العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

صلح الإمام الحسن (عليه السلام)

دراسة تحليلية

بواعثه - ظروفه - نتائجه

الشيخ حاتم إسماعيل*

أهمية القائد في الأمة:

إن قرار الحرب والسلم, من أخطر القرارات، التي تواجه القائد والمتصدي لسياسة الأمة، لأن اتخاذ موقف في أي منهما يشكل تحديًا فائق الدقّة، بحيث يتوقف عليه مصير أمة بأكملها، أو فئة في كل كيانها، فقد تكون العاقبة الزوال والفناء، وقد تكون النجاح والفلاح.

من هنا, لا بد وأن يتمتع القائد بالقدرة العالية، والحكمة الكافية، التي تؤهّله لاتخاذ الموقف المناسب، الذي تقتضيه مصلحة الشعب أو الأمة التي يقودها.

إلا أن ميزان النجاح والفشل لا يتمثّل بمجرد كسب جولة في المعركة، أو انتصار في الحرب بالمعنى العسكري والميداني، كما هو شائع بين الناس على العموم. وإنما يتحدّد ميزان الربح والخسارة, في مدى قدرة المتصدي للمسألة العامة, على إيصال الأمة, والفئة التي يقودها، إلى شاطئ الأمان، بحيث تحقق الهدف المرجوّ والغاية والمنشودة.

وعلى هذا الأساس يكون الحكم على مدى نجاح القائد، وجدارته بالموقع الذي يشغله، لأنه بمقدار ما يؤمّن للفئة استمرارية أطول، وصمودًا في وجه النوائب أشد، وبمقدار ما يؤسّس لمرحلة لاحقة تتقوّى فيها دعائمها، بمقدار ما يستحق القائد الثناء والمدح، وإن خسر جولة بحسب ظاهر الأمور.

وفي المقابل، فإنه بمقدار ما يعجّل في هلاكها وزوالها، من خلال مواقفه المتهوِّرة والمتسرّعة, بمقدار ما يستحق الإهانة والنسيان، وإن ربح جولة في معركة، أو كسب المعركة كلها بحسب ظاهر الأمور.

والمثال على نجاح القائد، في اتخاذ القرار الصائب, حركة الإمام الحسين (عليه السلام) في سنة 61 للهجرة، إذ إن معركته كانت خاسرة من الناحية الميدانية والعسكرية المباشرة، إذ قد انتهت باستشهاده، واستشهاد كافة إخوته وأبنائه وأصحابه، بالإضافة إلى سَبي نسائهم، ولا يتوهم عاقل أنه ربح المعركة في الميدان بهذا القتل والسبي.

إلا أن أثر الواقعة كان كبيًرا على الأمة الإسلامية كلها، وعلى بني أمية بشكل خاص، حيث اندلعت الحركات الناقمة على حكم الأمويين، ولم تهدأ إلا بزوال ملكهم. كما أنها أعادت إلى الدين بهجته ورونقه في قلوب الناس وضمائرهم، وأدّت إلى عودة المفاهيم الصحيحة للإسلام بعدما اندثرت معالمه وحقائقه, ودخلت عالم النسيان, أو كادت، ولهذا كانت حركته (عليه السلام) خالدة، وانتصرت على المستوى الاستراتيجي.

وأما يزيد بن معاوية فيمثّل النوع الثاني من القيادة، فإنه قد ربح المعركة ظاهريًا ضد الإمام الحسين (عليه السلام)، ولكن العاقبة كانت وخيمة عليه، وعلى ملك بني أمية عمومًا، ذلك أن قراره حرب الإبادة على أهل البيت عليهم السلام قد أدّى إلى زوال الحكم الأموي، كما أشرنا، كما أدّت بيزيد إلى الرمي في مهملات التاريخ, الناقم على كل سلوكه وتصرفاته، ذلك أن مأساة كربلاء قد دفعت به إلى الاعتقاد بقدرته على فعل ما يشاء، فكان أن ضرب الكعبة بالمنجنيق، وأعمل القتل والسبي وإعاثة الفساد في المدينة وأهلها، فازدادت النقمة عليه، فصار بذلك مثالاً للقائد الأرعن، الذي لا يكون مصير أمثاله إلا كمصيره.

والتاريخ مليء بالشواهد على كل من النموذجين للقائد والقيادة, وسيظهر أن الإمام الحسن (عليه السلام) يمثّل النموذج الأول بأرقى معانيه, وأسمى درجاته, وأن معاوية يمثل النموذج الثاني بأجلى مظاهره.

فالقائد الحكيم إذن, هو القادر على اتخاذ الموقف المناسب، والذي تقتضيه مصلحة الأمة أو الجماعة، مهما كان قاسيًا ومرًّا, بالنسبة إليه, على المستوى الشخصي، فإن المهم بالنسبة إليه هي الجماعة وإيصالها إلى أهدافها لا الفرد من خلال مصلحته الآنية.

وتتجلّى حكمة القائد بحسن قراءته للوقائع والأحداث, المحيطة به من عديدٍ وعتادٍ، ومدى التزام مناصريه بقراراته، وإيمانهم بحقّانية القضية المدروسة، ومدى تفانيهم في نصرتها، على نحو يكون قراره منسجمًا مع هذه الأمور، بما يناسب الهدف الأسمى للجماعة والأمة، التي يقودها.

من ناحية أخرى، لا بد من دراسة موقع الخصوم، ومدى تماسكهم وترابطهم، وإيمانهم بالقضية، التي يقاتلون لأجلها، بالإضافة إلى مدى التفافهم حول القائد المحرّك لهم, وإمكانية الانتصار عليهم, سواء على المستوى الميداني في الحرب إن نشبت، أو على المستوى الفكري النظري، إن كان الملجأ هو الحوار والمجادلة.

فإذا أحسن القائد قراءة مواقع المعسكرين قراءة واقعية وعقلانية، استنادًا إلى الميزان الذي يتحرّك على أساسه، أمكنه أن يتّخذ القرار المنطقي الصائب، والذي يخدم هدفه الأسمى، وغايته الكبرى.

وعلى هذا الأساس فإن الحكم على صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية سلبًا أو إيجابًا، خاضع لا محالة, لدراسة هذه العوامل من كافة الجوانب، ومقارنتها مع النتائج التي أدّت إليها.

طبيعة المجتمع العراقي:

من المعلوم أن معسكر الإمام الحسن (عليه السلام) كان مؤلفًا من أهل العراق على العموم، وهم الذين كانوا في صف أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبله، فهم أعوانه في حرب الجمل، وعلى أيديهم دارت الدائرة على الخوارج، الذين كانوا منهم كذلك، وهم الذين أكرهوه على قبول التحكيم في معركة صفين، ورجالهم كانوا أول من بايع الإمام الحسن (عليه السلام) بعد استشهاد الإمام علي (ع)، فشكَّل الإمام (عليه السلام) جيشه لقتال معاوية منهم.

إلا أن هذا الوقوف التاريخي في صفّ علي (عليه السلام) وأهل بيته، لا يعني أنهم كانوا مؤمنين به حقّ الإيمان، وعارفين بحقّه حقّ المعرفة، وإنما أَمْلَت عليهم هذا -الوقوف إلى جانبه-, مجموعة من الظروف، هي التي دفعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف.

وبعبارة أخرى، إن وقوفهم إلى جانب علي (عليه السلام) لا يشكل وثيقة تدل على أنهم كانوا من شيعته بالمعنى العقائدي، لأن دوافع المناصرة أعم من الإيمان والاعتقاد، فقد يكون الدافع إليها البحث عن الغنيمة والمال، وقد يكون الترؤس والزعامة، وقد يكون ناشئًا من مجرد الحماس والاندفاع العاطفي، وقد ينشأ من غيرة ونكاية في الطرف المقابل، وكرهًا له.

هذا من الناحية النظرية، وأما من الناحية الواقعية والعملية، فإنه يمكن القول أن أهل العراق كانوا أنصارًا لعلي (عليه السلام), على مستوى كافة الدوافع والخلفيات, باستثناء الدافع العقائدي، ذلك أنهم لم يكونوا يرونه إمامًا مفترض الطاعة بأمر الله تعالى، بل كانوا يرون فيه القائد المحنّك، القادر على إيصالهم إلى المقامات المرموقة, والمناصب العالية، التي تمكّنهم من تحصيل الرّفاه والمتعة في عالم الدنيا، كما هو الشأن في كافة الزعماء السياسيين أو القَبليّين, الذين يفتحون خزائن الدنيا للمقرّبين منهم, والمحسوبين في صفهم, وإلى جانبهم، دون أن ننسى البُعد العاطفي الذي تقتضيه جبلة الإنسان وفطرته، مهما كان بعيدًا عن الحق وعن العمل به، بعدما عرفوا من عظمة علي (عليه السلام) وسابقته في الإسلام، ومدى قربه من الرسول الأعظم (صلى الله عليه آله)، مع ما عاينوه منه ومن شدة إخلاصه وبأسه في ذات الله تعالى.

إن أهل العراق يتشكَّلون بغالبيتهم من رجال القبائل وعوائل المقاتلين، الذين فتحوا العراق في خلافة عمر بن الخطاب، والذين كانوا يرونه محقّقًا لطموحاتهم، ومغذّيًا لأطماعهم، بعدما بنى مدينتي الكوفة والبصرة وأسكنهم فيها، وولّى عليهم أبا موسى الأشعري ليفقههم في الدين، ولذلك فإن أساس ارتباطهم بالدين محبة عمر بن الخطاب، ولا يمكنهم أن يرضوا بأي نقد أو موقف سلبي له, وهو الذي فتح لهم أبواب الدنيا من كل جانب بحسب زعمهم.

ومن الظاهر أنه لم يكن ليخفى عليهم موقف علي (عليه السلام) من الخلافة، ولا رأيه في الخلفاء الذين سبقوه, كما لم يخفَ عليهم موقف عمر بن الخطاب وغيره من رجال السلطة الحاكمة، من علي (عليه السلام) وأهل بيته, وبالتالي فلا يمكنهم أن يكونوا في صفّ علي (عليه السلام) من الناحية العقائدية.

وتظهر هذه الحقيقة جلية, بملاحظة أن الإسلام الذي تربّوا عليه, هو إسلام عمر عن طريق أبي موسى، الذي كان مخالفًا لعلي (عليه السلام)، ولشيعته وخطّه، وهو الذي عمل على تخذيل الناس عن نصرة علي (عليه السلام) في حرب الجمل، وجهد في حثّهم على عدم بيعته، بعد مقتل عثمان، وكان واليًا على البصرة حينها، وهو أحد قطبي مؤامرة التحكيم في حرب صفين التي أدّت إلى جعل معاوية قرينًا لعلي (عليه السلام) بمسألة الخلافة في أذهان الناس، وكان العراقيون قد فرضوه عليه (عليه السلام)، رغم تحذيره الشديد لهم منه.

وقد بيّن لهم الإمام الحسن (عليه السلام) هذه الحقيقة, يوم استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام), فقد جاء الناس إليه, وقالوا: أنت خليفة أبيك, ووصيه, ونحن السامعون المطيعون لك, فمرنا بأمرك, فقال لهم: كذبتم والله, ما وفيتم لمن كان خيرا مني, فكيف تفون لي, وكيف أطمئن لكم ولا أثق بكم؟([i]).

وقد قطع الإمام الباقر (عليه السلام)، كل شك في هذه القضية، حين توجّه إلى أهل العراق بقوله - والحديث منقول بالمعنى - : لقد حكَمَكم علي بن أبي طالب يا أهل العراق وقاتل عدوه وعدوكم، وما عرفه منكم خمسون رجلاً حقّ معرفته، وحقّ معرفته إمامته.

وهو ما يتبين بصراحة من خلال استعراض سيرتهم مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنهم بعدما فرضوا عليه قبول التحكيم، رغم تحذيره لهم منه، وإصرارهم على أن يكون الحَكَم من طرفه من كان مخذِّلاً للناس عنه، وهو أبو موسى الأشعري نفسه، الأمر الذي يوحي بنتيجة التحكيم سلفًا، فإنه بعدما انتهى التحكيم نهايته المعروفة، ثارت الجلبة بين الناس، وأعلن بطلان الحكم الذي قضى به الحَكَمَان، أعلن قوم من العراقيين كفر علي (عليه السلام) ودعوه إلى التوبة، ثم أعلنوا الحرب عليه، وتسمّوا بالخوارج، وهناك الكثير من القرائن التاريخية الدالة على أنهم شكّلوا حزبهم قبل مسألة التحكيم، وهذه مسألة تحتاج إلى بحث مستقل ودراسة مستوعبة.

في هذه الأجواء، أراد علي (عليه السلام) أن يعود إلى المعركة ضد معاوية، ولكن العراقيين امتنعوا عن المشاركة بالحرب، بحجة أن الخوارج -الذين اعتزلوا عليا (عليه السلام)- ربما تعرضوا لنسائهم وأطفالهم وممتلكاتهم، بالسلب والنهب والسبي والقتل، فإنهم بنو قومهم، وكانوا يعيشون بينهم، وهو ما يعني معرفة الخوارج بكافة أحوالهم، فزعموا أنهم إذا انتهوا من الخوارج, وأمّنوا على عوائلهم وأملاكهم عادوا إلى حرب معاوية، فاضطر علي (عليه السلام) لقبول ذلك. حتى إذا قُضي على الخوارج امتنعوا عن دخول الحرب ضد معاوية من جديد.

وقد ورث الإمام الحسن (عليه السلام) مقاليد الأمور في هذا المجتمع المتفكّك، الذي تحكمه العصبيات القبلية، وغير المتبصر في أمور الدين ولا العارف بحق الإمام، والذي لا يجمعه سوى السعي إلى الغنائم، والبحث عن متاع الدنيا بأي ثمن. ولكنه في الوقت نفسه لم يجد بغيته عند علي (عليه السلام)، إذ لم يجدوا في الحروب التي خاضوها تحت لوائه، ما يشبع رغباتهم، في تقسيم الغنائم، من امتلاك الأموال والعبيد والإماء، فإنه لم يقسّم (عليه السلام) من الغنائم سوى السلاح والعتاد، وأما النساء والعبيد والأموال فأرجعها إلى عوائل خصومه، لأنه كان يرى أن عوائل محاربيه من المسلمين، وهذا يعني أنه إذا حلّت دماؤهم بخروجهم عليه إلا أن أموالهم وأعراضهم لا تحلّ لهم، وأما المقاتلون فيرون أن كل ذلك مشروع ما دام قد أخذ في الحرب، لا فرق في ذلك بالنسبة إليهم، بين المسلمين وغيرهم.

وهذا ما أدّى إلى انكفائهم عن الوقوف في صف علي والحسن (عليهما السلام)، بل والحسين (عليه السلام) أيضًا فيما بعد، واستطاع معاوية بن أبي سفيان أن ينفذ إلى قلوبهم من هذه الثغرة، فاشترى ذمم بعضهم بالأموال التي بذلها لهم، مع أنه كان قد نكبهم من قبل، كما حصل مع عبيد الله بن عباس، الذي كان معاوية قد قتل أولاده الصغار، ثم اشتراه بالمال فانقلب إلى معسكره، وأسكت آخرين بوعود كاذبة أرسلها إليهم، فكانت النتيجة اضطرار علي (عليه السلام) إلى قبول التحكيم، والحسن (عليه السلام) إلى قبول الصلح، والحسين (عليه السلام) إلى الاستشهاد في كربلاء.

سبب وقوفهم مع علي (عليه السلام):

وفي هذا المجال يُثار تساؤل، على جانب كبير من الأهمية، عن سبب وقوفهم إلى جانب علي (عليه السلام)، حتى باتوا محسوبين من شيعته ومواليه، وغدا اسم العراقيين قرينًا لعلي (عليه السلام) وللتشيّع، رغم ما تقدّم من أنهم كانوا في الحقيقة من شيعة عمر بن الخطاب، ومن أتباع مدرسته وحزبه؟

إن من الواضح من أدنى ملاحظة للتاريخ، أنه عندما تولى الخلافة عثمان بن عفان، عمل بكل جد، على تقريب بني أمية، وتسليطهم على رقاب الناس، الأمر الذي أدى إلى تحريك العصبيات القبلية عند الآخرين، وإحساسهم بأن كل الإنجازات والامتيازات التي حصلوا عليها أيام عمر بن الخطاب، قد ضاعت سدى، فاندفع الناس إلى من يعمل على إعادة هذه المكاسب إليهم، فلم يجدوا غير علي (عليه السلام) قادرًا على تحقيق هذه الآمال لهم.

ولما كان معاوية أقوى الولاة على الإطلاق، فإن من الطبيعي أن تتوجّه أنظار بني أمية وحزبهم إليه، وهو ما ظهر جليًا في سياسة عثمان، الذي كثيرًا ما كان يلجأ إليه في ضرب المتمردين على سياساته، والسعي إلى القضاء على حركاتهم المناهضة له، حيث كان يوجّه رؤوسهم إلى معاوية، ليُعمل عقابه فيهم، من قبيل ما عاقب به أبا ذر الغفاري وسواه من المؤمنين، الذين لم يرتضوا سياسات عثمان.

إن تقريب أصحاب معاوية في إدارة دفة الحكم، نظرًا لما تقدم من إعجاب العرب بالنظم التي كانت قائمة بينهم، إضافة إلى إعجابهم التاريخي بأهل الكتاب، هذا الإعجاب الذي تمتد جذوره إلى ما قبل الإسلام، إن هذا التقريب سيؤدي لا محالة إلى انقلاب العراقيين، وهم من العرب كما ذكرنا، ضد سياساته، فهو في الحقيقة عبارة عن موقف معارض لسياسات عثمان, أكثر منها انسجامًا مع خط علي (عليه السلام) ومواقفه وأهدافه.

وهنا تتجلى عظمة علي (عليه السلام)، الذي استطاع أن يجعل منهم أنصارًا له، يقاتل أعداءه بهم، رغم ما هم عليه من بعد عن خطه من الناحية الفكرية، ثم يصيّرهم متعاطفين مع هذا الخط الفكري الأصيل، بل استطاع أن يجعل من بعض رجالهم أخلص أصحابه وأصدقهم، من أمثال صعصعة بن صوحان، ورشيد الهجري وأمثالهما، وشيئًا فشيئًا صاروا شيعة حقيقيين لأهل البيت (عليهم السلام)، ولكن ذلك لم يتجلَّ، إلا بعد استشهاد الحسين (عليه السلام) بأبهى صوره ومعانيه.

ويشير إلى هذه الحقيقة ما قاله عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية للإمام الحسين (عليه السلام) عندما أراد الخروج إلى كربلاء، ونُصْحُهما له بعدم التوجه إلى العراق، لأنهم غدروا بأبيه وأخيه من قبل، ولا يؤمن أن يغدروا به أيضًا، وإن عرف الحسين (عليه السلام) بثاقب بصره المؤيَّد بعلم الإمامة، أن قتله بينهم سيؤجج جذوة الخير فيهم، ويؤسس بذلك لزوال ملك بني أمية، وأنهم سيشكلون البذرة الأولى والأساسية لهذا التغيير في الأمة الإسلامية، وهو ما عمل عليه وأدركه كلٌّ من علي والحسن (عليهما السلام)، ولذلك كان رهانهما على أهل العراق رغم ما لاقياه منهم.

طبيعة المجتمع الشامي:

على النقيض من صفات أهل العراق، كان أهل الشام يتمتعون بصفات تجعلهم في صف معاوية بشكل طبيعي، فقد تعرّفوا على الإسلام أصلاً كما يريد معاوية، ذلك أنه ومنذ فتح الشام، في خلافة أبي بكر، ذهب واليًا على بعض نواحيها، تحت إمرة أخيه يزيد بن أبي سفيان، فلما مات يزيد في خلافة عمر ضمت نواحيه التي كان واليًا عليها إلى إمرة معاوية، وأطلق عمر بن الخطاب يده في كل منطقة الشام يفعل ما يشاء، ويتصرف كما يحلو له، وقد اشتهر عنه أنه كان يصفه بأنه كسرى العرب، ويقول له: لا آمرك ولا أنهاك، وهي طريقة مناقضة لطريقته في معاملة الولاة ومحاسبتهم حيث كان يضرب بعضهم، كما هو المعلوم من سيرته.

ويبقى هذا التأييد المطلق لمعاوية, غير مبرّر من الناحية المنطقية، ذلك أن إطلاق يده، لا بد وأن يكون مستندًا إلى إدراك معرفة معاوية الشديدة بالإسلام وخصائصه، ومعرفة مدى حرصه وإخلاصه على هذا الدين، وهو مخالف لما كان عليه معاوية، الذي أسلم كرهًا عام فتح مكة، ولم يُعهد منه إخلاص أو نصح لهذا الدين بعد إسلامه، الأمر الذي يقتضي عكس ما جرت عليه سيرة عمر معه، لو كان عمر حريصًا على مصلحة الإسلام والمسلمين.

واستمر معاوية في حكم أهل الشام، طيلة خلافة عثمان كذلك، فزادت إمارته عليهم على العشرين سنة، اعتادوا عليه فيها، وألفوا طريقته في الحكم، فتربّى صغارهم على الإسلام الذي يريده معاوية، وعليه شاخ كبارهم.

من ناحية ثانية استطاع معاوية أن يحيط بطريقة حياتهم، وأن يتعرّف على طبائعهم، وطرائق تفكيرهم، ونظام مجتمعهم، المختلفة جذريًا عن حياة أهل العراق وطبائعهم، بل وطريقة وطبائع العرب في شبه الجزيرة العربية عمومًا، ذلك أن أهل الشام قد اعتادوا على العيش في الدولة المنظّمة، والارتباط بمركز الحكم، لأنهم عاشوا مدة طويلة تحت الحكم الروماني والبيزنطي، قبل أن يفتحها المسلمون، فاستفاد من ذلك كثيرًا في إدارة أمورهم، وكسب ثقتهم والتفافهم حوله، وهو ما أظهره الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال مخاطبًا أهل العراق: (فيا عجبا والله! يُميت القلب ويجلب الهمّ، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم)([ii]).

ويتجلى مدى وثوقهم به من خلال وصفه لهم حين أراد أن يخرج لحرب علي (عليه السلام) يوم صفين، فقال إنه يريد أن يقاتله بمائة ألف لا يفرقون بين الناقة والجمل([iii])، كناية عن شدة ثقتهم به، وتأثيره فيهم، حتى وإن كان ذلك بقلب الحقائق الواضحة لكل أحد، فإنهم لا يتردّدون في قبول قوله، والعمل وفق إرادته، لما في ذلك من تحقيق لمآربهم، وإشباع لرغباتهم ومصالحهم.

إن هذه الصفة وأمثالها, لا يمكن أن تتحقق إلا في مجتمع متراص ومتماسك, من الناحية التنظيمية والإجرائية، ولهذا استعان معاوية بالكثير منهم في تنظيم شؤون مملكته، من أمثال يوحنا الدمشقي وغيره, ممن لم يدخلوا الإسلام أصلاً.

هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا على معرفة كبيرة بالكتاب المقدس بعهدَيه، لأن المسيحية كانت الديانة الرسمية للدولة الرومانية، التي كانوا منضوين تحت لوائها قبل الفتح، وهذا يعني أن الكثيرين منهم، إن لم يكن جميعهم، من معتنقي هذه الديانة، وبالتالي فإن دخولهم في الإسلام نتيجة الفتح الإسلامي، لن يكون ناتجًا عن قناعة واعتقاد صحيح، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الفاتحين الجدد، ومدى معرفتهم وارتباطهم بالإسلام الصحيح، وحرصهم على تطبيق تعاليمه وتنفيذ أحكامه، وملاحظة الغاية التي يبتغونها من وراء الفتح، هل كانت لنشر الدين أم للغنائم والمتاع.

ومن الطبيعي، والحال هذه، أن يكون موقفهم من الدين الجديد سلبيًا, أو حياديًا في أقل الفروض، بمعنى أنه لا يهمهم سوى تحصيل المأمن في ظله، ما دام لم يدخل إلى نفوسهم وقلوبهم، بل يمكن القول أنهم سيعملون على القضاء عليه، من خلال اعتناقهم له، ما داموا لم يستطيعوا ذلك من الخارج.

وهذا ما يتماشى, في المحصّلة النهائية, مع موقف معاوية نفسه, وأمثاله من العرب والقرشيين, الذين دخلوا الإسلام كرهًا، بحثًا عن مغنم أو مقام يرجونه, أو مأمن يركنون إليه.

ويكفي أن نذكر في هذا المجال موقف خالد بن الوليد الذي كان أسر ابنة ملك الروم، في إحدى الغزوات، ثم أرجعها إلى أبيها معززة مكرمة، في الوقت الذي قتل مالك بن نويرة وأصحابه، وسبى نساءهم وذراريهم، واستولى على زوجة مالك ودخل بها من ليلته -وهؤلاء كانوا من المسلمين- لمجرد أنهم امتنعوا عن دفع الزكاة لأبي بكر, دون بحث عن سبب امتناعهم، بل دون قبول عذرهم في ذلك.

إن شعبًا يتمتّع بما يتمتّع به أهل الشام، من خلفية ثقافية، وتاريخ حضاري، وبعد ديني، لن يكون قادرًا على تقبل الوضع الجديد بسهولة، والذي يعني في أبسط صورة أن يخضع لأمة لا تاريخ لها ولا تراث، وفضلاً عن ذلك يرون أنفسهم مضطرين للدخول في الدين الجديد، خصوصًا وأن الفاتحين الجدد لم يُظهروا لهم محاسن هذا الدين، ومواطن القوة التي تخاطب الفطرة والوجدان، وتحرك العقل وتحثه على التأمل والتفكير، وكيف يفعلون ذلك وهم لا يرونه مشتملاً على هذه الصفات والخصائص؟!

فمن الطبيعي إذن أن لا يكون هؤلاء القوم في صف علي (عليه السلام) والحق، خصوصًا إذا استطاع الحاكم الجديد أن يصل بهم إلى أعلى المناصب والمقامات، وإن ظلوا على قناعاتهم السابقة، وديانتهم التي اعتادوا عليها، كما هو الحال بالنسبة ليوحنا الدمشقي.

يتبع =

ــــــــــــــــ

الهوامش

* باحث إسلامي ومدرّس في الحوزة العلمية.

[i]- بحار الأنوار, ج44, ص43.

[ii] - نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده: 1/69.

[iii] - الغدير، الشيخ الأميني: 10/169

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية