العدد التاسع / 2007م  / 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الأقليات في الدولة الإسلامية

الشيخ حاتم إسماعيل*

تمهيد

من المسائل المهمة والحسّاسة,  التي طُرحت في الدراسات المعاصرة, في ما يرتبط بالدولة والمجتمع, مسألة الأقليات الدينية والعرقية, نظرًا لعلاقتها وارتباطها بحقوق الأفراد والجماعات في أنظمة الحكم, وكثيرًا ما ألصق الغربيون والعلمانيون تُهم التمييز العنصري ضد الأقليات العرقية والدينية, في نظام الحكم الإسلامي، بدعوى أنه لا يعترف بحقوق الأقليات، حيث اعتبر الأقليات الدينية (أهل ذمة)، ليس لهم في الحكم الإسلامي حقوق كاملة يتمتعون بها كسائر المواطنين، ولذلك فهم يلزمون بدفع الجزية, وكفى به توهينًا لهم, واستصغارًا لشأنهم, وحطًّا من كراماتهم.

وأما الأقليات العرقية، فهم بدورهم، لا يتساوون مع الأكثرية الحاكمة، في الحقوق والواجبات، وإن كانوا من المسلمين، وشواهد هذا التمييز كثيرة، من العصر الأموي والعباسي، بل والعثماني، حيث ظهر التمييز ضد الأقليات، في كثير من مفاصل التاريخ الإسلامي, بل إن الثابت من سير بعض الخلفاء والولاة أنه لم يكن يَقبل دعوى من مولى ضد عربي, وأن للعربي أن يأخذ منه ما يشاء عند حاجته, دون أن يحقّ له الاعتراض عليه في شيء.

بل ربما يقال أن الإسلام لا يعترف بالآخر، استنادًا إلى ما تقدم, وبملاحظة الدعوة إلى الحرب والجهاد ضد مخالفيه والقضاء عليهم واستئصالهم.

ولكن الحقيقة مخالفة لهذه التصورات جملة وتفصيلاً، إذ لا بد لمن ينظر بعين الإنصاف، أن يميّز أولاً بين ما قامت وتقوم به الحكومات الإسلامية، وبين القانون الإسلامي المشرّع, ولا يصحّ بحال من الأحوال، أن يُحمّل الإسلام وزر الأخطاء في التنفيذ، نتيجة اجتهادات خاطئة في فهم الأحكام، أو سوء النوايا عند بعض الحكام.

فلا بد من تسليط الضوء على هذه المسألة, لنعرف مدى مجانبتها للواقع والحقيقة, وإثبات أنها مجرد افتراء على هذا الدين الحنيف, اقترفته أيدي الغربيين الآثمة, كيدًا منهم للإسلام وأهله, وسعيًا منهم إلى إسقاطه من نفوس المسلمين, فيُسهّل ذلك لهم القضاء عليه, ويحققّون بذلك حلمًا طالما انتظروه, بدءًا من الحروب الصليبية, حتى إذا عجزوا عن تحقيق ذلك بالقوة, لجأوا إلى الخداع, والعمل على تهديمه بمعول الثقافة والمعرفة المزعومة، وهذا ما تمتد جذوره إلى بدايات الخلافة الإسلامية، كما هو معروف من سير مسلمة أهل الكتاب.

وقبل ذلك ينبغي تقديم مقدمة، وهي:

الحكومة الدينية

إن أصل الحكومة الدينية - والتي تعني أنها تستند في تشريعاتها وقوانينها إلى أوامر الله تعالى ونواهيه، وليس للإنسان فيها أيّ يد سوى تطبيقها، وإجرائها على مستوى التنفيذ - تعتبر من الثوابت التي قامت عليها كافة الأديان، سماوية كانت أم غير سماوية, بما فيها الديانة المسيحية، وإن كانت هذه قد أعفت نفسها من التصدّي لممارستها، وحظرت على أتباعها والمؤمنين بها العمل للحكم والسعي إليه، للحصول عليه بطريق أو بآخر كما تدل عليه الكثير من النصوص الكتابية، من قبيل ما ورد على لسان السيد المسيح (عليه السلام): (سمعتم أنه قيل عَين بِعَين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ ، بل من لَطَمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا، ومن أراد أن يُخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا، ومن سخّرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين)([1]). وما ورد على لسانه أيضا:( لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي تدينون تُدانون وبالكيل الذي تكيلون يكال لكم)([2]). وقد قال بولس بأن السلطان خادم الله، وعلى المسيحي أن يخضع له، ومن يقاومه يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيدانون([3]).

وقريب منه ما قاله بطرس، ثم قال لهم: (فإن المسيح أيضا تألّم لأجلنا تاركًا لنا مثالاً لكي تتّبعوا خطواته)([4]).

ومن المعلوم أن السلاطين في عهد المسيح وبولس وبطرس كانوا من الوثنيين، ومع ذلك لا يحقّ للمسيحي أن يعترض عليهم، بل هو مُلزم بالخضوع لهم، وامتثال قراراتهم، وإن معاندتهم تعني معاندة الله تعالى، والاعتراض عليهم اعتراض عليه تعالى. ولقد وصل الأمر بالسيد المسيح (عليه السلام) أن يحذّر تلاميذه وأتباعه من المنافسة والاعتراض ولو بالكلمة: ( ليكن كلامكم نعم نعم لا لا. وما زاد عن ذلك فهو من الشرير)([5]). ولكن مختلف بشارات السيد المسيح دعت إلى انتظار ملكوت السماوات، حيث يتحقّق العدل المطلق على الأرض.

وهذه الحكومة تجد جذورها في العهد القديم أيضًا، حيث وصف في سفر أشعيا شدة العدل فيها بقوله: (فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والمسمن معًا وصبي صغير يسوقها، والبقرة والدبة ترعيان، تربض أولادهما معا, والأسد كالبقر يأكل تبنًا، ويلعب الرضيع على سرب الصل. ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان، لا يسيؤن ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر)([6]).

ويقول في مكان آخر: (ويكون أني قبلما يدعون أنا أجيب ، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع، الذئب والحمل يرعيان معًا، والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون في كل جبل قدسي قال الرب)([7]).

ومن الظاهر أن حكومة بهذه المواصفات يجب أن تشتمل على قوانين وتشريعات تغطي كافة الأبعاد الإنسانية، وتكون مرضية عند الله تعالى، وهو ما لا يتوافق مع النظم الغربية للحكم وللعدل، كما نراه من تغير للقوانين والتشريعات بين فترة وأخرى، حيث يتبين عدم صوابية ما كان معمولاً به، واشتماله على مظالم كثيرة تقع على الناس.

ومعنى كل ما تقدم أن المسيحيين -فضلاً عن غيرهم- ملزمون بإعمال القوانين الإلهية في تنظيم شؤون الحياة والحكم، إلا أن المسيحية لم تشتمل على مثل هذه التشريعات، فيجب على أتباعها أن يكونوا حياديين تجاه أنظمة الحكم الأخرى، في أقل الفروض، والإسلام هو الدين الإلهي الوحيد الذي اشتمل على تشريعات عامة وشاملة. وأما العهد القديم فقد اشتمل على بعض التشريعات الخاصة، إلا أنها مختصة ببني إسرائيل، فلا تصلح من الناحية الواقعية لجميع بني الإنسان.

وإذا رجعنا إلى الحضارات القديمة والأمم السالفة, لوجدنا أنها كثيرًا ما كانت تصف أعمال ملوكها وانجازاتهم على أنها أوامر إلهية, بل إن كل حضارة تنسب نفسها إلى إله خاص بها, تستنزل بركاته, وترجو حمايته ونصرته على أعدائها وخصومها، وتُقدّم له القرابين المختلفة ليساعدها.

وهذا إن دل على شيء, فإنما يدل على أن الحكومة الإلهية مغروسة في وجدان الإنسان وفطرته, غاية الأمر أنه هو الذي ربما أساء تطبيقها أو فهمها, لأسباب كثيرة.

وإذا اتّضحت هذه المقدمة، فلنشرع في معالجة الاعتراضات الموجّهة، إلى الحكم الإسلامي، حسبما يقتضيه المقام، فنقول:

أولا: مسألة الجهاد :

إن أي دين من الأديان - بل كل حركة إصلاحية واجتماعية - يدعو الناس إلى اتباعه، والإيمان به والسير وفق رؤيته للحياة، وهذا أمر طبيعي في كل دين، وإلا فقد جوهره وحقيقته.

ولما كان الإسلام خلاصة حركات الأنبياء (عليهم السلام)، وعصارة جهودهم على مدى التاريخ البشري، بحيث استوعب كل ما يرتبط بحياة الإنسان {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([8]), فإن منظومته التي استجمعت سائر الخصائص الفطرية, والقابلة للبقاء في دعوات الأنبياء, فهي التي تحقق العدل المطلق بين الناس، فمن الضروري إذن أن يدعو الناس إلى الإيمان به، والالتزام بكافة أحكامه وتشريعاته، تطبيقًا لمبدأ العدل في الدنيا، والخلاص والنجاة في الآخرة.

إن الدعوة إلى الله تعالى تنطلق, أولا وقبل كل شيء, من إصلاح ذات الإنسان نفسه، وتحقيق السلام الداخلي فيه، وهذا يعني أن تتّسم الدعوة بكل المواصفات، التي تحقق صلاح النفس وسلامها الداخلي، وهو أمر لا يتوافق مع العنف بأي حال من الأحوال، وهو ما شدّد عليه القرآن الكريم في كثير من الآيات الشريفة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([9])، وهذه قمة الجهاد في الإسلام، ولذلك عبر عنه النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه الجهاد الأكبر في بعض ما روي عنه.

وأما الجهاد بمعنى القتال، والذي عبر عنه النبي (صلى الله عليه وآله) في نفس الحديث بأنه الجهاد الأصغر، فالأصل فيه أن يكون دفاعًا عن هذا الدين وأهله, إذا تعرّضوا للاعتداء والهجوم بغية القضاء عليه.

وهذا النحو من الجهاد والدفاع، مما يتوافق مع الفطرة السليمة، وتقتضيه الطبيعة البشرية، إذ من غير المنطقي أن يترك الدين، بل كل دعوة إصلاحية، ألعوبة في أيدي العابثين، وكيد الحاقدين، من دون أن يتسلّح بما يدفع عنه شرورهم، وسعيهم للقضاء عليه، لأنه يبقى والحال هذه في مهبّ الريح، وهو ما لا يمكن أن يرتضيه عقل، ولا تقتضيه الطبيعة البشرية.

وقد بيّن القرآن الكريم حدود السلم والحرب حين قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}([10]).

كما بين القرآن الكريم بكل صراحة أنه لا يضيق ذرعًا باتّباع الأديان الأخرى، وأنه لا يريد فرض نفسه على الناس بالقوة، وبأي وسيلة، بل يعمل على إقناعهم بالمنطق والحكمة، فإن لم يهتدوا عمل على حمايتهم، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}([11])، إن خير شاهد على أن الإسلام لم يدع إلى الحرب، ولا إلى التناحر، وأن حقيقة الدعوة الإسلامية تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال التوعية الفكرية، والحوار بالكلمة الطيبة، والعمل على السلام الداخلي والخارجي، هو سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، حيث لم يبدأ بحرب قط، وأن حروبه كلها كانت عبارة عن الدفاع عن حياض المسلمين، وحماية ثغورهم من هجمات المتربصين بهم.

هذا في الجهاد الدفاعي، وهناك قسم آخر من الجهاد، وهو ما يسمى بالجهاد الابتدائي، ويعني الدعوة إلى الله تعالى من خلال الحرب والغزو، فقد ذهب مشهور الفقهاء إلى أنه خاص بالمعصوم (عليه السلام)، ولا يحق لأحد الدعوة إليه غيره، وهو موقوف على ما يراه المعصوم من المصلحة.

ولكن ألا يعني هذا النحو من الجهاد عودة المشكلة من أساسها، إذ الإشكال ناظر إلى أصل التشريع، وليس ناظرًا إلى من يقوم بتنفيذه !

والجواب : أنه استنادًا إلى أن حكومة آخر الزمان تنطلق من أوامر الله تعالى ونواهيه، وأن القائم عليها يجب أن يتمتع بمواصفات خاصة كما أجمعت عليه الأديان السماوية، وأنه لا يتحقق إلا بعد امتلاء الأرض ظلمًا وجورًا، كما هو مقتضى الأحاديث الإسلامية، وهو ما لا يتحقق إلا بعد استنفاد كل الطاقات والخبرات البشرية، في إقامة الحكم، وزعمها تحقيق العدل، وفشلها في ذلك (حتى لا تقول فئة لو حكمت لعدلت)، كما تدل عليه مجموعة أخرى من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، واستنادًا إلى ذلك لا يبقى أمام الحكم الإسلامي إلا إقصاء الفئات الظالمة وإرجاع الحق إلى نصابه.

ولهذا لم نجد أحدًا من المعصومين (عليهم السلام) قد دعا إلى تنفيذ هذا الحق والواجب، وظل مرصودًا إلى حكومة آخر الزمان، حيث يستشري الفساد في الأرض، ويضيق الخناق على المستضعفين من مختلف الملل والأديان، بحيث ينتظرون يوم خروجه (عجل الله فرجه الشريف) بفارغ الصبر.

ومعنى ذلك أن الجهاد الابتدائي مرهون ومقترن بذلك الزمان، حيث لا يبقى أي علاج لمشاكل المجتمع الإنساني غيره، إذ (آخر الدواء الكي كما هو معلوم).

وهذا الأمر متوافق مع الفطرة السليمة، وهو ما جرى عليه العقلاء في سيرتهم عبر التاريخ، إذ لا نجد فئة منهم إلا وتمقت الظلم وتحاربه، وتأنس بالعدل وتعمل له، فإن لم يمكنها ذلك من خلال الكلمة والإرشاد، نجدهم يلجؤون إلى السيف لأجل تحقيق ذلك، ولم يحصل أن نَفَر الناس من مثل هذا السلوك، إلا بمقدار ما يُخالف الدعوة المنشودة، في الناحية العملية. 

وأما ما يسمى في التاريخ بالفتوحات الإسلامية بعد عصر النبي (صلى الله عليه وآله) فقد كانت غايتها الفتوح، والسيطرة السياسية والاقتصادية، ولم تكن فتوحات من أجل الدعوة الإسلامية، وإن لبست لباس الدين، ولهذا فإن من أهم آثار هذه الفتوحات تأخر قبول الإسلام، في نفوس أهالي البلدان المفتوحة، على المستوى النفسي، والانفعال الوجداني، وإن أظهروا الإسلام في العلن، إذ أن الظاهر أن مثل هذا الإسلام ناتج عن خوفهم من الفاتحين الجُدد، ولولا هذه الفتوحات لكان الإسلام قد دخل بلاد المعمورة كلها، من خلال الحوار الهادف، لملامسةِ الحقائقِ الإسلاميةِ الوجدانَ والفطرةَ لدى الكائن البشري بشكل عام.

ثانيا: الأقليات العرقية:

إن نظرة يسيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة تكشف، بما لا يدع مجالاً للشك، عن أن ظاهرة التمييز العنصري، ضد الأعراق المختلفة، والتي حصلت على مدى التاريخ الإسلامي، هي ظاهرة دخيلة على الإسلام، تخالف كافة أحكامه ومبانيه، فالقرآن الكريم صريح في ذلك، حين يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([12]).

وقد أكدت الأحاديث النبوية الشريفة هذه الحقيقة في كثير من نصوصها, كقوله (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى), وقوله (صلى الله عليه وآله): (كلكم لآدم وآدم من تراب)([13]), وقوله (صلى الله عليه وآله): (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، وقوله (صلى الله عليه وآله): (الناس سواء كأسنان المشط)([14]).

كما أن سيرته العملية الشريفة في أمر سلمان الفارسي (رحمه الله) ظاهرة للعيان, حيث بلغ من تقريبه إياه, وتقديمه على الكثير من الصحابة, أن جعله من أهل بيته, حين أعلن قائلا: (سلمان منا أهل البيت).

وعهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر, حين ولاه على مصر, مليء بالشواهد الدالة على ذلك, خصوصًا بملاحظة أن أهل مصر خليط من الأعراق المتفاوتة كما هو معلوم, كما أن سيرته العملية تدل على هذه الحقيقة أيضًا.

فمن الظلم الشديد, ومن الجفاء للحق والحقيقة، نسبة التمييز العنصري إلى الإسلام, نتيجة ما اقترفته الحكومات المتعاقبة, التي حكمت باسم الإسلام في الدولة الإسلامية، من مظالم وآثام بحق الناس مسلمين وغير مسلمين.

ومن هنا نجد أن القرآن في مجمل آياته التي تتحدث عن تشريع القوانين، يتوجه إلى الإنسان، ولا يتوجه إلى فئة خاصة من الناس، ليبين أن النوع الإنساني واحد أمام القانون الإسلامي في الحقوق والواجبات. وهذا بخلاف الكتب السماوية الأخرى، فإن العهد القديم في مجمل أسفاره كذلك، إنما يتوجه إلى فئة خاصة من الناس، وهم خصوص بني إسرائيل، فيجعلهم سادة الخلق، وسائر الناس عبيد لهم، سواء كانوا من إخوتهم الإبراهيميين  أم من سواهم، ولهذا فإن الحقوق التي يتمتع بها الإسرائيليون لا ينالها غيرهم، كما أن الواجبات الملقاة على غيرهم، لا يتوجب عليهم أكثرها، وعلى هذا الأساس فإن العهد القديم عاجز عن أن يلبي طموح الإنسان من حيث هو إنسان في هذا العالم.

وأما العهد الجديد فلا يشتمل على منظومة تشريعية كما أسلفنا، وبالتالي فهو عاجز عن تلبية حاجات الإنسان أصلاً.

وأما المنظومة الغربية المعاصرة فالتمييز فيها ضد الأقليات العرقية والدينية ظاهر للعيان، لا تختلف مظاهرها في كافة الدول الغربية إلا بمستويات نسبية، والأحداث التي حصلت في الفترة الأخيرة في كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، واسبانيا وغيرها من بلاد الغرب، خير شاهد على ذلك، ولا تحتاج إلى مزيد بيان ولا إلى إقامة برهان.

ولا يصح الاعتذار عن هذه التجاوزات ضد الأقليات العرقية، وخصوصًا المسلمة، بأن تجاوزات الحكام، أو سياسات الدول، ربما تنحرف عن الفكر الصحيح والقانون السليم، إذ ما دام الإنسان هو مصدر التشريع فيها، فلا يؤمن على أن يغيّر فيها ويتلاعب، بحيث تخدم مصالحه التي يتوهمها أو يزعمها، وإن كانت على حساب الآخرين، وفي هذا المجال تتجلى مظاهر العنصرية ضد الآخرين بأوضح صورها,  وما يحصل ضد الفلسطينيين، من مذابح وتقتيل وإنكار حقوق، مدعوما من سائر الدول الغربية، ماثل أمام أعين الناس، وإن كان لهذا التمييز وإنكار الحقوق أبعاد دينية ناشئة من تعاليم العهدين، بالنسبة إلى أرض فلسطين، وهو كاشف عن أن الإنسان الغربي لم يستطع أن يتحرر من قوانين العهدين كما يزعمون.

وأما في النظام الإسلامي فلما كان التشريع خارجًا عن سلطة الإنسان وأهوائه، وهو من مختصات الشارع المقدس، فيبقى مانعًا من التجاوزات والاعتداءات والمظالم، وعلى فرض حصولها فإن التشريعات والقوانين الإسلامية تظل ميزانًا للحكم، سلبًا أو إيجابًا، على القائمين على سياسات الناس باسمه، وبهذا تشكّل التشريعات الإسلامية خير ضمان لسلامة الحكم في أي قضية من القضايا. 

يتبع ←


الهوامش

* باحث إسلامي ومدرّس في الحوزة العلمية.

[1]- إنجيل متى:5/38-41.

[2]- انجيل متى:7/1.

[3]- رسالة رومية:13/1-7.

[4]- رسالة  بطرس الأولى:2/11-21.

[5]- إنجيل متى:5/36-37.

[6]- سفر اشعيا: 11/6-9.

[7]- سفر اشعيا: 65/34-35.

[8]- سورة الأنعام، من الآية 38.

[9]- سورة النحل، من الآية 125.

[10]- سورة الممتحنة, آية 8-9.

[11]- سورة البقرة، من الآية 256.

[12]- سورة الحجرات, آية 13.

[13]- بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 73/350 (خطبة النبي (ص)في حجة الوداع) ؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17/281 ؛ وروي (باختلاف يسير) في كنز العمال:1/258.

[14]- بحار الأنوار: 75/251 ، ح99.

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع