الجهة الرابعة:

في النظر إلى الوجه والكفّين، بدون تلذّذ وريبة

والمشهور عدم الجواز، وأصرّ عليه صاحب الجواهر وجعله من الواضحات، وهو المنقول عن العلاّمة، وقيل بالجواز على كراهة كما نُقِل عن الشيخ وصاحب الحدائق، وأصرّ عليه الشيخ الأنصاري في كتاب النكاح.

وقيل بالجواز مرّة وحرمة التكرار كما في الشرائع وغيرها، وقد احتاط الماتن هنا في باب الستر في الصلاة وجوباً، وفي كتاب النكاح بنى على الحرمة.

ولا بدّ من التعرّض لأدلّة القائلين بالحرمة، وقد استدلّوا بالأدلّة الأربعة:

الدليل الأوّل: الآيات الكريمة

وهي أمور:

منها: آية الغضّ التي تقدّمت، حيث يستفاد منها حرمة النظر إلى كل امرأة.

وفيه: أنّه لا يبعد أن يكون الظاهر من الغض هو الإغماض عن الشيء والتجاوز عنه وعدم القرب إليه، فهو عبارة عن المورد الذي حرّمه الله تعالى، فلا تدل على حرمة النظر، ومثل هذا التعبير متعارف، ولا يبعد أن يكون هذا هو مقتضى السياق في الآية، فإنّه بعد أن لم يكن نفس الغضّ بمدلوله المطابقي واجباً، فهو إما كناية عن عدم النظر للأجنبيّة، أو كناية عن التجاوز الذي ذكرناه، ولا مرجّح لإرادة الأوّل، فتكون الآية مجملة من هذه الجهة.

ولو فرض أنّها صريحة في إرادة عدم النظر، فليس المراد عدم النظر إلى كلّ شيء إلا ما خرج، فإنّ مثل هذا الكلام مستهجن جدّاً، لا يصدر في الكلام العادي فضلاً عن القرآن الكريم، فلا بدّ أن يكون المراد عدم النظر إلى ما حرّم الله النظر إليه، فلا بدّ من معرفته في مرتبة سابقة على الآية، فتكون الآية إرشاداً إلى الغضّ عمّا حرّم الله، ولم يُبيّن فيها ما حرّمه الله.

ولو قيل: بأنها ظاهرة في عدم النظر إلى خصوص المرأة بقرينة السياق لا كلّ شيء، ومقتضى الإطلاق هو كلّ المرأة.

قلنا: هذا مخصّص باستثناء ما ظهر في النساء الدال على جواز النظر.

ومن الآيات: قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن}[[1]]، فإن حرمة إبداء الزينة يشمل بإطلاقه الوجه والكفّين، لأنهما زينة.

وفيه أوّلاً: أنّ هذا الحكم قد خصّص بمخصّص متّصل وهو قوله في نفس الآية {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها }[[2]]، ومن الواضح أنّ الوجه والكفّين من الأمور الظاهرة عادةً، فلا يمكن الاستدلال بالآية على الحرمة فيهما، بل الاستدلال بها على الجواز فيهما أولى، وجواز الإظهار هنا يلازم جواز النظر، لأنّه مستثنى من حرمة الإبداء الملازمة لحرمة النظر، فكأنّه قال: لايبدين الزينة التي يحرم النظر إليها إلا ما ظهر فإنّه يجوز إبداؤه ويجوز النظر إليه.

ويدلّ على أنهما من الزينة المستثناة عدّة روايات:

منها: صحيحة الفضيل بن يسار، قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن}؟ قال: نعم، وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين)[[3]].

فإنّ سندها معتبر ودلالتها واضحة، لأنّ الخمار هو ما يستر الوجه والجيوب، وتحت الذقن فما دونه من الزينة المحرّمة وأما هو فلا، وكذا السوار فإنه عبارة عن الذراعين فما فوق، فما دونه زينة وأما هو واليدان فلا.

ومنها: أي ممّا يدلّ على أنّ الوجه والكفّين من الزينة: رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن قول الله عزّ وجل {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: الخاتم والمسكة وهي القُلب)[[4]].

والقُلب هو السِوار، وهذه أيضاً تدلّ على الجواز في الوجه والكفّين، فإنّ النظر إلى الخاتم والسِوار لا ينفك عادةً عن النظر إلى اليد، وإن كان الوجه لم يذكر في الرواية.

وأما سند هذه الرواية، ففيه الحسين بن محمّد فهو ابن عامرٍ الذي يروي عنه الكُلَيني، وقد تكرّر في أسانيده وينتهي نسبه إلى ابن عمران وهذا قد وثّقه النجاشي، وأما أحمد بن إسحاق فقد وثّقه الشيخ، وأما سعدان أو سعد فهو قائد أبي بصير ووثاقته مبنيّة على وثاقة من ورد في أسانيد كامل الزيارات.

ومنها: رواية مسعدة بن زياد قال: (سمعت جعفراً وسئل عما تظهر المرأة من زينتها قال: الوجه والكفّين)[[5]].

وهذه واضحة الدلالة، وسندها معتبر لأنّ هارون بن مسلم ومسعدة قد وثّقهما النجاشي.

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على ذلك في الوجه والكفّين.

ومن الآيات: التي يستدل بها، استثناء القواعد من النساء في الآية الكريمة وأنّه يجوز لهنّ أن يضعن ثيابهنّ ويجوز النظر إليهنّ، وفي بعض الروايات (إذا كانت مسنّة)[[6]] كما تقدّم، حيث يعلم من هذا أنّ غير المسنّة لا تضع ثيابها ولا يجوز النظر إليها.

وفيه: أن الثياب التي يجوز للقواعد وضعها هي القناع والجلباب كما ورد في الروايات المعتبرة تفسيراً للآية الكريمة، فتدلّ على أنّه يجوز النظر إلى شعرها ورأسها، ويفهم منه عدم جواز النظر إلى هذه الأمور من الإمرأة الشابة وهذا ليس من محل الكلام، وإنما الكلام في الوجه والكفّين.

الدليل الثاني ممّا يستدلّ به لحرمة النظر: الروايات

الروايات الكثيرة الدالة على جواز النظر إلى المرأة التي يريد تزويجها، وأحسن هذه الروايات سنداً ودلالةً هي: صحيحة هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وحفص بن البختري كلّهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوّجها)[[7]].

بدعوى: أنّه يستفاد منها بمفهوم الشرط أنّه مع عدم إرادة التزويج فالنظر فيه بأس.

وفيه: أنّ النظر الذي نفي عنه البأس إما أن يُحمل على الكراهة، لأنّ غاية ما دلّت عليه هو البأس مع عدم إرادة التزويج، والروايات المتقدّمة صريحة في الجواز، فالجمع بين منطوق تلك الروايات ومفهوم هذه ينتج الكراهة.

وإما بحمل النظر الذي فيه البأس في هذه الروايات على النظر عن تلذّذ كما هو الغالب فيمن ينظر لإرادة التزويج، فإنّ مثل هذا النظر لا ينفك عن التلذّذ لأنّه لا محالة يتفكّر فيما يوجب التهيّج.

ويؤيّد ذلك رواية الحسن السري قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يريد أن يتزوّج المرأة يتأمّلها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها، قال: نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها، ينظر إلى خلفها وإلى وجهها)[[8]].

حيث سأل عن التأمّل والتفكّر في محاسنها الذي لا ينفك عن التلذّذ فأجاب (عليه السلام): نعم.

وفي سندها الحسن السري، وقد وثّقه ابن داوود ناسباً له إلى النجاشي، ووثّقه العلاّمة ويظن أنّه مبني على توثيق النجاشي، إلا أنّ نسخة النجاشي التي بأيدينا خالية عن توثيقه، ولو اقتصر الأمر على هذا لصحّحنا نسخة العلاّمة وابن داوود لصدقهم، إلاّ أنّ السيّد التفريشي ذكر أنّ عنده أربعة نسخ كلّها خالية عن توثيق هذا الرجل، فيدور الأمر بين الزيادة والنقيصة في نسخ النجاشي ولا يمكن الحكم بالوثاقة.

فالرواية لا تصلح للاستدلال، على أنّ هذه الروايات في هذا الباب لا تصلح دليلاً على حرمة النظر إلى الوجه والكفّين كما يظهر لمن راجعها وتأمّلها.

ومن الروايات: ما تقدّم ممّا تضمن أنّ النظر سهمٌ من سهام إبليس،وأنّ زنا العين النظر ونحو ذلك، فيستكشف أنّ النظر محرّم ولو بهذه المرتبة.

وهذه الروايات وإن كان بعضها صحيح السند إلا أنّها لا تدلّ، لأنّ مثل هذا التعبير يناسب أن يكون النظر نظر تلذّذ وريبة لا مجرّداً وذلك أنّ واقع الزنا معلوم، فأراد الإمام أن يبيّن أن مرتبة ضعيفة منه تتحقّق بالنظر، فلا بدّ أن يكون هذا النظر الذي يتحقّق معه الزنا التنزيلي هو النظر عن ريبة، حتى يكون مشبّهاً للزنا الحقيقي، وهذا غير محل الكلام وهو النظر من دون تلذّذ.

 وقد يقال: بأنّ ما دلّ على إظهار مواضع الزينة لا يدلّ على الجواز، لأنّ جواز الإبداء لا يلازم جواز النظر كما هو الحال في الرجال، حيث يجوز لهم الإبداء ولا يجوز للنساء النظر إليهم.

وفيه: أن التعبير بعدم وجوب الستر لا يلازم جواز النظر، وأما التعبير بالإبداء فإنّه يلازم جواز النظر، لأنّ الإبداء هو الإظهار والإراءة، وقد نهى في الآية واستثنى ما ظهر من الزينة وأنّه يجوز إبداؤه، ولا معنى لجواز الإبداء إلا جواز النظر كما ذكرنا.

ومن الروايات: التي يستدلّ بها على الحرمة مكاتبة الصفّار إلى أبي محمد (عليه السلام): (في رجلٍ أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم هل يجوز له أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ويسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك وهذا كلامها، أو لا يجوز  الشهادة عليها حتى تبرز ويثبتها بعينها، فوقع (عليه السلام): تتنقّب وتظهر للشهود إن شاء الله)[[9]]، حيث يستفاد منها وجوب النقاب وقد استدلّ بها صاحب الجواهر.

 ولكنّها لا تتم لأنّ النقاب لا يستر تمام الوجه، بل المتعارف أنّه يستر إلى حدّ الأنف دون العينين والجبهة، فتحمل الرواية على أنّ ذلك لأجل أن لا تخجل هي، إذ لا يحتمل حرمة النظر إلى خصوص هذا النصف الذي يستره النقاب.

الدليل الثالث للحرمة: الإجماع

ما عن الفاضل المقداد من دعوى الإجماع وإطباق الفقهاء على أنّ بدن المرأة عورة كلّه إلاّ بالنسبة للأزواج ومن في حكمهم والمحارم.

وفيه: أنّه إجماعٌ منقول، على أنّه لا يحتمل صدقه، إذ لو أريد به أنّ البدن  غير الوجه والكفّين  عورةٌ كلّه كما لعلّه هو مراد الفاضل المقداد فهذا مسلّم، وهو خارج عن محل الكلام، وإن أريد ما يشمل الوجه والكفّين فلا يحتمل صدق هذا الإجماع، لذهاب جماعة إلى الجواز في الوجه والكفين كما تقدّم ونسب للشيخ الطوسي، فالإجماع منقولٌ ولا يحتمل صدقه على تقدير، وغير مفيد على تقدير آخر.

وقد يُستدلّ على الحرمة: بالسيرة القطعيّة بين النساء المتديّنات اللواتي جرت عادتهنّ على التستّر عن الأجانب من الرجال.

وفيه: أنّ هذه السيرة موجودة عند قسم خاص من النساء الجليلات القدر اجتماعياً وهي مبنيّة على الغيرة والشرف، وأما في عامة النساء فالسيرة على العكس، على أنّ هذه السيرة لو وجدت فهي مأخوذة من فتاوى الفقهاء في العصور المتأخّرة وليست متّصلة بزمن المعصومين.

ولو سلّم اتصالهم بزمانهم فلا تدلّ على الحرمة، فإنّ السيرة على الفعل تكشف عن عدم الحرمة، والسيرة على الترك تكشف عن عدم الوجوب، فالسيرة على ترك التكشّف لا تكشف عن حرمة التكشّف، على أنّ السيرة إنّما هي عن الأجانب العرفيين دون الأقارب الذين هم أجانب شرعاً، مع أنّ الدعوى عامّة للطرفيْن.

الدليل الرابع ممّا يستدلّ به للحرمة: العقل

بدعوى: أنّ عمدة محاسن المرأة في وجهها، وهو الذي يكون النظر إليه موجباً للافتتان غالباً، ولا شكّ في أنّ الشارع يبغض الزنا، والافتتان والنظر يوصل إلى ذلك غالباً، فلا بدّ للشارع حسماً لمادة الفساد من تحريم النظر.

وهذا الوجه جميل، ولكنّه يصلح حكمة للتشريع لو ثبتت الحرمة خارجاً، فيقال بالتحريم المطلق في جميع الأفراد حسماً لمادة الفساد، كما كان ذلك في العدّة تحفظاً على المصلحة النوعيّة.

ومع عدم ثبوت الحرمة خارجاً فهذا الوجه لا يدلّ على الحرمة، بل يدلّ على حرمة خصوص النظر الموصل للحرمة وهذا ليس من محل الكلام.

ولو تمّ هذا لم يفرّق بين المحارم وغيرهنّ لأنّه يحتمل فيهنّ هذا المعنى الذي يستدعي حسم مادة الفساد، وهذا لا يمكن تسليمه لجواز النظر إليهنّ، بل الوجه المذكور يستدعي ذلك في حسان الوجوه من الذكور.

والحاصل: أنّ الدليل المذكور ملاك للحكم الشرعي لو ثبت، لا أنّه يكشف عن حكم شرعي، لأنّ الملاك يستكشف بالحكم، ولا يستكشف الحكم بالملاك، لأنّه لا طريق للملاك إلا الحكم.

فما استدلّ به على الحرمة من الأدلّة الأربعة لم يتم شيء منها.

وأما أدلّة جواز النظر الذي اختاره الشيخ الأنصاري وغيره، فهي أمور:

منها: الروايات المتقدّمة المفسّرة للزينة الظاهرة المستثناة بالوجه والكفّين بناءً على ملازمة جواز الإبداء لجواز النظر على ما تقدّم.

ومنها: رواية جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد فاطمة وأنا معه (إلى أن قال)، قال لها: أدخل ومن معي؟ قالت: ليس عليَّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنّعي به رأسك، ففعلت (إلى أن قال جابر): فدخل رسول الله (عليه السلام) ودخلتُ، وإذا وجه فاطمة أصفر كأنّه بطن جرادة.. الحديث)[[10]].

فإنّ حملها على نظر جابر اتّفاقاً كما احتمله في الجواهر بعيد في هذه الرواية وفي غيرها فتدلّ على الجواز.

إلا أنّ سندها غير تام، على أنّه من البعيد أن تظهر فاطمة لأي رجل كان على عفّتها وشرفها وفضلها، فقد روي عن ابنتها زينب وهي الصدِّيقة الثانية أنّها لم تكن تزور جدّها إلاّ وليس في المزار أحد، حتى لا يرى أحد شخصها، فكيف بالصدِّيقة الكبرى !

فالمهم في أدلّة الجواز هو صحيحة علي بن سويد المتقدّمة، بدعوى أنّ  الإمام (عليه السلام) رخّص بالنظر إلى المرأة الجميلة مع صدق نيّة الناظر وكونه لا عن ريبة بعد استبعاد حملها على الصدفة والاضطرار كما تقدّم بيان ذلك في مسألة حرمة النظر بريبة فهذه الرواية واضحة الدلالة على الجواز، ولو كان شيء من الروايات المتقدمة دالاً على الحرمة نحمله على الكراهة بقرينة هذه الرواية.


 

[[1]] سورة النور آية: 30 .

[[2]] سورة النور آية: 30 .

[[3]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب109 مقدماته ح1 .

[[4]] المصدر السابق نفس الباب ح 4 .

[[5]] المصدر السابق نفس الباب حديث: 5 .

[[6]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب110 مقدماته ح4 .

[[7]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب36 مقدماته ح2 .

[[8]] الوسائل م14 ب36 مقدمات النكاح ح 3 .

[[9]] التهذيب ج 6 ص 255، وهي ساقطة من جميع النسخ المطبوعة للوسائل إلا نسخة مطبعة دار الطباعة بطهران المطبوعة سنة 1313 هـ ونسخة أخرى مطبوعة بطهران أيضاً سنة 1288 هـ على ما ذكر في تقريرات بحث السيد الأستاذ في كتاب النكاح ج1 ص 63 .

[[10]] الوسائل م14 كتاب النكاح ب120 مقدماته ح 3 .

 

رجوع