العدد السادس / 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال - مبيت علي (ع) على فراش النبي (ص)

بات عليّ على فراش النبي في تلك الليلة، فلما جاء القوم الذين تمالؤوا على قتل النبي، وبأيديهم السيوف يرصدون طلوع الفجر، ليقتلوه جهارًا،على مرأى من بني هاشم، فيذهب دمه هدرًا، "وأتاهم آتٍ، فقال للملأ: ماذا تنتظرون؟ قالوا محمدًا (صلى الله عليه وآله)، قال: خيّبكم الله، لقد خرج عليكم ولم يترك أحدًا منكم إلا وجعل على رأسه التراب، فوضع الملأ أيديهم على رؤوسهم، فرأوا التراب، وجعلوا ينظرون، فيرون عليًا نائمًا، وعليه بُرد النبي، فيقولون إن محمدًا لنائم، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام من الفراش، فعرفوه، فلما سألوه عن النبي، قال: لا أدري، أمرتموه بالخروج فخرج"([1]).

يا للتضحية والفداء، ويا لعلي، ما كان أشجعه، وأثبت جنانه، وأصدقَ إيمانه! ويا لهذه المنقبة الني لم يشركه فيها - وبحسب تعبير الشيخ المفيد - أحد من أهل الإسلام، ولا اختص بنظير لها على حال، ولا مقارب لها في الفضل بصحيح الاعتبار([2]).

منقبة لعلي ما كان أعظمها وأشرفها، كيف وقد وهب الإمام نفسه لله، وشراها من الله، وبذلها دون النبي، طاعةً له ولله، طمعًا في الفوز برضى الله، وذودًا عن رسول الله، وحرصًا على تثبيت دعائم دين الله، وإظهار شريعة الله.. منقبة ما كان الله إلا لينوّه بها في محكم كتابه العزيز، فها هو الوحي يتنزّل على النبي، وهو في الطريق من مكة إلى المدينة، من بعد أن مكث قليلاً في غار ثورٍ، بعيدًا عن عيون المشركين، ها هو الوحي يتنزّل عليه خاصًا عليًا بالآية التي تقول {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}([3])، شرفًا ما بعده شرف، وفضيلة ليس يعدلها فضيلة، تقول الرواية التي تحدّثت عن أسباب نزول هذه الآية الشريفة أن عليًا لما نام على فراش النبي، قام جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل ينادي: بخٍ، بخٍ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله بك الملائكة!؟ ([4]).

وفي تفسير الرازي أن عليًا لما بات على فراش النبي، والمشركون يحيطون به من كل جانب ظنًا منهم أنه النبي، كان الله سبحانه، يواخي بين جبرائيل وميكائيل، قائلاً: (إني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد (صلى الله عليه وآله)، فبات على فراشه ليفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة.. اهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوّه.. فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل ينادي: بخٍ بخٍ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله تعالى الآية الآنفة الذكر([5])، وهكذا تمت كلمة ربك، وليحقّ الحق بكلماته ولو كره الكافرون.

وبخصوص هذه المنقبة التي لا يُدرَكُ علو مقامها وعظيم شأنها، فما أحسن أن نشير إلى ما أورده الشريف المرتضى في فصوله المختارة من عيون ومحاسن كلام الشيخ المفيد رحمه الله، وكان الشيخ قد أفرد بحثًا قابل فيه بين تعبّد إسماعيل النبي بالصبر على ذبح أبيه إبراهيم له، ثم مدحه بذلك وتعظيمه له بالقول {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}([6])، وبين تعبّد أمير المؤمنين علي بالمبيت على فراش النبي إذعانًا لأمر رسول الله ولأمر أبيه أبي طالب، يقابل الشيخ المفيد رحمه الله، بين التعبّدين فيرى أن محنة أمير المؤمنين أعظم من محنة إسماعيل، وأن الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين يرجح على كل فضيلة، ذلك أن إبراهيم قال لابنه إسماعيل {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}([7]).

استسلم إسماعيل لهذه المحنة مع علمه بإشفاق الأب على ابنه، وظنّه أن المقال خرج معه مخرج الامتحان له في الطاعة، دون تحقق العزم على إيقاع الفعل، فيزول كثير من الخوف معه، وترجى السلامة عنده، فيما عليّ (عليه السلام)، كان يعلم أن قريشًا أغلظ الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأقساهم قلبًا([8]).

وأيًا يكن، وبعيدًا عن مناقشة هذا الرأي، فذلكم هو مبيت الإمام علي على فراش النبي، كان ذلك في أخريات أيام إقامة النبي بمكة، وتحديدًا في شهر ربيع الأول من السنة التي كانت فيها الهجرة.. وذلكم هو إمامكم الذي قدّم أروع أمثلة الفداء والتضحية، في الذود بالنفس عن النبي، والذبّ عنه، في جميع المواقف والمشاهد، كيف وهو الذي ما عُرف عنه قطّ أنه نكص عن الامتثال لأمرٍ من أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يشهد على ذلك العدوّ والصديق، أليس هو القائل: "ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدةً أكرمني الله بها، ولقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله (صلى الله عليه وآله) والملائكة أعواني، فضجّت الدار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم، يصلّون عليه حتى واريناه في ضريحه"([9]).

فالصلاة والسلام على النبي، وعلى أمير المؤمنين علي، وعلى آل النبي، وبورك ثرىً ضمّ فراش النبي، ومن بات تلك الليلة على فراش النبي.

انتهى

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - انظر: الكامل: 2/4 ؛ وانظر السيرة: 1/485.

[2] - الإرشاد: 1/53

[3] - سورة البقرة:207.

[4] - انظر: مجمع البيان، الطبرسي: 2/174؛ وانظر حديث مبيت علي على فراش النبي في المصادر التالية: التفسير الكبير للفخر الرازي: 15/155 ؛ ومسند أحمد: 1/348 ؛ والمستدرك على الصحيحين: 3/4 ؛ وأسد الغابة: 4/19 ؛ وتاريخ اليعقوبي: 2/39 ؛ وتاريخ بغداد: 13/191.

[5] - تفسير الرازي: 2/189.

[6] - سورة الصافات:106.

[7] - سورة الصافات:102.

[8] - انظر: الفصول المختارة: 2/61.

[9] - نهج البلاغة: 1/97.

مصادر البحث ومراجعه

- مجمع البيان للطبرسي، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1961.

- السيرة النبوية لابن هشام، دار الكنوز الأدبية، بيروت.

- نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمد عبده، دار المعرفة، بيروت.

- الفصول المختارة للسيد المرتضى، دار المفيد، ط2، بيروت، 1993.

- التنبيه والإشراف للمسعودي، دار صعب، بيروت.

- الكامل في التاريخ لابن الأثير، دار الكتب العلمية، ط3، بيروت، 1998.

- الإرشاد للشيخ المفيد، دار المفيد، ط2، بيروت، 1993.

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس    أرشيف المجلة     الرئيسية