشياء أو الوجودات المعلومة باقية في حقيقتها وواقعها، بمعزل عن معرفة الإنسان بها وعدمها، فإن حضورها عند العقل حضور مجرد عن المادة، مُتَّحِد مع النفس العارفة بنحو اتحاد، فذات الإنسان مجردة عن المادة في الحقيقة، وهو عالم العقل. وإلا لزم انتفاء العلم والمعرفة عنه بالضرورة، ولهذا كان الخطاب الإلهي للإنسان، بل كل خطاب، يتوجَّه في الحقيقة إلى العقل الإنساني، الذي يتفاعل إيجابًا وسلبًا مع الموجودات الحاضرة عنده، ولا يمكن أن يكون متوجهًا إلى الحواس أو الأعضاء البدنية بذاتها، كما هو معلوم بالبداهة.

وهذا ما يفسّر عدم انفعال الإنسان في ما لا يعلمه من الأشياء، وعدم تأثره به، ولو كان حاضرًا بين يديه، ومؤثرًا فيه من الناحية الواقعية. كما يفسّر خوفه من المجهول، وقلقه على المصير.

بل إن نفس الخوف والقلق، والبحث عن الحلول الناجعة لكافة المشاكل التي يواجهها، تتمُّ بتوسط القوة العاقلة لدى الإنسان. وقد بيّن الحديث الشريف هذه الحقيقة، حيث يقول: [أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أحب إليَّ منك، بك أثيب وبك أعاقب إلخ..].

البُعد الحسي

إلا أن ما تقدم لا يعني عدم وجود البُعد الحسي فيه، كما زعمه بعض المثاليين من الفلاسفة الغربيين والسفسطائيين، فإن ذلك مخالف للبديهة العقلية، وأوليات الإدراك، حيث إن العقل خزان المعلومات ومحركها وموجهها، نحو التأثيرات الواقعية للوجودات على المستوى الإدراكي. إلا أنه لمَّا كان من الأمور المجردة عن المادة، ولا بد في تفاعله مع ما عداه من أن يكون بينهما نحو مسانخة، تمكِّنه من الاتصال بها، فهو بحاجة إلى واسطة وآلة من سنخ الموجودات المادية أيضًا، ومشابهة لطبائعها المحسوسة. ويمكن تحويلها في عملية نقل لها من عالم المادة إلى عالم العقل، فكانت الحواس هي الآلة والواسطة الضرورية لذلك.

من هنا اختار فلاسفة الحكمة المتعالية وجود ثلاثة عوالم، تشتمل عليها الطبيعة الإنسانية، وهي: عالم التجرد عن المادة، وهو عالم العقول، وعالم المادة، وهو العالم المحسوس، وتمثله الأعضاء البدنية في الإنسان، وعالم متوسط بينهما، يُعبَّر عنه بعالم البرزخ أو عالم المثال، الذي تصل من خلاله المعارف البشرية من عالم المادة إلى عالم التجرد وبالعكس، وتمثله النفس.

ولما كانت الموجودات المادية متنوعة في طبائعها، ومختلفة في حقائقها، كان من الطبيعي أن تتنوع الحواس المتفاعلة معها لدى الإنسان بتنوعها، فكانت الحواس خمسة، تتمكن بذلك من التفاعل مع جميع الطبائع المادية الموجودة في عالم المادة، وتنقلها إلى عالم العقل فيتحقق الإدراك والمعرفة.

موقع الحس في المعرفة

إن الحس يلعب دورًا محوريًا في بناء المعرفة، حيث إن الحواس وسيلتنا للتواصل مع العالم الخارجي، ولولا وجود الحواس لانسدَّ باب التواصل معه وإدراك ما فيه، بحسب ما تقتضيه طبائع الموجودات، من حيث ما يحتاجه إدراكها من وسيلة. فإن من الموجودات الخارجية ما يُدرَك بواسطة البصر، ومنها ما يُدرَك بواسطة السمع، وهكذا في سائر الحواس، ولهذا فإن من فقد حاسة فقد كل ما يرتبط بها من معارف وعلوم.

إن بداية الطريق لتحصيل المعارف تبدأ بالحواس، فإنَّا نلاحظ أن أول ما يبحث عنه الإنسان حين ولادته هو اللبن، الذي لا يعرف منه سوى الإحساس به وتذوقه. فيتفاعل مع الجوع والشبع من خلال حواسه، وهكذا نراه ينفعل بالأصوات التي تدور حوله وكذلك الطعوم التي ترد إلى فمه. ثم تترقى مداركه وتتوسع معارفه بتوسط الحواس كذلك. وبعد ذلك، وفي مرحلة لاحقة يبدأ إدراكه للأمور المعنوية بالتفتح شيئا فشيئا.

إلا أن هذه الإدراكات المادية ليست مستقلة في تحقيق مراداتها وتأمين حاجاتها، بل إن الحواس تنقلها إلى العقل الذي يتحد بها نحو اتحاد، يبدأ بتحليلها وترتيبها والتنسيق بينها وفرزها إلى مجموعات تمكنه من الاستفادة منها والبناء عليها في تطوير كل ما يحتاج إليه في مسيرته التكاملية على هذه الأرض.

وهذا ما ينعكس إيجابًا وسلبًا على تفكيره وتفسيره لما يحيط به، فإنه لما كان شديد الأنس بعالم المحسوسات، التي رافقته طيلة مسيرته الوجودية، نجده في كثير من الأحيان يذهل عن عالم العقل والحقيقة المطلقة، فلا يشعر بوجودها، بل لا يصدِّق به، وهذه بداية الضلال والانحراف عن جادة الصواب.

هذا مع أنه لا يستغني عن عالم المعقول هذا في بحثه عن الحقائق التي تؤمن له مستلزمات حياته ومعارفه، غاية الأمر أنه يحتاج إلى إعمال بصيرته، وترويض نفسه على العيش في آفاقه، لأن كل تأملاته وأبحاثه في عالم الطبيعة تمرُّ بالضرورة بالعقل، وكذلك استنتاجاته وأحكامه عبارة عن أحكام عقلية. ولولا ذلك لظلَّت المحسوسات لديه مجرد مفردات متناثرة، لا يربط بينها أي رابط، ولا يتحقق من خلالها، بمعزل عن أحكام العقل، أي انسجام أو تناسق يُبنى عليه في دائرة الوجود. 

أقسام المعرفة

وما دام العلم حضور صورة الشيء عند العقل، فلا بد من ملاحظة كيفية هذا الحضور والتأمل فيه. فإن الذهن البشري مزوَّد بالقدرة على تحصيل حقائق الأشياء والتصرف فيها، عبر مزج ما هو متأصل في النفس، وتنتجه الذات الإنسانية، وبين ما يرد إليها من العالم الخارجي.

فالمعارف الذاتية (التي تنتجها الذات) متأصلة في النفس الإنسانية، إلا أن إبرازها والكشف عنها يحتاج إلى المنبهات والمحفزات. وهذه المعارف ليس لها علاقة بالوجود المادي في الواقع الخارجي، ويُعبَّر عن العلم بها بـ[العلم الحضوري]، لأنها تحضر بنفسها عند الذهن، فلا يوجد بينهما مانع أو حائل أو اثنينية.

وأما المعارف الموضوعية (المستفادة من الاتصال بالعالم الخارجي الموضوعي، وإحضاره لدى الذهن) فإنها منحصرة بالعلم الحصولي أو الكسبي، وهو انعكاس صورة الواقع الموضوعي لدى الذهن، وهو ما يحتاج إلى عملية تحليل وتقويم للمعلوم الخارجي، ليحصل اتحادها بالعقل، أو تفاعلها معه.

ومن الظاهر أنه يغلب على هذا النوع من المعرفة كونها معرفة مادية، أي مستفادة من العالم المادي، عبر اتصال العقل بهذا العالم بتوسط الحواس.

فالمعرفة إذن على قسمين: معرفة مرتبطة بعالم المادة، وطريقها الحواس الخمسة، ومعرفة ترتبط بعالم ما وراء المادة، أعم من أن تكون غيبًا بالمعنى المصطلح، أو كان متعلقًا بالأمور المعنوية المنتزَعة من الواقع الخارجي، من قبيل الحب والبغض وما إلى ذلك.

كيفية حصول المعرفة

إن المعرفة بالموجود الخارجي تحصل من خلال الالتفات إلى هذا الموجود، وهو ما يُعبَّر عنه في لسان المنطقيين بمواجهة المشكل، ثم ينتقل إلى القوة المتخيِّلة، التي تحتفظ بصورته بعد غيابه عن الحاسة، بعد تجريدها عن المادة التي تشكل جزءًا من حقيقتها الخارجية وتقومها، وفي هذه الحالة يبقى الموجود محتفظًا ببعض ما يربطه بعالم المادة، من شخصية وجزئية وسائر الأعراض الثابتة له حين انتقاله إلى الحاسة.

وفي مرحلة لاحقة ينتقل إلى القوة العاقلة، التي تتصرف في هذه الخصائص وتعممها، وتصدر عليها الأحكام المناسبة لها إيجابًا أو سلبًا.

وتتم هذه العملية من خلال خلط هذه الصورة بالأمور الذهنية، التي تساعد العقل في تطبيق ما حصلت عليه من الخارج، بعد أن تزيدها تجريدًا، وتتخلى بذلك عن سائر الحدود الجزئية والشخصية التي تمثلها، كي تتمكن من الاتحاد مع العقل وصيرورتها جزءًا منه، عبر ما يسمى بالمعقولات الثانية، وهي منحوتات ذهنية، لا علاقة لها بالواقع الخارجي، وهي المعقولات الثانية المنطقية، أو لها علاقة بنحو ما معه، وهي المعقولات الثانية الفلسفية، في تحقيق المعرفة هذه، وتحصيل اليقين بمضمونها.

الأخطاء المعرفية

إلا أن هذه الأحكام ليست مطابقة للواقع دائمًا، فقد تصيبه وقد تخطئه، رغم اتصافها باليقين والجزم.

ومرد هذا الخطأ إما إلى عدم الدقة، أو عدم الالتفات في تنسيق المعلومات والوسائل التي يحتاجها في تحصيل اليقين، وإما إلى الخطأ في التقاط الصورة المعينة من الخارج، نتيجة لانحراف في الحاسة المرتبطة بالمعلوم، أو نقصان واختلال في الظروف المحيطة بها، من قبيل نقص النور عند مواجهتها، أو بعد المسافة بينها وبين الرائي أو السامع، أو اعتلال في الجو المحيط بها، مما يؤثر سلبًا على الرؤية، فيحصل الخطأ في الحكم، وتختلف النتائج التي يراد تثبيتها أو الوصول إليها.

بناء على ما تقدم فإن ما يُسمَّى بأخطاء الحواس مردّه في الحقيقة إلى العوامل الخارجة عن الحاسة نفسها، ولا يصح نسبته إليها، فيما إذا كانت سليمة لا تعاني من انحراف أو خلل في وظيفتها، التي لا تزيد عن نقل الصورة كما تراها وتظهر أمامها، وفقًا للشروط والظروف المحيطة بها.

فالحواس مجرد ناقل أمين لما تحصل عليه من صور وانعكاسات، تنقلها إلى الذهن، وليس لها قدرة على الحكم، أو التصرف في ما يرد إليها من صور.

الفلسفة الحسِّية والمثالية

ونظرًا للأهمية التي تنالها المعرفة الحسية، فقد نشأت مذاهب فلسفية في الغرب تزعم أن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة، وأنكرت كل لون من ألوان المعرفة غير القائمة على أساس الحس. بل إنها عملت على تفسير البديهيات العقلية من قبيل استحالة اجتماع النقيضين على أساس الحس، وعلى فرض تحققها فإنها ليست بذات قيمة من الناحية المعرفية والفلسفية.

وقد ظهرت هذه المدرسة كرَدَّة فعلٍ على فلسفة ديكارت القائلة بالأفكار الفطرية، ومن أهم رجالات هذه المدرسة "جون لوك"، و"ديفيد هيوم"، وصرَّح هؤلاء بأن وظيفة الذهن والعقل مجرد التنسيق وتحليل المعلومات الوافدة إليه عن طريق الحواس، وليس له شأن آخر غير ذلك.

وأدّت هذه النزعة المتطرفة والحادة، في تجريد المعرفة عن كل بُعدٍ غير حسي، إلى نشوء مدرسة مضادة لها، وهي الفلسفة المثالية، التي وقفت معها موقف النقيض، فأنكرت كل معرفة تنشأ من الحس، وإن وجدت فهي بلا قيمة من الناحية الفلسفية، بل ذهب بعض أقطابها إلى إنكار الواقع الخارجي المحسوس من الأصل، ومن أهم رجالها "باركلي".

المعرفة الحقَّة

ولا نريد هنا مناقشة هاتين المدرستين المتطرفتين، فقد فندَّهما وأبطلهما فلاسفة المدرسة الواقعية، ومن بينهم الفلاسفة المسلمون، وأبرزوا ما فيهما من مجافاة للحقيقة والواقع، بما فيه الغنى والكفاية.

ولكن نريد أن نسلط الضوء عليهما في بيان حقيقة ثابتة من خلال التطرف نفسه الذي يؤكد ركنية كل منهما في تحقق المعرفة، الذي يكشف عنه إصرار كل فئة على أهمية العنصر الذي تمسكت به، فليست مجرد خيالات وأوهام، أو ترفٍ فكري ربما يراد منه مجرد إمتاع الذهن ودغدغة المشاعر.

ولما كانت المعرفة محور بناء الشخصية واكتمال إنسانية الإنسان، إن أحسن الاستفادة منها، وترتيب الآثار الناتجة عنها، في تحقيق الذات، وإصلاح المجتمع، وعمارة الأرض، وتقويم الحياة والأخلاق.

ولمَّا كان الحس ركنًًا أساسيًا لا غنى عنه في تحقيق كل ذلك، حيث إن الناس مختلفون في إدراكاتهم ومعارفهم، والاستفادة من كل ذلك، عبر تحويل المعارف الحسية إلى جزءٍ من الشخصية من خلال التصرف فيها وتجريدها من المادة، وهو ما يحتاج إليه كل إنسان في مسيرته التكاملية نحو الحقيقة المطلقة، وتقرّبه من الآخرين في تحقيق التواصل والتوازن بين الجماعة البشرية، الأمر الذي ينعكس على النوع الإنساني كله تكاملاً وسعيًا نحو الحقيقة المطلقة، وهي الله تعالى، كل واحد منهم بحسب طاقته واستعداداته.

نستنتج من كل ذلك أنه لا غنى عن الحس، كما لا غنى عن المدرَكات العقلية، وأنه يلعب دورًا أساسيًا في بناء الشخصية الإنسانية، وبدونه لا تقوم حياتهم، ولا يستقيم نظامهم، ولا تتحقق الغاية المنشودة من خلق الإنسان.

هل المادة مرتبة عقلية؟

إنه استنادًا إلى المعطيات العلمية الحديثة، والتي أثبتت تركب المادة من جزيئات متناهية في الصغر، والتي يُعبَّر عنها علميًا بـ "الكواك" أو "الكوارك"، والتي لم يلحظ منها حتى الآن إلا آثارها، دون الوصول إلى كنهها وحقيقتها، إلا أنها أقرب إلى الطاقة منها إلى المادة الكثيفة، فإنه يمكن دعوى كون المادة مرتبة من المراتب الدانية للعقل، ذلك أن العقول مترتبة ترتبًا طوليًا وعرضيًا، بمعنى أن كل عقل تام في مرتبته، فهو دون المرتبة الأعلى منه، وأعلى من المراتب الأدنى، وتتناسب سعته مع مرتبته التي هو فيها. وهكذا حتى نصل إلى أدنى المراتب التي يحصل فيها نوع من التكاثف، نتيجة لبعدها عن عالم النور المحض، وهو المرتبة الأعلى للوجود، أي مرتبة الواجب تعالى، حتى نصل إلى مرتبة الظلمة المحضة إلا من نور إفاضة الوجود عليها، وهذه المرتبة هي مرتبة الجوامد في عالم المادة.

وأما الإنسان فهو مُتشكِّل من مرتبتي النور والظلمة، أي العقل والجسد، وكل منهما يشدُّه إلى رتبته، من خلال سعيها إلى تحقيق كمالها، فإن كمالات العقل مغايرةٌ في سنخيتها لكمالات الجسد ومعاندةٌ لها، تقتضيها طبيعة كل منهما، ولهذا نجد الإنسان في حركة دائمة وتنقُّلٍ مستمر بين هاتين المرتبتين، وهو القلق والحيرة التي يعيشها الإنسان في دائرة وجوده، ويعمل على التخلص منها، فتشدُّه إلى الأرض، أو ترقى به في سلم الملكوت، وهو ما يُعبَّر عنه بجهاد النفس، الذي أطلق عليه رسول الله (صلى الله عله وآله) "الجهاد الأكبر"، فإذا غلبت عليه المرتبة العالية ارتقى إلى رتبة أسمى من رتبة الملائكة، وإلا انحط إلى رتبة الحيوانات بل أضل منها.

فإذا ثبت أن عالم المادة مرتبة دانية من المراتب العقلية، يتبيَّن أن المعرفة لا تقوم إلا بجناحيها العقلي والحسي، اللذين يلتقيان في النفس التي هي برزخ بينهما، ويقع الصلح بين الحسيين والمثاليين، وتتشكل الشخصية الواقعية، ويستغنى بذلك عن القول بالتجريد او الانتزاع، الذي قال به الفلاسفة المسلمون في تفسير المعرفة الحسية.

وبهذا التنافر والتعاند بين المرتبتين، وإمكان التكامل بين المراتب المختلفة، من خلال سيطرة المرتبة الأعلى على المرتبة الأدنى، وتسخيرها للسير بالإنسان إلى درجات الكمال، تنحلُّ إشكالية نسبة الإضلال إلى الله تعالى كما يظهر من بعض الآيات الشريفة، التي نسبت الإضلال إليه تعالى، فإن حقيقة الأمر أن تصارع هذه المراتب هو الذي أنتج ذلك الرقي أو السقوط، ولا دخل له تعالى في ذلك إلا من جهة حضوره وإشرافه على كل ما في الوجود من ظواهر وحقائق.

ولعل هذا هو السبب في أننا نجد أن القرآن الكريم قد أكَّد في مختلف الآيات الشريفة على الاستفادة من الظواهر الكونية الطبيعية، والتأمل فيها، ودراستها والبحث عن حقائقها، بما يؤمن له معرفة حقَّة، لتوصِلَه إلى الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها منذ كينونته، كما ركَّز على الحواس التي تتفاعل وتنقل هذه الظواهر إلى عالم الذهن ليدرسها ويحللها، ويربط بين مراتبها المختلِفة ليوحِّد بينها في ذهنه، توحيدًا معرفيًا، بعدما كانت متحدة في الحقيقة والواقع.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة النمل، آية: 16.

([2]) سورة النمل، آية: 17.

([3]) سورة النحل، آية:68-69.

([4]) الآيات: 20-28 من سورة النمل .

([5]) سورة البروج، آية: 6.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثامن والعشرون