الستر حال الصلاة

___________________________

 (وأمّا الثاني): -أي الستر حال الصلاة- فله كيفيّة خاصة، ويشترط فيه ساتر خاص، ويجب مطلقاً سواء كان هناك ناظر محترم أو غيره أم لا(1).

___________________________

 (1)   المشهور والمعروف وجوب الستر مطلقاً حتى مع عدم الناظر المحترم، بل لم يُنقل فيه خلاف كما قيل، وإن أصرّ بعضهم على عدم وجوب الستر مع عدم الناظر ولا يعتنى بهذا القول.

وادّعي الإجماع على الوجوب المطلق بقسميه كما في الجواهر منّا ومن أكثر العامة حيث اشترطت صحّة الصلاة بمطلق الستر.

ولا يخفى أنّ الاستدلال بالإجماع لا يتم لأنّنا نقطع باستناد المجمعين إلى الروايات، فلا يكون إجماعاً تعبّدياً بل هو معلوم المدرَك.

نعم يُستدلّ له بالروايات:

منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن رجلٍ عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوباً نصفه دم أو كلّه دم يصلّي فيه أو يصلّي عرياناً ؟ قال: إن وجد ماء غسله، وإن لم يجد ماء صلّى فيه ولم يصلِّ عرياناً)[[1]].

وهي صحيحة السند واضحة الدلالة، حيث نهى عن الصلاة عرياناً، وانّ أمر المصلّي دائر بين الصلاة في النجس أو فيه بعد غسله، فتدلّ على عدم جواز الصلاة عارياً.

وهذه الرواية لها معارض دلّ على عدم جواز الصلاة في الثوب النجس بل يصلي عرياناً، كرواية سماعة وغيرها[[2]]، إلا أنّ صحيحة علي بن جعفر وما بمضمونها مقدّمة عليها، لأنّها تُحمل على التمكّن من الثوب الطاهر حيث ذكر فيها أنّه من فلاة من الأرض، لأنّ تلك الروايات الدالة على عدم جواز الصلاة في الثوب النجس، صرّحت بأنّه يصلّي إيماءً إمّا قائماً أو قاعداً، وبعضها فصّل بين وجود الناظر فيصلّي إيماءً من جلوس ومع عدمه يصلّي قائماً.

مثل صحيحة زرارة قال: ( قلت لأبي جعفر (عليه السلام) رجلٌ خرج من سفينة عرياناً أو سُلب ثيابه ولم يجد شيئاً يصلّي فيه، فقال: يصلّي إيماءً، وإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجِها وإن كان رجلاً وضع يده على سوأته ثمّ يجلسان فيؤميان إيماءً ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما، تكون صلاتهما إيماءً برؤوسهما.. الرواية)[[3]].

فهذه وأمثالها لم يُذكر فيها وجوب الركوع والسجود، مع أنّه لا يجوز تركهما اختياراً، فلو لم يكن الستر واجباً حتى في هذا الحال لما جاز ترك الركوع والسجود، فلا بد من القول بوجوب الستر لأجل المحافظة على الركوع والسجود اللذين لا يجوز تفويتهما اختياراً.

ومن جملة الروايات الدالة على وجوب الستر:

صحيحة محمد بن مسلم في حديثٍ قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام) الرجل يصلّي في قميص واحد ؟ فقال: إذا كان كثيفاً فلا بأس به، والمرأة تصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفاً، يعني إذا كان ستيراً)[[4]].

فإنّها تدلّ بالمفهوم على أنّه مع عدم كونه كثيفاً أي لا يستر ففيه البأس، فإنّ السؤال باعتبار ما ورد من الأمر بثوبين للرجل والمرأة، فسأله عن الرجل هل يصلّي في قميص واحد فأجابه بالجواز، فهي من هذه الجهة دالة وإن لم تدل على الجواز في الثوب الواحد مطلقاً بل إذا كان كثيفاً، وليست واردة في الواحد قبال المتعدّد ليقال بأنّها ليست في مقام تشريع شرطيّة التستّر، لأنّه دلّت على أنّ الواحد لا يكفي إذا لم يكن كثيفاً، ومثلها صحيحته الأخرى.  

وفي صحيحته الثالثة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصلّي في قميص واحد أو قباء أو طاق أو في قباء محشو وليس عليه إزار، فقال: إذا كان عليه قميص صفيق أو قباء ليس بطويل الفرج فلا بأس، والثوب الواحد يتوشح به، والسراويل كل ذلك لا بأس له، وقال: إذا لبس السراويل فليجعل على عاتقه شيئاً ولو حبلاً)[[5]].

ويدلّ على ذلك أيضاً روايات العاري الكثيرة التي سألت عن العاري كيف يصنع ؟

فإنّ هذا يدلّ بوضوح على أنّ وجوب الستر كان أمراً مرتكزاً في أذهان الرواة، فالمسألة من الواضحات، ومقتضى الإطلاق في الروايات عدم الفرق بين وجود الناظر وعدمه.

تحديد عورة الرجل التي يجب سترها في الصلاة

___________________________

ويتفاوت بالنسبة إلى الرجل و المرأة. أما الرجل فيجب عليه ستر العورتين أي القُبُل من القضيب والبيضتين وحلقة الدبر لا غير، وإن كان الأحوط ستر العجان أي ما بين حلقة الدبر إلى أصل القضيب وأحوط من ذلك ستر ما بين السرّة والركبة(1).

___________________________

 (1)   القدر المتيقّن من العورة التي يجب سترها في الصلاة هو ما يجب في غير الصلاة وقد تقدّم، وهذا هو المستفاد من مجموع روايات الباب، وإلحاق العجان لا دليل عليه، بل هناك روايات ضعيفة دلّت على عدم الوجوب كمرسل الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الماضي قال: (العورة عورتان القُبُل والدُبر، والدُبر مستور بالإليتين، فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة)[[6]].

ومثله مرسلة الكليني ومرسلة الصدوق وغيرها.

  فإن اعتمدنا على هذه الروايات فلا يجب ستر العجان، وإن لم نعتمد عليها فأصالة البراءة تدلّ على ذلك لعدم الدليل على وجوب ستره، لأنّ هذه المنطقة خارجة عن مفهوم العورة عرفاً، ولكن فرض انكشافه مع ستر العورتين بعيد التحقّق جداً.

وأما ما بين السرّة والركبة فقد نسب إلى القاضي أنّه العورة، بل نسب إلى أبي الصلاح أنّها ما بين السرّة ونصف الساق..

أما قول أبي الصلاح فلا مستند له حتى رواية ضعيفة، إلاّ أن يقال بذلك من باب المقدّمة للستر الواجب، وهذا يتوقّف على كون الواجب هو ما نسب للقاضي، فلو تمّ فالمقدّميّة لا تقتضي إلى نصف الساق.

وأما ما نسب إلى القاضي، فإن أراد أن ما بين السرّة والركبة يجب ستره لأنّه عورة فهذا لا دليل عليه كما تقدّم، وما ورد في رواية الحسين بن علوان المتقدّمة من تفسير العورة بذلك، فالمراد به عورة المرأة كما تقدّم، لأنّ المعرفة إذا أعيدت تكون عين الأولى، والأولى هي عورة الجارية فهي غير مطلقة للرجل، والرواية معتبرة، فما ذُكر فيها مختصٌ بالمرأة.

ويدلّ على الاختصاص ويؤيّده: صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن المرأة يكون بها الجرح في فخذها أو بطنها أو عضدها هل يصلح للرجل أن ينظر إليه يعالجه؟ قال: لا. وسألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو إليته الجرح هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه وتداويه؟ قال: إذا لم يكن عورة فلا بأس)[[7]].

حيث منع من نظر الرجل إلى ما ذُكر في المرأة لأنّه عورة، وأمّا في الرجل فأجاز إذا لم يكن ذلك المكان عورة، فتدلّ بوضوح على أنّ الفخذ ليس عورة في الرجل، هذه الرواية مذكورة في الوسائل عن كتاب علي بن جعفر، وسنده إليه صحيح. 

وعن الجواهر والهمداني أنّ الرواية عن قرب الإسناد عن علي بن جعفر، إلاّ أنّ هذا لا أساس له لأنّ قرب الإسناد لم يروها.

هذا إذا أراد القاضي وجوب ستر المقدار المذكور بما أنّه عورة، وقد عرفت أنّه لا يجب.

وإن أراد أنّه يجب ستره بعنوانه تعبُّداً لا بما أنّه عورة، فهذا يمكن الاستدلال له بروايتين لعلّ القاضي قد اعتمد عليهما.

الأولى: رواية رفاعة قال: (حدّثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلّي في ثوب واحد متّزراً به قال: لا بأس به إذا رفعه إلى الثندوتين)[[8]] أي الثديين.

الثانية: رواية سفيان بن السمط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الرجل إذا اتّزر بثوبٍ واحد إلى ثندوته صلّى فيه.. الحديث)[[9]].

فيفهم منهما أنّه مع عدم رفعه ففيه البأس، ومعلوم أنّه برفعه تُستر السرّة.

أمّا رواية رفاعة، فهي صحيحة إليه ولكنّها بعد مرسلة.

وأمّا الثانية فهي ضعيفة بأحمد بن عبديل فإنّه مجهول وبسفيان، فما ذكره القاضي لا دليل عليه.

ويؤيّد ما ذكرناه بل يدلّ عليه، ما دلّ من الروايات على جواز لبس السراويل كصحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة، فإنّ السروال عادةً لا يستر ما فوق السرّة بل هو إما من السرّة أو ممّا تحتها وهو الأغلب، وروايات العاري لا تخلو من تأييد للمطلب، حيث كان الاهتمام فيها بالعورتين فقط.

فالصحيح: ما ذهب إليه المشهور من أن الواجب ستره للرجال هو القُبُل والدُبر في الصلاة وغيرها، وغير ذلك لم يقم عليه دليل والاحتياط حسن.  

___________________________

والواجب ستر لون البشرة، والأحوط ستر الشبح الذي يُرى من خلف الثوب من غير تميّز للونه، وأما الحجم أي الشكل فلا يجب ستره (1).

___________________________

(1)   إذا كانت العورة مكشوفة يقع النظر عليها مباشرةً بلا حاجب، وهذا قدر متيقّن من وجوب الستر.

وأمّا رؤيتها بشكلها، فتارة بأن يكون الساتر كثيفاً والمرئي هو الصورة والحجم فقط، كما لو كانت من وراء ثوبٍ كثيف، وأخرى برؤية الشكل كاملاً كما لو لُفّت بخرقة، والظاهر أنّه لا حرمة في كلا الموردين، لأنّ العورة مستورة، ورؤية الشكل ليست رؤية للشيء نفسه، والعلم بأنّ المرئي عورة نشأ من المقدّمات الخارجيّة، وكذا رؤيتها من وراء الثوب الكثيف، فإنّ الرؤية للأشعّة النوريّة والعلم بأنّه عورة نشأ من المقدّمات الخارجيّة، ومقتضى الأدلّة حرمة النظر إلى نفس العورة حقيقة، وتبادر الحجم ممنوع.

ويؤيّد ما ذكرناه، رواية عبد الله الرافعي "الواقفي" "المرافقي" في حديثٍ (أنّه دخل حمّاماً بالمدينة فأخبره صاحب الحمّام أنّ أبا جعفرٍ (عليه السلام) كان يدخله فيبدأ فيطلي عانته وما يليها، ثمّ يلفّ إزاره على أطراف إحليله ويدعوني فأطلي سائر بدنه فقلت له يوماً من الأيّام إنّ الذي تكره أن أراه قد رأيته، قال: كلاّ إنّ النورة سترة "سَتَرَه" )[[10]].

إلاّ أنّ هذه الرواية ضعيفة بالشخص المذكور، وطريق الصدوق إليه أيضاً غير صحيح.

وأمّا النظر إلى الشبح كالرؤية من وراء الزجاجة المغايرة للون البشرة، أو الثوب الرقيق كذلك، فهذا محرّم لأنّه رؤية لنفس الشيء وإن لم يرَ لونه.

نعم إذا كانت رؤية الشبح بنحو الأشعّة النوريّة كما تقدّم، بأن يكون الشاخص إنما رؤي شبحه لأنّه حائلٌ بين الزجاج مثلاً وبين النور، فهذا النحو لا يجب ستره لأنّه لا رؤية في الحقيقة.


 

[[1]] الوسائل م3 كتاب الطهارة ب45 النجاسات ح 5 .

[[2]] مما روي في الباب 46 من أبواب النجاسات .

[[3]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب 50 لباس المصلّي ح 6 .

[[4]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب 21 لباس المصلّي ح 1 .

[[5]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب 22 لباس المصلّي ح1-2 .

[[6]] الوسائل م1 كتاب الطهارة ب 4 آداب الحمّام ح2 .

[[7]] ب 130 مقدّمات النكاح ح 3-4 .

[[8]] الوسائل م3 ب 22 لباس المصلّي ح3 .

[[9]] المصدر السابق نفس الباب ح5 .

[[10]] الوسائل م 1 كتاب الطهارة ب 18 آداب الحمّام ح 1 .

 

رجوع