العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإمامة عند ابن أبي الحديد أفضلية أم نص([1])

الشيخ يوسف علي سبيتي*

عندما يدور الجدال بين الشيعة وغيرهم حول الإمامة وأنها نص شرعي أو واجب عقلي، يوجّه سؤال عن أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هل طالب بالإمامة باعتبارها حقًا شرعيًا إلهيًا، وهل هناك نصوص في نهج البلاغة تدل على أن إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بشكل خاص كانت بنص خاص من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

أما النصوص المدّعى أنها تدل على ذلك فهي:

* (أما والله لقد تقمّصها فلان, وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى, ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير... وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء, أو أصبر على طخية عمياء... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى, وفي الحلق شجاً,أرى تراثي نهبًا....)([1]).

* (مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين, ولأقاتلنّهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس, كما أنا صاحبهم اليوم! والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم, فأدخلناهم في حيزنا)([2]).

* (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري...)([3]).

* (اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم ! فإنهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلي, وأجمعوا على منازعتي أمرًا هو لي, ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه, وفي الحق أن تتركه)([4]).

* (حتى إذا قبض الله رسوله (صلى الله عليه وآله) رجع قوم على الأعقاب وغالتهم السبل, واتكلوا على الولائج, ووصلوا غير الرحم, وهجروا السبب الذي أمروا بمودته, ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه)([5]).

إلا أن ابن أبي الحديد بناء على مذهبه القائل بأن الإمامة واجب عقلي بمعنى أنها لا تحتاج إلى نصّ إلهي مباشر وذلك أن في الرئاسة (الإمامة) مصالح دنيوية ودفع مضارّ دنيوية، فلذلك يجب على المكلفين اختيار الرئيس (الإمام).

يقول ابن أبي الحديد في شرحه للنهج: (وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين، وشيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى: إن العقل يدل على وجوب الرياسة، وهو قول الإمامية، إلا أن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرياسة غير الوجه الذي توجب الإمامية منه الرياسة، وذاك أن أصحابنا يوجبون الرياسة على المكلفين من حيث كان في الرياسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية)([6]).

ثم يستدل على ذلك بقول الأمير (عليه السلام) في نهج البلاغة: (لابد للناس من أمير... يجمع الفيء، ويقاتل به العدو، ويؤمن بها السبل، ويؤخذ للضعيف من القوي)، يقول ابن أبي الحديد: (وهذه كلها من مصالح الدنيا)([7]).

والنصوص المذكورة سابقًا تدل على أن هناك نصًا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابن أبي الحديد يعترف بهذا، إلا أن مذهبه ومذهب مشايخه من المعتزلة الذي أوردناه قبل قليل ألجأه لأن يُأوّل هذا الكلام على غير ظاهره لمّا أحسن الظن بالصحابة, وأن ما وقع منهم كان على وجه الصواب, وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام وخافوا الفتنة وأن كلام الأمير (عليه السلام) هنا هو للتألم على ترك الأَوْلى, ونظّر لهذا التأويل بتأويل معصية آدم بأنها لترك الأولى([8]).

أقول: إن سيرة العقلاء قائمة على أن العاقل الذي يصدر منه كلام حول قضية ما, فإنه يؤخذ بالمعنى الظاهري لهذا الكلام, ولا يُأوّل هذا المعنى الظاهري إلا بقرينة لفظية منفصلة أو متصلة, وما دام كلام الأمير هنا يدل بظاهره على أنه (عليه السلام) منصوص عليه بالخلافة, وأن الأولَ أَخَذ ما ليس له, فليس هناك ما يصرف عن هذا الظاهر, بل على العكس من ذلك هناك ما يؤكّد هذا الظاهر الذي لا يحتاج إلى تأويل وهو قوله (عليه السلام): (والله ما تنقم منا قريش ألا أن الله اختارنا عليهم)، وقوله (عليه السلام) أيضًا: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري)، وقوله (عليه السلام) أيضًا: (وأجمعوا على منازعتي أمرًا هو لي).

والاختيار الذي أشار إليه (عليه السلام) بقوله: (إلا أن الله اختارنا عليهم) ليس هو اختيار النبوة فقط, إذ لا معنى لإدخال نفسه فيه, وليس مراده (عليه السلام) الاختيار الذي تم له بعد مقتل الخليفة عثمان, لأن هذا الاختيار تم من الناس مباشرة، وكلامه صريح في الإشارة إلى اختيار الله تعالى له للإمامة والخلافة بالنص وكونه (عليه السلام) الأحق بالخلافة من غيره، مضافًا إلى أن قوله (عليه السلام): (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري) يدل صريحًا على أن هناك نصًا من رسول الله (صلى الله عليه واله) وليس بمجرد أنه يمتلك فضائل وميزات جعلته الأفضل باعتراف ابن أبي الحديد([9]).

وليس أفضلية عليّ هي محل النزاع ، بل محلّ النزاع هو هل هناك نصّ صريح عليه أم لا ؟ مع اعترافهم بأن الخلافة لم يأخذها من أخذها وهو متصّف بصفات الأفضلية ، ولا يدّعي الخصم أنه الأفضل بل الأول يصرّح بأن عليًا أفضل منه (لست بخيركم وعلي فيكم)، فلا معنى لأن يُحاججه الأمير (عليه السلام) بأنه هو الأفضل لا سواه, بل محاججته من جهة أن هناك نصًّا استحقّ بسببه هذا المنصب وهذا الموقع.

والعجيب من ابن أبي الحديد أنه عندما يصل إلى قوله (عليه السلام): (والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم)، فإنه يُعرض عنه كشحًا ويطوي عنه صفحًا, ولا يتعرّض لتفسيره ولا للقول فيه وحوله([10]), مع صراحته في الدلالة على كونه (عليه السلام) إمامًا وخليفة باختيار الله تعالى.

أما القرينة التي ادعى ابن أبي الحديد كونها صارفة عن المعنى الظاهري , والتي هي حسن الظن بالصحابة, وأنهم لم يفعلوا إلا الأصلح والأصوب خوف الفتنة, فهي في الواقع غير صالحة لذلك, إذ إن ما يدّعيه ابن أبي الحديد, لم يدّعه الصحابة أنفسهم, فلم يكن هناك خوف فتنة, بل دعواهم كانت باعتراف ابن أبي الحديد نفسه, ما نقله عن أبي عبيدة بن الجراح: (يا أبا الحسن, إنك حديث السن, وهؤلاء مشيخة قريش قومك, ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور, ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك, وأشد احتمالاً له واضطلاعًا به...)([11]).

ولم يحدّثنا ابن أبي الحديد عن حقيقة تلك الفتنة التي خافها الصحابة والتي وصفها بقوله ((وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط, بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة))([12]). فهل إن ما حصل في حربي الجمل وصفين هو مثال لهذه الفتنة؟ لماذا لم يفصح ابن أبي الحديد عن ذلك؟ وإذا كانت هذه هي الفتنة التي يتحدّث عنها ابن أبي الحديد, فسوف يكون المسبب لها هم الصحابة أنفسهم أو بعضهم على أقل تقدير.

أما تأويله بأن الأمير (عليه السلام) كان يتظلّم من فعل الصحابة بأنهم تركوا الأولى ونظَّر له بتأويل أن آدم عليه السلام كذلك ترك الأولى.

ففيه: أنه فرق بين التركين والتأويلين, لان آدم عليه السلام بعد أن علمنا أنه نبي معصوم احتجنا إلى هذا التأويل, أما الصحابة فهم ليسوا بمعصومين فلسنا نحتاج إلى هذا التأويل.

يبقى الكلام حول الفقرة الأخيرة من الفقرات التي أوردناها في أول البحث, قال ابن أبي الحديد حول كلام الأمير (عليه السلام) في تلك الفقرة:

(( رجعوا على الأعقاب: تركوا ما كانوا عليه، قال سبحانه {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً}([13]).

وغالتهم السبل: أهلكهم اختلاف الآراء والأهواء, غاله كذا أي أهلكه.

والسبل: الطرق.

والولائج: جمع وليجة, وهي البطانة يتخذها الإنسان لنفسه...

ووصلوا غير الرحم: أي غير رحم الرسول صلى الله عليه وآله فذكرها عليه السلام ذكرًا مطلقًا غير مضاف، للعلم بها...

وهجروا السبب: يعني أهل البيت أيضًا, وهذه إشارة إلى قول النبي (صلى الله عليه واله): (خلّفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض, لا يفترقان حتى يردا عليًّ الحوض)...

والسبب في اللغة: الحبل, عنى بقوله "أمروا بمودته" قول الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}([14]).

 قوله "ونقلوا البناء عن رصّ أساسه": الرصّ مصدر رصصت الشيء أرصه أي ألصقت بعضه ببعض, ومنه قول تعالى, {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}([15])... فبنوه في غير موضعه, ونقلوا الأمر عن أهله إلى غير أهله))([16]).

ونسأل ابن أبي الحديد: من هم هؤلاء القوم الذين عناهم الأمير (عليه السلام) بقوله هذا؟

ويجيبنا: ((إن قلت أليس هذا الفصل صريحًا في تحقيق مذهب الأمامية؟ قلت: لا, بل نحمله على أنه عنى (عليه السلام) أعداءه الذين حاربوه من قريش وغيرهم, من أفناء العرب في أيام صفين, وهم الذين نقلوا البناء وهجروا السبب, ووصلوا غير الرحم, واتكلوا على الولائج, وغالتهم السبل ورجعوا على الأعقاب, كعمرو بن العاص, والمغيرة بن شعبة, ومروان بن الحكم, والوليد بن عقبة, وحبيب بن مسلمة, وبسر بن ارطأة, وعبد الله بن الزبير, وسعيد بن العاص... فإن هؤلاء نقلوا الإمامة عنه (عليه السلام) إلى معاوية, فنقلوا البناء عن رص أصله إلى غير موضعه))([17]).

أقول: مرة ثانية يحمل ابن أبي الحديد الكلام على غير ظاهره, ويُأوّله بما لا ينفي غيره, فظاهر قوله (عليه السلام): (حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه واله رجع القوم على الأعقاب) أن هذا الرجوع وهذا الانكفاء, وهذا الانقلاب، كل هذا قد حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة من دون أي فاصل زمني.

ولا أريد نفي أن يكون الأمير (عليه السلام) قد عنى من ذكرهم ابن أبي الحديد وإنما أريد القول أن هذا الكلام ينطبق على غيرهم ولا وجه للتخصيص, ألا ينطبق قوله عليه السلام: (... وصلوا غير الرحم, وهجروا السبب الذي أمروا بمودته, ونقلوا البناء عن رص أصله فبنوه في غير موضعه)، ألا ينطبق هذا القول على ما فعله الصحابة يوم السقيفة؟ وخالفوا من أُمروا بمودته, وهجروا السبب, الذي هو باعتراف ابن أبي الحديد أن المراد به أهل البيت عليهم السلام, ألم يقطعوا بفعلهم هذا رحم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع اعترافه بأن (الرحم) الوارد في كلامه (عليه السلام) المراد به رحم رسول الله .

والحاصل أن الأمير عليه السلام أشار بشكل واضح إلى موقعه الحقيقي في الخلافة, وأنه منصوص عليه, وإن لم يذكر وجود هذا النص بشكل صريح إلا أن الكلمات التي ذكرها (عليه السلام) تشير بشكل واضح أيضًا إلى وجود مثل هذا النص, هذا باعتراف ابن أبي الحديد وإن حاول تأويل هذه الكلمات بما يخرجها عن هذا المعنى الذي ذكرت انتصارًا لمذهبه حتى لو كانت الأدلة على خلافه.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* كاتب ومبلغ ديني ومدرس في الحوزة .

[1] - هذه المقالة هي تلخيص لبحث ضمنته كتابي الذي صدر حديثًا عن دار الهادي بعنوان (نهج البلاغة في دائرة التشكيك) وعنوان المقالة الأصلي هو "الخلافة الحق الشرعي أفضلية ... أم نص"..

[1] - خطب نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، دار المعرفة، بيروت: 1/30-31.

[2] - المصدر السابق: ج1 ص 81-82.

[3] - المصدر السابق: ج1 ص124، من كلام له لما عزموا على بيعة عثمان .

[4] - المصدر السابق، ج2 ص85.

[5] - المصدر السابق، ج2 ص36.

[6] - شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية: ج2 ص308.

[7] - المصدر السابق: ج2  ص308.

[8] - المصدر السابق: ج1، ص157.

[9] - المصدر السابق .

[10] - انظر المصدر السابق: ج2 ص185.

[11] - المصدر السابق، ج6، ص12.

[12] - المصدر السابق، ج1، ص157 .

[13] - آل عمران: من الآية144.

[14] - الشورى من الآية 23

[15] - الصف: من الآية4

[16] - شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج9 ص132-133، مصدر سابق.

[17] - المصدر السابق ص 134.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية