الجهة الأولى : في معنى الجواز المبحوث عنه

إذا عرفت هذا: فالكلام في جهات:

الجهة الأولى: أن الجواز الذي هو محل البحث، هل هو الجواز الوضعي بمعنى المضي في العمل الملازم للصحة، أو الجواز التكليفي، لا بمعنى الشك في حلية الصلاة فيما شك أنه من غير المأكول شرعاً، فان ذلك لا يحتمل حرمته إلا من ناحية التشريع.

فالمراد بالجواز التكليفي الجواز بهذا المعنى الذي يقابله حرمة إسناد هذا العمل إلى المولى تشريعاً، وإن لم يكن بذاته حراماً.

وهذا الجواز أيضاً ملازم للصحة، فإنه لو ثبت الترخيص في الصلاة في المشكوك لكان صحيحاً، إذ لو لم يكن صحيحاً لكان تشريعاً، ولما رخص فيه الشارع.

فالمراد: إما الجواز الوضعي ابتداء كما هو الظاهر أو الجواز التكليفي، ولكن جواز بعنوان الامتثال، وهذا ملازم للصحة التي هي الجواز الوضعي.

الجهة الثانية : هل الجواز ظاهري أو واقعي

الجهة الثانية: أن الجواز هل هو جواز ظاهري أو جواز واقعي، أو جواز ظاهري يترتب عليه الجواز الواقعي في بعض الفروض... وجوه.

نسب إلى المحقق القمي في أجوبة مسائله أن ظاهر الأدلة الناهية عن الصلاة فيما لا يؤكل ومنصرفها هو النهي عن الصلاة في جزء ما لا يؤكل مع العلم بأنه مما لا يؤكل، فالعلم هو جزء الموضوع، ولا حاجة للأصول مع الشك لانتفاء الموضوع وهو العلم وجداناً، فنتمسك لإثبات الجواز بالأصل، لأن دليل المانعية قاصر عن شمول المورد المشكوك من الأول وتكون الصحة صحة واقعية، فيكون المراد بالجواز الجواز الواقعي، وعلى تقدير عدم ظهورها في صورة العلم، فليست ظاهرة في الأعم، فتكون الروايات مجملة، ولا تدل على عدم الجواز في غير المأكول واقعاً.

وهذه الدعوى غير قابلة للتسليم على الإطلاق، لأن الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعية، ولا قرينة على أخذ العلم في الموضوع، فإن هذا خلاف الظاهر، ولو سلمنا -لقرينة من القرائن- أخذ العلم، فإنما نسلمه فيما إذا كانت المانعية منتزعة من النهي مثل لا تصل في كذا فالموضوع معلوم.

وأما في موثقة ابن بكير التي حكم فيها بالفساد واقعاً ابتداء، وأخبر عنه، فلا يمكن دعوى ظهورها في أخذ العلم، فدعوى الجواز الواقعي لا تتم.

وذهب إلى ذلك أيضاً صاحب المدارك، وأيَّده بصحيحة عبد الله بن سنان: (كل شيء يكون منه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام بعينه).

وأشكل عليه الهمداني بنحو ما ذكرناه:

(وأنه إنما يتم إذا كانت المانعية منتزعة من النهي، حيث يختص الشرط حينئذ بما إذا تنجز التكليف بالاجتناب عنه، وهو لا يكون إلا مع العلم، وبما إذا كان النهي نفسياً تكليفياً، فيستفاد منه الشرطية أو المانعية، لامتناع كون العبادة بذاتها محرمة فتختص الشرطية أو المانعية بصورة تنجز التكليف وهي صورة العلم.

فان كان هذا هو مستند صاحب المدارك.

ففيه أولاً: أن دليل المنع غير منحصر بالنواهي، بل عمدته الموثقة التي هي إخبار.

وثانياً: أن المتبادر من تلك النواهي هو الحكم الوضعي المستفاد من الموثقة لا التكليفي.

وإن أراد صاحب المدارك أن النهي يتبادر منه الحكم الوضعي ولكنه منصرف إلى صورة العلم بالموضوع، لأن المتبادر عرفاً من النهي عن شيء إرادة المنع عن أفراده المعلومة.

ففيه: أن هذه الدعوى بلا شاهد، لأن المتبادر من تحريم شيء بأي صيغة كان هو الشيء الواقعي، لأن الألفاظ أسامي لمعانيها الواقعية، وإحراز الموضوع شرط لتنجز التكليف، لا لأصل تحققه، فحتى لو كانت المانعية منتزعة من النهي، فالنهي عن شيء إنما هو عن الواقع لا عن المعلوم، وليس العلم شرطاً للنهي المنتزع عنه المانعية، بل هو شرط للتنجز.

وأما الجواز الظاهري فهو الذي نسب إلى المحقق النائيني، ولا ينافيه فساد العمل واقعاً، وثمرته في صورة انكشاف الخلاف بعد الصلاة، كما لو صلى وانكشف أن الصلاة وقعت في غير المأكول فإنه لا بد هنا من الحكم بالفساد، وإن كان يحكم بالصحة من أول الأمر عند الشروع) انتهى.

وهذا منه مبني على عدم جريان قاعدة لا تعاد في موارد الجهل، بل تختص بموارد النسيان، لأن الناسي هو الذي يصح أن يقال له أعد أولا تعد[[1]]، وأما الجاهل فهو مكلف بالواقع فلا يقال له ذلك، بل يقال له إفعل ولا يقال له أعد، فبهذه القرينة تختص قاعدة لا تعاد بالناسي.

بناء على هذا يتم كلامه.

إلا أنه يمكن أن يقال: بأنه ليس الأمر كذلك، إذ لا منافاة بين أن يكلف الشخص بالواقع ويحكم عليه بعد ذلك بالإعادة في أثناء العمل أو بعد الإنتهاء منه، فالجاهل وإن كان مكلفاً بالواقع حال الجهل، لكن يصح أن يقال له أعد في الأثناء أو بعد الانتهاء.

نعم في أول آن الشروع لا يقال له أعد، لعدم تحقق شيء منه، فالجاهل على هذا يمكن أن يؤمر بالإعادة وعدمها، فيشمله الحديث ولا يحكم بالفساد بعد الإنكشاف، وهذا كثير الاستعمال في الروايات.

نعم في موارد الجهل الذي يكون الواقع منجزاً فيه كالجاهل المتردد من أول الأمر حيث لم يحرز الصحة من أول الأمر، فلا يشمله الحديث كالعامد الملتفت لفقدان الجزء أو الشرط.

وأما الجاهل المقصر غير الملتفت ولا متردد، فهذا هل يشمله الحديث أو لا ؟

قلنا بأنّه لا يشمله، لأن شموله له يقتضي تخصيص كثير من الروايات الواردة في إعادة الصلاة بالعالم بالحكم أو بالجاهل الملتفت، وإخراج الجاهل غير الملتفت منها، وهذا تخصيص لها بالفرد النادر، لأن أغلب الناس الذين يخلّون في الصلاة جهلاً، يكون جهلهم عن غفلة وتقصير فلا بد من إبقاء هذا تحت تلك الروايات وعدم شمول حديث لا تعاد له.

والحاصل: أن الحديث يشمل الجهل العذري، ومقتضى ذلك أن الجواز هنا ظاهري، إلا أنه ينقلب إلى الجواز الواقعي إذا فرغ من صلاته ولم ينكشف له الخلاف أثناء الصلاة، فانه حينئذ يسقط المانع عن المانعية بحديث لا تعاد، لأنه يخصص المانعية بغير هذه الصورة، فصلاته كانت صحيحة ظاهراً، والآن هي صحيحة واقعاً، لأن ظاهر الدليل المانعية الواقعية، إلا أن هذه المانعية مشروطة بعدم الإتيان بالعمل مع العذر قبل الإلتفات[[2]]، وأما بعد الإلتفات إلى المانع فهذا خارج عن دليل المانعية بحديث لا تعاد، فالصحّة صحّة ظاهريّة، ولكن تنقلب إلى الواقعيّة.

ولذا لو انكشف الخلاف في الأثناء ولم يكن الإنسان لابساً لغير المأكول، كما لو لبس لباسين وفي الأثناء نزع أحدهما، ثمّ بعد النزع التفت أنّه من غير المأكول، فبالنّسبة لما مضى يشمله حديث لا تعاد، ويصح، وبالنسبة للباقي لا إشكال، فتنقلب الصحّة الظاهريّة واقعيّة.

نعم لو انكشف الخلاف في الأثناء، وهو لابس لهذا الثوب ولم يكن قد نزعه بعد، فحديث لا تعاد لا يشمل المقام، لأنّه إنّما يشمل فعلاً قد مضى وتحقّق غفلة ولا يشمل الحالة الفعليّة مع الالتفات، فلا تصح الصلاة في هذا النص.

وحاصل الكلام: أنّ المانعيّة مانعيّة واقعيّة ترتفع إذا كان المكلّف معذوراً لنسيان أو جهل عذري، فجواز الدخول في الصلاة جواز ظاهري باعتبار الشروع مع الاحتمال، فيحتاج إلى دليل يدلّ على جواز الدخول، وهذا الجواز تبدّل بالواقعي على تقدير عدم الانكشاف إلا بعد النزع.

وهذا هو مقتضى الجمع بين الأدلّة الأوّليّة وحديث لا تعاد.

ومن هنا يظهر أنّه بناءً على كِلا التقديرين من الشرطيّة والمانعيّة بعد ما كان الأمران واقعيين لا يجوز للمكلّف الدخول في العمل إلاّ وهو محرِز للصحّة بوجه من الوجوه، فلا أثر للقول بالشرطيّة أو المانعيّة هنا.

وما يقال: من أنّه بناء على المانعيّة لا نحتاج لإجراء الأصل لقاعدة المقتضي والمانع الثابتة ببناء العقلاء، فإنّهم مع إحراز المقتضي والشكّ في المانع لا يعتنون بالمانع.

فهذا فيه: أنّ هذه القاعدة لم تثبت، إذ لم يثبت بناؤهم على ذلك، ولو ثبتت فهي مختصّة بموارد المقتضى والمانع الحقيقي وهو أجزاء العلّة، وأمّا فيما نحن فيه فهذا لا يسمّى شرطاً ولا مانعاً بحسب الحقيقة، بل هو اصطلاحٌ منّا عبّرنا به عنه، والمراد هنا بالشروط القيود الوجوديّة وبالمانع القيود العدميّة الدخيلة في المأمور به، وليس المراد كالشرط والمانع في العلل الحقيقيّة، لأنّ الصلاة مثلاً فعل من أفعال المكلّف علّته إرادة المكلّف ونحوها، فلا مقتضي له حقيقي، كما لا مانع عنه حقيقي.

نعم الغالب في باب الموانع سبق المانع بالعدم، فيحرز عدمه دائماً بالأصل وهذا ليس معناه عدم الاحتياج للأصل بل نحتاج إليه ولكن الشرط غالباً يكون محرزاً بالأصل.

ثمّ إنّه لا يفرق في البحث في مسألة اللباس المشكوك بين جميع الموارد فيشمل الشكّ في كونه حريراً أو ذهباً أو مأكولاً، إلا أن يفرق بينهما باستفادة الشرطيّة في المأكول والمانعيّة في غيره مثلاً.

كما أنّه لا يفرّق في عموم البحث بين أن يكون دليل المانعيّة لفظيّاً كما في دليل مانعيّة الحرير أو لبيّاً ثبت من العقل كما في إباحة اللباس، حيث أنّها من موارد التقيّد العقلي، لأنّ دليل وجوب الستر يتقيّد بغير المحرّم عقلاً حيث أنّه لا يمكن أن يجمع الأمر بالتستّر به مع النهي عنه، فهذا أيضاً يدخل في محل الكلام إذا شكّ في إباحة لباس ويشمله حكم اللباس المشكوك.

ودعوى: أنّه لا يتمسّك بالإطلاق في موارد التخصيص، إذا كانت الشبهة موضوعيّة كما ذكر صاحب الكفاية، واستثنى من الشبهات المصداقيّة التخصيص اللبّي، لأنّ التخصيص حيث أنّه عقلي يختصّ بموارد القطع بالتخصيص وفي غيره يقطع بعدم التخصيص، فلا يكون المقام من محل الكلام، لعدم القطع بالتخصيص، بل يتمسّك بالإطلاق فلا يدخل في مسألة اللباس المشكوك.

هذه الدعوى قد تعرّضنا لها في الأصول وأنّها غير تامّة: لأنّ التخصيص العقلي يكشف عن تقييد المأمور به في مقام الثبوت والواقع لا في مقام الإثبات، فهو تخصيص يقيني وعقلي في مرحلة الثبوت وإن كان مشكوكاً فيه في مرحلة التطبيق الخارجي، فبعد العلم بأنّ المباح قيد للساتر في الصلاة إذا شككنا في إباحة اللباس لا يمكن التمسّك بالإطلاق، بل نتمسّك بالأصل الذي ينقّح في مسألة اللباس المشكوك.

نعم إذا كان التقييد من جهة المزاحمة لا من جهة المعارضة، لا نحتاج إلى الأصل، لأنّه مع الشكّ لا يكون أحد المتزاحمين واصلاً، فإذا كان أهمّ لا يكون مزاحماً للآخر لأنّه غير واصل.


 

[[1]] ولا يقال له: إفعل، لاستحالة تكليف الناسي، فإذا لم يجب عليه الفعل فماذا يعيد، لذلك يصح أن يقال له: لاتعاد الصلاة، فيشمله الحديث لأنه لم يجب عليه شيء حتى يعيده.

وأما الجاهل فيقال له: إفعل، ولا يقال له: أعد، لأنه لم يفعل الواجب حتى يقال له: أعد فإذا لم يفعل يجب عليه أن يفعل، فلا يقال له: لا تعاد كما لايقال له: أعد.

[[2]] يعني في اثناء العمل حيث لم يكن قد أتى بالعمل، فتبقى المانعية واقعية والصحة ظاهرية، فإذا أتى بالعمل والتفت خرج عن المانعية الواقعية بحديث (لاتعاد).

رجوع