العدد السادس / 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال - إطلالة على كتاب الكافي

دعوى صحة جميع ما في الكافي

ادعى جماعة أن جميع ما في الكافي صحيح معتبرٌ، ولا حاجة إلى البحث عن سند رواياته، وهذا الكلام لم يصدر عن جملة من الأخباريين فقط -الذين عُرفوا بنظرتهم الخاصة تجاه الكتب الأربعة بل جميع الكتب المشهورة- وإنما نُقل ذلك عن بعض كبار الأصوليين، فقد نقل السيد الخوئي " قدس سره" (ت 1413هـ) عن أستاذه الشيخ محمد حسين النائيني "قدس سره"(ت 1355هـ)،أنه كان يقول في مجلس بحثه: ((إن المناقشة في إسناد روايات الكافي حِرفة العاجز)) ([1]).

وقد استدل أصحاب هذه الدعوى بعدّة وجوه، أهمها:

( أ ) ما قاله الشيخ الكليني نفسه في خطبة الكافي: ((وأما بعد فقد فهمت يا أخي ما شكوت... وذكرت أن أمورًا قد أشكلت عليك، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها.. وقلت إنك تحبّ أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّى فرض الله عز وجل، وسنّة نبيه صلى الله عليه وآله... وقد يسّر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت..)) ([2]).

ووجه الاستدلال بهذه الفقرة أن السائل طلب من الشيخ الكليني أن يكتب كتابًا يكون جامعًا لفنون علم الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام)، والشيخ الكليني قد استجاب لطلبه ومراده.

والذي يظهر من كلام الشيخ الكليني هذا، أنه كتبه بعد إتمام كتابه ((وقد يسّر الله تأليف ما سألت))، وهذا يعني أن جميع ما أودعه في كتابه هو من الآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام).

أقول: إن دعوى أن الكليني قال هذا الكلام بعد تأليفه الكتاب ليست بعيدة، بل في العبارة المتقدّمة وغيرها أكثر من دليل عليها.

وأما أن الكليني شهد بصحة جميع ما أودعه في كتابه وأنها عن الصادقين (عليهم السلام) فهذا لا يمكن الموافقة عليه، وذلك لأمور:

أولاً: ((إن السائل إنما سأل محمد بن يعقوب تأليف كتاب مشتمل على الآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) ولم يشترط عليه أن لا يذكر فيه غير الرواية الصحيحة، أو ما صحّ عن غير الصادقين (عليهم السلام)، ومحمد بن يعقوب قد أعطاه ما سأله، فكتب كتابً مشتملاً على الآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) في جميع فنون علم الدين، وإن اشتمل كتابه على غير الآثار الصحيحة منهم (عليهم السلام)، أو الصحيحة عن غيرهم أيضًا استطرادًا وتتميمًا للفائدة، إذ لعل الناظر يستنبط صحة رواية لم تصح عند المؤلف، أو لم تثبت صحتها. ويشهد على ما ذكرناه: أن محمد بن يعقوب روى كثيرًا في الكافي عن غير المعصومين)) ([3])كما هو واضح لمن راجع الكتاب، خصوصًا الجزء الأول، ولولا خوف الإطالة، لذكرت تلك الموارد كافة.

ثانيًا: على فرض اعتقاد الشيخ الكليني بصحة جميع روايات كتابه، فإنه لا ينفع الجميع، وذلك للاختلاف في معنى الصحيح بين المتقدمين والمتأخرين، فإن الصحيح عند القدماء هو الخبر المحفوف بالقرائن التي تفيد الوثوق بصدوره عن المعصوم (عليه السلام)، بينما عند مشهور المتأخرين هو الخبر الذي رواه العدل الإمامي عن مثله إلى المعصوم (عليه السلام).

وهذه القرائن التي قد يستفيد منها البعض الوثوق، لو اطّلع عليها غيره قد لا يستفيد منها ذلك، لأن مثل هذه الأمور مبنية على الاجتهاد والحدس ليصل إلى ما يعتقده قرينة على صدقه، ومن الطبيعي جدًا أن قرينة أو قرائن استفاد منها شخص العلم واليقين عندما اطلع عليها لم تفده الظن فضلاً عن العلم.

ثالثًا: إن كتاب الكافي قد اشتمل على عدد ملحوظ من الروايات المرسلة والشاذة ومن في سندها من صرّح علماء الرجال والجرح والتعديل بأنه من الكذابين الوضاعين، ومن الصعوبة بمكان أن يتم التوفيق بين تلك الدعوى وبين هذا.

رابعًا:  إن قدماء الأصحاب الذين عاصروا الكليني وما بعده، وممن مدح الكافي ومؤلِّفه بما لا مزيد عليه لم يتعاملوا معه على أساس صحة جميع ما فيه، بل وجدناهم يناقشون أسانيده ورواياته كغيره من الكتب، فيقبلون ما يَرَونه صحيحًا ويردّون ما لا يتوافق مع اعتقادهم، ولم يعمل أحد منهم بروايات الكافي كيفما كان، أو يجعل وجود رواية في الكافي مقدمة على غيرها عند التعارض مع رواية أخرى في غيره.

( ب ) كون المؤلف الشيخ الكليني في عصر الغيبة الصغرى، وأول من أشار إلى ذلك - حسب علمي - هو السيد علي بن طاووس (ت664هـ) في كتابه كشف المحجة، عند ذكره لوصية الإمام أمير المؤمنين إلى ولده الإمام الحسن (عليهما السلام)، فقد قال: ((... وهذا الشيخ محمد بن يعقوب كان حيًا في زمن وكلاء المهدي عليه السلام.. عثمان بن سعيد العمري، وولده أبي جعفر محمد، وأبي القاسم الحسين روح، وعلي بن محمد السمري... فتصانيف هذا الشيخ محمد بن يعقوب ورواياته في زمن الوكلاء المذكورين في وقت تجد طريقًا إلى تحقيق منقولاته، وتصديق مصنفاته)) ([4]).

وقال الشيخ المجلسي في شرحه على الكتاب: ((... وأما جزم بعض المجازفين بكون جميع الكافي معروضًا على القائم عليه السلام لكونه في بلدة السفراء، فلا يخفى ما فيه على ذي لبّ، نعم عدم إنكار القائم وآبائه (صلوات الله عليه وعليهم)  عليه وعلى أمثاله في تأليفاتهم ورواياتهم مما يورث الظن المتاخم للعلم بكونهم عليهم السلام راضين بفعلهم، ومجوزين للعمل بأخبارهم)) ([5]).

ونقل الميرزا الأفندي عن الشيخ خليل بن الغازي القزويني أنه كان يقول: ((إن كتاب الكافي بأجمعه قد شاهده الصاحب عليه السلام واستحسنه، وأن كل ما وقع فيه بلفظ "روي" فهو مروي عن الصاحب عليه السلام بلا واسطة، وأن جميع أخباره حق واجب العمل بها، حتى أنه ليس فيه خبر للتقية ونحوها...)) ([6]).

وقد نقل بعضهم شيئًا من هذه العبارات وأيدها.

وهناك كلمات أخرى في هذا السياق مفادها: أن الأصحاب كانوا يعرضون الكتب على الأئمة (عليهم السلام) وعلى نوابهم لكي يتثبتوا من صحتها مع أنها ليست بأهمية الكافي، فهل من المتوقع أن كتابًا بهذه الأهمية يمضي مؤلفه عشرين سنة من عمره في تأليفه([7])ثم لا يعرض على الإمام، ولو بواسطة أحد النواب؟ بل وصل الأمر ببعضهم فنسب ذلك إليه صراحة، وأنه بالفعل اطلع (عليه السلام) على كتاب الكافي، فقال، أو كتب على ظهر النسخة التي عرضت عليه: ((هذا كافٍ لشيعتنا)) ([8]).

والبعض قاس طلب النائب الثالث الحسين بن روح لكتاب محمد بن علي الشلمغاني المعروف بكتاب "التكليف" لكي ينظر فيه مع أنه ليس بمستوى أهمية الكافي، فكيف لا يطلب الكافي لنفس الغرض؟!([9]).

وهذه الدعاوى لو قام عليها دليل أو برهان لكنّا في غاية السرور والسعادة، وفي راحة من كثير العناء والبحث، ولكن أنى إلى ذلك من سبيل؟!

ويمكن أن يجاب عن ذلك كله بعدة أمور:

أولاً: إثبات أن الشيخ الكليني كان مقيمًا ببغداد أثناء تأليفه الكافي، هو أوّل الكلام، ولا طريق لإثبات ذلك ببرهان، بل ظاهر عبارات الأصحاب خلاف ذلك، قال النجاشي في ترجمة الكليني: ((... شيخ أصحابنا في وقتنا بالريّ ووجههم)) ([10]).

والنجاشي هو ابن مدرسة بغداد وأعلم بما فيها، فلو كان فترة تأليفه الكافي ببغداد فلا وجه لكلامه هذا، لأن تلك الفترة من حياته والتي كتب فيها الكافي وامتدت إلى عشرين سنة كما تقدم آنفًا، هي ذروة تكالمه العلمي([11]).

نعم، هذا لا يعني أنه لم يدخل بغداد البتّة، أو لم يزرها في رحلاته العلمية وسفراته في البلدان، فمن الطبيعي أن يمرّ على بغداد ويلتقي علماءها، ويأخذ عنهم الرواية وغير ذلك، ولكن أين هذا من المدعى؟!

وكل ما هو ثابت جزمًا أنه كان في بغداد قبل وفاته بسنتين أي 327 هجرية، وفي تلك السنة سمع منه الأصحاب([12])، وتوفي ودفن ببغداد.

وإذا تم هذا - وهو تام - فيكون قد فرغ من تأليفه الكافي في الريّ، ومن المستبعد أن لا يكون قد حدّث به هناك واستنسخه الأصحاب، خصوصًا بعد ملاحظة أن عددًا من علماء الري وأهل تلك البلاد قد رووا الكافي عن مؤلِّفه، وهذا واضح من طريق الشيخ الصدوق إليه في مشيخة "من لا يحضره الفقيه"([13]). وبعد ذلك أي فائدة مرجوّة من عرض الكتاب على الإمام بعد نشره في الري وغيرها؟!

ثانيًا: لو كان قد خالط السفراء أو بعضهم كما زعموا لكان أكثَرَ الرواية عنهم، والاعتماد عليهم، خصوصًا في الأبواب المتعلقة بالإمام (عليه السلام) والتي تجاوزت رواياتها الخمسين، مع أنه لم يخرج رواية واحدة مباشرة عن أحدهم، وما ذكره عنهم قليل جدًا لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وجميعها بواسطة أو أكثر عن بعضهم([14]).

ثالثًا: لو كان الكتاب قد عُرض على الإمام (عليه السلام) أو أحد نوابه بواسطة المؤلف أو أحد تلامذته، لشاع هذا الأمر في عصره ومصره على أقل تقدير، ولأثبته الأصحاب كما أثبتوا غيره من الكتب التي عرضت على بعض الأئمة، ولذكر ذلك من ترجم للشيخ الكليني، مع ذكرهم لبعض الأمور التي لا ترقى إلى مستوى هذا الموضوع، وعلى الأقل لذكرها الكليني نفسه في خطبة كتابه، أو لأشار إليها وقد تقدم أن خطبة الكتاب كتبها بعد تأليفه له.

رابعًا: إن مقولة (هذا كاف لشيعتنا) رفضها محققو العلماء، حتى متشددو الأخباريين لم يقبلوا بها مع تصريحهم بقطعية جميع ما في الكافي([15])، فكيف بغيرهم؟!

خامسًا: إن قياس عرض كتاب الشلمغاني على كتاب الكليني في غير محله، وقياس مع الفارق، لأن الداعي إلى الأول هو انحرافه بعد استقامته وخروج اللعن عليه والبراءة منه من الناحية المقدسة، وكان كتابه مشهورًا في الطائفة فكانت الحكمة والمسؤولية تقضي على الحسين بن روح أن يقوم بطلب الكتاب والنظر فيه، وأين هذا من كتاب الكافي الذي كان مؤلِّفه فوق الشبهات.

سادسًا: يمكن أن يستفاد من كلام الشيخ الكليني نفسه في خطبة الكتاب أنه رحمه الله لم يكن قائلاً بصحة جميع روايات الكافي، فقد قال: (( فاعلم يا أخي -أرشدك الله - أنه لا يسع أحدًا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه، إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام: "اعرضوها على كتاب الله، فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه"، وقوله عليه السلام: " دعوا ما وافق القوم، فإن الرشد في خلافهم"، وقوله عليه السلام: "خذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه"، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله، ولا نجد شيئًا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام، وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله عليه السلام: "بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم"))([16]).

وأخيرًا فإن المنع من دعوى صحة جميع ما في الكافي لا ينقص من قيمة الكافي شيئًا، ولا يضع من رفعته قدرًا، لأنه إن قيل عنه هذا فلا يعني أن غيره سالم من الطعن، أو بريء من الانتقاد، أو فوق الشبهات، وما هو كذلك ليس إلا كتاب ربّ الأرباب عز وجل أو من عصمه الله عن الزلل والخطأ.

ثم إن هناك أبحاثًا أخرى مهمة تتعلق بهذا الكتاب، وله ميزات فريدة تستحق البيان، وحوله شبهات حاكها بعض من لا إنصاف لديه من العامة ينبغي التصدي لردّها، وقد فندّت بعضها في بحث مستقل نشر في العدد الثاني من السنة الأولى من هذه المجلة الغرّاء.

انتهى المقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  - معجم رجال الحديث: 1/81.

[2]  - الكافي: 1/5-8.

[3]  - معجم رجال الحديث: 1/82.

[4]  - كشف المحجة لثمرة المهجة: ص220.

[5]  - مرآة العقول: 1/22.

[6]  - رياض العلماء وحياض الفضلاء: 2/261

[7]  - رجال النجاشي: ص377، رقم 1026.

[8]  - لاحظ ترتيب أسانيد الكافي للسيد البروجردي: ص110.

[9]  - لاحظ خاتمة مستدرك الوسائل: 3/473.

[10]  - رجال النجاشي: ص377، رقم 1026.

[11]  - لاحظ بحوث حول روايات الكافي: ص13-14؛ وترتيب أسانيد الكافي: ص110.

[12]  - راجع مشيخة الشيخ الطوسي عند ذكره لطريق الشيخ الكليني، التهذيب: 10/29 ؛ والاستبصار: 4/310.

[13]  - من لا يحضره الفقيه: 4/534.

[14]  - لاحظ الكافي: ج1 كتب الحجة باب: 77-78-126.

[15]  - لاحظ خاتمة مستدرك الوسائل: 3/470.

[16]  - الكافي: 1/8-9.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس    أرشيف المجلة     الرئيسية