العدد الثالث / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

التشابه بين الصور الحسّية والواقع عند فلاسفتنا المحدثين

مناقشة الأدلة

الشيخ مصطفى يحفوفي

 مقدمة

بيَّنا في بحث سابق([1])النظرية التي يتبنّاها الفلاسفة الإسلاميون المحدثون في المدركات الحسّية، وألمحنا إلى ما يعتري هذه النظرية - في أصل صياغتها - من تشويش والتباس، وأرجأنا مناقشة أدلتهم إلى بحث آخر، فكان هذا البحث الذي بين يدي القارئ الكريم، والذي سيتركّز على مناقشة تلك الأدلة.

خلاصة النظرية:

وقبل الخوض في عرض الأدلة ومناقشتها، لا بدّ من تقديم عرض موجز لمضمون تلك النظرية - وهو ما فصّلناه في بحثنا السابق -، فنقول:

يذهب الفلاسفة الإسلاميون المحدثون إلى وجود نحوٍ من المطابقة بين الصور الحسّية والواقع الموضوعي، وملاك هذه المطابقة عندهم هو الاتحاد الماهوي بين الصور الحسّية والواقع، أي أننا عندما ندرك موضوعًا خارجيًا، فإنه يكون هنالك أمر مشترك بين هذا الموضوع المدرَك، وبين الصورة الحسّية التي ندرك بواسطتها ذلك الموضوع، وهذا الشيء المشترك هو الماهية، فما ينطبع في أذهاننا من الموضوع الخارجي هو ماهية ذلك الموضوع، وهذه الماهية هي التي تشكّل الرابطة بين الصور الحسّية والواقع الخارجي.

لكن ومع وجود هذا الاتحاد من ناحية الماهية، إلا أنه يبقى ثمّة اختلاف بين الإدراك وبين الواقع، مرجعه إلى الاختلاف بين الوجودين، حيث توجد الصور الإدراكية بوجود ذهني، بينما توجد الموضوعات الواقعية بوجود عيني، وهو ما يسبّب اختلافًا في الآثار, فيكون للشيء في الواقع الموضوعي آثار لا تكون له في وجوده الذهني، ومثال ذلك النار التي لا تختلف ماهيتها في الخارج عن ماهيتها في الذهن، بل الماهية في الحالين واحدة، ولكن وجود النار الواقعي يختلف عن وجودها الذهني, فهي توجد في الخارج بوجود عيني, بينما توجد في الذهن بوجود ذهني، وهذا ما يسبب الاختلاف في الآثار, فتكون النار الخارجية محرقة، بينما النار الذهنية لا تكون محرقة، فالوجود في حالته الخارجية يختلف عن الوجود في حالته الذهنية، بينما الماهية تبقى واحدة في كلا الوجودين.

هذه هي خلاصة النظرية السائدة لدى الفلاسفة الإسلاميين المحدثين في الإدراك الحسي، ومن جملتهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه (فلسفتنا)، غير أن للشهيد الصدر بيانًا آخر لهذه النظرية، وهو البيان المطروح في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء)، حيث يتبنّى في هذا الكتاب أيضًا القول بالمطابقة بين الصور الحسّية والواقع الموضوعي، ولكن دون القول بأن هذه المطابقة قائمة على أساس الاتحاد الماهوي.

الأدلة ومناقشتها:

ويبدو أن خلاصة الأدلة التي استدل بها فلاسفتنا على مطابقة الصور الحسّية للواقع تتركّز في دليلين هما:

1- لزوم السفسطة: وهو الدليل الذي تمسّك به الاتجاه السائد القائم على أساس الاتحاد الماهوي.

2- الاستقراء: وهو الدليل الذي يقيمه الشهيد الصدر في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء).

1- دليل لزوم السفسطة([2]):

وهو الدليل الذي يتبنّاه الاتجاه السائد القائل بأن الصور الحسّية تطابق الواقع الموضوعي نحوًا من المطابقة، وأن الملاك في هذه المطابقة هو الاتحاد الماهوي.

وخلاصة هذا الدليل هي أنه لولا وجود مطابقةٍ ما بين الذهن والخارج,  ولولا أن الذهن يمثل الخارج نحوًا من التمثيل، للزمت السفسطة، أي لو كان ما في الذهن يغاير ما في الخارج من دون جهة اتحاد بينهما, لما كان الذهن كاشفًا عن الواقع الخارجي بأي نحو من أنحاء الكشف، وذلك يؤدي إلى انسداد باب العلم بالواقع وعدم إمكان المعرفة، وهو ما يعبر عنه بالسفسطة([3]).

يقول العلامة الطباطبائي: [ وقد عرفت أيضًا أن القول بمغايرة الصور عند الحسّ والتخيّل لذوات الصور التي في الخارج، لا ينفك عن السفسطة ]([4]).

ويقول الشهيد مطهري: [ فإن قلنا إن الذهن قادر على إدراك ما ليس في الخارج أو أنه يدركه بشكل آخر، عندها لا يبقى لدينا اعتماد على أية حاسة من حواسنا]([5]).

ويقول العلامة الشيخ جعفر السبحاني عند مناقشته الرأي القائل بأن ما ندركه من المحسوسات يشكّل رموزًا عن الخارج: [ فإنا نسأل هؤلاء الذين يَعدُّون أنفسهم من الواقعيين وأصحاب الجزم واليقين: إذا لم تكن الصور الذهنية والقضايا البرهانية حاكية عن الواقع، بل رموز عنه، فمن أين نعلم بصحّة القواعد العلمية الطبيعية والفيزيائية والرياضية، وما ذكرتموه لا يؤدي إلا إلى إنكار العلم بالخارج، والانسلاك في عداد السوفسطائيين ]([6]).

إذًا لا بد - بحسب هذه النصوص - أن تكون الصور الإدراكية حاكية عن الواقع الموضوعي وكاشفة عنه، وإلا سقط الاعتماد على الحواس، ولزم إنكار العلم بالخارج، فانسد باب العلم بالواقعيات ولزمت السفسطة.

هذا هو الدليل على ضرورة وجود نحوٍ من المطابقة بين الصور الإدراكية بما فيها الصور الحسّية، وبين الواقع الموضوعي.

 ولكن ما هو الدليل على أنه لا بد أن يكون هذا التطابق والتماثل على أساس الاتحاد الماهوي؟

يقول العلامة المطهري في الإجابة على هذا السؤال: [ ليس هناك شكّ في كون الوجود الذهني وجودًا مغايرًا للوجود الخارجي، وأن الذهن والخارج ليسا متطابقين بلحاظ الوجود، وإذا لم يتطابق الوجودان فلا تطابق([7]) - أيضًا - بين ماهية الشيء الخارجية وماهيته في الذهن، فحينئذ سوف لا يبقى فرق بين العلم والجهل المركب وستضحى كل العلوم جهلاً مركبًا، ولا تبقى لألوان الإدراك أية قيمة، وبعبارة أخرى، سيعجز العلم والإدراك البشري عن الكشف عن عالم الواقع بأي نحو كان ]([8]).

وبعبارة أخرى: إن الوجود الخارجي للأشياء يغاير وجودها الذهني، فإذا غايرت ماهياتُ الأشياء الخارجية أيضًا ماهياتِها الذهنية، فمعنى ذلك أنه لا يبقى أيّ شيء مشترك بينهما، فيكون ما في الذهن مباينا لما في الخارج كليّة فلا تبقى أي رابطة بين الذهن والخارج، ولازم ذلك أن يكون الذهن والخارج غريبين أحدهما عن الآخر غربة كلية، فلا يعود بمقدور الذهن أن يكشف عن الخارج بأي نحو من أنحاء الكشف، وعندها يطغى الجهل المركب وتسود السفسطة([9]).

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

[1] - وذلك في بحث تحت عنوان [تساؤلات حول نظرية الإدراك الحسي عند الفلاسفة المحدثين]، وهو البحث المنشور في مجلة (رسالة النجف)، العدد صفر.

[2] - هذا الدليل يستخدم في إثبات المطابقة بين الصور الإدراكية والواقع، سواء كانت تلك الصور صورًا عقلية أو صورًا حسيّة، فمناقشتنا لهذا الدليل تصبُّ في صميم بحثنا المتعلق بأدلة الإدراك الحسّي.

[3] - تجدر الملاحظة بأننا قصرنا البحث في الدليل الأول على كون الرابطة بين الصور الإدراكية والواقع الموضوعي هو رابطة الاتحاد الماهوي، وهو ما يتبنّاه الاتجاه السائد لدى الفلاسفة الإسلاميين المحدثين الذين تشكّل نظريتهم موضوع بحثنا هذا، ولذلك لم نتعرض للاتجاهات الأخرى التي تعتقد أن الرابطة ليست هي الرابطة الماهوية.

[4] - السيد محمد حسين الطباطبائي: نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)، جمادى الأولى 1404 ، ص39.

[5] - الشهيد مرتضى المطهّري: شرح المنظومة، تعريب عبد الجبار الرفاعي، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، قم (إيران) الطبعة الأولى، ج1 ، ص260.

[6] - محاضرات الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، بقلم الشيخ حسن مكي: نظرية المعرفة، الدار الإسلامية بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ 1990م ، ص113.

[7] - العبارة موهمة، والأوضح أن يقال : (وإذا لم يتطابق الوجودان ولم يكن هنالك تطابق - أيضًا - بين ماهية الشيء الخارجية وماهيته في الذهن، فحينئذٍ ... الخ)

[8] - الشهيد مرتضى المطهّري: شرح المنظومة (المختصر)، تعريب السيد عمار أبو رغيف، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى ، جمادى الثانية 1417هـ ، ص54.

[9] - إنما يصح ذلك بعد ردّ النظريات الأخرى والتي تتبنّى كون الرابطة بين الذهن والواقع هي غير الرابطة الماهوية، بحيث لا يبقى في البين سوى الرابطة الماهوية، فإذا ألغينا هذه الرابطة أيضًا، لزمت السفسطة.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية