الباب الرابع

في ولاية الفقهاء على تنفيذ الأحكام

المتعلقة بالأفراد والمجتمع

 

(ولاية الفقيه)

 تحرير محل الكلام:

والبحث فيه: عن إمكان التعدي من النصوص الواردة في القضاء إلى (الولاية المطلقة).

وولاية الفقيه -كما قلنا- ذات شقين:

الشق الأول: ولايته في الاجتهاد والتقليد.

الشق الثاني -وهو المقصود بالكلام هنا-: في ولايته على تطبيق الأحكام وسائر المصالح الخاصة والعامة في الفرد وفي المجتمع، بالإضافة إلى ولايته في القضاء التي تقدم الكلام فيها.

والذي دعا إلى تقسيم الولاية وإعطائها هذين العنوانَيْن مع أنها كلها ولاية للفقيه، إنما هو المفروغية عن ثبوت ولاية الفقيه في القضاء بالمعنى المصطلح، وعدم الخلاف فيه.

ولكن.. هل يُتعدّى بواسطة النصوص الواردة في القضاء، إلى الولاية المطلقة ؟ بمعنى أنها هل تشملها تلك النصوص بمعونة الروايات المطلقة التي لم ترد في خصوص القضاء أو لا ؟

 

تمهيد

فنقول قبل الدخول في التفصيل: لا إشكال في أن شريعة الإسلام تُعنى بالفرد وبالمجتمع، فالدِّين الإسلامي دِينٌ اجتماعيٌّ لا تقتصر أحكامه على العبادات ووظائف الأفراد الشخصية، بل أكثر أحكامه المتعلقة بالأفراد مرتبطة بالمجتمع بشكل وبآخَر، فلا ترى واحدًا من أهم العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والخمس، إلا وهو بالنسبة لكل شخص مرتبط بالآخرين، خصوصًا في الأخماس والزكوات وصلاة الجماعة وآداب الصيام، وكذلك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الذي هو من أهم الواجبات الدينية، حيث إنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحِلّ المكاسب، وتُمْنَع المظالم، وتعمّر الأرض، ويُنتصف للمظلوم من الظالم.

ولا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَتْ منهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء، كما ورد عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)  بهذا النص أو المضمون وبغيره من النصوص.

وعن أبي عبد الله  (عليه السلام)  قال: (قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) : كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر !؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم وشرّ من ذلك، فقال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف !؟ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك ؟ فقال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفا!؟)([1]).

وهذا ما نشاهد في عصورنا الحاضرة.

وتكفينا الآية الكريمة:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ([2]).

فإنها تدل بوضوح: على أنّ الإسلام يدعو إلى أمة واحدة، ومجتمع واحد، منظّم مستقيم، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء رحمة للعالمين،كما نطقَتْ به آيات القرآن الكريم.

فهو دِين عقائديٌّ، عباديٌّ، اجتماعيٌّ، أخلاقيٌّ، عامٌّ شاملٌ لكلِّ متطلبات الفرد الصالحة، ولكل مقوّمات المجتمع السليم من تنظيمٍ ينظر إلى كل القوانين: قوانين العبادات التي تقرب العبد من ربه-عزّ وجلّ-، وقوانين المعاشرة في الحضر والسفر، وقوانين المعاملات العقلائية التي درج عليها البشر منذ وجودهم كمجتمع من بيع وتجارة وإجارة وزراعة وصناعة، ومن المحافظة على القاصرين من الأيتام والمجانين، ومعونة كلِّ ضعيف، ومن الحدود والقصاص والديات والأحكام القضائية، ومن المحافظة على الأنساب والأعراض، والمحافظة على سلامة المجتمع، مما يخلّ بنظم أمورهم الدينية والدنيوية، بالدفاع والجهاد من أي غزو ظالم، والمحافظة على النظام العام في الزراعات والأراضي والمياه.

وهو أيضًا دِين سياسيٌّ، إذ لا نعني بالسياسيِّ إلا ما ذَكَرْنا لا السياسة بالمفهوم المعاصر، بل بمعنى رعاية شؤون الأمة بأفرادها ومجتمعاتها فيما بينها ومع الآخرين، فيتعامل مع الحاكم المسلم -أي رئيس الدولة الإسلامية- بقانون، كما يتعامل من خلال دولة الإسلام مع الحاكم المعادي أو غير المسلم بشكل عام بقانون آخر.

وهكذا له قانون في كل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته المادية، والمعنوية، والاجتماعية، والسياسية، والنفسية، وحالات المرض، وحالات الصحة.

كلُّ ذلك ضمن حدودٍ شرعها الله -تعالى-، ولا يرضى بتعدّيها وتجاوزها، فلا يتعداها إلا الكافر، والظالم، والفاسق، والمنحرف.

وإذا كان الأمر كذلك، كان لا بدّ للإسلام من جهةٍ متمثلة بأشخاص تنظم الأمور، وترعاها، وتطبق الأنظمة، طوعًا أو كرهًا، وهذا مما أجمع عليه العالم، وأجمع عليه المسلمون بعد جمع شتاتهم بالإسلام، أجمعوا عليه تأسّيًا برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حيث كان يباشر بنفسه تدبير أمورهم، ويسوسهم، ويفصل خصوماتهم، وينصب الحكام والعمّال للولايات البعيدة عن المدينة المنورة، ويبعث السرايا والغزوات، ويقود الحرب في مقام الدفاع عن الإسلام، ويطلب الأخماس والزكوات.

وكذلك كان يسوسهم في تعاملهم مع الأمم الأخرى بالدعوة إلى الإسلام، ويثبِّت أركانه، وكان يشاورهم كما أمره الله-تعالى-.

كل ذلك ليشحن هِمَمَهم، ويزرع في نفوسهم هذه المبادئ.

وهكذا بنفس الطريقة -لا بالمضمون- سار المسلمون بعده، ولكنهم اختلفوا منذ رحيله (صلى الله عليه وآله) في مَنْ ينصب هذا الحاكم الذي يترأس هذه الجهة الراعية التي هي جهة الدولة:

هل هو الله سبحانه؟

أو الرسول (صلى الله عليه وآله) ؟

أو البيعة العشوائية المُدَبَّرة المغتصبة التي ادُّعِيَتْ لها الشرعية بعد وقوعها؟

أو الشورى؟

أو الوصية من زعيم لآخَر، ومن مَلِك لآخَر !؟

ولما وصل دور الممارسة العملية لدولة الإسلام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)  كانت دولة حقّ، وكان منهجه منهج صدق، ضاقَتْ به صدور أقوام لم يدخل الإيمان في قلوبهم، فكانت دولة الحق التي أرادها الله-تعالى- للإنسان في الأرض، و أعطاهم وعلّمهم، كما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من القِيَم والمبادئ في السلوك والعمل.

وكانت الأحقيّة بعده (صلى الله عليه وآله) للعترة الطاهرة من أبنائه المعصومين (عليهم السلام) ، وقد قاموا بدورهم العقائدي والتشريعي على أكمل وجهٍ أراده الله-تعالى-.

ثم انتهَتْ مرحلة الصراع الدموي والتنافس على الخلافة السياسية والإمارة، وكمل دور الأئمة (عليهم السلام) بما ثبتوه من القواعد المتينة التي لا تزال مستمرة إلى الآن.

وبعد وقوع الغيبة الكبرى لآخر الأئمة الحجة (عجل الله فرجه) ، استمر الحكام على مختلف أهوائهم في تداول السلطة باسم الإسلام، وبالاسم فقط.

وانتهَتْ مسيرة البشرية إلى العصور المتأخرة، عصور توارث الملك وتعاقب الرؤساء والحكام، فأنتجَتْ الحكومات المعاصرة الني نعيش بينها الآن في جميع أقطار العالم.

فكان الواقع الاجتماعي الذي وصلوا إليه عن تصميم وتخطيط، أو نتيجة حتمية لمجموع تصرُّفاتهم ! كان هذا الواقع هو الحاكم في العقيدة والتشريع والأخلاق، إلى درجة تأثّرَتْ فيها العقائد والشرائع عند جميع الأمم.

وبقيَتْ شريعتنا محفوظة بما وُضِع لها من قوانين ومبادئ وعقائد راسخة، ببركة الدَّفْع المتواصل الذي تناوله أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، وشحذوا فيه هِمَم المخلصين من المسلمين والعلماء العاملين.

نعم، صار الدور الأساسي في إصلاح المجتمعات الأخرى هو واقعهم، بدءًا بحرب الإسلام ومحاولة طَمْس معالمه ومبادئه من خلال حفنة من الحُكّام، أو الذين يدّعون الثقافة والتطور والوصول إلى الحضارات المعاصرة، ظنًا منهم بأنّ ذلك لا يتم إلا بالتنازل عن كثير من المبادئ والتشريع الذي حاولوا إخضاعه وإخضاع تلك النصوص المقدسة لحاكميّة هذا الواقع البغيض، أعني البغيض بسلوكه في التعامل المادي والأخلاقي والتسلّط غير المبرر على مقدرات الكون، بدءًا بإنكار كفاءات الشريعة الإسلامية لقيادة المجتمع من جهة، مستدلين على ذلك بواقع المسلمين وأفكارهم المبعثرة بين الشرق والغرب والسماء والأرض.

فكانت النتيجة: أنّ هذه الأفكار المسمومة التي بُذِرَتْ بأيدي المسلمين بشتى أصنافهم، غَزَتْ مناطق العقيدة والتشريع، بما فيه النص، فضلاً على ما لا نص فيه، من أجل تأويله وتغييره، أو معاملته على أنه مؤقّت ومحدود.

وبقي التشيّع في جميع العصور هو البناء الشامخ، والقِمّة الراسخة، والقلعة الثابتة أمام تلك العواصف والزلازل..

كل ذلك ببركة أهل البيت (عليهم السلام) ، على أيدي علماء الشيعة، الذين لم يزل ولا يزال يوجد منهم في كل عصر من يتناول تلك المبادئ من الذي قبله، ويحافظ عليها ثم يتسلّمها الذي يليه وهكذا.

وقد قام كلُّ واحد منهم على تعاقُب العصور بدَوْره في وقته، محافظِين على كلِّ المبادئ والتشريعات سِرًّا مرة، وعلانيةً مرة أخرى.

والآن وفي عصر الانفتاح والحرية، ما هو دور الفقيه الذي قام ويقوم بدوره في الإفتاء و القضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

وقد ضحى القسم الكبير منهم بأرواحهم الزكية في سبيل الله-تعالى- تأسّيا بالإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ، ولم يكن عندهم يأس في وقت من الأوقات، بل كانوا دائمًا يتعاملون مع قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يتعامل معه الناس بطريقة عكسية لأنهم صاروا يرَوْن المعروفَ منكرًا وينهون عنه، والمنكرَ معروفًا فيأمرون به ويدعون إليه، على النحو الذي ورد فيه الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو ينظر إلى الغيب.

والخلاصة بعد هذا الواقع: ما هو دور الفقيه في مثل هذا العصر ؟


 

([1]) الوسائل ب1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يناسبهما ح12.

([2]) آل عمران: 104.