العدد التاسع / 2007م  / 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإمام زين العابدين

والدعاء في بُعديَه الإنساني والأدبي

د.محمّد كامل سليمان*

لقد عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) في فترة من أشد الفترات حراجة في التاريخ الإسلامي، وكان عمره سنتين يوم اغتيل جدّه الإمام علي في محرابه[1].

قَتلتمُ الصلاةَ في محرابِها
 

 

يا قَاتليهِ وهو َفي مِحْرابهِ
 

وتوالت بعد ذلك الفتن في أيام عمّه الحسن (عليه السلام)، الذي عمل على جمع شمل المسلمين حين أقدم على صلح معاوية لقاء شروط وعهود لم يفِ معاوية بها[2]، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين أغرى جعدة بنت الأشعث زوج الحسن على سمّه بعدما أغراها معاوية بالمال ووعدها بالزواج من ابنه يزيد[3]

ثم كانت إمامة الحسين بعد أخيه الحسن (عليهما السلام)، ومعركة كربلاء التي كانت حربًا بين الإسلام والجاهلية، أو بين الحق والباطل، أو هي صراع بين النبوّة أو الإمامة والملك الدنيوي[4]، أو بين الأريحية والنفعية[5].

هذه المعركة صُرِع فيها الحسين (عليه السلام) كما هو معروف، وقتل كل أنصاره، إخوته وأبناؤه، حتى رضيعه ذُبح في حجر أبيه من الأُذن إلى الأذن، وهو يطلب له شربة من ماء([6]):

طفلٌ على حِجر الإمام مُلثَّمٌ
من وردةٍ حَمراءَ صَوّحَها الظَّما
 

 

بِنَجيعِه القَاني فَيَا للرائي
فَذَوت َتحِنّ لِقَطْرةِ مَاء
[7]
 

هذه الفواجع والمآسي التي مرّ بها العالم الإسلامي، عايشها علي بن الحسين (عليهما السلام)، واكتوى بنار معاناتها، كما رأى وشاهد سَبْيَ بنات النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وحَمْل رؤوس أهل بيته (عليهم السلام) على الرِّماح. رآها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فانغرست المأساة في أعماق نفسه، وتعمّقت في تجاربه، ولكن بدل أن تنقلب عنفًا وثأرًا وانتقامًا، تجسّدت باللاعنف والرحمة والعمل للانتصار لقضايا الإنسان، والعمل على تحرير العبيد، والدعاء والابتهال لله العظيم، ليجمع شمل الأمة على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، باثًا خلال الأدعية تعاليم الإسلام ومبادئه السامية.

البُعد الإنساني عند الإمام زين العابدين (ع)

سيرة الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام)، قوامها اللاعنف، فهو يقابل البغضاء بالمحبّة، والجحود بالتسامح، والشرّ بالإحسان.

يخطئ معه عبد أو أمةٌ، فيُعتقهما فورًا، ويستسمحهما[8].

رغم ما لاقى أبوه وإخوته من الأمويين، حمَى نساء الأمويين وأطفالهم قبل وقعة الحرّة عندما ثار أهل المدينة بالأمويين[9].

كان يتعرّض للإساءة من بعض الناس فيستغفر لهم ويسألهم عن حاجاتهم[10]، مما يجعلهم يخجلون من تصرّفاتهم ويتوجّهون نحو الإقلاع عن هذه العادات المشينة.

كان يعفو عن المُسيء إليه ويساعده حين يرمي به الدهر، كما فعل مع هشام بن إسماعيل المخزومي، والي المدينة من قِبل الأمويين، والذي كان يبالغ بالإساءة للإمام علي بن الحسين (عليهما السلام)، فلما غضب عليه الخليفة الأموي عزله وأمر أن يقف للناس ليقتّصوا منه، فكان يقول : لا أخشى إلا علي بن الحسين لكثرة ما ناله مني بدون سبب، فلما مرّ به الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أمر غلمانه أن لا يتعرّضوا له بشيء، بل سأله عن حاجاته ومتطلباته، فناداه هشام بن إسماعيل نادمًا على ما فرط منه وهو يقول له : الله أعلم حيث يجعل رسالته[11].

هذه الفلسفة اللاعنفية الرائدة، تأثّر بها الكثيرون، حتى إن غاندي قال: تعلّمت من علي بن الحسين أن أظل مظلومًا حتى أنتصر[12].

كان يرتفع فوق التعصّب والمذهبية، فقد حمى - كما قدّمنا- نساء الأمويين وأطفالهم يوم ثار بهم أهل المدينة، وكان يدعو لحُمَاة الثغور -في ظل السلطة القائمة- لأنه كان يفهم الإسلام رسالة سماوية سمحاء ترتفع فوق كل هذه التهافتات[13]

من هذه المبادئ انطلق علي بن الحسين (عليهما السلام) واضعًا أسس مدرسة قائمة على بثّ العلم والتعليم، وإعطاء النموذج الصحيح للناس باطّراح الشر والتمسك بالأخلاق، لقد اتخذ من المسجد ومن بيته ملتقى يفيء إليه طلاب العلم الوافدون من أقطار العالم الإسلامي من سنة 61هـ حتى سنة 95هـ[14].

لقد كانت ثقة الأمّة بالإمام زين العابدين (عليه السلام)، ثقة عظيمة لا تزعزع، فكان مرجع علمائها وفقهائها كما كان جدّه علي بن أبي طالب (عليه السلام)[15].

هذه بعضٌ من لمحاتٍ يسيرة من المسيرة الإنسانية التي اختطّها علي بن الحسين (عليهما لسلام)، فأصبحت مَشعلاً يُستضاء به في ليل الظلم والاستعباد، استشرافًا لفجر الحرية والخلاص.

رسالة الحقوق

ومن المهم أن نشير هنا إلى رسالة الحقوق التي وضعها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والتي كان مدارها العلاقات الإنسانية المتبادلة، حقوقًا وواجبات، فهي رائدة سبّاقة في مجال حقوق الإنسان.

إنها ترسم للإنسان حقوقه وواجباته، تجاه نفسه، جسدًا وروحًا، ثم تجاه المجتمع لكل هيكليّته ومقوّماته، بشكل يلفت إلى هذا الدستور الحكيم الذي وضعه للإنسان قبل إعلان شرعة حقوق الإنسان، مستقيًا مبادئه من تعاليم الإسلام، في محاولة جادّة ومسؤولة، تضع الإنسان في موقعه المطلوب ليكون بمستوى الأمل المعقود عليه.

والواقع أن هذه الرسالة بحاجة لدراسة خاصة مستفيضة، لذلك نكتفي بهذه الإشارة السريعة.

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* باحث وأديب.

[1]- الطبري: م5 ص146.

[2]- نفسه ص162.

[3]- الكامل في التاريخ،ابن الأثير : م3 ص460. مروج الذهب، المسعودي: 3/5، السيوطي، تاريخ الخلفاء ص192. مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني ص48.

[4]- سيدنا زين العابدين، الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، ص15 ؛ أبو الشهداء، العقّاد، ص14.

[5]- أبو الشهداء، العقاد، ص 14.

[6]- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، م5 ص418 و419.

[7] - من قصيدة للمؤلف، ويلاحظ كتاب : الإيديولوجيا الشيعية في رثاء الحسين، للمؤلف ص6.

[8] - الإرشاد، الشيخ مفيد، ص286، ولمزيد من التفصيل حول هذا يلاحظ:

أ - حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني (430هـ)، ج3 ص125 وما بعدها.

ب- صفة الصفوة، ابن الجوزي (597هـ) : ج3 ص92 وما بعدها.

[9] - الطبري، تاريخ الأمم. والملوك، ج5، ص485 و493

[10] - صفة الصفوة، ابن الجوزي، ص94.

[11] - الطبقات الكبرى، ابن سعد، م5، ص210.

[12] - زين العابدين، عبد العزيز سيد الأهل، ص7.

[13] - سيدنا زين العابدين، د. عبد الحليم محمود ص5.

[14] - قيم خالدة في الأدب والتاريخ، حسن الأمين، ص134.

[15] - دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، ج2، ص16.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع