فيما هو المستفاد من الروايات ، والكلام في موثقة ابن بكير

إذا عرفت هذا: يقع الكلام فيما هو المستفاد من الروايات

فنقول:

إنّ أكثر الروايات المتقدّمة في تحريم الصلاة فيما لا يؤكل لحمه مشتملة على النهي، فالمعتبر فيها أمر عدمي وليس في شيء منها اعتبار أمر وجودي، فلا وجه لدعوى استفادة الشرطيّة منها.

وأمّا ما ذكر لاستفادة الشرطيّة من ذيل موثّقة ابن بكير، فقد ذكر المحقّق النائيني: (أنّه لا يتم، وذلك لأنّ قوله (صلى الله عليه وآله): (لا يقبل الله تلك الصلاة إلخ..) لم يورد جملة ابتدائيّة لبيان ما اعتبر في الصلاة كي تستظهر الشرطيّة، وإنّما هو من تتمّة الحكم السابق وخبر عن المبتدأ الأوّل، وحكم عليه بعدم القبول بعد الحكم على بالفساد للاشتمال على تلك الخصوصيّة، فيدل على استناد الحكم بالفساد وعدم القبول إلى تلك الخصوصيّة، وحينئذٍ فقوله (عليه السلام): (ممّا أحلّ الله) في قوله (حتى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله) يدور أمره بين أن يكون بياناً لأحد أفراد ذلك الغير، فيكون المعتبر في غير ما حرّم الله هو أمر عدمي أو تقييداً له، فيكون المعتبر الصلاة فيما أحلّ الله وهو أمر وجودي، والأوّل أظهر ولو بمعونة صدر الكلام وسوقه ومعهوديّة صحّة الصلاة في القطن والكتّان ونحوهما عند الراوي وغيرها ممّا لا يؤكل غير الحيوان.

وإن أبيت إلاّ عن ظهور الذيل في الشرطيّة يعارضه صدرها، لأنّه ظاهر في أنّ الفساد مستند إلى وقوعها فيما حرّم الله فهي ظاهرة في المانعيّة، فيقع التعارض من سوء تعبير ابن بكير، حيث نقل بالمعنى فتسقط الرواية، وبقيّة الروايات دالّة على المانعيّة بلا معارض) انتهى.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال: بأنّه لا تعارض بين الصدر والذيل، بل يحمل الصدر على غير الساتر من اللباس أو المحمول، ويحمل الذيل على الساتر، فيفصّل حينئذٍ ويقال بالمانعيّة في غير الساتر وبالشرطيّة في الساتر، أمّا الذيل فهو في المانعيّة في الساتر بلا إشكال لقوله: (لا يقبل الله تلك الصلاة حتى يصلّيها في غيره إلخ)، أي لا بدّ من أن يكون له ساتر ممّا أحلّ الله، ومعلوم أنّ الصلاة ليست مشروطة بغير الساتر، وأمّا بالنسبة لغير الساتر فبما أنّ المأمور به غير مقيّد بوجوده، فلا يمكن اشتراطه ولا يحتمل فيه كونه شرطاً، فلا يحتمل فيه إلاّ المانعيّة.

وتوهّم: أن غير السائر شرط على تقدير وجوده وإن لم يكن أصل وجوده معتبراً، ولكن إذا وجد يعتبر كونه مما أحل الله.

هذا التوهم لا وجه له: لأنه لو فرضنا أن مع المصلّي محمولاً أو ملبوساً غير ساتر فهذا المحمول إما أن يكون من المأكول أو من غير المأكول، فإن كان من المأكول فلا معنى لأن يقال: إن كان عليك شيء من المأكول يعتبر أن يكون من المأكول، وإن كان من غير المأكول فاعتبار كونه من المأكول حينئذٍ محال، فلا يصح أن يقال إن كان عليك شيء من غير المأكول يعتبر أن يكون من المأكول، وعلى هذا ترجع الموثقة إلى اعتبار الشرطية في موضوع، واعتبار المانعية في موضوع آخر، فيرتفع التعارض وهذا أمر ممكن.

فلا يتم إشكال المحقق النائيني، هذا كله بحسب ظاهر الرواية.

ولكن دقيق النظر يقضي بأن الذيل أيضاً لا يستفاد منه الشرطية بل هو ظاهر في المانعية أيضاً.

والوجه في ذلك أن قوله (عليه السلام) لا يقبل الله تلك الصلاة، قد أشار بتلك للصلاة التي فرض أنها واقعة فيما حرم الله، فإنها غير مقبولة لأن الصلاة الشخصية التي وقعت في المذكورات مما لا يحل أكله ليس عدم قبولها مُغَيّاً بأن يصلي فيما أحل الله أكله، بل حتى لو صلاها في غيره مما أحل الله أكله، لو فرض إمكان ذلك فتلك الصلاة غير قابلة للقبول، فبعد إلغاء خصوصية تلك الصلاة يتردد أمر المشار إليه بين أمور:

الأول: الإشارة إلى طبيعي الصلاة التي فرضها الله بلا قيد.

الثاني: أن يراد أنواع الصلوات كالظهر والعصر، يعني نوع الصلاة التي صلاها أي نوع صلاة الظهر مثلاً لا يقبلها الله حتى يصلي ظهراً في غيرها مما أحل الله.

الثالث: أن يراد الإشارة إلى الطبيعي الواقع في أجزاء الحيوان غير المأكول حتى يصلي تلك الطبيعة الواقعة في هذا في غيره مما أحل الله.

فإن أريد الأول والثاني، فاستفادة الشرطية ظاهرة، لأن طبيعي الصلاة أو نوع الصلاة التي صلاها لا يقبلها الله حتى يصليها في غيره، وهذا واضح في الشرطية.

إلا أنه لا قرينة في الرواية على أن المشار إليه هو أحد هذين، بل الظاهر أن المشار إليه هو الطبيعي المفروض وجوده، وحيث أن هذا لا يمكن لما عرفت، فلا بد من إلغاء خصوصية فرض وجوده، فيكون المشار إليه هو الصلاة الواقعة بلا خصوصية وقوعها.

وهذا لا يستفاد منه الشرطية، لأن الصلاة الواقعة في أجزاء الحيوان لا تخلو إما أن تقع في المأكول أو في غيره، فإن كانت في غير المأكول فهي فاسدة لا يقبلها الله، فينحصر وقوعها في القسم الآخر وهو المأكول.

فالوقوع في المأكول المستفاد من الرواية إنما هو بالحصر لا لأنه شرط، يعني لما كانت لا تقبل في غير المأكول، فلا بد من وقوعها في المأكول، إذ لا شق ثالث في فرض كون الملبوس من أجزاء الحيوان كما هو المفروض في الرواية.

ويؤكد ما ذكرناه ما في ذيل الموثّقة: (وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عنه، فالصلاة في كل شيء منه فاسد)، فإنه يدل على أن الفساد مستند لوقوع الصلاة فيما لا يؤكل، لا لعدم الوقوع فيما يؤكل فتدل على المانعيّة.

ومنه يعلم عدم صحة الاستدلال بقوله في الذيل، (فإن كان مما يؤكل) لأن الظاهر أنه قد سيق تمهيداً لبيان اعتبار التذكية، فيكون شرطاً لإناطة الجواز بالتذكية لا شرطاً للجواز، وهو أجنبي عن الشرطية.

والحاصل: أنّ الموثّقة لا يستفاد منها الشرطيّة بوجه.

وأمّا الاستدلال للشرطيّة برواية علي بن أبي حمزة قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) وأبا الحسن (عليه السلام) عن لباس الفراء والصلاة فيها ؟ فقال: لا تصلّ فيها إلاّ ما كان منه ذكيّاً، قلت: أوَليس الذكي ممّا ذكّي بالحديد قال: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه، قلت: وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم، قال: لا بأس بالسنجاب فإنّه دابة لا تأكل اللحم وليس هو ممّا نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب)[[1]].

بدعوى: أنّ قوله (بلى) ناظر إلى الصلاة فقط، فيكون شرط الصلاة وقوعها فيما يؤكل إذا كان من أجزاء الحيوان، فإنّ التذكية لا تقع على ما يؤكل فقط، فجوابه (عليه السلام) (بلى إذا كان ممّا يؤكل) ناظر للصلاة.

ولكن هذا الاستدلال لا يتمّ، لأنّ الراوي فرض الصلاة في الفراء وهي على قسمين: مأكول وغير مأكول فيما إذا كانت مذكّاة، إذ في فرض عدم التذكية لا تجوز الصلاة مأكولاً كان أم غيره، وأمّا المذكّى، فإن كان ممّا لا يؤكل فالصلاة فيه فاسدة.

فإذا كانت الصلاة في غير المأكول فاسدة بمقتضى الموثّقة، فجواز الصلاة يكون مشروطاً بما إذا وقعت في المأكول بعد فرض أنّه يصلّي في الفراء، لا بمعنى أنّ المأكول شرط، بل لأنّ ما لا يؤكل مانع، وبما أنّه لا شقّ ثالث فالصحّة تتوقّف على عدم المانع، وهذا لا يكون إلاّ بالصلاة فيما لا يؤكل.

ويؤكّد هذا ذيل الرواية في السنجاب، فإنّه يدل على أنّ العبرة في المنع بما فيه نهي، فما لم يكن فيه نهي فهو ليس بمانع، فيستفاد من هذا الذيل أنّ الفساد مستند إلى ما نهي عنه، وبالملازمة تكون الصحّة ملازمة للوقوع فيما يؤكل.

هذا مضافاً إلى أنّ الرواية ضعيفة السند بعبد الله بن إسحاق العلوي فإنّه مجهول، وبمحمّد بن سليمان الديلمي فإنّه ضعّفه النجاشي، وبعلي بن أبي حمزة البطائني، فإن الصحيح أنّه ضعيف.

وممّا يستدلّ به للشرطيّة رواية تحف العقول عن الصادق (عليه السلام) في حديثٍ قال: (.. وكلّ شيء يحلّ لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه وصوفه وشعره..)[1].

بدعوى: أنّه أخذ فيها العنوان الوجودي فتدلّ على الشرطيّة.

إلاّ أنّ هذه الرواية ضعيفة السند لأنّ الحسن بن علي بن شعبة وإن كان جليل القدر إلاّ أنّ رواياته مراسيل ولا حجيّة فيها بالنسبة إلينا.

وهي لا تدلّ أيضاً، لأنّ الجواز فيها ثبت في لبس المأكول مطلقاً في الصلاة وغيرها، ولا علاقة لهذا بكونه شرطاً في تعلّق الأمر به، ولا أمر هنا ليكون التقيد بالشرط واجباً، بل الموجود عدم البأس بلبسه، أمّا أنّه لماذا لم يكن بلبسه بأس، فهل لأنّه شرط أو لأنّ غيره مانع، فلا دلالة في الرواية على شيء من ذلك.

وأمّا ما تضمّن النهي عن الصلاة في غير المأكول، فإنّه على المانعيّة أدلّ، والبيان الذي قرب دلالته على الشرطيّة غير تام كما هو محرّر في مبحث العام والخاص.

ومن جميع ما ذكرنا فالمتيقّن هو القول بالمانعيّة.


 

[[1]] الوسائل م 3 لباس المصلي ص 252 ح 3.

[1] الوسائل م 3 ب 2 لباس المصلي ص 250 ح 8.