العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

تحقيق العدد

مزارات دينية في لبنان

 إن للسياحة الدينية عموماً تأثيرها البالغ في إذكاء النفحة الروحية في نفوس المؤمنين وتقوية العلاقة بالله عز وجلّ من خلال ارتياد الأماكن التي لها ارتباط به تعالى ، إما لانتسابها إليه مباشرة كالمساجد، أو لكونها مشتملة على الأجداث الطاهرة للأولياء من الأنبياء وأوصيائهم، خصوصًا النبي الأكرم محمدًا وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، وكذا قبور العلماء والأولياء الصالحين.

وإن هذه المنطقة (الممتدة من جبل عامل إلى نواحي بعلبك) عُرفت قبل الإسلام بأنها موطن الكثير من الأنبياء - ولعلها المقصودة بقوله تعالى {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}([1])- وفي فترة ما بعد الإسلام صارت منبعًا للعلم والعلماء ، لذا انتشرت في ربوعها قبور كثير من الأنبياء والعلماء وكثرت المقامات المنسوبة إليهم .

وقد أحيطت هذه المقامات والقبور بالرعاية والاهتمام والتشييد والتجديد من قبل المؤمنين في كل جيل، وما ذلك إلا لما عرفوه عن أصحابها أو لما لمسوه من كرامات وألطاف واستجابة دعاء ببركة الاستشفاع بهم، حتى إنه يلاحظ وفرة بذل المال من النذور والأوقاف والصدقات في هذا السبيل لبعضها، ولكن مع ذلك فربّ قبرٍ لنبي أو ولي قد غلب عليه الإهمال أو غمره النسيان بسبب الظروف التي مرّت بها المنطقة من الحروب ونحوها من الأوضاع الأمنية التي تحجب الناس عن الوصول إلى هذه الأماكن لسنوات ربما، مما يتسبّب بإضاعة حقيقتها ومجهولية قيمتها. فربما يُهمل قبر نبيّ كما ربما يُنسب قبر عبد صالح إلى أنه من قبور الأنبياء كما ستأتي الإشارة لذلك.

و(رسالة النجف) كانت في الأعداد السابقة قد سلطت الأضواء على الحوزات الدينية المعاصرة بمقدار ما يوضح عملها وسيرها وهدفها، وتحاول المجلة الآن في هذا العدد وفيما يليه إن شاء الله أن تلفت إلى ما تحويه بلادنا من المقامات الدينية التاريخية وتفتح باب البحث والتحقيق عن حال أصحابها وسيرتهم ومدى صحة انتسابها إليهم لإعطاء كل حقّه وتشجيع وترشيد الاستفادة من هذه الآثار العظيمة، وكانت الخطوة الأولى هي إلقاء نظرة إحصائية وإن لم تكن شاملة دقيقة، وتعريفات وإن لم تكن وافية، لما أمكن من هذه المقامات ، فكانت البداية أن توجهنا إلى منطقة بعلبك - الهرمل.

بعلبك الهرمل، أرض أنبياء .. وفقراء

مقام في كل قرية وأضرحة تتبادل الأنوار

تزور منطقة بعلبك - الهرمل من لبنان، فلا تحتاج إلى كثير جهد لتلاحظ أن الفقر - نتيجة سياسة مديدة من الحرمان والإهمال وحتى الاضطهاد - هو من العلامات الفارقة التي تتميّز بها هذه المنطقة، وأيضًا لتلاحظ عمق الإيمان المتجذّر في نفوس أبنائها، دليلاً على مدى تعلّقهم وارتباطهم الوثيق بالديانات السماوية على مرّ العصور، حتى إن بعض كتب التاريخ تذكر أن أول أرض استقر فيها آدم بعد نزوله من الجنّة كانت أرض بعلبك، وأن بعلبك أول مدينة تُبنى على هذه الأرض إذ أن (قابيل) بعد أن قتل أخاه (هابيل) بوسوسة من الشيطان أصابه الخوف والهلع، فبنى لنفسه - طلبًا للأمان - هيكلاً في بعلبك سكنه واتخذه حصنًا ، ومن ثمّ رزق الله آدم ابنًا ثالثًا سمّاه (شيث)، وله ضريح يُنسب إليه، قائم حتى الآن في بلدة "النبي شيث" التي سمّيت باسمه.

وليس مقام النبي شيث في منطقة بعلبك - الهرمل سوى أحد الشواهد البارزة من الآثار الحية التي تؤكّد ما لهذه المنطقة من ارتباط وثيق بالديانات منذ الزمن السحيق، إذ لا تخلو قرية أو بلدة من مقام أو آثار مقام لنبيّ من الأنبياء، أو وليّ من الأولياء الصالحين، وبعض هؤلاء بلغ تعظيم الناس لهم حدًّا جعلهم يرفعونهم إلى مرتبة الأنبياء مبالغة في تقديرهم وتكريمهم.

إلا أن قلّة الدراسات التوثيقية العلمية والميدانية والاجتماعية حول هذا الموضوع أفسحت المجال واسعًا أمام التكهّنات والاستنتاجات وحتى أمام كثير من الشائعات والتقديرات الخاطئة للعامة من الناس، خاصة في تعريفهم لبعض أصحاب المقامات أو المزارات بأنهم من الأنبياء رغم أن وفاتهم حصلت منذ بضع مئات من السنين، ومردّ ذلك إلى قلّة المعرفة والتدقيق من جهة وإلى مشابهة أسماء بعض الأولياء والمتصوفين والمتعبّدين بأسماء أنبياء وردت أسماؤهم في القرآن الكريم من جهة ثانية، كإطلاق اسم النبي سليمان على مقام في بلدة "يونين"، وهو لسليمان بن مهدي اليونيني وكان أحد المتصوّفة وله زاوية قرب نبعة ماء حسب ما ورد في كتاب "مرآة الزمان" وهو المكان نفسه حيث المقام الآن، وقد عاش هذا المتصوّف في القرن السابع الهجري، وقد اتخذ هذه الزاوية بعد عمّه وكان أيضًا من المتصوفين وقد دفن الاثنان فيها، واختلط الأمر على الناس مع الزمن فاعتبر هذا المقام مقامًا للنبي سليمان الوارد ذكره في القرآن .

والأمر عينه يصدق بالنسبة لمقام المتصوّف عيسى اليونيني الذي يطلق عليه الناس اسم النبي عيسى ظنًا منهم أنه السيد المسيح (عليه السلام).

وربما يكون الحال كذلك بالنسبة لكثير من المقامات والأضرحة المنتشرة في المنطقة، والتي سوف نتعرّض لها في هذا العدد بصورة إجمالية، على أن نحاول القيام في أعداد لاحقة بمطالعةٍ ميدانية أكثر تفصيلاً لبعض هذه المقامات.

وفي مدينة بعلبك هناك مقام يُنسب للنبي نعام وله ضريح وسط بناء قديم أكثرُ زوّاره من أهالي المدينة ، ويروي العديد منهم أنهم رأوا الأنوار تنزل عليه في بعض الليالي، والنبي نعام هو كما يُعتقد ابن النبي نوح (عليه السلام) الذي له بدوره مزار في الكرك على بعد أربعين كيلومترًا من بعلبك.

وفي بعلبك أيضًا ضريح يُنسب للنبي إلياس، على مدخل المدينة الجنوبي لجهة الشرق، وهو مزار للمسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، ويروي أحد زوّار هذا المقام - حسين رعد - أن ذاكرة أبناء المنطقة من جيل إلى جيل تحفظ أن النبي إلياس المدفون هنا هو النبي إلياس نفسه الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وأرسله الله لهداية الناس بعد أن ضلّوا، وهو الذي قال لهم كما ورد في القرآن: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}([2])، وقد يكون هناك ارتباط بين (بعل) هذا وبين اسم بعلبك، مما يؤيّد كونه هو المذكور في القرآن الكريم، وأن تلك المنطقة كانت هي محطّ رِحاله ومسرح دعوته لهداية الناس.

ومن المقامات أيضًا في بعلبك مقام اليسع ويُعتقد أنه النبي ذو الكفل الوارد ذكره في القرآن الكريم، وله مقام في "الجُرد" غير مُعتنى به.

وفي محلّة البساتين قرب "دُوْرِس" هناك ضريح لأحد الأولياء الصالحين وهو عز الدين أبو حمزة المتوفى سنة 667 هجرية.

أما في بلدات وقرى بعلبك - الهرمل: فهناك مقام للنبي أسمر في بلدة (بُدْنايل) يزوره أبناؤها، وفي بلدة يونين مقامان يظنّ الناس أنهما للنبي سليمان والنبي عيسى (عليهما السلام)ن وقد أشرنا إليهما آنفًا.

وفي منطقة العين مقام يُنسب للنبي قاسم، وفي بلدة "حام" على الحدود مع سوريا مقام منسوب للنبي حام ابن النبي نوح، وفي "رسم الحدث" مقام يُنسب للنبي يوشع وهو وصي النبي موسى (عليه السلام) وقائد جيشه، وبين بلدتي "ريحا" و"شعث" مقام منسوب للنبي إسماعيل.

أما في بلدة الخريبة وجوارها فهناك روايات كثيرة عن أنبياء سكنوا المنطقة، منهم : عطريف، وسريج، وصخير، وفي بلدة "مَعْرَبون" مقام للنبي يوسف، وفي سباط مقام للنبي سباط.

والى الشرق من مدينة بعلبك أيضًا هنالك مقام قديم يُنسب للنبي صالح في بلدة بريتال، وهو على كتف التلال الشرقية للبلدة يزوره الأهالي للتبرّك، ويروي أحد زائريه - علي مظلوم - أنه رأى مثلما رأى العشرات غيره الأنوار تنزل على المقام ، ما يرجّح له أنه ضريح لأحد الأنبياء ولعله النبي صالح الوارد ذكره في القرآن الكريم والذي أرسله الله لبني ثمود.

وعلى الطريق بين "بريتال" وبلدة "حورتعلا" ضريح يزوره أهل المحلة ويعتقدون أنه لأحد الأنبياء واسمه عبد الله، ويقوم برعاية هذا المقام آل المصري، ويصلّي الأهالي فيه يوم الجمعة، بينما تقيم النساء فيه مجالس العزاء في أيام عاشوراء، وعن تاريخ إنشائه يقول عباس المصري وهو أحد أبناء المنطقة: ((منذ وعينا ونحن نعرف عن آبائنا وأجدادنا بوجود ضريح النبي عبد الله في هذا المكان، ونحن نزوره للتبرّك والصلاة)).

أما مقام النبي إسماعيل الذي تقدم ذكره، فيروي حسين مظلوم ما يتناقله الآباء عن الأجداد من أنهم يعتقدون أن النبي إسماعيل ابن النبي إبراهيم دفن هناك، ولكن بسبب مكانه البعيد نادراً ما يقوم أحد بزيارته.

وفي بلدة الخضر مقام العبد الصالح الخضر، وفي الروايات التي يتناقلها أبناء البلدة أن الخضر ليس مدفونًا في هذا المقام ولكنه مرّ في هذا المكان وأقام فيه بضع سنوات، فأخذ الناس يقصدونه للتبرك ومن ثم أصبح مزارًا للمسلمين من لبنان ومن بلدان إسلامية أخرى خاصة السودان وإيران والهند. وعن ذلك يقول المشرف عليه علي سليمان: ((إن الخضر الحي أقام هنا واتخذ هذا المكان مصلى له))([3])، ويؤكّد أنه رأى بأمّ عينه مرتين الأنوار تنزل على المقام، ومثله تؤكّد إحدى السيدات الزائرات - أم علي عودة - أنها رأت الكواكب والأنوار تهبط على هذا المقام، وأنها شاهدت في إحدى المرات ثلاثة كواكب نورانية اثنان منها سقطا عليه، بينما بقي الثالث فوقهما في السماء.

وإذا كانت تلك المقامات تمثّل جانبًا مما تزخر به المنطقة من أماكن دينية يُعتقد أن لها صلة أو علاقة بأنبياء عاشوا أو مرّوا في المنطقة، فإن هناك أيضًا المئات من الأضرحة والمقامات لأولياء وصالحين منتشرة في العديد من القرى والبلدات ، ومنها مقام العبد الصالح محمد العوسج في تمنين التحتا ، ويروي أحد أبناء المنطقة - حسين نصار - أن أباه رأى هذا المقام يتبادل الأنوار مع مقام النبي شيث ومقام النبي أيلا في بلدة النبي أيلا قرب أبلح.

ومن المقامات المعروفة أيضًا مقام أحد الضايع في حدث بعلبك، ومقام السيدة البطحاء في سرعين الفوقا ، ومقام الشيخ محمد البابا في نحلة، ومقام لحفصة بنت الصحابي معاذ بن جبل في حيّ الشراونة في بعلبك، ومقام آخر للسيد علوان وهو من آل مرتضى اشتهر بأنه من أصحاب الكرامات .

وختامًا فإن هذه الجولة السريعة على هذه المجموعة من المقامات والتي لم تستوعب كل ما في هذه المنطقة المذكورة تُظهر مدى الحاجة إلى البحث والتحقيق والتمحيص لمعرفة القيمة التاريخية والدينية لما يمكن الوصول إليه منها ، وبالتالي لإعطاء كلّ منها ما يستحقّه من الاهتمام به والترويج له، ولفتِ أنظار المؤمنين إليه حتى لا يفوتهم الانتفاع منه.

ونحن في رسالة النجف نسأل الله تعالى أن يكون لنا دور في ذلك في جملة من الأعداد التالية.

ــــــــــــــــــــــ

الهوامش

[1] - سورة الإسراء من الآية 1.

[2] - سورة الصافات الآية 125.

[3] - هنالك اختلاف في وجهات النظر في كون الخضر (عليه السلام) نبيًا أو وليًا من أولياء الله.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس    أرشيف المجلة     الرئيسية