العدد التاسع / 2007م  / 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

        شخصية وكتاب

أحمد بن خاتون العاملي

الشيخ محمد تقي الشيخ محمد جواد الفقيه*

 

يحدّد لنا التراث – بشكل عام – هوية الأمة وحضارتها، في جميع ميادين النشاط الإنساني، وهو على أنواعه المتكثّرة ما يهمّنا منه على وجه التحديد – في موضوعنا هذا – هو التراث الفكري والعلمي بشكل عام، لأنهما نقطة الانطلاق في بناء الحضارة.

من هنا، فإن أرض جبل عامل، رغم مساحتها الضيّقة، امتازت على مدى قرون بعطائها الفكري والثقافي والعلمي، فأعطى علماؤها ومفكروها الكثير في ميادين الفقه والأدب والعلوم الأخرى، فإن ما أعطوه أكثر بكثير من مساحة أرضهم التي درجوا عليها (جبل عامل)، حتى قال فيهم السيد الخوانساري في كتابه روضات الجنات في ترجمته للشهيد الأول :

((خرج منها (يعني من قرى جبل عامل) من علماء الشيعة الإمامية ما ينيف على خمس مجموعهم, مع أن بلادهم بالنسبة إلى باقي البلدان أقل من عشر العشر))[1].

وأوضح مثل على ذلك السلسلة المباركة الممتدة من الشهيد الأول، بل ما قبله، إلى عصرنا الحاضر، وذلك غني عن التعريف، بالإضافة إلى ذلك فإن الأمر لم يقتصر على علوم الفقه والأصول فحسب، بل تخطّاه إلى العلوم الأخرى، كالذي أبدعه فكر الشيخ البهائي (قدس سره) في علوم الرياضيات والهندسة والهيئة والعلوم الغريبة بالإضافة للفقه والأصول, وكذلك ما قدّمه للإنسانية المرحوم حسن كامل الصباح.

لقد عانى سكان جبل عامل، منذ قرون ولا يزالون، عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي، مما حدا بهم إلى الهجرة، فكان نصيب علمائنا أعلى الله درجاتهم الهجرة إلى الشام والعراق في طلب العلم، ولكن بعد مقتل الشهيد الثاني استقر الكثيرون منهم في بلاد إيران، ولعل هذا ما عناه السيد الأمين (قدس سره) بقوله في جبل عامل بأنه "مضيعة العلماء"، حيث قال في ترجمته أحدَ علماء آل خاتون الذي كان وزيرًا في الهند بقوله : (وهكذا كان العامليّون يهاجرون من مضيعة العلماء جبل عامل إلى إيران والهند وغيرها, وينالون بها مشيخة الإسلام, والقضاء, والوزارة, وغيرها)[2].

وليس غريبًا ما قاله صاحب الروضات، ففي فترة وجيزة خرج من قرية عيناثا وحدها (إحدى قرانا المنكوبة اليوم) عدد كبير من العلماء الأعلام، حمل أكثرهم لقبًا واحدًا اختصر أسمائهم، وهو لقب (ابن خاتون العيناثي)، حيث إن كل من انتهى نسبه إلى كلمة خاتون، سمّي بابن خاتون.

والكلام هنا عن أحد الخاتونيين المغمورين، وعن كتابه (السوانح المرضية والنوافح العطرية)، الذي عثر عليه العلامة السيد أحمد الحسيني، أثناء الفهرسة لمكتبة الإمام الصادق في أردكان، وقد حصلت على صورة لكامل المخطوطة.

من هم آل خاتون، وما سبب تسميتهم بذلك ؟

قال السيد محسن الأمين (قدس سره):

آل خاتون بيت علم قديم في جبل عامل، أصلهم من (إِمْيَه)، قرية قرب ارشاف، هي اليوم خراب، وفيها تلقّبوا بخاتون، وكانت - أي القرية - ملكا لآل السبيتي، فاشتراها منهم أهل دبل بثمن بخس، ثم سكنوا عيناثا ثم جويا، وهم من آل جمال الدين ابن خاتون، وقيل كان لقبهم بيت البوريني.

ونقل العالم المؤرخ الشيخ علي بن محمد السبيتي العاملي الكفراوي[3]في كتابه" الجوهر المجرد في شرح قصيدة علي بك الأسعد"، أنه اطّلع على خط أحد قدمائهم، الذي يذكر فيه أنهم بيت الزاهد المعروفين ببيت أبو شامه، ويقال لهم بيت الشامي تصحيفا.

وخاتون لفظ غير عربي، معناه السيدة الجليلة، وهو اسم أم لهم نسبوا إليها، وسبب ذلك على ما ذكره الشيخ علي السبيتي في كتابه المذكور آنفًا، أنه كان أحد أجدادهم من العلماء في قرية إمية، وأن السلطان الغوري لما طاف البلاد، نزل على مرج دبل، المعروف بسهل حزور، جنوب إمية، في فم الوادي المسمى بوادي العيون، من بلاد بشارة القبلية، فسأل عن صاحب إمية، فقيل له : شيخ علم عنده تلاميذ, فطلب حضوره فامتنع الشيخ عن الحضور واعتذر بأنه درويش منقطع في بيته، وكان الملك ذا علم ومعرفة وعنده بعض التأله، فعظم الشيخ في عينه وسار إليه حتى دخل بنفسه في موضع تدريسه، فتأدب وأظهر الخشوع، وطلب منه إكمال الدرس، ثم اعتذر له الشيخ عن عدم الحضور بالحديث: ( إذا رأيتم العلماء بباب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك بباب العلماء فنعم الملوك ونعم العلماء )، فنبل الشيخ عند الملك، وزوّجه ابنته الملقبة بالخاتون، فسمي بنوه من يومئذ بني الخاتون.

 إلى أن قال : وخرج منهم في عيناثا جماعة كثيرة من أكابر العلماء، قلّما اتفق خروج أمثالهم من قطر واحد وبلد واحد في أعصار متتالية، وإليهم كانت الرحلة، وقصدهم ناصر البويهي لطلب العلم من العراق إلى عيناثا مستجيزا كما ستعرف، ثم توطنوا في الأعصار الأخيرة قرية جويا من جبل عامل[4].

أقول : ومن هؤلاء :

أحمد بن محمد بن نعمة الله بن أحمد ابن خاتون العاملي

هو الشيخ الذي تقدم ذكر كتابه (السوانح المرضية). وقد عملت جاهدًا للبحث عن ترجمة متطابقة مع ما قاله عن نفسه في مقدمة كتابه المذكور ولكن دون جدوى، فهناك عدة من علماء آل خاتون يحملون نفس الاسم ويفترقون من جهات أخرى.

منهم : الشيخ أبو العباس احمد بن خاتون العاملي العيناثي , وهو معاصر للمحقق الكركي.

 وأما صاحبنا فقد ألف كتابه بعد وفاة المحقق بقرن تقريبًا.

ومنهم : الشيخ احمد بن خاتون العاملي العيناثي. وهو معاصر لصاحب المعالم وقد جرت بينهما مباحثات أدت إلى الغيظ والمباعدة.

 وأما صاحبنا فيفهم من كلامه في مقدمة كتابه أنه سافر إلى اليمن في أول شبابه وذلك سنة 1020 للهجرة أي بعد وفاة صاحب المعالم بتسع سنوات. مما يعني أنه كان صبيًا في حياة صاحب المعالم قدس سره.

ومنهم من كان قبل الشهيد الثاني , وهو واضح.

ثم أنه قال في مقدمة كتابه أنه سافر إلى اليمن في عنفوان شبابه , بينما لم أجد أحدًا في التراجم من آل خاتون سافر إلى اليمن , وهذه جهة افتراق مع جميع علماء آل خاتون المترجمين.

إطلالة على : السوانح المرضية والنوافح العطرية

الكتاب عبارة عن كشكول كبير مؤلف من 545 صفحة تقريبًا , بدأ فيه المؤلف بشكوى حاله، وما آل إليه أمره في عنفوان شبابه بعد وفاة الشيخ جمال الدين محمد بن الشيخ أحمد الشهير بابن خاتون العاملي , والذي عبر عنه بقوله :

( دُهيت بفقد من كنت أعتقد أنه عين حياتي وأرجع إليه في مآربي ومهماتي ).

ثم أشار إلى أنه توجه إلى صنعاء اليمن في سنة 1020هـ، بعدما جرى عليه من الهموم , وهناك التقى بنادرة الوزراء جعفر باشا، حيث رفع مقامه وزاد في إجلاله وإكرامه , وجعله في المنزلة العلية.

وقد فتحت له مكتبة هذا الباشا، التي حوت من التفاسير الثمينة والأحاديث الشريفة، ما يعجز عن وصفه اللسان، ويقصر عن بيانه أهل البيان، فانتخب منها ما عذب وطاب، وكان نتيجة ذلك حسب الظاهر بعض ما في هذا الكتاب. 

وقد نقل في هذا الكشكول عن الكثير من المصادر العلمية، ككتب التفسير والفلسفة والحكمة والكلام والتاريخ والأدب والعلوم الغريبة، مع تعليق له في بعض الأحيان.

إلا أن ما شدني إليه هو نقله عن بعض علماء جبل عامل، كالشيخ البهائي ووالده، والمحقق الكركي، والبازوري، والشيخ حسن صاحب المعالم، والشيخ حسن الحانيني، وجعفر الجزيني، والحتاتي المصري العاملي, وبعض علماء آل خاتون، وغيرهم كما ستعرف، علمًا أن بعض هؤلاء العامليين فعلاً لا نعرف عنهم شيئًا , أو وصلتنا ترجمة محدودة جدًا عنهم.

نماذج من الكتاب

ومن الأمور الأدبية اللطيفة التي ذكرت في الكتاب ما نصه :

عن بعضهم في الاقتباس من الفقه :

والحق أن الزرع للزارع
في جنة كالقمر الطالع

 

 

أنبت وردًا ناظرًا ناظري
فلِم منعتم شفتي لثمه
 

أجابه الشيخ حسين بن عبد الصمد طاب ثراه[5]:

لأن أهل الحب في حيّنا
والعبد لا ملك له عندنا
 

 

عبيدنا في شرعنا الواسع
فزرعه للسيد المانع
 

وأجابه الشيخ حسن[6] روض الله ضريحه :

لأن أهل الحب باعوا به
والعبد محجور عليه ولا
 

 

نفوسهم والفخر للبائع
أرى بحكم الشرع من مانع
 

وأجابه علامة زمانه شيخنا البهائي قدس الله روحه :

لما زرعت الورد في وجنة
والورد لا يخفى له شوكة
 

 

قد أحدقت بالثمر اليانع
فامتنع اللثم على الزارع
 

وأجاب جعفر الجزيني[7]:

لأنه يحرسه بحاجب[8]
وسهمه من لَحْظِه صائب
 

 

يرمي بقوس دافع نافع
فامتنع اللثم على الزارع
 

إلى أن قال : وأجابه العبد الراجي عفو ربه الغني أحمد بن محمد الخاتوني المكي[9]:

قد حيّر الألباب في حسنه
فأظهر الشكر وزال الحجا
 

 

لما بدا كالسناء[10] الساطع
فأنتج الحجر على الزارع
 

ونقل شعرًا للشيخ حسن صاحب المعالم مطلعه :

فؤادي ظاعن اثر النياق
ومن عجب الزمان حياة شخص

 

 

وجسمي قاطن ارض العراق‏
ترحل بعضه والبعض باقي‏

 

ومنه ما نقله من شعر الشيخ الحانيني، يرثي فيه الشيخ أبي علي حيدر وأخيه الشيخ منصور، وَلدَي الحاج علي، أولاد علي صغير، حين بلغه قتلهما في ساحل صور سنة 1022هـ حيث قال :

فؤادي من السمل الطوال به سمر
وعيناي في الخدين تسكب أدمعًا
 

 

وصدري به للحزن قد قدح الجمر
يفيض بها من كل جارحة نهــر
[11]
 

وهي قصيدة طويلة.

كما نقل قصيدة طويلة في الوعظ للشيخ علي بن أحمد بن نعمة الله بن خاتون (ره).

كذلك للشيخ أحمد بن نعمة الله بن خاتون العاملي قصيدة طويلة أيضًا.

وقصيدة طويلة مؤلفة من تسعين بيتًا للشيخ محمد الحتاتي المصري الصفوي العاملي يمدح بها مصطفى أفندي عند وِرْدِه إلى حلب قاصدًا دمشق في أوائل ربيع الأول سنة 1041هـ. قال في مستهلها :

برق الحمى قلبت قلب الفتى
جدّدت ثوب الوجد من بعد ما
 

 

بنار أشواق تذيب القوى
قد كان مخلوقًا بكفّ النوى
 

كما نقل قصيدة طويلة للمرحوم الشيخ إبراهيم بن الشيخ إبراهيم بن فخر الدين البازوري العاملي رحمهم الله تعالى , مطلعها :

عسى تسعد المشتاق بالوصل زينب
وأمسي قرير العين بالوصل مرّة
 

 

ويبري كلومًا من جفاها كلامها
ويجلو ظلام الليل عني ابتسامها
 

هذه نبذة من الكتاب نقلتها في هذه العجالة وأسأل الله أن يوفق لتحقيقه ونشره في القريب العاجل إحياءً لتراث علمائنا الأعلام قدس الله أسرارهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* مدير مركز الفقيه العاملي لإحياء التراث ، مقيم في قم المقدسة .

[1] - روضات الجنات ج 7 ص 5

[2] - أعيان الشيعة ج10ص10.

[3] - نسبة إلى "كفرا"، وهي قرية من قرى جبل عامل قريبة من تبنين.

[4] - أعيان الشيعة ج 2 ص 584.

[5] - هو الشيخ عز الدين حسين بن عبد الصمد العاملي الحارثي الهمداني , والد الشيخ البهائي (ره).

[6] - هو الشيخ أبو منصور حسن بن الشهيد الثاني , المعروف بصاحب المعالم.

[7] - شخصية عاملية من جزين لم أجد له أي ترجمة في كتب التراجم التي توفرت. 

[8] - هكذا في الأصل، ولعل الأوفق بالوزن (حاجب).

[9] - المراد به هو المترجم له أي المؤلف. 

[10] - هكذا في الأصل، ولعل الأوفق بالوزن (مثل السنا).

[11] - هذه القصة من الأمور الجديدة التي لم نعثر عليها في كتب التاريخ أو التراجم العاملية.

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع