بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين

وصلّى الله على خير خلقه

محمد وآله الطاهرين المعصومين

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

فصــــلٌ

فـي القبــــلـة

 

الكلام في تحديد القبلة

ــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الفقيه المتبحّر السيّد اليزدي (قده):

وهي المكان الذي وقع فيه البيت شرّفه الله تعالى من تخوم الأرض إلى عنان السماء للناس كافة، القريب والبعيد لا خصوص البنية(1)

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)   لا إشكال في أن القبلة هي البيت الحرام في الجملة إما مطلقاً أو لخصوص أهل مكّة كما سيأتي، وقد نطقت بذلك الآيات[[1]] والروايات، وقد جعله الله قبلة لجميع الناس .

كما لا ينبغي الإشكال في أن المراد من القبلة والبيت هو الفضاء الذي فيه البناء، لا خصوص البناء الخارجي، إذ لازمه أنه لو تجدّد هذا البناء، فقد زالت القبلة لزوال البناء، مع أنه ليس كذلك قطعاً.

والظاهر انه لا خلاف في أن القبلة هي محل البنية، وعليه ـ كما قيل ـ إجماع المسلمين، وقالوا بأنها من تخوم الأرض إلى عنان السماء، ولا ينحصر بخصوص المقدار الموجود من الارتفاع.

وقد استدلّوا على ذلك بعدّة روايات استفادوا منها عدم انحصار القبلة بارتفاع خاص، فلو صلّى أحد في بئر أو في جبل قبيس صحّت صلاته:

منها: رواية عبد الله بن سنّان عن أبي عبد الله (عليه السلام) سأله رجل قال: (صلّيت فوق أبي قبيس العصر، فهل يجزي ذلك والكعبة تحتي؟ قـال: نعم إنّها قبلة مـن موضعها إلى السماء).

ومنها: رواية خالد بن أبي إسماعيل قال قلت لأبي عبد الله (صلى الله عليه وآله): (الرجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة، فقال: لا بأس).

ومنها: مرسلة الصدوق قال: (قال الصادق  (عليه السلام) أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا)[[2]] أي إلى عنان السماء كأن كل سماء فرضه أرضاً بالنسبة للسماء الثانية.

هذه الروايات التي استدلّوا بها على الحكم المذكور.

إلا أن الظاهر أن هذا الكلام لا أساس له كما ذكر السيّد الأستاذ، وإنما الكعبة هي الفضاء الخارجي كسائر الأملاك مـن تحت الأرض بالمقدار الملحق بها ومن فوقها بالمقدار الملحق بها عادة، والمعنى الذي ذكروه من تخوم الأرض إلى عنان السماء لم يثبت ولا يمكن الالتزام به:

أولاً: لأنه يلزم التبدل بالكعبة والبيت آناً فآناً، لأن ذلك الفضاء من تخوم الأرض إلى عنان السماء غير ثابت بناءً على حركة الأرض حركة وضعيّة، أو وضعيّة وانتقاليّة، فالفضاء الموازي والمساوي للكعبة ليس ثابتاً بل يختلف بالحركة، مع أن الظاهر من الآية والروايات والتسالم أن البيت أمر ثابت لا يتغيّر.

بل لو فرضنا أن الأرض ثابتة، فـلا إشكال في الحركة، لأنها في الأفلاك وجدانيّة ومرئيّة للشمس والقمر والنجوم، فإن العالم متحرّك.

غايته أن الكلام في أن الشمس ثابتة والحركة للمنظومة الشمسيّة حول الشمس ؟ أو أن الأرض ثابتة والحركة حول الأرض ؟

فعلى التقدير الأوّل واضح، وعلى التقدير الثاني أيضاً بما أن الأفلاك تتحرك حول الأرض، فالجزء المقابل للكعبة يتغيّر لا محالة، وهناك بيان آخر يطول الكلام به، وعلى كِلا  التقديرَين فالجزء المقابل للكعبة يتغير لا محالة.

وهكذا الحال في المساجد وسائر الأملاك فإنه لا يمكن الالتزام بأنها من تخوم الأرض إلى عنان السماء كما ادعى ذلك جماعة وأن الناس يكتبون في سجلات البيع باع فلان عقاره من تخوم الأرض إلى عنان السماء، فإن هذا المعنى غير صحيح لأنه لا يملك هذا المقدار.

وأما الروايات التي استفادوا منها ذلك، فرواية خالد بن أبي إسماعيل وإن كانت معتبرة، إلا أنّها تدل على جواز الصلاة فوق الجبل الذي هو أرفع من الكعبة، لا لأجل أن القبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء، بل لأجل أن الاستقبال لا يعتبر فيه أن يكون المصلي والكعبة على صعيد واحد وفي سطح واحد، بل معنى الاستقبال هو التوجه نحوه، وكون القبلة قبال وجهه، وهذا معنى [فولّوا وجوهكم شطره].

فالعالي مهما كان عالياً فهو متوجه شطره وكذا لو كان نازلاً مهما كان نازلاً، غاية الأمر أنه لا يرى الكعبة لحيلولة مقدار من الأرض بينه وبين الكعبة، وهذا لا يضر لأنه لا تعتبر الرؤية الحسيّة، بل المعتبر كونه في مكان بحيث لو أزيل المانع لرآه، فهو متوجه إلى الكعبة ويراها تقديراً، وهكذا المكان النازل عن الكعبة.

وكأن هؤلاء تخيّلوا أنهم لو لم يلتزموا بها من تخوم الأرض إلى عنان السماء فإن المصلي العالي أو السافل لا يكون متوجّهاً، إلا أنه متوجه كما ذكرنا فلا ملزم لهذا القول.

بل لو فرضنا أن المصلّي يصلي في نقطة الشرق فتقسم الأرض إلى أربعة نقاط، وفرضنا أن الكعبة كانت في نقطة  الجنوب بحيث يكون البعد بين المصلي وخط الكعبة أكثر من تسعين درجة، فلو أخذنا خطاً مستقيماً من جهة المصلي وخطاً من الكعبة إلى جهة العلو إلى عنان السماء، فهذان الخطان متوازيان يستحيل تلاقيهما، فما هي فائدة القول بأن القبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء، بل الاستقبال لا يصح حينئذ إلا في ربع الأرض بحيث يكون البعد أقل من تسعين درجة.

وعلى هذا ففيما لو كان الخطّان متوازيين أي أكثر من تسعين درجة كالشمال الشرقي والشمال الغربي مع فرض كون القبلة إلى جهة الجنوب، فمعناه أن الصلاة لا تصح لعدم تلاقي الخطّين.

وأما على ما ذكرنا، فإن الصلاة تصح لأن الخطين وإن لم يتلاقيا، إلا أن المواجهة موجودة لأنها كما ذكرنا كونه بحيث لو أزيل المانع لرآها، وهذا متحقق في كل مكان من الأرض ويمكن التوجه للكعبة من كل مكان من الأرض، فالرواية المذكورة لا تنافي ما ذكرنا لأنه يمكن فرض الاستقبال الحقيقي بلا حاجة إلى القول المذكور.

وأما مرسلة الصدوق فهي ضعيفة لا يصح الاعتماد عليها.

وأما رواية ابن سنان فدلالتها تامّة ولكنها ضعيفة السند لضعف الطريق بين الشيخ وعلي بـن الحسـن الطاطري، حيث أنّ فيه علـي بـن محمد بن الزبير القرشي ولم يوثق، ولو صحت هذه الرواية فلا بد من حملها على ما ذكرنا.

وليست الثمرة بين القولين هي العلو والنـزول، لأن الصلاة عالياً أو سافلاً صحيحة على كل تقدير، بل الثمرة هي ما ذكرنا من عدم صحّة الصلاة في النقطة التي تبعد أكثر من تسعين درجة.

نعم لو فرضنا النقطة المسامتة للكعبة في الطرف الآخر من الأرض التي تبعد عن مكة مائة وثمانين درجة، وهذا لا يكون إلا في مكان واحد، فهذا حاله حال نفس الكعبة أينما توجه فهو قبلة لأن نسبة الكعبة إليه من جميع الجوانب على حد سواء من حيث البعد.

وقد تفرض ثمرة غير مهمّة كتجاوز راكب الطائرة من فوق المسجد الحرام إذا كان جنباً، وهذا لا ينبغي جعله من الثمرات العلميّة.


 

[[1]] راجع سورة البقرة ، الآيات : 115 - 144 - 149 - 150 .

[[2]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب18 ح1 - 2 - 3 .

رجوع