حكم الحاكم بعلمه

قال المحقق الحلي في الشرائع تحت عنوان (مسائل: (الأولى: (الإمام (عليه السلام)  يقضي بعلمه مطلقًا، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس، وفي حقوق الله -سبحانه- على قولين أصحُّهما القضاء، ويجوز أن يحكم في ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد الحكم)انتهى.

أما القضاء بالنسبة للإمام (عليه السلام)  فلا كلام لنا فيه ولا حاجة للبحث عنه، إلا بلحاظ استفادة بعض الخصوصيات التي لا نقطع بأنها خاصة بالإمام، أو بلحاظ أن ما يثبت للإمام في باب القضاء يثبت للفقيه.

وينبغي أنْ يُعلم بأنّ علم القاضي الذي نبحث عن جواز القضاء على أساسه لا يشمل علمه بالبينة، وبوقوع اليمين، وبتزكية الشهود، فإن هذه أمور حسّية يستعين بها على القضاء، فلو طُلِب من القاضي أن يثبتها بغير علمه لَلَزِم التسلسل، فلا يشمل البحث علمه بوسائل الإثبات في القضاء، بل المقصود علمه بالواقع المترافع لأجله.

 

وقد استُدِلّ على جواز الحكم بعلمه بأمور:

( منها ): أن الحكم بالواقع هو من الحكم بالعدل، والحق، والقسط، الذي أمر به الله-سبحانه- في كتابه العزيز وفي الروايات، ذكره في الجواهر وغيره، وهو أقوى دليل على الجواز.

(ومنها ): ما أضافه صاحب الجواهر (قده)  -وهو لا يقل قوّةً- وهو: أنه لو لم يحكم بعلمه فإما أن يحكم بغير علمه وهذا فسق، لأنه حكم بغير ما أنزل الله-تعالى-، وإما أن يوقف الحكم وهو تعطيل لأحكام الله-تعالى- بلا مُوجِب، مع أنّ فيه عدم النهي عن المنكر وعدم وجوب إظهار الحق الذي عَلِمَه مع إمكان إظهاره.

وأضاف: إن الحكم بالبينة إنما هو لكشفها، ويتحقق بواسطتها العنوان الذي علق عليه الحكم، والعلم أقوى كاشفية من البينة عند القاضي.

فإن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}([1])، أو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}([2])، قد علّق الحكم فيه على واقع السارق والزاني، والمخاطب بتنفيذ هذا الحكم هم الحكّام، فإذا علموا بالتلبّس بهذا الواقع وبتحقق الوصف الذي علق عليه الحكم، وجب عليهم حينئذٍ العملُ بما أُمِروا به.

فإذا ثبت ذلك في الحدود ثبت في غيره بطريق أولى، ولم يكن الحكم مُعلَّقا على مَنْ أقرَّ أَوْ قامَتْ به البيّنة، فإنّ ذلك طريق لِتَحقُّق الأوصاف التي هي موضوعات الأحكام، هذا حاصل كلامه (ره)  مع التوضيح([3]).

ولا بأس بذكر بقية ما ذكره (ره)  في هذا المقام لأنه لا يخلو من الفائدة:

فإنه بعد أن كان قد ادّعى الإجماع، نقل عن الانتصار الإشكال في هذا الإجماع مع تصريح ابن الجنيد بالخلاف وأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شيء من حقوق الله -تعالى-.

وأجاب: بأنّ ابن الجنيد عوّل على ضَرْبٍ من الرأي والاجتهاد، وخطؤه ظاهر، وكيف يخفى إطباق الإمامية على وجوب الحكم بالعلم؟ وهم ينكرون توقّف أبي بكر عن الحكم لسيدة النساء فاطمة (عليها السلام) بفدك بالنحلة من أبيها (صلى الله عليه وآله) ، مع علم أبي بكر بعصمتها وطهارتها وأنها لا تدّعي إلّا حقًّا، وكيف طالبها بالبينة مع أنه لا وجه للبينة مع العلم بالصدق وهو يعلم صدقها !

نقول: هذا صحيح، ولكنه ليس للإجماع، بل للعلم بصدق فاطمة  (عليها السلام) ، فلا يكون إشكالاً على ابن الجنيد بالشك في الإجماع.

ولكنّ صاحب الجواهر ناقش في آخر كلامه بجواز الحكم بالعلم لولا الإجماع، مستشهدًا بروايات القضاء بالبينات والأَيْمان، الظاهرة في الحصر، لقوله (صلى الله عليه وآله) : (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان).

وهذا من غريب ما يصدر من صاحب الجواهر (ره) بعد الأدلة التي ذكرها، خصوصًا بملاحظة ذَيْل الحديث المذكور([4]): (وبعضكم ألحن بحجّته من بعض)، إذ معناه أن بعضكم يقدر على إظهار حجته المؤدية إلى الواقع أكثر من البعض الآخر، وخصوصًا بعدما عقّب ذلك بقوله: (فأيما رجل قطعْت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعْت له به قطعة من النار)، فإن نصوص البينات تدل بوضوح على أن البينات إنما هي للوصول إلى الواقع الذي لا يعلمه القاضي، ولا معنى لأن يكون الحكم قطعة من النار إلا إذا كذب صاحب الحجة الذي هو ألحن من صاحبه.

فهو تنبيه من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، وتعليم منه، وبيان أن الحكم في غياب المعصوم لا يمكن استقامته إلا بالبينة، والبينة واليمين تشريع وقانون، لأنهما المؤديان إلى الواقع غالبًا.

وكذلك النصوص القرآنية التي دلت على اعتبار البينة والشهود في سائر الموارد، وأحكام رسول الله (صلى الله عليه وآله)  على ظاهر الحال -مع أنها لم تكن مخالفة للواقع- كانت لبيان ترتيب آثار الإسلام وتطبيق أحكامه على ظاهر الحال.

وقوانين القضاء المذكورة من البينات والأيمان والإقرار، إنما هي في صورة الشك وضياع الحق، لا في صورة العلم.

فإنه إذا كانت الأمارات تقوم مقام العلم، فقيام العلم مقام الأمارات -لو كانت لها موضوعية- أَوْلى وأَوْضح، إلا في بعض المسائل التعبدية كاعتبار الشهود الأربعة في بعض الموارد.

وإلا فإنّ البينة واليمين إنما تنفع القاضي لأنها قد توجب له العلم الحسي في أحسن التقادير، وقد لا توجبه بل توجب العلم التنزيلي، فكيف تكون معتبرة عند القاضي تعبدًّا لأنها تنزل المضمون منزلة العلم، ولا يكون العلم الحسي معتبرًا؟!

 

وقد يستدل على عدم جواز الحكم بعلمه:

بما ورد في صحيحة داوود بن فرقد، قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ أصحاب رسول الله  (صلى الله عليه وآله)  قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعا به؟ قال: كنت أضربه بالسيف.

قال: فخرج رسول الله  (صلى الله عليه وآله)  فقال: ماذا يا سعد؟ ما قيل وما قال؟

فقال (صلى الله عليه وآله) : يا سعد، فكيف بالأربعة شهود؟ فقال: يا رسول الله، بعد رَأْيِ عيني وعِلْم الله أنه قد فعل ! قال (صلى الله عليه وآله) : إي والله، بعد رَأْي عينك وعِلْم الله أنه قد فعل، إن الله قد جعل لكل شيء حَدًّا، وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدًّا)([5]).

والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في مقام التعليم وبيان الأحكام، ومورد الحديث هو علم الزوج لا علم الحاكم.

ومع ذلك قد يقال: بأن الحديث قد جعل الأربعة شهود حدًّا لثبوت الزنى، ومقتضى إطلاقه أنه حدٌّ مقابل علم القاضي ِ، أي حتى لو علم القاضي، ويمكن أن يقال ذلك في كل موردٍ جَعَل الأربعة شهود حدًّا للزنى.

ويندفع: بأن الزوج مُدَّعٍ لا قاضٍ، وينطبق عليه آيات قذف المحصنات عند القاضي، ولذلك جُعِلَتْ هذه الحدود حتى لا يقع الهرج والمرج بين الأزواج.

ولا إطلاق في الحديث يدلّ على أنّ حدّ الزنى أربعة شهود، بل ذكر أنه (جعل لكلّ شيءٍ حدًّا)، فَلْيكن علم القاضي أحدَ الحدود، عكس ما استُدِلّ من أنّ الحدّ في مقابل علم القاضي.

وما يقال: من أنّ هذه الإطلاقات تنفي نفوذ علم الحاكم، لأنه لو شهد عند الحاكم ثلاثة يحصل عنده العلم بالصدق، ومع ذلك لا يثبت به الحد، فالأربعة لها إطلاق قوي يشمل حتى صورة علم القاضي بغير الأربعة.

مندفعٌ: بأنَّ العلم الحاصل للقاضي من كل واحد لا يزيد على علم الزوج الذي رأى بعينيه، وعلم القاضي لو حصل من الثلاثة أو الأقل فهو ليس علما حسيا، وموضوع الحكم هو الأربعة أو العلم الوجداني، وكلاهما غير حاصل، فلا يكون هذا نَقْضًا على اعتبار علم الحاكم.

على أنه يحتمل أن يكون للزنى خصوصية وهي شدّة التثبّت في ثبوتها، حتى إنّ الشاهد الذي لا يُثبت دعواه ببقية الشهود يكون عليه الحد، وحصول العلم الذي تجوز معه الشهادة لكل واحد من الأربعة في غاية الندرة.

وأما باب المرافعات والخصومات، فليس لها إطلاقات ناظرة لموارد الحدود، لخروجها عن الحدود موضوعًا.

هذا في مقام الدعوى، فلو كان الزوج في مقام الدفاع عن النفس أو العِرْض فله تكليفٌ غير ذلك، وهذا لا علاقة له بمحل الكلام في علم الحاكم.

وأما العلم الذي يجوز للقاضي أن يحكم على طبقه، فهو العلم (الحسي).

وأما العلم (غير الحسي): فلا يمكن القول باعتباره، لأنّ الشريعة ركّزت على البيّنة في باب القضاء في الوقائع الشخصية، وأما العلم الحدسي فهو معتبر في القضايا النظرية لا في القضايا الخارجية.

مع أن خبر العادل قد يوجب العلم غير الحسي في بعض الأحيان، ومع ذلك لا بد من البينة، وهذا يدل على اعتبارها وعلى عدم اعتبار علم القاضي غير الحسي، ولكنه لا يدل على عدم اعتبار علمه الحسي، والوجه في ذلك: أنّ الأدلة ركّزت على البينة وشروطها، ولم يرد ما يدلّ على اعتبار علم القاضي غير الحسي، فلو كان حجّةً لَوَرَدَتْ فيه الأدلة، كما وردت في حجيّة البينة التي إذا حصل منها علم فهو غير حسي.

وأما العلم الحسي عند القاضي: فلا يجب أن يرد في حجيّته نص خاص، لأنه حجة عقلاً وفي مرتكزات العقلاء التي لم يردع عنها الشارع، وهذا يدل على أن المقياس في الشريعة عندما لا يوجد علم حسي هو البينة دون العلم الحدسي.

ويدل على حجيّه العلم الحسي أيضًا صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام)  قال: (في كتاب علي (عليه السلام)  إن نبيا من الأنبياء شكا إلى ربه فقال: يا ربّ، كيف أقضي في ما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى الله إليه: أحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي فحلفهم به، وقال هذا لمن لم تقم له بينة)([6]).

وقوله (عليه السلام) : (لم أرَ ولم أشهد)، إشارة إلى العلم الحسي، وأنه مع عدمه يحكم بالبينة.

ونَقْلُ هذه الرواية من قِبَل الإمام (عليه السلام) ، يدلّ على إمضاءِ ما فيها في شريعتنا، لأنّ الأحكام كلها أحكام بالحق والعدل في جميع الشرائع لسائر الأمم.

وهذا وإن لم يدل على عدم حجية العلم الحدسي، إلا أنه يكفي في عدم حجيته عدم الدليل.

وقد أكثَرْنا التفصيل في علم القاضي لأهمية علمه عند القضاء، ولأهمية الزنى وسائر أحكام الأعراض، لأنَّ منصب ولاية القضاء يستوعب كل المنازعات التي تقع بين الأفراد وبين المجموعات ضِمْن الدولة الإسلامية.

وتبقى ولاية الفقيه في سائر شؤون المجتمع من الداخل والخارج، والتي عمدة أدلتها من النصوص هي نصوص القضاء كما سيأتي.


 

([1]) المائدة: 38.

([2]) النور: من الآية 2.

([3]) الجواهر ج40 ص88.

([4])  الوسائل ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح1.

([5]) الوسائل باب 2 من أبواب مقدمات الحدود ح1.

([6]) الوسائل باب1 من أبواب كيفية الحكم ح1.