فروع العلم الإجمالي في الساتر

من لم يكن عند ساتر واحتمل وجوده آخر الوقت هل يجوز له تقديم الصلاة أم لا

___________________________

 (مسألة 46): الأحوط بل الأقوى تأخير الصلاة عن أول الوقت إذا لم يكن عنده ساتر واحتمل وجوده في آخر الوقت (1).

(مسألة 47): اذا كان عنده ثوبان يعلم أن أحدهما حرير أو ذهب أو مغصوب والآخر مما تصح فيه الصلاة لا تجوز الصلاة في واحد منهما، بل يصلي عارياً، وإن علم أن أحدهما من غيرالمأكول والآخر من المأكول، أو أن أحدهما نجس والآخر طاهر، صلى صلاتين، وإذا ضاق الوقت ولم يكن إلا مقدار صلاة واحدة يصلي عارياً في الصورة الأولى، ويتخير بينهما في الثانية(2).

___________________________

 (1)   الكلام: (تارة): في الحكم الواقعي، (وأخرى): في الحكم الظاهري.

أما الأول: فيمكن أن يستدل له برواية أبي البختري وهي ضعيفة السند،
أو بأن القاعدة تقتضي ذلك لأن المأمور به هو طبيعي الصلاة، فلا يصدق في حق العاري الفقدان إلا إذا فقد الثوب في مجموع الوقت، وما بين الحدين.

وأما إذا فقد في بعض الوقت فلا يصدق عليه أنه عارٍ وفاقد للستر الصلاتي، فمقتضى الحكم الأولي عدم مشروعية التقديم.

وأما بالنسبة للحكم الظاهري: فيشرع له التقديم لجريان الاستصحاب الاستقبالي، لأنه يشك في تبدل حالة العراة التي عنده فيستصحبها، فإن تبين بناؤها صحت صلاته وإلا وجبت الإعادة، فالحكم بالصحة الظاهرية مراعى، وهذا معنى كونها صحة ظاهرية.

(2)   ذكر في هذه المسألة عدة فروع:

الأول: ما اذا كان عند المكلف ثوبان يعلم إجمالاً بأن احدهما يحرم التصرف فيه من جهة كونه غصباً أو ذهباً أو حريراً.

الثاني: ما اذا كان يعلم إجمالاً بأن أحد الثوبين من غير المأكول، فهذا من جهة المانعية فقط يعلم  إجمالاً بأن احدهما مانع وأنه لا تصلح الصلاة فيه، وأما من حيث التكليف فلا حرمة.

الثالث: ما اذا علم اجمالاً بنجاسة احد الثوبين مع الإنحصار بهما، فهنا يعلم بوجود المانع في البين، بحيث لو كان النجس متميزاً من الطاهر لصلى في الثوب الطاهر.

وذكر: أن الحكم في الفرع الأول هو الصلاة عارياً، للعلم الإجمالي بوجود الحرام وهذا العلم منجز للتكليف لمعارضته الأصل، كإصالة الإباحة في كل من الطرفين مع الأصل في الطرف الآخر، فلا يمكن التصرف في كل منهما عقلاً فينتهي الأمر الى الصلاة عارياً.

وقد يشكل على هذا: بأن العلم الإجمالي بحرمة الصلاة في أحدهما أو حرمة لبسه، معه علم آخر وهو وجوب الصلاة في أحدهما، لأنه يعلم  بوجوب لباس يستر في الصلاة تجوز الصلاة فيه، وهذا اللباس موجود في البين، وقد اشتبه بما يحرم لبسه في الصلاة، فهو يعلم اجمالاً بوجوب أحدهما كما  يعلم اجمالاً بحرمة أحدهما، فيكون من موارد دوران الأمر بين المحذورين .

وقد ذكرنا غير مرة: أن للعلم الإجمالي مقتضيين، فإنه يقتضي حرمة المخالفة القطعية، ويقتضي وجوب الموافقة القطعية.

وبالنسبة للمخالفة القطعية: لا تزاحم بينه وبين التكليفين، فإن المكلف متمكن من ترك المخالفة القطعية، فلا يخالف الحرمة ولا الوجوب مخالفة قطعية، بأن يأتي بأحدهما ويترك الآخر، فلا مخالفة قطعية حينئذ.

وأما بالنسبة للموافقة القطعية: فهو غير متمكن منها بالنسبة الى التكليفين فإن مقتضى أحدهما الإتيان بالفعلين معاً، ومقتضى الآخر ترك الفعلين معاً،  ولا  يمكن فعلهما ولا تركهما،  فإن الجمع بين النقيضين محال.

فبالنسبة للموافقة القطعية يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز لعدم التمكن منها، وحرمة المخالفة القطعية باقية على حالها، ولذا ينتهي الأمر الى التخيير بينهما، ولا أثر في المقام لإحتمال الأهمية في أحدهما، بل يحكم بالتخيير حتى  ولو فرض احتمال الأهمية، لأن الإحتمال انما يوجب الترجيح فيما اذا كانت  المزاحمة بين الإمتثالين كما لو دار الأمر بين ترك واجب والإتيان بمحرم، ففي مثل ذلك لو كان احدهما أهم أو محتمل الأهمية يتقدم، لما ذكرناه من أن  الاطلاقين في غير الأهم ساقط لا محالة، وأما ما يحتمل أهميته فنشك في سقوط  الإطلاق بالنسبة اليه فنأخذ بالإطلاق على ما تقدم.

وأما في المقام: فالإطلاقان موجودان، إذ المفروض أنه لا مزاحمة بين التكليفين نفسهما، اذ لا مزاحمة بين الحرام والواجب، فإنه لو كان مميزاً  لأحدهما عن الآخر لأتى بالواجب وترك الحرام بلا مزاحمة، وإنما المزاحمة في مرحلة الإجزاء واليقين بالامتثال.

فالإطلاقان باقيان ولا موجب للترجيح بإحتمال الأهمية، بمعنى أنه يقدم  أحد التكليفين فيوافقه قطعاً، وان كان يخالف الآخر أيضاً. 

نعم فيما لو علمنا أن المولى غير راضٍ بالمخالفة الإحتمالية في أحدهما لأهمية ذلك في نظره بمرتبة يوجب الإحتياط حتى في فرض الشك، كما في الدماء والفروج والأموال الكثيرة التي علمنا أن الشارع لا يرضى بمخالفة الواقع حتى في فرض الشك، كما لو فرضنا أنه دار الأمر بين وجوب قتل حيوان  وحرمة  قتل  نفس، فاشتبه  الحيوان  بالنفس المحترمة.

في مثل ذلك لا ينبغي الشك في أنه يجب تقديم الحرمة على الوجوب لأهميته في نظر الشارع بمرتبة لا يرضى حتى في فرض الشك، ومعنى ذلك  أنه أوجب الإحتياط، فايجاب الإحتياط يزاحم ذلك التكليف الآخر بالنسبة الى الموافقة الإحتمالية، فيقدم هذا لأهميته وكذا لو وجب عليه وطي زوجته لنذر  أو لتركها أربعة أشهر، فاشتبهت بأجنبية يحرم وطيها ففي مثله يجب الإحتياط والترك، والعلم  الإجمالي غير منجز قطعاً.

وأما في غير ذلك بأن كان واجب وحرام، واشتبه الأمر فلم يميز الواجب من الحرام ولم يعلم أهميته في نظر المولى، ففي مثله بالنسبة للموافقة القطعية لا موجب لترجيح أحدهما على الآخر، فنحكم بوجوب الموافقة في أحد التكليفين وإن استلزم ذلك مخالفة الآخر يقيناً، فالنتيجة هي التخيير.

وعليه ففي مثل المقام ايضاً لا بد من الحكم بالتخيير،  ولا تصل النوبة الى  الصلاة عارياً، هكذا  يمكن الإستشكال.

ولكنه غير تام: وذلك لأن الكبرى وإن كانت مسلمة كما ذكر في موارد دوران الأمر بين الواجب والحرام، إلا أن المقام ليس من صغريات هذه الكبرى، لأن حرمة الغصب أو الذهب أو الحرير حرمة مطلقة غير مشروطة بالقدرة شرعاً كما ذكرناه في المباحث المتقدمة.

وأما وجوب الستر في الصلاة فهو مشروط بوجدان الساتر بمعنى التمكن  منه على نحو ما ذكرناه في مبحث التيمم، من أن المراد بوجدان الماء هو التمكن  من التصرف فيه، بأن لم يكن مانع شرعي ولا مانع عقلي من استعماله، فهو مشروط بالقدرة  شرعاً.

ومقامنا كذلك مشروط بالقدرة شرعاً مضافاً الى القدرة عقلاً وتكويناً، فإذا كان الأمر كذلك فالتكليفان الحرمة والوجوب أحدهما ليس في مرتبة الآخر، بل أحدهما في مرتبة موضوع الآخر، فإذا علمنا اجمالاً بحرمة لبس أحد الثوبين إما للغصب أو لأنه حرير أو ذهب، فهذه الحرمة منجزة، ومعنى تنجيزها أن الشارع لا يرخص في لبسه، وحينئذ يكون  غير متمكن من الصلاة  في هذا الثوب حتى التمكن الذي هو بنحو الإباحة  الظاهرية، وحينئذ يوجد موضوع الحكم الآخر فإنه حينئذ  غير  واجد للثوب.

إذ ليس الموضوع لوجوب التستر في الصلاة وعدمه هو أن يكون عنده  ثوب خارجاً أو لا يكون، بل الموضوع كما عرفت هو التمكن من التصرف فيه، فقد يكون عنده الثوب خارجاً ولكن لا يتمكن من التصرف فيه عقلاً أو لا يتمكن من التصرف فيه شرعاً.

فهذان الثوبان بما أنهما طرفان للعلم الإجمالي، لا يجوز التصرف في أي منهما، فليس هنا ترخيص شرعي، فإذا كان بحسب الواقع مغصوباً أو حريراً  أو ذهباً لوقع مبغوضاَ ولا يستحق العقاب على هذا العمل،  فهو فاقد لثوب يصلي فيه[[1]]، كما في صحيحة زرارة قال: (قلت لأبي جعفر  (عليه السلام): رجل خرج من سفينة عرياناً أو سلب ثيابه ولم يجد شيئاً يصلي فيه فقال: يصلي إ يماءاً، وإن  كانت إمرأة جعلت يدها على فرجها، وإن كان رجلاً وضع  يده  على سوأته)[[2]].

فهو فاقد لثوب بهذا  الوصف، وصف أنه يصلى فيه اذا لم يجد ذلك يصلي عارياً، فما أفاده من الإنتهاء الى الصلاة هو الصحيح، فإن ما ذكرنا من أن المورد المبتلى بالعلمين الإجماليين كما في المقام حكمه التخيير، هذه الكبرى وإن كانت حجة إلا انها غير منطبقة على المقام، لأن الوجوب مشروط بالقدرة الشرعية، أما الحرمة فليست مشروطة إلا بالقدرة الفعلية فهي مطلقة من ناحية القدرة  الشرعية فلا موضوع  للوجوب.

وأما الفرع الثاني: وهو ما اذا علم إجمالاً بأن أحد الثوبين من غير المأكول، فاحتمال الحرمة التكليفية مفقود جزماً، فإن ما لا يؤكل لا يحرم لبسه، وإنما هو مانع من الصلاة  فقط، ومع ذلك قد يقال كما قيل  بوجوب الصلاة عارياً لأجل عين الوجه المتقدم من أن العلم الإجمالي بوجود المانع في البين نجز المانع الواقعي فلا يجري الأصل في كل من الطرفين، فهو ممنوع منه، فتصل النوبة الى الصلاة عارياً.

ولكن هذا واضح البطلان: فإن الحرمة التكليفية مفقودة في المقام كما عرفت، والموجود هو الحرمة الوضعية فقط أي المانعية، فكما لنا علم إجمالي بوجود المانع، فلنا ايضاً علم اجمالي بوجود الشرط، فإن أحد الثوبين من المأكول الذي تجوز الصلاة فيه، فالمكلف مأمور بالصلاة فيه، والمفروض أن التمكن العقلي موجود، وليس ثمة حرمة تكليفية تمنع ليكون غير متمكن منه شرعاً كما في الفرع الأول.

وحينئذ فكل منهما يدور أمره بين أن يكون من أفراد الشرط وأن يكون  من أفراد المانع، فلا ندري أن هذا الثوب مانع عن الصلاة أو هي مشروطة ؟ فهو من دوران الأمر بين الشرطية والمانعية.

فما تقدم من أن الكبرى منطبقة على المقام، فبالنسبة للمخالفة القطعية يمكنه أن لا يخالفهما بأن يصلي في أحدهما دون الآخر، فلا يخالف لا هذا ولا ذاك مخالفة قطعية.

وأما بالنسبة للموافقة القطعية: فهو متمكن منها، فينتهي الأمر حينئذ  الى التخيير وتقديم المانعية على الشرطية لينتهي الأمر الى الصلاة عارياً.

لا موجب له بعد ان كان أحدهما في الواقع شرطاً للصلاة والآخر في الواقع  مانع للصلاة، بل من جهة أن الموافقة القطعية غير مقدورة فلا تجب، والمخالفة القطعية مقدورة فتحرم كما عرفت من اقتضاء العلم لهما، فلا محالة تصل النوبة  الى الموافقة الإحتمالية بالصلاة في أحدهما دون الآخر وهو التخيير، فمن أين ينتهي الأمر الى الصلاة عارياً ؟

ثم بعد البناء على التخيير والصلاة بأحد الثوبين: هل يجب القضاء خارج الوقت أو لا يجب ؟

ربما يقال: بوجوبه من جهة تحصيل العلم بوقوع الصلاة في غيرما يؤكل، فإن كان اللباس الأول من غير ما لا يؤكل كان الأداء صحيحاً، وإن كان الثاني هو كذلك فالقضاء يكون صحيحاً، فيجب القضاء بالثوب الآخر أو بثوب آخر معلوم أنه من غير ما لا يؤكل.

والصحيح: أنه لا يجب القضاء، فإن وجوبه مترتب على عنوان الفوت وهو أمر وجودي أو مثل الوجودي، وليس لهذا العنوان حالة سابقة، وإنما يتحقق في آخر جزء من الوقت إذا لم يحصل المأمور به، فلا بد من إحراز هذا العنوان، ولا احراز، فإن المكلف بعد أن أتى بوظيفته الفعلية التي هي الصلاة بأحد الثوبين مخيراً بينهما وحقق بذلك بعد عجزه عن الموافقة القطعية، الموافقة الإحتمالية، لأن الثوب الذي صلى فيه يحتمل أن يكون من غير ما لا يؤكل.

فبعد هذا بأي شيء يحرز عنوان الفوت وموضوع القضاء، بل هو لا يدري أن الصلاة فاتت أو لا، فأصالة عدم الفوت أو اصالة البراءة من وجوب القضاء محكم، ولا مانع منه، ولا يعارض بأصالة عدم وجوب هذا الفرد المأتي به، وذلك لفرض أنه لا بد من الإتيان به من جهة حكم العقل بالتخيير، ووصول النوبة الى الموافقة الإحتمالية دون القطعية للعجز عنها كما تقدم تفصيله، فهذا الفرد لا يجوز تركه.

وأما القضاء: فبما أن موضوعه الفوت وهو غير محرز فلا يجب، وعليه فلا وجه لوجوب القضاء في أمثال المقام.

وأما الفرع الثالث: وهو ما اذا علم بنجاسة أحد الثوبين وليس عنده ثوب ثالث.

فهذا قد مرّ الكلام فيه، وعرفت أنه اذا كان النجس معلوماً تفصيلاً ودار الأمر بين الصلاة فيه والصلاة عارياً قدم الصلاة في المتنجس، فكيف فيما اذا كان كان معلوماً بالإجمال  وتردّد، فالحكم هنا أيضاَ هو التخيير فيصلي في أحد الثوبين كما كان الحال في الفرع المتقدم، بل هنا أولى، فإن الثوب اذا كان محصوراً بما لا يؤكل فقد تقدم أنه يصلي عارياً، مع أنه لو انحصر بالنجس صلى فيه ولم يصل عارياً.

والحاصل: أن مانعية النجاسة لا تزيد عن مانعية غير المأكول بل هي أضعف، فإذا قلنا بالتخيير في غير المأكول كان التخيير في المتنجس أولى ولا حاجة الى القضاء.


 

[[1]] هذه الرواية لم أجدها بهذا الوصف، نعم وجدت في دفتر العسيلي صحيحة زرارة المذكورة.

[[2]] الوسائل م3 ب50 لباس المصلي ح6.

رجوع