هل المعتبر في اللباس كونه من مأكول اللحم أو أن غير المأكول مانع أو أن المعتبر هو كلا الأمرين

إذا عرفت هذه المقدّمات: فلا بدّ من التكلّم في أنّ مثل غير المأكول هل أنّ اعتباره في الصلاة من باب الشرطيّة، بمعنى أنّه يشترط في اللباس مثلاً أن يكون من المأكول، أو من باب المانعيّة، بمعنى أنّ غير المأكول مانع، أو أنّ المعتبر كِلا الأمرين، بمعنى شرطيّة أحد الضدّين ومانعيّة الآخر كما التزم به صاحب الجواهر في خصوص اللباس.

وقد ذهب جماعة إلى الشرطيّة لذيل قوله (عليه السلام) في موثّقة ابن بكير: (لا يقبل الله تلك الصلاة حتّى يصليّها في غيره ممّا أحلّ الله أكله)، ولقوله في رواية ابن أبي حمزة: (قلت أوَ ليسَ الذكي ما ذكّي بالحديد؟ قال بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه).

فإنّ الثانية واضحة في شرطيّة المأكول، وسيأتي الكلام فيها، والأولى ظاهرة في ذلك، حيث اعتبر في الصلاة أن تقع في غير ما لا يؤكل.

وظاهر هذا الكلام شرطيّة ما يؤكل، لإناطة القبول بحليّة الأكل، والمراد بالقبول الإجزاء، وبالإناطة الشرطيّة المذكورة، وعليه فالنهي عمّا لا يؤكل نهي عرضيّ.

وكذلك تُستفاد الشرطيّة من قوله (عليه السلام) في الموثّق المذكور (فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره إلخ... جائز)، فإنّها أناطت الجواز بكونه محلّل اللحم، والجواز ملازم للصحّة.

وكذلك استفادة الشرطيّة من النهي عن الصلاة في غير المأكول، فإنّ المفهوم منه عرفاً تقييد الصلاة المأخوذة في موضوع الأمر بكونها في مأكول اللحم إذا صلّى في حيوان كما ادعّي ذلك في مثل قوله: أكرم العالم ولا تكرم الفاسق، حيث قيل أن المفهوم منه عرفاً كون موضوع وجوب الإكرام العالم العادل.

ويستدلّ للشرطيّة برواية تحف العقول وستأتي.

وقيل بالمانعيّة ولعلّه هو المعروف بين المتأخرّين، ويمكن استفادتها أيضاً من أمور:

منها: صدر موثّقة ابن بكير: (إنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره... فاسِد إلخ)، فإنّه ظاهر في إناطة الفساد بحرمة الأكل التي هي عين إناطة العدم بالوجود التي هي من لوازم المانعيّة، فإنّ المانع ما يلزم من وجوده العدم، وعلى هذا يكون الأمر بالصلاة في محلّل الأكل عرضيّاً.

ومنها: تعليل جواز الصلاة في السنجاب بأنّه دابّة لا تأكل اللحم، فإنّ الظاهر أنّ المراد منه أنّه ليس من السباع فيكون من قبيل تعليل الصحّة بالعدم الذي هو من لوازم المانعيّة كتعليل الفساد بالوجود.

ومنها: الأخبار الخاصّة الناهية عن الصلاة في الثعالب والأرانب والسمور والسباع وغير ذلك.

ومنها: ما في رواية إبراهيم الهمداني الواردة فيما يسقط على الثوب من وبر وشعر ما لا يؤكل لحمه حيث قال: (لا تجوز الصلاة فيه) فإنّ الظاهر ممّا لا يؤكل ما يحرم أكله، فترتب عدم الصلاة على حرمة الأكل من قبيل ترتب عدم الممنوع على وجود المانع.

ودعوى: أنّ ما لا يؤكل هو ما لا يحلّ لحمه، فترتب عدم الصلاة عليه، من قبيل ترتب العدم على العدم الذي هو من لوازم شرطيّة الوجود.

مدفوعة: بأنّ مقتضى تسلّط النفي على نفس الأكل كون الأكل ممنوعاً محرّماً، ولذا استفيد التحريم من الجمل المنفيّة الواردة في مقام الإنشاء مثل لا تقوم ولا تقعد، وكما لا يصح الحمل فيها على معنى لا يحل أن يقوم ولا يحل أن يقعد، لا يصح التقدير هنا أيضاً.

ومنها: خبر أنس بن محمد: (لا تصلِّ فيما لا تشرب لبنه ولا يؤكل لحمه) بنفس التقريب.

وخبر محمد بن إسماعيل: (لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه لأنّ أكثرها مسوخ) بل هو صريح في المانعيّة، لأنّه من تعليل العدم بالوجود.

تحقيق الحال

ولا بدّ من التكلّم في تحقيق الحال: فنقول:

أمّا دعوى الجمع بين الأمرين فهو مستحيل، وهو من فروع امتناع الجمع بين الضدّين، وهو غير ممكن لا في التكوينيّات ولا في التشريعيّات.

أمّا التكوينيّات: فلأنّ مناط شرطيّة الشرط وكونه من أجزاء العلّة هو توقّف تماميّة تأثير المقتضي في مقتضاه عليه، ومناط مانعيّة المانع هو مزاحمته لذلك التأثير، فلا يكون للشرط أثر إلاّ بعد وجود المقتضى، وإلاّ يستند العدم إلى عدم المقتضى ووجوده لا يؤثّر، ولا يكون للمانع أثر إلاّ بعد وجود المقتضي والشرط، إذ مع فقدهما فلا يمكن أن يتّصف الشيء بالمانعيّة الفعليّة، لأنّه ليس هناك شيء يزاحمه ويدافعه في تأثيره، ولذا عدّ عدم المانع من أجزاء العلّة، لا لأنّه يؤثّر الأثر، فإنّه أمر عدمي لا يترشّح منه الوجود بل لأنّ المانع يقتضي وجوداً آخر مضاداً لِما يقتضيه المقتضي، فكان وجود أثر ذلك المقتضي مشروطاً بعدم هذا المانع.

والحاصل: أنّه لا يمكن أن يستند عدم الأثر في صورة عدم المقتضي إلى وجود المانع لعدم اتّصافه بالمانعيّة الفعليّة.

إذا عرفت هذا نقول: لو كان هناك ضدّان كالطهارة والنجاسة مثلاً، فلا يمكن أن يكون أحدهما شرطاً والآخر مانعاً، فإنّ ما نفرضه شرطاً إمّا أنّ يكون موجوداً أو معدوماً، فإذا كان موجوداً فالآخر يستحيل وجوده، لأنّه ضدّه فكيف يتّصف بالمانعيّة ؟ وإذا كان معدوماً فعدم المعلول يستند إلى عدم شرطه لا إلى الضدّ الآخر، لِما عرفت من أنّه لا يتّصف بالمانعيّة الفعليّة إلا بعد وجود مقتضيه وشرطه.

وعلى هذا فلا يمكن أن يكون محلّل الأكل شرطاً ومحرّمه مانعاً، هذا ما استفدناه من كلمات المحقّق النائيني وقرّبه السيّد الأستاذ في التكوينيّات.

وأمّا في التشريعيّات: فقد تكرّر أنّه لا تأثير ولا اقتضاء فيها، إلاّ أنّنا نعبّر عن القيود الوجوديّة بالشرائط، والقيود العدميّة بالموانع، فالتعبير بالشرائط والموانع اصطلاح، فهل مع هذا يمكن أن يؤخذ أحد الضدّين باعتبار التقيّد بوجوده شرطاً في المأمور به والآخر باعتبار التقيّد بعدمه مانعاً كالطهارة والنجاسة مثلاً بالنسبة إلى الصلاة أو لا ؟

الصحيح: أنّه لا يصح أيضاً كما اختاره المحقّق النائيني والسيّد الأستاذ وذلك للزوم اللغويّة، حيث أنّه إذا اعتبر أحدهما شرطاً فالآخر بما أنّه غير قابل للوجود فاعتبار عدمه الذي هو معنى المانعيّة لغو، وأمّا إذا اعتبر أحدهما مانعاً فاعتبار الشرطيّة للآخر لا لغويّة فيه بعدما كان يمكن التخلّي عنه إلى الثالث، فاللغويّة من طرف واحد.

هذا في الضدّين اللذَين لهما ثالث.

وأمّا ما لا ثالث لهما، فبما أنّ بين اعتباريهما ملازمة فاللغويّة تكون من الطرفين، يعني يمكنه أن يعتبر أحدهما شرطاً أو مانعاً ويكون اعتبار الآخر شرطاً أو مانعاً لغواً، بخلاف ما لهما ثالث، فإنّ اللغويّة من طرف اعتبار الآخر مانعاً فقط، وأمّا اعتبار أحدهما شرطاً فليس فيه لغويّة، لأنّه حيث يمكنه التخلّي عنهما واعتبار أمر ثالث، وحيث أنّ اعتبار المانعيّة لأحدهما لا يلازم اعتبار الشرطيّة للثاني لوجود الثالث لهما على الفرض، فاعتبار الشرطيّة لا لغويّة فيه في فرض من الفروض، هذا مضافاً إلى ما ذكره المحقّق النائيني من استحالة اجتماع الملاكين على مذهب العدليّة.

فإذا عرفت هذا نتكلّم في أصل المسألة: وأنّه هل المستفاد هو الشرطيّة أو المانعيّة ؟ أو يفصل بين الساتر فيقال فيه بالشرطيّة وبين غيره فيقال بالمانعيّة ؟ وجوه..

وقبل التكلّم فيما هو الصحيح من هذه الاحتمالات ينبغي أن يُعلم أنّ الأجزاء والشرائط يتّحدان من جهة ويختلفان من جهة.

فالأجزاء يتركّب منها المركّب، كل جزء هو بنفسه ومن حيث هو جزء، وبشرط الانضمام هو غير المركّب، ولذا تكون الأجزاء متعلّقة للأمر النفسي المتعلّق بالمركّب.

وأمّا الشرائط فهي دخيلة ولكن ليست متعلّقة للأمر، لأنّ الواجب هو التقيّد بها لا نفسها، فهي معتبرة تقيّداً لا قيداً فهذا هو الفرق بينهما، ومنه يظهر أنّه لا بدّ في الشرط من كونه أمراً اختياريّاً، فيتعلّق الأمر بالفعل المقيّد بهذا الشرط، وإن لم يتعلّق به نفسه.

ولذا كان التعبير بالقبلة شرط ونحو ذلك فيه نحو من المسامحة، فإنّ الشرط هو الاستقبال أي تقيّد الصلاة بالاستقبال، وإنّما يعبّر بمتعلّق الشرط، لأنّ نفس الشرط لا بدّ من كونه اختياريّاً كالأجزاء، فليس الفرق بينهما من حيث الاختياريّة وعدمها بل كِلاهما اختياري.

بل فيما ذكرناه وفي محلّ الكلام إذا اعتبرنا الشرطيّة يعني أنّ المعتبر أمر وجودي، فلا فرق بين أن يقال: أنّ المعتبر هو وقوع الصلاة فيما أحلّ الله أكله أو فيما لم يحرّم أكله.

كما أنّه إذا قلنا بالمانعيّة وأنّ المعتبر أمر عدمي فلا فرق بين أن يقال: أنّ المعتبر عدم وقوع الصلاة فيما حرّم الله أو عدم وقوعها فيما لم يجعله الله حلالاً.

والوجه في ذلك: ما عرفت من أنّ الحليّة والحرمة ليست هي الشرط حتى يقال بالشرطيّة على تقدير وبالمانعيّة على تقدير من التقادير المتقدّمة، فإنّ الحليّة والحرمة أو عدم الحليّة كلّها متعلّقات الشرط المعتبر لا نفسه، فلا فرق من هذه الجهة، بل المدار على أن يكون المعتبر أمراً وجوديّاً، فيكون من الشرائط مهما كان متعلّقه، أو أمراً عدميّاً فيكون من الموانع مهما كان متعلّقه.

وبه يظهر بطلان ما أفاده بعض الأساطين.

رجوع