العدد الرابع / 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإسلاميون  والغرب .... ما عليهما وما بينهما

د. طلال عتريسي*

من أين يمكن مقاربة المشكلة بين الإسلام والغرب التي تُطرح من جوانب متعدّدة منذ سنوات في كثير من الأدبيات الإسلامية والغربية على حدّ سواء؟

وهل المشكلة المُفترضة ذات طبيعة بنيويّة أو حضارية بحيث لا بدّ من التصادم الذي تدفع إليه المصالح الراهنة أو المخاوف المستقبلية؟ أم أن عوامل أخرى هي التي تسبّب التوتّر والاتّهام المتبادل؟

ثمّة اتجاهات فكرية وسياسية ساهمت إلى حدّ كبير في السنوات الماضية في إثارة القلق والشكوك المتبادلة بين المسلمين والغرب، مثال ما كتبه (هانتنغتون) أو (برنارد لويس) وآخرون، حول اتهام الإسلام كَدِينٍ، أو مثال ما قام به تنظيم القاعدة من عمليات ضدّ أفراد أو مؤسّسات غربية، وما أطلقه زعيمه ابن لادن من دعوات (للجهاد) ضدّ الغرب، ولم تظهر تلك الاتجاهات والدعوات فجأة أو من فراغ، فذاكرة الطرفين التاريخية مُثقلة بالقلق والريبة من الإسلام الذي هدَّد أوروبا ودقَّ أبوابها في القرون الماضية، ومن الجيوش الغربية التي وطأت أقدامها أراضي المسلمين، ومزَّقت وحدتها وأعملت فيها النّهب والقتل، ومارست عليها الاحتلال والوصاية، وزرعت في قلبها كيانًا استيطانيًا.

لا يصدر التوجّس إذًا من فراغ تاريخي أو سياسي أو فكري، فلهذا كله مساهماته التي تتفاوت من حيث القوّة والتأثير على نظرة المسلمين إلى الغرب، وعلى نظرة الغربيين إلى الإسلام والمسلمين... لكن المفارقة هنا، أن كراهية المسلمين للغرب، أو عداءهم له أو خوفهم منه ومن مشاريعه، لم تُفضِ إلى أي عداء للمسيحية كدينٍ، أو لأي إشارة بسوء لها، بينما لم تتورع أقلام غربيّة كثيرة عن المسّ بالإسلام نفسه - وليس بالمسلمين فقط - كدين يحرّض على العنف، ويختزن العداء للآخر وكراهيته.

ليس من المطلوب العودة إلى البيئة التاريخية لعلاقة التوتر بين المسلمين والغرب والتي كتب عنها الكثير، على الرغم من أهمية هذه البيئة في فهم ما يجري اليوم وفي التأثير عليه، بل المطلوب البحث في (المتغيرات الاجتماعية والسياسية الحديثة نسبيًا) التي عزّزت ثنائية الإسلام والغرب، التي يتحمل الطرفان: الإسلاميون والغرب مسؤولية مباشرة فيها، وفي الآثار التي ترتّبت عليها.

مسؤولية الغرب:

أولاً: لا أحدَ يستطيع إنكار التفوّق في قدرات الغرب السياسية والعسكربة والاقتصادية على باقي العالم، إلا أن المسلمين لم يشعروا منذ نصف قرن إلى اليوم أن الغرب كان مُنصفًا نحوهم، أو أنه لم يكن متحيّزاً ضدّهم، فقد صدرت على سبيل المثال عشرات القرارات الدولية في إطار الصراع العربي الإسرائيلي ولم تنفذّها إسرائيل، ولم يرغمها أحد من القوى الكبرى على ذلك، لا قديمًا ولا حديثًا.

بينما تمارس الضغوط الشديدة والمباشرة على دول إسلامية لمنعها من امتلاك السلاح النووي (مثل إيران وسوريا)، ولا ينبس أحد من الدول الغربية بأيّ كلمة بشأن ترسانة إسرائيل النووية، التي يعرف العالم أجمع بامتلاكها لها.

لا بل يذهب بعض قادة هذه الدول إلى تبرير تلك الترسانة بالمخاوف الإسرائيلية من جوارها وعلى مستقبلها، ولا يتقدّم أحد بأي إدانة أو عقوبات رادعة للمجازر التي ترتكبها إسرائيل يوميًا ضدّ الشعب الفلسطيني، وهذه الازدواجية باتت معروفة بالنسبة إلى الدول العربية والإسلامية بسياسة الكيل  بمكيالين.

ثانيًا: يتعمد الإعلام الغربي في السينما والتلفزيون تقديم صورة مشوَّهة وسلبية عن الإسلام والمسلمين، وبسبب ثورة الاتصالات الحديثة استطاع المسلمون على اختلاف مستوياتهم أن يتلقّوا هذا الإعلام وأن يعرفوا ماذا يدور فيه، مما أثار غيظهم وغضبهم وخصوصًا أنهم غير قادرين بالمقابل على الردّ بالطريقة نفسها بسبب التفاوت في قدرات الطرفين على هذا الصعيد.

وما هو أخطر من وسائل الإعلام هي الكتب المدرسية الغربيّة التي تقدّم بدورها صورة سلبية للناشئة عن الإسلام والمسلمين وعن العرب...([1]) مما يترك أثراً مبكّراً في وعيهم تجاه هذا الدين وشعوبه المختلفة، ثم تُشارك وسائل الإعلام في تثبيت تلك الصورة، إلى أن يتعذّر لاحقًا تغييرها بسهولة.

ومع تكرار تلك الصور السلبية سوف تنشأ توترات نفسية في صدور الكثير من المسلمين، قد تتحوّل في أي وقت إلى أعمال عدائية أو انتقامية، و يمثِّل الملصق الانتخابي الأميركي (جورج بوش) حول الإرهاب نموذجاً لما سبق، وفيه صورة لرجل له ملامح شرق أوسطية (عربي أو مسلم) أثارت انتقاد الأميركيين العرب واحتجاجاتهم ([2]).

 ثالثًا: لم تتردّد دول الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا في دعم حكومات إسلامية استبدادية أو غير ديمقراطية، إذا كانت سياسات تلك الحكومات تتّفق والمصالح الغربية، ولا تنتقد دول الغرب ما يتعرض له الإسلاميون تحديداً من تضييق ومن منع أحزابهم من المشاركة السياسية، أو ما يتعرض له الناشطون منهم من اعتقال أو تعذيب.

فتجربة الجزائر على سبيل المثال التي كادت (جبهة الإنقاذ الإسلامية) تصل بها إلى السلطة أجهضت بحمّام دم، ولم يعترض القادة الغربيون على ما حصل بل أيَّدوه لأن السلطة كادت تقع في قبضة الإسلاميين لولا ذلك.

وفي مصر لا تزال حركة الإخوان المسلمين محظورة منذ عقود، ولم تحصل على حق الترشح ولا على الترخيص بالعمل السياسي على الرغم من شعبية هذه الحركة الواسعة، التي تضاهي معظم الحركات السياسية الأخرى.

وفي باكستان حصل الجنرال (برويز مشرّف) على دعم الولايات المتحدة وتأييدها بعد انقلابه العسكري، وأصبحت باكستان شريكًا استراتيجيًا مهمًّا لواشنطن، لأنها تعاونت في الحرب الأميركية على طالبان وعلى تنظيم القاعدة في أفغانستان... من دون أن يسبّب ذلك أي حرج للولايات المتحدة، ومن دون أي انتقاد من الدول الغربية الأخرى بسبب طبيعة الانقلاب العسكري الذي لا يمتّ إلى التقاليد الديمقراطية بأي صلة... والأمثلة كثيرة بدءًا من تاريخ أوروبا الاستعماري، وإلى عصر الأمبراطورية الأميركية.

وينعكس هذا الانحياز إلى الحكومات في البلدان الإسلامية إلى المصالح الغربية شكوكًا في ادّعاءات الغرب الدفاع عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية، فتتّسع الهوّة بين الغرب وبين الشعوب الإسلامية، وبين كثير من النّخب في البلدان الإسلامية التي تتطلّع إلى الغرب كنموذج متقدّم، فتجده نموذجًا متحيّزاً يشبه حكوماتها، وتزداد هذه الهوّة اتساعًا مع الإسلاميين الذين يفسر بعضهم صمت الغرب عن التنكيل بهم وعن زجّهم في السجون بأنه تواطؤ وعداء ليس ضدهم فقط بل ضد الإسلام كدين وعقيدة.

رابعًا: دأب الغرب منذ سنوات، وخصوصًا بعد نهاية الحرب الباردة على الاهتمام بما يسمّيه قضايا الديمقراطية والحريّات والمجتمع المدني وحقوق المرأة وحقوق الإنسان في الدول العربية والإسلامية...

وعلى الرّغم من الاهتمام المتزايد في أوساط المسلمين أنفسهم بهذه الموضوعات، وإثارة الأسئلة الجدّية حولها، فإنّ ما يجري على هذا الصعيد لا يلحظ الخصوصيات الثقافية في المجتمعات الإسلامية تجاه قضايا معيّنة، مثل قضية الأُسرة والمرأة، وما يتصّل بهما من علاقات وقيم، إذ  تحاول كل اللقاءات والندوات التي تعقدها المنّظمات والهيئات الإقليمية والدولية في البلدان الإسلامية أن تقدّم نموذجها الخاص (الغربي) الذي تعيشه وتعرفه عن هذه القضايا.

وغالبًا ما تختار هذه المنظّمات من بين "المشاركين المحليّين" ذوي الاتجاهات غير الإسلامية الذين يوافقونها عادة على ما تدعو إليه، وتتجنّب دعوة الإسلاميين الذين يخالفونها الرأي ويعترضون على المفاهيم التي تطرح ويتمّ الترويج لها، وهكذا يتقوقع عمل هذه المنظمات والجمعيات بين نخب وحدود تلتفّ حولها وتستفيد منها.. بعدما اختارت عدم التوسع خارج تلك النخب، مما يجعل شكوك الإسلاميين تحوم حولها ويجعل اتهامها بالارتباط بالمخطّطات الخارجية سهلاً ويسير المنال، ويجعل أفرادها في لحظات الانفعال أو الغضب - حتى لما يحصل في أي مكان آخر - عُرضة للاعتداء أو للانتقام.

خامسًا وهو يرتبط بالنقطة السابقة: المشروع الأميركي لـ" إصلاح الشرق الأوسط الكبير" (يضم الدول العربية وإسرائيل وتركيا وإيران وأفغانسان) الذي شغل ولا يزال الحكومات العربية منذ انطلاقه في الشهر الأول من العام 2004 وإلى اليوم، وتحوّل إلى موضوع للسّجال الواسع بين النخب السياسية والفكرية، وأثار موجة من السخط ضدّ أصحاب هذا المشروع على الرّغم من الاعتراف بالحاجة إلى الإصلاح وضرورته في الدول العربية والإسلامية، من إطلاق الحريّات إلى تداول السلطة، إلى حقوق الإنسان.

وبعيدًا عن نقاش جدّية المشروع والقدرة على تحقيقه حيث يريد أن يجمع دولاً متفاوتة التقدّم في تجربتها وفي تنميتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، فإن الضغوط الأمريكية الفعلية على معظم الحكومات العربية انصبَّت على قضايا التعليم الديني وغير الديني (لتشذيبه من كل ما يمتّ إلى التطرّف بصلة وإلى كل ما يشير إلى العداء لإسرائيل أو لمقاومتها أو لاحتلالها لفلسطين من جهة ثانية)، كما انصبّت على قضايا المرأة لإطلاق حرّيتها... وذلك استنادًا إلى الرؤية الأمريكية التي تعتبر أن البُنى الراهنة الاجتماعية والثقافية في الدول العربية هي مصدر التطرّف والإرهاب الذي يهدّد أمن الولايات المتحدة الأمريكية وأمن حلفائها... وتعتبر أن تغيير هذه البُنى سيؤدي إلى تجفيف المنابع الفكرية والثقافية لهذا الإرهاب، مثلما تمَّ العمل على تجفيف منابعه المالية بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001.

أما الضغوط الهامشية فكانت على قضايا تداول السلطة وإطلاق الحريات وحقوق الإنسان، ويستند الساخطون على هذا المشروع، إلى أن طريقة إطلاقه وتقديمه إلى الدول الصناعية لمناقشته قبل طرحه على قادة أو على شعوب الدول المعنية بهذا الإصلاح، جعله مشروعًا مفروضًا من الخارج، ومما يزيد من القلق من هذا المشروع أنه يتحدّث عن دعم مباشر لمنظمات دولية ومحليّة في قضايا الإدارة و التعليم والإعلام والانتخابات.. أي "حق التدخل".

وقد بدأت الولايات المتحدة أصلاً وقبل طرح مشروعها ضغوطًا مباشرة لتغيير مناهج التعليم الديني في أكثر من دولة إسلامية، بذريعة التطرّف والكراهية التي يحضُّ عليها هذا التعليم، إلا أن من يعود إلى مطلع الثمانينات من القرن العشرين، سوف يُلاحظ أن الولايات المتحدّة نفسها شجعت وأيَّدت ودعمت توسّع هذا التعليم وانتشاره، وهي لا تشعر بأي حرج وهي تبدل سياستها وتقلبها رأسًا على عقب.

فقد كانت ترى في "الأصولية" حتى في السلفية وفي مدارسها التي تخرَّجت منها حركة طالبان وفي تعليمها "في أثناء الحرب الباردة" سدًّا أمام انتشار الشيوعية حينًا ومحفزًا لقتال السوفيات الذين احتلوا أفغانستان حينًا آخر، "واتسع التلاقي بين شبكات إسلامية وبين الديبلوماسية الأمريكية"([3]).

كما غضَّت الولايات المتحدة الطرف عن الشبكات الإسلامية في المساجد وفي المؤسسات التجارية والإعلامية والدينية في إفريقيا وأوروبا وآسيا... والتي كانت تتلقّى الدّعم المالي من المملكة العربية السعودية لمواجهة النفوذ الإيراني المتنامي بعد انتصار الثورة الإسلامية، ولمحاولة تقديم بديل "معتدل" عن الإسلام الإيراني المتطرّف.

ومن البداهة أن يؤدّي هذا الانقلاب - من التعاون مع "السلفية والأصولية" ودعمها إلى الحرب عليها - إلى الرغبة في الانتقام التي توفّر لها الولايات المتحدة الكثير من المبرّرات من خلال سياساتها في الشرق الأوسط، ولكي يُعلن هذا الطرف الأصولي أو ذاك عداءه للولايات المتحدة أو ليمارس انتقامه الفعلي من الغرب كله... وحتى كيفما اتفق.

سادسًا: بعد الحادي عشر من سبتمبر شنّت الولايات المتحدة حربًا مفتوحة على ما سمّته "الإرهاب" وتبيّن بعد نحو ثلاث سنوات من تلك الحرب أن المقصود بها لم يكن سوى منظمّات وحركات ودول وأحزاب إسلامية دون سواها، وأن العقوبات في تلك الحرب اقتصرت على مؤسّسات وجمعيات تقدّم الدعم والمساعدة والتبرّعات سواء لتلك المنظمات أو للفقراء والمساكين والطلاب من دون أي تمييز.

وتبيّن أن المنظمات التي تقاتل إسرائيل من دون أن تقوم بأي عمليات ضد أوروبيين أو أمريكيين هي أيضًا منظمّات إرهابية، وأن ما تفعله إسرائيل بالشعب الفلسطيني ليس إرهابًا، وأن هذه الحرب امتدّت إلى دولتين مسلمتين في أفغانستان والعراق وأطاحت بنظامهما، بذريعة نشر الديمقراطية تارة وامتلاك السلاح النووي تارة أخرى.

هذا في الوقت الذي تلجأ فيه واشنطن إلى الديبلوماسية العلنية لمواجهة تشبّث كوريا الشمالية "ذات الحزب الواحد" بامتلاك السلاح النووي... كما جعل الرئيس الأميركي لحربه ضدّ الإرهاب طابعًا "تبشيريًا"، فهي بالنسبة إليه حرب "الخير ضد الشرّ" أي أن الشرّ المستَهدف هو التطرّف الذي يتحدَّر من الإسلام من دون أي تمييز بين المنظمات الإسلامية المستهدفة (معتدلة وغير معتدلة، تقاتل الغرب أو تقاتل إسرائيل، جمعيات خيرية أو حركات سياسية..).

فإذا راجعنا مجمل ما أشرنا إليه من سياسات وأفكار وحروب وتهديدات وضغوط لجأ إليها الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا ضدّ الإسلام تارة وضد المسلمين تارة أخرى، فإننا نحصل على الاستنتاجات التالية:

1-       إن تلك السياسات والحروب تتحمّل مسؤولية مباشرة في ولادة "بيئة كراهية" الغرب في البلدان الإسلامية، وأن تلك الكراهية يمكن أن تجد بسهولة مبرّرات السلوك العدواني المباشر ضدّ أي رمز غربي بشري أو ماديّ.

2-       إن كراهية الغرب ليست كراهية ثقافية فمصدرها سياسي في المقام الأول، وما يقال عن رغبة الإسلاميين في تدمير حضارة الغرب أو في الانتقام من هذه الحضارة ليس صحيحًا وليس واقعيًا.

3-       إن مستقبل الإسلام نفسه كتهديد "في المنظور الغربي" أو كشريك وندّ في الحوار "في المنظور الإسلامي"، لن ينفصل عن استمرار تلك السياسات أو عن تعديلها، ولا عن بيئة الكراهية الناجمة عنها.

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

الهوامش

*   د. طلال عتريسي مدير معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية

[1] - مارلين نصر، صورة العرب والإسلام في الكتب المدرسية الفرنسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998.

Saddek sabah, L´islam dans le discours mediatique comment les medias se representent Lislam en France?

[2] - جريدة النهار: 13/3/2004.

L´AUTRE , Bretrand Badie, Presses De Sciences Po, Paris 1996, Page: 44 -[3]

[4] - عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي، دار النهار بيروت، 2002.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية