العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

التنمية الإنسانية

رؤية للتكامل على ضوء القرآن والفكر الإسلامي

الشيخ محمد حسن زراقط*

تمهيد حول المصطلح:

لا شك في أن مفهوم التنمية من المفاهيم الأساسية التي راج استخدامها في القرن العشرين، وما يؤشر على مركزية هذا المفهوم في العقل الإنساني المعاصر أن كوكب الأرض قسِّم بوحي منه إلى دول جاوزت طور النمو وأخرى في حال النمو، وبعيدًا عن القبول بهذا التصنيف أو رفضه، لا بدّ بادئ ذي بدء من التساؤل حول مفهوم التنمية بوصفه مصطلحًا مركزيًا من مصطلحات علوم عدة أبرزها الاقتصاد والاجتماع، لندلف بعد ذلك إلى البحث عن موقف الإسلام من مداليله ومؤدياته قبولاً أو رفضًا أو تعديلاً.

التنمية البشرية:

من الواضح أن مفهوم التنمية لم يُستخدم كمفردة يتيمة مبتورة الصلة بشيء آخر؛ لأن التنمية تتضمن تساؤلاً عن المتعلق لهذه التنمية؛ ولذلك غالبًا ما استخدم هذا المصطلح مع لاحقة البشرية أو الإنسانية كما سيأتي، وهو محل كلامنا في هذه المقالة.

ذكروا أن مصطلح التنمية في علم الاقتصاد ظهر لأول مرة في كتابات المفكر الاقتصادي البريطاني المعروف (آدم سميث) في الربع الأخير من القرن الثامن عشر. ولكنه لم يتحوّل إلى مفهوم مركزي يكثُر تداوله إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وربما كان السبب الذي دعا إلى رواج هذا المصطلح في تلك الفترة هو الآثار التي تركتها الحرب على الجماعة البشرية بأسرها، وما لحق بها من ويلات أدّت إلى تغيّر الخارطة السياسية للعالم كما الخارطة الاجتماعية والاقتصادية، فانقسمت هذه الجماعات بعد الحرب إلى قسمين دول زالت بالمعنى السياسي كألمانيا ومن شاركها، ودول أخرى صمدت ولكن الحرب تركت بصماتها المؤلمة على تركيبتها الاجتماعية، الأمر الذي دعا العلماء والمصلحين إلى طرح محاولات لعلاج الواقع المرير. والمصطلح الرديف في اللغة الإنكليزية هو (human development) وكان يقصد به عند بداية استخدامه: "عملية إحداث مجموعة من التغييرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده."([1]).

وعلى أي حال، فقد اكتسب هذا المفهوم مشروعية على المستوى الذهني، بل سلطة ربما تتجاوز حدود المعرفة إلى السياسة بعد تبنّيه من قبل الأمم المتحدة، وبالرجوع إلى هذا المصدر نجد أن مفهوم التنمية يشتمل على تركيبة من المفاهيم أهمها:

1-     تكوين القدرات البشرية مثل تحسين الصحة وتطوير المعرفة والمهارات.

2-     استخدام البشر لهذه القدرات في الاستمتاع أو الإنتاج.

3-     مستوى الرفاه البشري المحقق.

ورغم بعض التحفظات التي تُثار من هنا وهناك حول النوايا الكامنة وراء تقارير التنمية التي تتحفنا بها الأمم المتحدة بين عام وآخر والتوظيف بل الاستغلال السياسي السيّئ لها أحيانًا، فإن رواج هذا المفهوم واستخدامه يُعدّ من مكتسبات الحضارة الإنسانية في هذا القرن والقرن الذي سبقه، وأصرّ على كلمة الرواج والإستخدام وليس التأسيس؛ لأن الرغبة في النمو والتطور أمر فطري أودعه الله في خلقه منذ أن خلقهم.

وبعد هذا التمهيد أود البحث عن وجهة نظر الدين الإسلامي من المفاهيم المذكورة أعلاه لنلاحظ مدى انسجام هذه العناصر مع الرؤى الدينية أو القيود والضوابط التي يقدِّمها الدين لعملية التنمية.

موقف الإسلام من تكوين القدرات البشرية:

إن أدنى اطلاع على الفكر الإسلامي يؤكّد الحقيقة القائلة بأن: الإنسان المسلم مدعو دائمًا إلى تنمية قدراته وتكوين مهاراته في شتى المجالات، بحيث لا مجازفة بالقول: إن الإسلام لم يحرّم على المسلم دخول باب يمكِّنه من تنمية الطاقات التي تحسِّن من مستواه، من خلال ما يأتي:

1- الحضّ على العلم: في الميادين العلمية كافة، ولا نجد أن الإسلام حرّم شيئًا يصدق عليه وصف العلم، فندب المسلم إلى العلم ولو في الصين كما في الحديث الشريف، وجعله فريضة على كل مسلم كما في حديث آخر، وأخبر عن أن الملائكة تضع أجنحتها تحت أقدام طالب العلم رضا به كما في حديث ثالث، وهكذا تمتد سلسلة الأحاديث التي تمجّد العلم والعلماء إلى ما يدلّ على أن العلم ربما يكون من أهم ما يُعبَد الله به، حتى أنه جعله وسيلة صالحة للعبادة في ليالي القدر, ولم يحرّم الإسلام إلا بعض "العلوم" كالسحر وما يرتبط به مثل التنجيم ببعض معانيه، وتحضير الجن والأرواح وما شابه، ولكن التدقيق في حقيقة هذه الأمور - في نظري - يُدخلها في باب الخرافة ويُخرجها من دائرة العلم، وبالتالي يكون هدف الإسلام من تحريم هذه الأمور هو الحفاظ على الروح العلمية لدى الفرد المسلم لكي لا تُمسخ بالخرافات التي هي في الواقع لا تمت إلى العلم بصلة.

2- سَدّ الباب بوجه التحجّر والتعصّب:

من لوازم فتح الإسلام لِباب العلم في وجه المسلمين، إطلاق العنان للطاقات الخلاّقة في الأمة الإسلامية وعدم السماح لها بتقليد الماضين من العلماء مهما علا كعبهم في العلم، ومهما بلغ شأوهم فيه. ويؤكد هذه الحقيقة في نظرة الإسلام إلى العلم أمور منها:

أ- فتح باب الاجتهاد: لرواده من العلماء وعدم السماح لهم بتقليد الماضين من أساتذتهم، وربما كانت هذه الروحية مستمدة من عدم السماح للمسلم ببناء عقيدته على التقليد بل ذمّ الله سبحانه المقلِّدين للآباء في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}([2])

ب- الإيمان بمذهب التخطئة: عرف الفقه الإسلامي تيارين: أحدهما يؤمن بأن العالم المجتهد عندما يبحث عن حكم الله في أمر فهو دائمًا مصيب، وما يحكم به فهو حكم الله ولذلك سمّيَ هذا الاتجاه بالتصويب. وفي مقابل هذا التيار تيار آخر يؤمن بأن المجتهد يبذل جهده للوصول إلى حكم الله ولكنه لا يصل إليه بالضرورة فقد يصيبه وقد يخطئه؛ ولذلك سمّيَ هذا الاتجاه بتيار التخطئة وأصحابه بالمخطّئة، والفقه الشيعي يتبنى هذا الموقف. وبعيداً عن النقاش الدائر بين الفقهاء حول الصحيح من هذين الموقفين، فإن ما يهمني في هذه المقالة هو الأثر النفسي لكل منهما، فمن يعتقد بالتخطئة يحتمل الخطأ في من سبقه من العلماء ولذلك يسعى دائمًا لتفحّص أدلتهم للوصول إلى ما وصلوا إليه، أو لبيان خطئهم في ما مالوا إليه من رأي. وأما الإيمان بالتصويب فإنه لا شك يترك أثره النفسي على العالم فما دام يعتقد أن العالِم الذي سبقه مصيب لحكم الله فلماذا يبحث عن حكم جديد مصيب أيضًا فقد كفاه الماضون مؤونة الطلب؟

وهذان الأمران المشار إليهما آنفا يؤمِّنان تنمية المواهب العلمية وتنمية العلم نفسه على صعيدين: الأول يغلب عليه تنمية الجانب الكمّي من العلم، والثاني يغلب عليه تنمية البعد النوعي من العلم.

الحضّ على تنمية مهارات الكسب:

إذا كان مصطلح العلم ينصرف غالبًا إلى الدراسة والتعلم في الكتاب فإن نوعًا آخر من التعلم اهتم به الإسلام وهو تعلم مهارات الكسب ومهارات العيش، فلم يقبل الإسلام للمسلم أن يكون عالة على غيره في حياته, وذلك من خلال حضّه على طلب الرزق والسعي في سبيله، بل واعتباره هذا الأمر من العبادات التي تقرب من الجهاد في سبيل الله سبحانه، فقد ورد في المأثور عن النبي وأهل بيته عليهم السلام روايات عدة في هذا المجال نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

أ‌-        عن رسول الله (ص): "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"([3])

ب‌-    وعن أبي جعفر(ع): "من طلب الدنيا استعفافًا عن الناس وسعيًا على أهله وتعطفًا على جاره، لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر."([4])

ت‌-    وعن الإمام الكاظم (ع): "من طلب الرزق ليعود به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله..."([5]) إلى غير ذلك من الروايات التي التزم الفقهاء بمضمونها في مقام الفتوى، وأفتى بعضهم بوجوب بعض المهن والحِرَف التي تتوقف عليها حياة الناس، بل حرّم بعض الفقهاء أخذ الأجرة على هذا النوع من الأعمال لأنها حق للمجتمع في رقبة أفراده.([6])

موقف الإسلام من استخدام البشر لقدراتهم في الاستمتاع أو الإنتاج

 المنع عن احتكار المواد الأولية:

في الفقه الإسلامي مقولة تستحق التوقف عندها وهي مقولة المنع من احتكار المواد الأولية التي تمثّل عماداً لأي عملية إنتاجية، وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى أمرين هما: قضية الأراضي المعروفة بالأراضي الخراجية، والثاني قضية منع الماء والكلأ وسوف أحاول الإشارة إلى الأمرين في استعراض سريع:

أ‌-        الأراضي الخراجية: بعد أن فتح المسلمون أرض العراق والشام وغيرها ودخلت هذه البلاد الواسعة تحت سيطرتهم طُرحت مسألة اقتصادية مهمة على العقل الفقهي الإسلامي وهي: كيف ينبغي التعامل مع هذه الأرض، هل توزع على المقاتلين كغيرها من الغنائم أم تعامل معاملة أخرى؟ وهنا حاول بعض الصحابة الحصول على حصة من هذا المغنم وكادت توزّع بهذا الشكل الأمر الذي كان سوف يولد طبقة إقطاعية تتحكم برقاب الناس وتحولّهم إلى عبيد في صورة عمال، ولكن حكمة الإمام علي (ع) حالت دون ذلك واتفق الرأي على أن تبقى هذه الأرض مِلكًا للمسلمين والدولة الإسلامية. وما زال هذا الرأي هو المعمول به في الفقه الإسلامي إلى يومنا هذا عند عدد كبير من الفقهاء، فهذا هو السيد السيستاني يقول: "لا يجوز بيع رقبة الأرض الخراجية. و هي: الأرض المفتوحة عنوة العامرة ـ لا بالأصالة ـ حين الفتح، فإنها ملك للمسلمين من وُجد و من يوجد..."([7]) وبذلك منع الإسلام من تشكّل طبقة إقطاعية تحتكر أهم عمود من أعمدة الإنتاج وهو الأرض، وبخاصة في ذلك الزمان الذي كانت الزراعة -وما زالت- تمثل ركنًا أساسًا من أركان العملية الاقتصادية.

 منع فضل الماء والكلأ: وردت في الفقه الإسلامي عدة من الروايات تتحدث عن سيرة النبي (ص) في القضاء، ومنها ما ورد في منع فضل الماء، وقد رُويت هذه الروايات عند السنّة والشيعة، فمن طريق الإمامية ورد: عن ‏عقبة بن خالد عن الصادق(ع) أنه قال: "و قضى بين أهل البادية أنه لا يُمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر و لا ضرار"([8]) وقد ورد في كتب أهل السنّة عن أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت: "...وقضاؤه بعدم منع فضل الماء ليمنع فضل كلأ..."([9])

يتبع =

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير تحرير مجلة الحياة الطيبة

[1] - نصر عارف، مفهوم التنمية مقالة منشورة على موقع إسلام أون لاين، ورابط الصفحة هو:

http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/mafaheem-2.asp

وليس هذا التعريف محل وفاق بين الباحثين بل ليس مصطلح التنمية البشرية مقبولاً عند الجميع؛ حيث إن آخرين يفضّلون استخدام لاحقة الإنسانية محل البشرية.

نادر فرجاني، التنمية الإنسانية واكتساب المعرفة المتقدمة في البلدان الغربية، موقع مركز المشكاة للبحث، مصر. ورابط الصفحة هو:

http://www.almishkat.org/arbdoc99/ar-humdev/ar-humdev01.html1

[2] - سورة البقرة: الآية 170.

[3] - الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، طبعة مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الجزء 17، ص 21.

 [4] - المصدر نفسه، ص 21.

[5] - المصدر نفسه، ص21.

[6] - للاطلاع على تفاصيل الآراء في هذه المسألة راجع: الشيخ مرتضى الأنصاري، كتاب المكاسب، طبعة مؤسسة النعمان، بيروت، 1990م.، ج 1، ص 174 وما بعدها.

[7] - السيد علي السيستاني، منهاج الصالحين، ص قسم المعاملات، ص 40، المسألة 104.

[8] - وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 17، باب 7 من أبواب إحياء الموات، ح2.

[9] - مسند احمد، ج‏1، ص‏313، ج‏5، ص‏327.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية