فصلٌ

في الستر والساتر

___________________________

قال الفقيه المتبحّر السيّد اليزدي (قده) في العروة:

إعلم أن الستر قسمان:  ستر يلزم في نفسه. وستر مخصوص بحالة الصلاة.

(فالأوّل): يجب ستر العورتين القُبُل والدُبُر عن كل مكلّف من الرجل والمرأة، عن كل أحد من ذكر أو أنثى، ولو كان مماثلاً مَحرماً أو غير مَحرم، ويحرم على كل منهما أيضاً النظر إلى عورة الآخر، ولا يُستثنى من الحُكمَيْن إلا الزوج والزوجة، والسيِّد والأمَة إذا لم تكن مزوجّة و لا محلّلة، بل يجب الستر عن الطفل المميِّز خصوصاً المراهق، كما أنه يحرم النظر إلى عورة المراهق، بل الأحوط ترك النظر إلى عورة المميِّز(1).

___________________________

 (1)   أحكام هذه المسألة قد ذُكِرت في أحكام التخلّي، فلتراجَع.

___________________________

ويجب ستر المرأة تمام بدنها عمن عدا الزوج والمحارم إلا الوجه والكفين مع عدم التلذّذ والريبة(1) وأما معهما فيجب الستر ويحرم النظر حتى بالنسبة إلى المحارم وبالنسبة إلى الوجه والكفين.

___________________________

 (1)   الكلام في ستر غير العورة يقع في جهات:

الجهة الأُولى: في حكم المرأة من حيث تستّرها في غير العورة

ولا إشكال في وجوب الستر عليها وهو الذي دلّت عليه الآية الكريمة{ولا يبدين زينتهنّ..}[[1]].

وقد استثنى من هذا الحكم القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نِكاحاً، بمعنى التي يئست ولا يرغب فيها رجل لا أنها هي لا ترغب، ولذا كان التعبير بقوله تعالى: {لا يرجون نِكاحاً}[[2]].

كما استثنيَ من وجوب التستُّر مواضع الزينة من غير المرأة اليائس، وكذلك استثنيَ الزوج والمحارم كما نصّت عليه الآية الكريمة.

والحاصل: أنّه لا إشكال في وجوب التستُّر إلا ما استثنيَ للآية والروايات، ولِما دلّ على حرمة النظر للمرأة ممّا سيأتي، بناءً على الملازمة بين حرمة النظر ووجوب التستُّر.

نعم لم يُذكر في الاستثناء الأعمام والأخوال والأصهار، فمقتضى عموم الآية مع عدم استثنائهم حرمة إبداء المرأة بالنسبة لهم.

إلا أنّه لا إشكال في أنّهم مستثنون من حرمة التكشُّف، للسيرة القطعيّة بين المتديّنين والمسلمين وغيرهم المتّصلة بزمان المعصومين على معاملة العم والخال معاملة الأخ، وكذلك الصهر.

بل يمكن استفادة الجواز بالنسبة للأعمام والأخوال من نفس الآية، حيث استثنى فيها أبناء أخت المرأة التي هي خالتهم وأبناء أخيها التي هي عمّتهم، ونسبة المرأة إلى عمّها وخالها كنسبة أولاد أخيها وأختها إليها، فكما جاز في أولاد أختها وأخيها فكذا يجوز في أعمامها وأخوالها بمقتضى المقابلة.

كما يمكن استفادة ذلك أيضاً ممّا تقدّم في باب الجبائر من أنّه إذا لم توجد إمرأة تغسّل المرأة الميّتة، يغسّلها أحد محارمها، الدال على جواز نظر المحرم إلى المرأة، والمحرم هو من يحرم عليها نِكاحها، ولا إشكال في أنّ العم والخال والصهر يحرم عليها نكاحهم بنصّ القرآن الكريم، فيجوز النظر بالنسبة لهم فيما عدا العورة.

الجهة الثانية:

في أن النظر عن شهوة وريبة بالنسبة للمحارم وغيرهم حتى بالنسبة للوجه والكفّين، هل هو محرّمٌ مطلقاً أم لا ؟

في أن النظر عن شهوة وريبة بالنسبة للمحارم وغيرهم حتى بالنسبة للوجه والكفّين، هل هو محرّمٌ مطلقاً أم لا ؟

والظاهر أنّه لا خلاف في الحرمة كما ذكر الشيخ  الأنصاري (قده) ولعلّه اتفاق المسلمين، ويدلّ عليه أمور:

الأوّل: ما دلّ على أنّ النظر سهمٌ من سهام الشيطان، فإنّها تدلّ على الحرمة مع التلذّذ والريبة، لأنّه إنما يكون سهماً إذا كان عن شهوة، وذلك في عدّة روايات:

منها: رواية عُقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: النظرة سهمٌ من سِهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة).

وفي سندها عُقبة وهو وارد في أسانيد كامل الزيارات، ويؤيّده ما ورد من (أنّ زنا العينين النظر وزنا الفم القبلة وزنا اليدين اللمس، صدّق ذلك الفرج أو كذّب)[[3]]، ولا يكون كذلك إلا إذا كان عن شهوة أو ريبة.

نعم نظر الريبة لا يحتمل أن يجرّ إلى الزنا، وأما نظر الشهوة فهو مما يحتمل أن يجرّ إلى الزنا ولذا عبّر عنه بزنا العين، وهذه الرواية الأخيرة لضعف سندها جعلناها مؤيّدة.

ومنها: -وهي العمدة- صحيحة علي بن سويد قال: (قلت لأبي الحسن الرضا  (عليه السلام): إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها، فقال: يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق وإيّاك والزنا فإنه يمحق البركة ويهتك الدين)[[4]].

فهذه الصحيحة واضحة الدلالة على الجواز بشرط أن يعلم الله من نيّته الصدق، وأما إذا كان نظر شهوة وريبة فلا يجوز، لأنّه ليس عن صدق نِيّة.

وقد احتمل الشيخ الأنصاري -ونِعم الاحتمال- أن عمل علي بن سويد (لكونه بزّازاً أو صائغاً من جهة حرفته كان مبتلىً بالنظر، وإلا فهو لا يتعمّد ذلك) كان يستدعي الابتلاء بالنساء وفيهنّ الجميلات فأعجب بهذا النظر، وإلا فلا معنى لقوله إنّي مبتلى، والإعجاب لا يلازم الريبة لأنّه طبيعة البشر   وإلا فلا معنى للتفصيل مع الإعجاب بين صدق النِيّة وعدمه  ويؤكّد هذا المعنى قوله  (عليه السلام): (وإيّاك والزنا) حيث نبّه الإمام (عليه السلام) على أنّ المحرّم هو الزنا، وأما النظر الصادق المجرّد عن الريبة وإن كان معه إعجاب فلا بأس به، وسؤاله لم يكن إلا عن النظر فأجابه عنه مع التنبيه على الزنا، والمهم هنا هو استفادة حرمة النظر بريبة.

ويحتمل أن يكون مضطرّاً إلى النظر لعلاجٍ ونحوه بقرينة قوله إذا عرف الله من نِيّتك الصدق، أي الصدق في أنّ نظره للغاية اللازمة الداعية للنظر، إذ النظر الاتفاقي لا نِيّة فيه.

وكلا هذين الاحتمالين وارد، وقوله (عليه السلام): (إذا عرف الله من نيّتك الصدق) لا يوجب تعيين هذا الاحتمال  كما قيل  لأنّ الابتلاء بمعنى الاضطرار لم يعهد.

ويمكن أن يكون المراد أنِّي مبتلى بهذا الابتلاء وهو النظر إلى الإمرأة الجميلة وأنّه يستأنس بهذا النظر فهو ابتلاء نفسي، وقوله (إذا عرف الله من نِيّتك الصدق) أي إذا نظرت بلا نيّة خبيثة، ولا يجب في تحقّق صدق النيّة أن يكون قد نظر لغاية وكان صادقاً في جعل نظره لهذه الغاية، بل الصدق بمعنى عدم الخيانة.

وقد استبعد السيّد الأستاذ هذا الاحتمال، إذ لا يحتمل أن الإمام (عليه السلام) قد أقرّ علي بن سويد وجوّز له النظر مع هذا الابتلاء النفساني بأن يتفحص عن المرأة الجميلة وينظر إليها لأنه يعجبه ذلك، فإن هذا بعيد جداً لأنه عمل الفسّاق والمترفين فكيف بعلي بن سويد الذي هو من ثقاة الإمام الرضا   (عليه السلام) وخاصّته.

واحتمل صاحب الجواهر أن يكون النظر إتفاقياً فأعجب بهذا النظر فأجابه الإمام بأنّه إذا لم يتعمّد وكان إتفاقياً فلا بأس، وهذا أيضاً بعيد جداً لظهور الرواية في العمد بقرينة قوله فيعجبني أي يعجبني أن أنظر إليها.

ولا يهمّنا أيّاً كان الصحيح من هذه الاحتمالات، وإنما المهم أن نستظهر من الرواية أن الصدق يعني عدم الشهوة والريبة، أو أنّ الظاهر منها أن الصدق يعني عدم نيّة الزنا والوقوع في الحرام بقرينة قوله في ذيلها (وإيّاك والزنا)، فلا  تدلّ على هذا الاحتمال على الحرمة مع الشهوة والريبة، لأنّ وجود الشهوة لا يلازم نيّة الزنا.

فالذي يمكن أن يقال -بعد تسليم أن تحقّق صدق النيّة لا يتوقّف على أن يكون قد نظر لغاية-: أن الذي دلّت عليه الرواية هو جواز النظر مع صدق   النيّة، ومفهومها البأس مع عدم صدق النيّة، بمعنى عدم صدق السريرة في هذا النظر، ولا فرق بين أن يكون الإبتلاء للاضطرار أو لشغله أو للمرض النفساني، فإنه على جميع هذه التقادير لا يجوز النظر مع عدم صدق النيّة ويجوز مع صدق النيّة في الجميع.

والذي يمنع من الاستدلال بها للجواز هو احتمال الاضطرار والنظر الاتفاقي وهذان الاحتمالان بعيدان، والاحتمالان الآخران كلاهما يدلاّن على الجواز بدون ريبة، وعلى عدم الجواز مع الريبة والشهوة، فإذا نظر مع الشهوة لم يكن عنده صدق نيّة وإن لم يكن عنده نيّة الزنا لعدم الملازمة كما عرفت، وقوله (عليه السلام) (وإيّاك والزنا) إما كلام مستقلّ أو تأكيد لمفهوم الكلام الأوّل.

ودعوى: أن التلذّذ والريبة مفروغ عنه بقرينة الإعجاب، فعدم صدق النيّة لا بدّ وأن يكون معه نيّة الزنا.

مدفوعة: بأنّ الإعجاب لا يلازم الريبة والشهوة، لأنّه مقتضى الطبيعة البشريّة من الإعجاب بالنظر إلى حسان الوجوه حتى الآباء والأبناء والأخوات ومطلق المناظر الجميلة في غير البشر، فاحتمل الراوي أن يكون هذا النوع من الإعجاب محرّماً فسأل عنه فأجابه (عليه السلام) بما ذكر.

والحاصل: أنّه لا إشكال في حرمة النظر مع التلذّذ والريبة للإجماع والنص المذكور وغيره ومرتكزات المتشرّعة وملاحظة مجموع الروايات في أحكام العلاقة بين الرجال والنساء في الأبواب المتفرّقة.

فلا بدّ من معرفة معنى التلذّذ والريبة:

أما التلذّذ: فمعناه الشهوة، وهو واضح.

وأما الريبة: فقد ذكر غير واحد أن معناه خوف الفتنة والوقوع في الحرام، وقيل: هي ما يخطر بالبال من النظر أي الميل إلى الوقوع في الحرام وإن لم يخف على نفسه ذلك، بل مجرّد حضوره في نفسه مع النظر.

هذا.. ولكن الشهوة وخوف الوقوع متلازمان كما ذكر السيّد الأستاذ إلا في الموارد التي لا يمكن الوصول إلى المرأة فإنّه حينئذٍ تتحقّق الشهوة بدون الريبة، فلا يبعد أن يكون هذان العنوانان منطبقين على مورد واحد، ومقتضى الروايات المتقدّمة تحريم الجميع، لأنّه لا يتحقّق مع واحد منها صدق النيّة، ولأنها من سهام الشيطان، أو لأنّ حرمة النظر مع خوف الوقوع في الحرام متيقّن، وغيره فيه الفساد، كما ذكر الشيخ الأنصاري.

الجهة الثالثة:

في حكم النظر إلى المرأة الأجنبيّة في غير الوجه والكفّين

ولا خلاف في الحرمة بل عليه الإجماع كما في الحدائق والمسالك، بل في الجواهر أنّه إجماع وضرورة من المذهب، وفي رسالة الشيخ الأنصاري أنّه من المسلَّمات، بلا فرق بين خوف الفتنة وعدمه إلا ما استثنيَ ممَّا سيأتي.

ويدلّ عليه: مضافاً إلى ذلك النهي عن إبداء الزينة في الآية الكريمة إلا ما استثني، فإنّ ذلك يدلّ على عدم جواز النظر، فإنّ جواز التكشّف وإن لم يلازم جواز النظر لأنّه لا مانع من أن يحلّل المولى التكشّف ويحرّم النظر، لحصول الغرض بعدم وقوع الفعل المبغوض بنهي أحد الطرفين، إلا أنّ تحريم الإظهار وتحريم  الإبداء يلازم تحريم النظر ملازمة عرفيّة ظاهرة، لأن حرمة التكشّف تكشف عن محبوبيّة التستّر ومبغوضية التكشّف وما ذاك إلا أنّه مقدّمة للنظر لا لذاته، فإذا جوّز النظر فهو نقض للغرض، فيستفاد من النهي عن إبداء الزينة حرمة النظر، فجواز التكشّف وإن لم يلازم جواز النظر حيث يجوز للرجل التكشّف، ولا يجوز للمرأة النظر، إلا أنّ حرمة التكشّف تلازم حرمة النظر، وإلا لكانت لغواً وخلاف الحكمة.

ويدلّ على الحكم المذكور أيضاً: وجوب الغض في الآية الكريمة فإنها مطلقة، وتتضح دلالتها بقرينة ما ورد من نزولها في صحيحة سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط، أو زجاجة فشقّ وجهه، فلما مضت المرأة، نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال: والله لآتينّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأخبرنّه، فأتاه، فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرائيل بهذه الآية  {قل للمؤمنين.. الآية} )[[5]].

ويدلّ عليه أيضاً: ما دلّ على أن المرأة المسنّة يجوز لها أن تضع من ثيابها الجلباب والخمار[[6]] كما سيأتي، حيث يفهم منه أنها إذا لم تكن مسنّة لا يجوز لها ذلك، وتدلّ بالملازمة المتقدّمة على حرمة النظر.

ويدلّ عليه أيضاً: صحيحة عبّاد بن صهيب قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة والأعراب وأهل السواد والعلوج لأنّهم إذا نُهوا لا ينتهون، قال: والمجنونة والمغلوبة على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمّد ذلك)[[7]].

وفي الفقيه بدل (أهل السواد والعلوج) (أهل البوادي من أهل الذمّة)، والسند معتبر في رواية الكافي.

وذكر السيّد الأستاذ أنّه لعلّ في عبارة الوسائل تحريفاً والصحيح لأنّهن إذا نُهِيْنَ لا ينتهيْن بصيغة المؤنّث.

فتدلّ هذه الرواية على أنّ عدم جواز النظر إنما هو حقٌ للمرأة لأنّها عورة، فإذا بذلت نفسها وكانت بحيث لا تنتهي إذا نُهيَت فقد أسقطت حقّها، نظير الأموال التي يتنازل عنها مالكها ويلغي احترامها.

فتدلّ الرواية بالمفهوم على أنّها إذا كانت بحيث تنتهي لا يجوز النظر إليها.

ويؤيّده: ما دلّ على تحريم النظر إلى شعر أخت الزوجة وأنّها والغريبة سواء[[8]].

فإنّها تدلّ على أنّ النظر بالنسبة للأجنبيّة كان أمراً مفروغاً عن حرمته حيث قال الراوي: (أخت امرأته والغريبة سواء، قال: نعم).

إلى غير ذلك من الروايات.


 

[[1]] سورة النور آية: 31 .

[[2]] سورة النور آية: 60 .

[[3]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب104 أبواب مقدماته وآدابه ح1-2 .

[[4]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب1 أبواب النكاح المحرم وما يناسبه ح3 .

[[5]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب104 أبواب مقدماته وآدابه ح4 .

[[6]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب110 ح4 .

[[7]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب113 أبواب مقدماته وآدابه ح1 .

[[8]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب107 مقدماته ح1 .

رجوع