عدم الفرق بين كون الحرير ساتراً للعورة أو غير ساتر

وبين كونه مما تتم فيه الصلاة وبين ما لا تتم فيه

___________________________

سواء كان ساتراً للعورة أو كان الساتر غيره(1) وسواء كان مما تتم فيه الصلاة أو لا على الأقوى كالتكة والقلنسوة ونحوهما(2).

___________________________

 (1)   بمقتضى إطلاق الأدلّة، نعم لو قلنا بحرمة لبسه فقط ولم يقم دليل على عدم جواز الصلاة في الحرير، فحينئذ يمكن الفرق على قول بين الساتر وغيره باعتبار أنه حينئذ وإن لم يمنع من الصلاة ولكنه محرم فإذا كان ساتراً فهو شرط محرم، فإذا قلنا بأن حرمة الشرط تسري للمشروط تحرم الصلاة وبناءً على أن النهي في العبادة يقتضي الفساد يفسد.

(2)   هذه المسألة محل خلاف بينهم والأكثر بل المشهور على الجواز فيما لا تتم فيه الصلاة، ونسب للصدوق والمفيد وابن الجنيد عدم الجواز وأنه لا فرق بينه وبين ما تتم فيه الصلاة وإليه ذهب العلامة والمجلسي والكاشاني وصاحب المدارك والذخيرة كما حكي عنهم، وصاحب الحدائق، وذكر في الجواهر أنه المشهور، واختاره الماتن (قده).

فالمشهور هو الجواز وذهب هؤلاء إلى عدم الجواز، والوجه في هذا الاختلاف هو اختلاف الروايات.

وقد يستدل لعدم الجواز: بإطلاق الروايات الذي لا يفرق فيه بين ما تتم به الصلاة وما لا تتم.

ولا يخفى عدم تمامية هذا الإطلاق لأن ما لا تتم فيه الصلاة لا يصدق عليه أنه ثوب، بل الثوب مختص بما تتم به الصلاة.

نعم اللباس أعم، وأما الثوب فلا، فإطلاق الثوب لا يدل على عدم الجواز فيما لا تتم فيه الصلاة.

فالعمدة في الاستدلال لعدم الجواز: هما صحيحتا محمد بن عبد الجبار المتقدمتان حيث صرّح فيهما بالتكة والقلنسوة في السؤال فأجاب  (عليه السلام) بأنه لا تحل الصلاة في الحرير المحض، فإن الجواب وإن لم يكن عن القلنسوة ولكن حيث أن مورد السؤال هو ما لا تتم، فجوابه  (عليه السلام) حيث أنه نكرة في سياق النفي، يكون بالنسبة للمورد كالنص ويشمل ما لا تتم ويكون ظهوره فيه قوي بالنسبة إليه.

وناقش في الجواهر: بأنه يمكن دعوى إرادة الثوب من لفظ (الحرير) إن لم نقل بأنه المنساق منه، قيل إن الحرير المحض لغةً: هو الثوب المتخذ من الإبريسم وعليه يكون الجواب عن السؤال متروكاً، فما لا تتم فيه الصلاة لا يسمى ثوباً.

وهذه المناقشة غير مسموعة: لأن ظاهر الروايتين استعمال الحرير والقلنسوة والتكة، فالحرير قد استعمل في نفس المادة وهي الإبريسم لا في خصوص الثوب، فالاحتمال المذكور مخالف للظاهر بلا قرينة (وكونه المنساق ممنوع ودعوى أنه كذلك لغة مخالف لما ذكر في الرواية) فالمناقشة في الصحيحتين بذلك لا تتم.

نعم بازاء هاتين الصحيحتين ما دل على الجواز وهو موثقة الحلبي عن أبي عبد الله قال: (كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكة، الإبريسم، والقلنسوة، والخُف، والزنار يكون في السراويل ويصلي فيه)[[1]]، فإن هذه صريحة في الجواز فيقع الكلام تارة في سندها وأخرى في دلالتها وثالثة في حجتها.

أما الجهة الأولى: من حيث السند: فليس في سندها إلا أحمد بن هلال العبرتائي وقد وقع فيه الكلام، فقد ذكر العلامة في الخلاصة كما حكي أنه لا تقبل روايته.

ولكن هذا الكلام لا يوجب تضعيفه لأن توثيقات المتأخرين حيث لا يحتمل استنادها إلى الحس فهي اجتهاد منهم لا يكون حجة في حقنا، على أنه قد تقدم غير مرة من مسلك العلامة أنه لا يعمل بخبر غير الإمامي  فرفضه لهذه الرواية لا يدل على عدم التوثيق ولم نعرف أحداً غير العلامة ضعفه.

بل قد صرح النجاشي بأنه صالح الرواية يعرف منها وينكر، فإن هذا يدل على جواز الإعتماد على روايته من حيث هو، وإن كان من حيث رواياته بعضها مشتمل على مضامين غير معروفة، فكلام النجاشي واضح في التوثيق.

بل عن ابن الغضائري أنه لم يتوقف في حديثه عن ابن أبي عمير والحسن بن محبوب لأنه قد سمع كتابيهما جل أصحاب الحديث واعتمدوا عليهما، وهذا يدل على توثيقه وإلا فلا معنى لقبول روايته عنهما، إذ لو لم يكن ثقة في نفسه فلا فرق بين روايته عنهما وعن غيرهما كما عن الشيخ في العدة.

وذكر النجاشي في ترجمة (محمد بن أحمد بن يحي) أن (محمد بن الحسن بن الوليد) استثنى من روايات ابن يحي ما يرويه عن جماعة وعد منهم أحمد بن هلال، وتبعه على ذلك الصدوق، وكذلك ابن نوح استثناه واستثنى ابن عيسى.

وقيل أيضاً: بأن ما كان من رواياته حال استقامته يعمل به دون ما كان بعد انحرافه، وهذا أيضاً يدل على توثيقه في نفسه، وإلا فلا فرق بين ما يرويه حال استقامته وبعدها.

هذا مضافاً إلى وروده في أسانيد كامل الزيارات وإن عدلنا عنه أخيراً.

وأما مذهبه: فقد ذكر الكشي فيه أنه مذموم ملعون لعنه العسكري  (عليه السلام) ومن الناحية المقدسة أيضاً، وفي الفهرست أنه غالي متهم في دينه،وعن سعد بن عبد الله أنه رجع عن التشيع إلى النصب، بل ذكر سعد على ما حكي عنه أنه لم نر شيعياً رجع عن التشيع إلى النصب إلا أحمد بن هلال.

فالظاهر من هذا كله أن الرجل كان فاسد العقيدة والمذهب، والمظنون أن السبب في ذلك هو حسده للنواب حيث كان من الموجهين وينتظر أن يكون هو منهم فلما خرج التوقيع ولم يكن هو من النواب عارض ورجع إلى ما هو عليه الآن، وكيف كان ففساد مذهبه لا دخل له بوثاقته، ولم يرد في حقه تضعيف من الأصحاب[[2]] فسند الرواية إذن لا بأس به.

على أن الظاهر أن المشهور القائلين بالجواز قد اعتمدوا على هذه الرواية أيضاً إذ ليس لهم مدرك غيرها، والغريب من صاحب الحدائق رميه هذه الرواية بالضعف مع اعتراضه على فقهائنا الذين يناقشون الأسانيد وهو بنفسه رماها بالضعف مع تواتر الروايات.

وأما الجهة الثانية: فالظاهر أن الجمع الدلالي بينها وبين الصحيحتين المتقدمتين موجود، لأن الصحيحتين كانتا ظاهرتين في عدم الجواز غايته ظهوراً قوياً وهذه صريحة في الجواز صراحة غير قابلة للتأويل، فيرفع اليد عن ظهور إطلاقهما المذكور بهذا النص حيث يكون هذا النص الصريح قرينة على خلاف ذلك الظهور القوي كما تقدم نظيره في جواز الصلاة في السنجاب، مع أنه كان مورد السؤال في موثقة ابن بكير المانعة والعبرة في قرينية شيء لظهورٍ أن لا يكون بينهما تناقض لو جمعاً في كلام واحد متصل، والأمر هنا كذلك فتقيد الروايتان بهذه الرواية غايته أنه في مورد الروايتين كان السؤال عن القلنسوة والإمام  (عليه السلام) لم يجب عما لا تتم الصلاة لنكتة بل أجاب عن غيره[[3]].

والحاصل: أن مقتضى الجمع العرفي هو التقييد المذكور لعدم التدافع بين الكلامين على تقدير الاتصال واستهجان، إخراج المورد ليس شيئاً عقلياً وهو في نفسه خلاف الحكمة، فإذا كانت هناك مصلحة تقتضيه فلا مانع منه.

وأما الجهة الثالثة: فهو أنه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم إمكان الجمع العرفي المذكور وفرضناهما متعارضين فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما، فأيهما يقدم ؟

ذكر صاحب الحدائق: أنه تقدم صحيحتا محمد بن عبد الجبار على خبر الحلبي لأنه محمول على التقية.

ولكن هذا غريب فإن أبا حنيفة وأحمد لم يقولا بجواز الصلاة في خصوص ما لا تتم فيه الصلاة بل قالوا بالجواز في الثوب الحرير على الإطلاق وإن لم يحرّموا لبسه في نفسه، ورواية الحلبي واضحة الدلالة على عدم جواز الصلاة في الحرير المحض إلا إذا كان لا تتم به الصلاة، يعني أن عدم الجواز فيما تتم فيه الصلاة مفروغ عنها فيها، وذكر أنه إذا كان لا تتم فيه فلا بأس، فعدم البأس من ناحية عدم تمامية الصلاة فيه بعد الفراغ عن عدم جوازها فيما تتم، فهي على خلاف التقية.

وذكر المحقق الهمداني عكس ذلك فأخذ برواية الحلبي وحمل الصحيحتين على التقية فذكر: (أن الغالب في الظن كون الصحيحتين رواية واحدة وقع الاختلاف في نقلها من حيث التعبير باللفظ أو المضمون، وهي من الأخبار التي يلوح منها آثار التقية فإنهما مع كونهما مكاتبة التي قد يقوى فيهما احتمال التقية، تشتمل إحداهما على نفي البأس عن الصلاة في وبر الأرانب مشروطاً بالتذكية ومعلقاً على قوله إن شاء الله وهذا من أمارات التقية وقد أعرض الأصحاب عنها بالنسبة إلى هذه الفقرة وحملوها على التقية، ويستشعر التقية أيضاً من التعبير بأنه لا يحل الصلاة في الحرير المحض أو في حرير محض حيث أنهم على ما حكي عنهم يقولون بحرمة لبسه وصحة الصلاة الواقعة فيه، فالعدول عن التصريح بالمنع عن الصلاة فيه إلى التعبير بنفي الحلية القابل للحمل على إرادة حرمة لبسها حال الصلاة لا بطلان الصلاة الواقعة فيها يشعر بصدورها تقية) انتهى.

وذكر السيد الأستاذ: أن ما ذكره من احتمال كونهما رواية واحدة غير بعيد، وأما حمل قوله (لا تحل) على أنه مشعر بالتقية فهذا غريب، إذ كيف يحمل قوله (لا يحل) على عدم جواز اللبس حال الصلاة وغير حال الصلاة مع تجويز الصلاة في اللباس، فالرواية لا تقبل التقية لأنه على خلاف مذهبهم حينئذٍ.

وذكر السيد الأستاذ: أننا لم نتوقع صدور هذا الكلام من مثل المحقق الهمداني.

وعلى هذا فصحيحتا ابن عبد الجبار ورواية الحلبي متعارضتان ولا ترجيح لأحدهما، لا بالكتاب لأنه لم يذكر فيه، ولا من ناحية مخالفة العامة، لأن كلاهما مخالف للعامة.

فإذا بنينا على التخيير في الروايتين المتعارضتين فهو، وأما بناءً على عدم الدليل على التخيير فلا بد من الرجوع إلى القواعد والأصول، فإن مقتضى القاعدة هو التساقط وكأن كلاً منهما لم يكن، وليس هنا عموم أو إطلاق يرجع إليه، لأن ما دلّ على عدم جواز الصلاة في الحرير المحض موضوعه الثوب فلا يشمل ما لا تتم فيه الصلاة، فمقتضى الأصل حينئذٍ هو جواز الصلاة للأصل في مسألة اللباس المشكوك وهو أصالة عدم تقيد الصلاة بعدم هذا اللباس.

ومن جميع ما ذكر ظهر: أن الأظهر الجواز لا عدم الجواز فيما لا تتم فيه الصلاة، هذا حكم الحرير بالنسبة إلى لبسه في الصلاة.


 

[[1]] الوسائل م3 ب14 لباس المصلي ح2.

[[2]] بل قيل أن التأمل في كلامهم في هذه المسألة حتى بعض المانعين يرشد إلى عدم الإشكال في حجية قوله، ضرورة كونهم بين عامل به ومتوقف متردد من جهته ومرجح لغيره، والجمع فرع الحجية إلا أن يقال أن المتردد لم يثبت أن تردده من جهة بنائه على حجية (أحمد بن هلال) لأن البناء المذكور يمنع من التردد إذ اللازم تخصيص الصحيحين بل المناسب التردد في حجيته، وكذا المانع فإن الظاهر منه عدم الاعتداد به لا ترجيح الصحيحين عليه إذ ليس المقام مقام ترجيح.

[[3]]  ذكر في الجواهر م8  ص125: بعد إشكاله المتقدم في صدق الحرير على ما لا تتم، بأنه عليه يكون الجواب عن السؤال متروكاً، ولعل ذلك لإشعار الحكم بالصحة فيه بالبطلان في غيره، وهو مخالف للتقية لصحة الصلاة عندهم وإن حرم اللبس من غير فرق بين ما تتم الصلاة فيه وغيره، فعدل الإمام y إلى بيان حرمة الصلاة فيه المسلمة عندهم وإن اقتضى ذلك الفساد عندنا دونهم، بل في التعبير بنفي الحل دون نفي الصحة إيماءً إلى ذلك ولعل السبب في التجائه إلى ذلك أيضاً إشعار السؤال بما ينافي التقية من مفروغية عدم الصلاة في غير التكة والقلنسوة، وهي مكاتبة يطلب فيها شدة التقية، بل تكرار كتابة ابن عبد الجبار يوحي إلى عدم ظهور الجواب عنده فيما سأل عنه، بل لعله ظهر له أنه صدر للتقية  فلذا كرر  الكتابة تخيلاً منه أن المصلحة قد تغيّرت فيجاب بالواقع لا بالتقية، فمن الغريب ما في الرياض من عدم إمكان حملها على التقية لصراحتها في نفي الصحة المخالفة لهم، ودعوى قابلية خبر الحلبي لذلك لتضمنه صحة الصلاة في الأمور المذكورة التي هي مذهبهم ودلالته على نفي الصحة في غيرها إنما هي بالمفهوم الضعيف، فإن ذلك كما ترى، مع أن خبر الحلبي مشافهة ومخالف للعامة وهذان مكاتبة وعامتان قابلتان للتخصيص.

ثم ذكر احتمال حمل عدم الحل على الكراهة باعتبار أن معنى لا تحل كما قيل تساوي الفعل والترك فيحمل على الكراهة، والقائل بالجواز يقول بالكراهة، وحينئذ يحمل كلام المجوز والمانع على الكراهة.

رجوع