العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

دعاء الفرج

السيد جعفر الحيدري*

إن هذا البحث الذي أقدّمه بين أيديكم يرتبط بأحد أهمّ الأدعية الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، والذي يُعرف بدعاء الفرَج للإمام المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرَجَه الشريف وجعلنا من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمستشهدين بين يديه صلوات الله وسلامه عليه..

وقد نقلَ الراوي لهذا الدّعاء الشريف عن أهل البيت (عليهم السلام) بأنه مما يُدعى به في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك، وهي المظنون كونها ليلة القدر في أكثر الروايات، بل صريح بعضها.

وبحسب تعبير الرواية الشريفة عن محمد بن عيسى بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام)، قال:

(تكرر في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان هذا الدعاء ساجدًا وقائمًا وقاعدًا، وعلى كل حال، وفي الشهر كله، وكيف أمكنك، ومتى حضرك من دهرك، تقول بعد تحميد الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي "صلى الله عليه وآله": اللهم كن لوليك... الخ).

إذن فالدعاء - على اختصاره - هو من الأدعية المهمّة جدًا، والذي يُدعى به في ليلةٍ هي أهمّ وأفضل ليالي السنة، وفي شهر هو خير شهورها، بل يُدعى به في كل حال ومتى حضرك من دهرك.. كلّ ذلك لأهميّته العظيمة وفائدته الجليلة كما يستفاد من الرواية الشريفة المنقولة في عيون الكتب، وهو المستفاد أيضًا من سيرة علماء الإماميّة ومتشرّعيهم على امتداد الزمان..

وهذا إن دلّ عن شيء فهو يدلّ على الاهتمام البالغ والشديد بهذا الدعاء الشريف وبمضامينه العظيمة بلا شك.

ولستُ في هذا البحث بصدد التركيز على أهمية هذا الدعاء أو على المعاني الجليلة التي تضمنها أو المعاني السامية التي يريد أهلُ البيت عليهم السلام أن يركزوها في أذهاننا وقلوبنا من أجل التفاعل مع الوجود المقدّس لولي الله الأعظم الإمام المهدي المنتظر سلام الله عليه في كل وقت وحال، والارتباط به وانتظار ظهوره الشريف..

موضوع البحث

وإنما أردت الالتفات - مع الأخذ بنظر الاعتبار تلك الأهمية له - إلى فقرة من فقرات هذا الدعاء الشريف، لا أظن أنها بهذه الصيغة التي يقرأ المؤمنون بها ويكتبون، بل لعلّ هناك تصحيفًا أو سهوًا أو غلطًا وقع من الناسخ لها، وهي فقرة (وتُمتّعه فيها طويلاً)، وهذا ما سيتضح من خلال تحقيق الحال فيما يأتي، عسى أن نوفّق لقراءة هذا الدعاء الشريف وغيره من الأدعية الشريفة من دون لحن في الإعراب أو خطأ في الكلمات، حتى يكون تأثيره علينا وعلى الواقع فعّالاً ناجعًا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد رسوله وآله وسلم..

نص الدعاء ومصدره

في البداية نشير إلى أقدم مصدر نقل هذا الدعاء، وهو كتاب الكافي، للشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني أعلى الله مقامه، حيث ذكر في الفروع الجزء الرابع صفحة 162 من كتاب الصيام باب الدعاء في العشر الأواخر، عن محمد بن عيسى بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام)، قال:

تكرّر في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان هذا الدعاء ساجدًا وقائمًا وقاعدًا، وعلى كل حال، وفي الشهر كله، وكيف أمكنك، ومتى حضرك من دهرك، تقول بعد تحميد الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله): أللهم كن لوليك فلان بن فلان، في هذه الساعة وفي كل ساعة، وليًا، وحافظًا، وناصرًا، ودليلاً، وقائدًا، وعونًا [ وعينًا ]، حتى تسكنه أرضك طوعًا، وتمتعه فيها طويلاً..

وهذا النص - مع اختلاف يسير- هو ما يتداوله المؤمنون في مواقع الدعاء ومظانّ الإجابة غالبًا.. ومن المعلوم أن المقصود بفلان بن فلان هو الحجة بن الحسن سلام الله عليه وإنما قضت الظروف في ذلك الزمان إخفاء الاسم، وهكذا التقديم والتأخير في بعض كلمات الدعاء مثل كلمة ناصرًا قبل قائدًا، لا يؤثر في المضمون شيئًًا، خصوصًا مع الأخذ بنظر الاعتبار قاعدة التسامح في أدلة السنن على بعض معانيها، بل مع ملاحظة ورود ذلك التعبير في مصادر أخرى.

المناقشة في فقرة من الدعاء

ولكنّ المهم هو هذه الفقرة التي عقدنا الحديث عنها وهي عبارة (وتمتعه فيها طويلاً) في ذيل الدعاء، فإنه من البعيد جدًا - كما سيتضح - أن تكون هي من النصّ الوارد فيه، بل أنّ الصحيح فيها هو (وتمكنه فيها طويلاً) كما هي في رواية شيخ الطائفة الطوسي للدعاء في كتابه الشريف (تهذيب الأحكام) الجزء الثالث صفحة 102 عند ذكره لأدعية العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث نقل نفس الرواية السابقة عن محمد بن عيسى بإسناده عن الصادقين (عليهم السلام) قال:

قال وكرر في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان - إلى أن قال - (أللهم كن لوليك فلان بن فلان في هذه الساعة وفي كل ساعة، وليًا، وحافظًا، وقائدًا، وناصرًا، ودليلاً، وعينًا، حتى تسكنه أرضك طوعًا، وتمكنه فيها طويلاً)..

والملاحَظ أن التعبير الموجود في هذا النصّ هو بالضبط ما عليه سيرة العلماء والمؤمنين عند قراءَتهم لهذا الدعاء الشريف، من دون تقديم وتأخير وتغيير، عدا هذه الفقرة الموجودة في ذيل الدعاء، والتي أشرنا إليها آنفا..

وهذا الأمر - أعني التقديم والتأخير - وإن كان لا يؤثر في هذا العمل المندوب كثيرًا مع الالتفات إلى قاعدة التسامح، ولكنه يدعو إلى التأمّل قليلاً لمعرفة النص الصحيح أو الأصح على أقل تقدير، خصوصًا مع الأهمية الكبرى لهذا الدعاء الشريف والتي أشرنا إليها في بداية البحث..

وأما ما يرتبط بالفقرة الأخيرة - محل الكلام - فإن ما أظنّه بل أعتقد به هو أنّ العبارة الصحيحة فيه هي (وتمكنه فيها طويلاً) دون غيرها..

وليس هذا لأجل ورودها في رواية الشيخ الطوسي للدعاء فحسب - خاصة وأن الشيخ أعلى الله مقامه أراد بها نفس رواية الشيخ الكليني قدّس الله نفسه كما هو واضح بالمقارنة - بل لأن هذا التعبير هو الملائم لمثل المقام، وهو المستعمل في مثل هذا السياق قرآنًا وسنة نبوية وولويّة..

وأما التعبير الآخر (وتمتعه) فهو غير مستعمل في مثل المقام، ولو على نحو عدم الوجدان، والله العالم..

وحتى يكون الدعاء الشريف - على أهميّته الفائقة - فعّالاً ومؤثرًا وناجعًا فيما يمرّ به المؤمنون من ظروف عصيبة، مع تكالب الأعداء وتواتر أنواع البلاء، ينبغي أن نتحرّى فيه اللفظ الصحيح ليؤثر أثره - ولو بنحو جزء العلة - ويبقى التوفيق الكامل بظهور الأمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف والتزوّد من فيض علمه ولطفه، والتشرّف بالنظر إلى طلعته المباركة غاية عظيمة بل تمام العلة المطلوبة، نرجو من الله أن يتمّها علينا قريبًا عاجلاً، وما ذلك على الله ببعيد..

البحث في معنى الصيغتين لغة واستعمالا

ولكي يتضح الحال بشكل أدقّ، سوف أتناول بالبحث معنى هاتين الكلمتين لغة، وكذلك موارد استعمالهما في الكتاب والسنة، حسب ما استطعت الظفر به من ذلك، كما سأشير إلى ما ورد من الروايات الشريفة لتطبيق هذه الكلمة أو تلك في موارد استعمالها.. والله ولي التوفيق:

قال في لسان العرب في مادة (مكن): ((الجوهري: مكنّه الله من الشيء وأمكنه منه بمعنى. وفلان لا يمكنه النهوض أي لا يقدر عليه. ابن سيده: وتمكن من الشيء واستمكن ظفر، والاسم من كل ذلك المكانة))([1]).

فالمكان هو مقر الشيء من الأرض، والإمكان والتمكين الإقرار، والتقرير في المحل، وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس، ويقال أمكنته من الشيء فتمكن منه أي أقدرته عليه فقدر عليه، وهو من قبيل الكناية.

وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته: ((ويقال مكنته ومكنت له فتمكن، قال {ولقد مكناكم في الأرض - ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه - أولم نمكن لهم - ونمكن لهم في الأرض - وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وقال { في قرار مكين } وأمكنت فلانًا من فلان... الخ))([2]).

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ}([3]).

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}([4]).

{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ}([5]).

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}([6]).

{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}([7]).

{فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}([8]).

وأما في استعمال القرآن الكريم:

قوله تعالى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}([9]).

فقد ورد في تفسير هذه الآية عدد من الأحاديث التي تبيّن أن المراد منهم هم الأئمة الطاهرون عليهم السلام، وخاصة الأمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف..

وهنا أشير إلى رواية واحدة في المقام وهي ما أورده العلامة المجلسي في البحار ج24 ص165 - عن كنز الفوائد للكراجكي - عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ}.. الآية، قال: (هذه لآل محمد، المهدي وأصحابه يُملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدين, ويميت الله عز وجل به وبأصحابه البدع والباطل, كما أمات السفهة الحقّ، حتى لا يرى أثر من الظلم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

وأيضًا قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}([10]).

جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج7 ص 266 في شرحه لها:

(يعني دين الإسلام الذي أمرهم أن يدينوا به, وتمكينه أن يظهره على الدين كله, كما قال: " زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ". وقيل: تمكينه بإعزاز أهله وإذلال أهل الشرك, وتمكين أهله من إظهاره بعد أن كانوا يخفونه).

وحول نفس هذه الآية الشريفة ذكر الشيخ علي بن إبراهيم القمي في تفسيره بأنها نزلت في القائم من آل محمد صلوات الله عليه. تفسير القمي ج1 ص14.

وروى الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني في كتاب الغيبة ص240 ما يؤكد ذلك أيضًا.

وأيضًا قوله تعالى {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([11]).

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}([12]).

فقد ورد في عدد من الأخبار عند تفسير هذه الآية، الإشارة إلى الإمام الحجة سلام الله عليه، وأنه هو المقصود فيها... بل ورد في أخبار أخرى استشهاد الإمام المهدي بهذه الآية على نفسه الشريفة، كما في رواية السيدة حكيمة لولادته سلام الله عليه.

وأما مجيء هذه الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم في نفس السياق ولكن من دون ورود روايات تطبّقها على الإمام المهدي سلام الله عليه، فهي عديدة، منها:

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا}([13]).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}([14]).

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}([15]),

وقوله تعالى: {فلمّا كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}([16]).

وقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}([17]).

وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}([18]).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}([19]).

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* كاتب وطال في حوزة قم المقدسة .

 

[1] - لسان العرب ج13 ص164.

[2] - مفردات غريب القرآن ص471.

[3] - سورة الأعراف: من الآية10.

[4] - سورة الأحقاف: من الآية26.

[5] - سورة القصص: من الآية57.

[6] - سورة القصص: من الآية6.

[7] - سورة النور: من الآية55.

[8] - سورة المؤمنون: من الآية13.

[9] - سورة الحج:41.

[10] - سورة النور: من الآية55.

[11] - سورة القصص:5.

[12] - سورة القصص:6.

[13] - سورة الأنعام: من الآية6.

[14] - سورة الأعراف:10.

[15] - سورة يوسف: من الآية56.

[16] - سورة يوسف 54.

[17] - سورة الكهف:84.

[18] - سورة القصص:57.

[19] - سورة الأحقاف: من الآية26.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية