صلاحيات الفقيه

لا بدَّ لأجل التوصل إلى معرفة صلاحيات الفقيه الذي قلنا بولايته بالنصّ، أو بدليل الحِسبة، مِن أن نعرف ( أولاً ) صلاحيات النبي الأعظم والأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في ولايتهم، (ثم) ننطلق إلى بيان ما نستفيده من جَعْلهم الولايةَ للفقيه.

فنقول: لا إشكال ولا خلاف عند جميع المسلمين أن من جملة الأدلة على الحكم الشرعي بعد القرآن هي السُّنَّة الشريفة.

والسنة عندنا -نحن الشيعة-: منحصرة في قَوْل المعصوم وفِعْله وتقريره، مع فَرْق بين هذه العناصر الثلاثة من حيث كيفية الاستدلال، ومقدار سعة الولاية وضِيقها من حيث الإطلاق والجمود على موردها، وغير ذلك مما هو معلوم في الفقه.

والسِّر في ذلك: أنهم حَمَلة الشريعة ومبلِّغوها وحُماتها إلى قيام الساعة، فقد أودع الله-تعالى- أحكامه عند رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعندهم لعصمتهم (عليهم السلام)، ومعرفته-تعالى- بأهليَّتهم الكاملة، وبلوغهم منتهى الكمال البشري الذي لا يناله غيرهم، ولذلك أمر الله-عزَّ وجلَّ- بإطاعتهم في تبليغ الأحكام كمشرِّعين، وفي شؤون المكلَّفين الخاصة إذا أمروهم، لأنهم أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم بما يُعنى في شؤون المكلَّفين الخاصة أو العامة إذا أمروهم بذلك، كما يطيع العبد مولاه والمرؤوس رئيسه، إما على نحو الخضوع اللازم وإما على نحو الإرشاد والتعليم.

وقد أشرنا إلى ذلك في أول الكتاب عند التكلم عن ولايتهم على المؤمنين، لأنهم لا يرشدون إلا إلى ما فيه الصلاح ورضى الله-تعالى-.

فالولاية على الأفراد والمجتمعات والشؤون العامة ثابتة لهم من قِبل الله-تعالى-، كما كانت ثابتة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن إمامتهم مستمرة إلى نهاية الدنيا.

 

ولاية المعصومين (عليهم السلام)

وهذه الولاية من الأحكام الشرعية الأولية العقائدية، بمعنى أنه يجب على المؤمنين أن يعتقدوا بذلك، أي بإمامتهم، ويجب عليهم من الناحية العملية أن ينقادوا لأوامرهم في التشريع، وفي التطبيق.

 والمقصود بالتطبيق الذي أُمِر الناس به هو تنفيذ الأحكام وإقامة الفرائض، ونَشْر الشريعة التي كملت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتمَّ التشريع فيها بانقطاع الوحي بعد رحيله  (صلى الله عليه وآله).

ونعني بالاكتمال والكمال: أن أصل التشريع الذي أراده الله-تعالى- للبشرية في خاتمة النبوات، قد أودعه الله-سبحانه- عند رسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وأمره بتبليغ الشريعة بعد اكتمالها إلى جميع الناس، بنَصْب أول حافظ ومبلِّغ ومفصِّل لهذه الشريعة، وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولو لم يفعل لم يبلغ الرسالة، ولكنه فعل، ويستحيل أن لا يفعل بعدما أمره الله-عزّ وجلَّ-، لأنه لا ينطق عن الهوى، لذلك بادر إلى تنصيبه، ثم التركيز على أهل البيت من ذريته (عليهم السلام)، لأجل أن يعلِّموا هذه الشريعة للأجيال وللعالمين على مرِّ العصور، ويفصِّلوها ويوضحوا غوامضها على النحو الذي أذن الله-تعالى- لهم به وأودعه عندهم رسول الله  (صلى الله عليه وآله).

فالولاية التي جعلها الله-تعالى- لهم هي حكم شرعي أوليّ، فكما هي حكم شرعي في تبليغ الأحكام، فهي حكم شرعي في تطبيق الأحكام، لأنهم أول الناس وأولى الناس بتطبيق هذا الحكم الشرعي الذي يُشرِف على كل الأحكام الشرعية والفرائض، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالطريقة التي لا تحيد عن واقع الأمر ورضى الله-سبحانه- قَيْد شعرة.

 

خضوع الولاية لسقف الأحكام الشرعية، والدليل عليه

ليس بإمكان هذا الوليِّ من خلال ولايته أن ينسخ حُكْمًا موجودًا، أو يحدِث حُكْمًا غير موجود في الشريعة.

فإذا حصل ما يُوهِم ذلك عند من لم يطَّلع على الشريعة، وعلى كيفية استكشاف الشريعة، فهو تشريع من قِبلهم، من الذي أودعه الله-تعالى- عند رسوله (صلى الله عليه وآله) وعندهم، إلى أن يحين وقت الحاجة إليه، أو أنه حدث في موضوع ذلك الحكم عنوان، يجعل هذا الموضوع موضوعًا لحكم آخر، وليس كل عنوان مما يستوجب ذلك.

ويدلّنا على هذا -بالإضافة إلى ما ذكرنا-، قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}([1]).

وقد خاطب الله-تعالى- رسوله الأكرم وأفضلَ الخلق بهذا الخطاب، حتى لا يتجرأ أحد، أو يخطر بباله، أن يجتهد بجَعْل الأحكام التي توافق أذواق الناس وأهواءهم، بحجة المصلحة والاقتناع بإسلام مزيَّف، ومبادئ هدامة.

فالولاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، المجعولة في القرآن الكريم، ولاية مطلقة، فلهم الحكم والحكومة والتصرف في شؤون المؤمنين وغيرهم، حتى في شؤونهم الخاصة، كما تقدم في أول الكتاب بشكل مفصَّل.

ولا إشكال في أن هذه الولاية والحكومة، محكومة وخاضعة لسقف الأحكام الشرعية التي حملوها وبلَّغوها، وبذلوا دماءهم الزكية في سبيلها، فهم الذين صنّفوها وفصّلوها، وبيَّنوا الغامض منها على النحو الذي أذن الله-تعالى- به.

وقد وردت على لسانهم الروايات العديدة الدالة على ذلك، وأنهم لا يقولون بغير قول الله-سبحانه-، وما خالف قول ربِّنا لم نَقُلْه، أو هو زخرف، أو باطل، أو اضربوه عرض الحائط.

فإن هذه المضامين من الروايات تدل بوضوح أنهم لا يحق لهم أن يفتوا أو يحكموا بغير ما أمرهم الله-تعالى- أن يحكموا به:

مثل: ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجلّ، ممن له سوط أو عصا، فهو كافر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله))([2]).

وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله  (عليه السلام): (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجلّ، فهو كافر بالله العظيم)([3])

وفي رواية الخثعمي: قال: (سمعت أبا عبد الله  (عليه السلام) يقول: من عرف أنّا لا نقول إلا حقا فليكتفِ بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم، فليعلم أن ذلك دفاع منّا عنه)([4]).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)([5]).

وعنه (عليه السلام): (كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)([6]).

ولا توجد سُنة مخالفة للسنَّة، حتى السنَّة التي نصب فيها الفقيه وليا، (من خالف كتاب الله وسُنَّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله) فقد كفر)([7]).

وفي حديث عن الرضا (عليه السلام)عن آبائه، قال (عليه السلام):(قال رسول الله  (صلى الله عليه وآله):.. ومن دان بسماع من غير الباب الذي فتحه الله لخلقه فهو مشرك، والباب المأمون على وحي الله محمد (صلى الله عليه وآله))([8]).

فلم يخصِّصوا عامًّا ولم يقيِّدوا مطلقًا، ولا أوضحوا مبهمًا أو متشابهًا جزافًا، إلا بإذن الله-تعالى- وبمقتضى الوديعة والأمانة العظيمة التي حمّلهم الله-تعالى- إياها.

ولا يجوز لنا أن نقول نعلم أو لا نعلم، بأنهم استعملوا هذه الولاية بما يتنافى مع الحكم الشرعي الذي جاؤوا به وأمروا بتطبيقه.

وإذا ورد في بعض الروايات ما يوهِم ذلك، فهو تشريع صادر من زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أودعه الله والرسول (صلى الله عليه وآله) عندهم، ليظهروه وقت الحاجة لدوام الشريعة إلى يوم القيامة.

ولذلك يتعامل فقهاء الشيعة مع الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام)بما يوهم أنهم حذفوا أو أضافوا، يتعاملون معها على أنها تشريع من قِبلهم أو نَقْل للتشريع الذي أُودع عندهم.

لذلك لا يجوز لنا أن نفترض أنهم عطّلوا حكمًا أو جاؤوا بحكم جديد غير ما شرع، لأن كل ما يصدر منهم من قول أو فعل هو تشريع.

وهذا معنى حجية السنة التي تعني قولهم وفعلهم وتقريرهم.

ونقول من باب المثال الذي لا يخفى على أحد: أنه لو ورد في القرآن الكريم حرمة الربا، ثم قالوا: لا ربا بين الوالد وولده، فهذا لا يعني أنهم أنكروا حرمة الربا بينهما، ورأوا أن المصلحة أن لا يكون بينهما ربا محرم، بل يعني بيان ما هو الربا المحرم في القرآن، لأنهم (عليهم السلام) عدل القرآن، وهم القرآن الناطق.

وكما لو ورد في القرآن الكريم طهارة الماء وطهوريته، وأنه يحرُم شرب الماء النجس، وتحرم الصلاة في النجاسة، ثم صلى الإنسان في ثوب يعتقد طهارته، وبعد ذلك تبيَّن أنه نجس، فإذا سأل الإمام وأجابه: إن صلاتك صحيحة، ولم تأثم بشرب الماء، فليس معنى ذلك أنهم بدلوا حكم الماء الطاهر، بل قد فصّلوا الأحكام الشرعية الكلية على هذا النحو من الموارد الفقهية.

فلا أحد يدّعي، ولا يجوز أن يدّعي أحد: أنه وجَد فتوى مخالفة للشريعة صادرة من قِبلهم، أو أنه وجد حكمًا من أحكام ولايتهم ليس محكومًا بسقف الشريعة التي حملوها هم وتلقّوها ونشروها.

وفي أي مرتبة نضعهم إذا ادعينا عليهم التناقض في الأقوال والأفعال واختراع حكومة لا تخضع لشريعة الإسلام، ولا تستظل بسقفه الرفيع الواصل إلى حدود العرش!.

 

الوجه في تأخير بيان أحكام النبي (صلى الله عليه وآله)إلى عهد الأئمة (عليهم السلام)

وعلى هذا الأساس نستضيء بهَدْيهم، ونستنبط الحكم من رواياتهم، وهكذا نفعل ونتعامل مع عمومات الكتاب والسنة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)التي وردت مخصِّصاتها في زمن الأئمة (عليهم السلام)، وبعد حضور وقت العمل بتلك العمومات.

فهل نلتزم بنسخها! فإن ذلك نسخ للقرآن.

أم نقول بأنها مخصِّصات وجِدت من زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وظرفها الشريعة الكاملة، وقد أَوْكل رسول الله (صلى الله عليه وآله)بأمر الله تعالى بيانها إليهم (عليهم السلام)!

وقد ورد في بعض الروايات: أن أحكامًا من تلك الأحكام التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بقيت عند صاحب الزمان (عجل الله فرجه)، وهو يبيَّنها بعد ظهوره الشريف، لأنها لذلك الزمان، كما أن العمومات التي لم تخصَّص في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)كانت لزمان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم تخصّص، لأنه دَوْر تأسيس، ولم تحصل حاجة لهم بهذه المخصِّصات في علم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

فإن هذا التأخير إلى زمانهم  (عليهم السلام)لا يعني أن تشريعهم هذا تشريع، فضلاً على أن يكون تشريعهم مقدَّما على التشريع الإلهي.

كما لا يعني أن ولايتهم حكَمَتْ على كل الأحكام الأولية، بل ولايتهم كانت محكومة بسقف الأحكام الفرعية الكلية وخاضعة لها، وإلا فهي لَغْو ولا داعي لهذه الولاية، لأنها لو كانت فوق سقف الأحكام الشرعية لكانت تأسيس دِين جديد غير الدِّين الذي بلّغوه ونشروه.

فلماذا لا تكون ولايتهم خاضعة لسقف الأحكام ما داموا هم أصحاب تلك الشريعة ولا يزالون موجودين إلى يوم القيامة!

لذلك لا يعني بيان الأحكام المتأخرة من قِبلهم تقدُّمَها على الأحكام الأولية، وإنما تأخرت لمصلحة في التأخير، أو لوجود مفسدة في البيان المتقدم.

والوجه في ذلك: أن الأحكام الشرعية بأجمعها -بما فيها الولاية التي تعتبر الخادم الأمين لتلك الأحكام-، نقول: هذه الأحكام التي شرعها الله على لسان نبيِّه الأكرم  (صلى الله عليه وآله) ثابتة في الشريعة الإسلامية المقدسة من أول تشريعها، فظرفها الزماني هو ظرف الشريعة الذي انتهى بانقطاع الوحي ورحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)إلى ربه -تبارك وتعالى-.

ففي هذه المساحة الزمنية، لا تقدُّم ولا تأخُّر لحكم على حكم في هذا الظرف، وإنما التقدم والتأخر بين الأحكام في مراحل البيان والتبليغ، وكما قلنا بأن هناك أحكامًا مؤجلة إلى أن تظهر شمس الهداية بظهور الحجة (عجل الله فرجه).

 

لسان المعصومين (عليهم السلام)واحد

فلو ورد خاص، وورد بعده العام، وبعد أن عُمل بالخاص، نستكشف أن مضمون العام ثابت في الشريعة من حين زمان الخاص المتقدم، ولكن بيانه من قبلهم  (عليهم السلام) تأخّر.

ولا نقول بأنهم قد عمَّموا الحكم لغير مورد الخاص، بل نقول أن الخاص المتقدم مخصِّص للعام المتأخر من الآن، ولكن بيانه قد تأخر.

فالعمومات والمخصِّصات، سواء أتقدمت أم تأخرت، فإن مضمونها ثابت، ومشرّع في ظرف واحد، وهو ظرف واحد، سواء أَكان الالتزام بالتخصيص أم بالنسخ، أي نسخ العام للخاص، أو العكس مثلاً، فإن ذلك مشرع من أول الأمر، وقد تأخر بيان بعضها عن بعض.

بل حتى لو التزمنا بأنهم هم شرّعوها متأخرًا إذا كان هذا الحق ثابتًا لهم، ولسنا بصدد بيان هذا الأمر، فهو على أي حال تشريع ثابت من الأول، أو قد أذن الله لهم به.

ولأجل ذلك يصح لنا أن ننسب مضمون حديث صادر عن إمام متأخر إلى الإمام المتقدم وإن لم يصدر منه هذا الحديث.

 نعم، ننسب المضمون الشرعي لألفاظ الحديث.

والسرّ في ذلك: أنهم جميعًا كمشرعين أو ناقلين للتشريع، بمنزلة متكلم واحد، لأن لسانهم وكلامهم جميعًا، لسان دين وحكاية شرع وشريعة.

ففي بعض الروايات عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله  (عليه السلام): الحديث أسمعه منك، أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك، أرويه عنك قال: سواء، إلا أنك ترويه عن أبي أحب إليَّ، وقال أبو عبد الله (عليه السلام) لجميل: ما سمعته مني فارْوِه عن أبي )([9]).

وفي رواية حماد بن عثمان وغيره قالوا: (سمعنا أبا عبد الله  (عليه السلام) يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ )([10]).

وفي رواية عن الرضا  (عليه السلام) في حديث طويل قال: (أخبرني أبي عن آبائه عن رسول الله  (صلى الله عليه وآله) قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.. إلى أن قال: يا ابن أبي محمود إذا أخذ الناس يمينًا وشمالاً فالزم طريقنا، فإنه من لزمنا لزمناه ومن فارقنا فارقناه، فإن أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه، يا ابن أبي محمود احفظ ما حدثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة)([11]).

 وغير ذلك من الروايات المتواترة التي يصعب إحصاؤها لكثرتها.

فالعموم الصادر عن الصادق  (عليه السلام)، مقارن في تشريعه مع العموم الصادر عن أمير المؤمنين، بل عن الرسول  (صلى الله عليه وآله)، فهو مخصص وإن تقدم بيان الخاص وتأخر بيان العام لمصلحة في التقديم أو مفسدة في التأخير، وكذلك العكس.

وهذه هي طريقة فقهاء الشيعة في كيفية الاستدلال واستنباط الأحكام الشرعية، ولم يخترعوا هذه القواعد وغيرها من القواعد الفقهية أو الأصولية كقانون وضعي استحسنوه، وإنما أخذوها جميعًا من روايات أهل البيت (عليهم السلام)، معتمدين في ذلك على سائر العلوم النظرية التي لها مساس وتنفع في الوصول إلى النتيجة.

 

ليس للفقيه ولاية التصرف في حكم الله تعالى

وبعدما اكتمل دورهم (عليهم السلام) في هذا النحو من التشريع، وانتهى عصر التشريع، وتكاملت الشريعة في آخر مراحلها قبل غياب الحجة (عجل الله فرجه)، أصبحت أحكام الشريعة واضحة عند الذين حملوها وسائر التابعين لهم والذين يأخذون منهم، وأصبحت المهمة مهمة التطبيق، بالإضافة إلى التبليغ المتواصل لما حملوه.

وكانت المسؤولية من قبل إمام العصر (عجل الله فرجه)أن يغيب إلى أن يأذن الله له بالخروج، وأن يجعل من قبله أولياء ونوابًا بأوصافهم، كما جعل في حضوره بأشخاصهم، فكان جعل الولاية من قبله (عجل الله فرجه).

كان هذا الجعل -المأذون فيه من قبل الله تعالى- آخر حكم شرعي يصدر من المعصومين، فكانت هذه الولاية خدمة لأحكام الشريعة، وتحت سقفها جعلوا هذه الولاية للفقهاء، كما جعلوا لهم ولاية الإفتاء، ليصونوا الشريعة، ويقيموا حدودها ويؤدوا فرائضها.

فهي ولاية في التطبيق والتنفيذ، ورعاية مبادئ الإسلام، وشؤون الأمة، ليرجع الموالون إلى هؤلاء الفقهاء في كل ما يحتاجون فيه إلى الإمام، وفي كل ما من شأنه أن يكون له وليّ وكانت الولاية فيه للإمام حال حضوره.

فالفقهاء يتولون شؤونهم على ضوء الشريعة، لأنهم فقهاء وعارفون بالشريعة وكيفية تطبيقها، وعارفون بالإسلام كدين اجتماعي، هدفه البشرية جمعاء، ورحمة للعالمين.

فلا بد وأن ينظروا إلى الأفراد والمجتمعات الإسلامية لتنظيم أمورهم على هدي الشريعة، لا على رؤيتهم ونظرهم في تغيير الأحكام بحسب الظروف إيجابًا ونفيًا.

ولذلك أمروا مواليهم بالرجوع إلى من يثقون بدينهم وعلمهم، وحرصهم على الدِّين، وأمانتهم في توجيه الناس لرضى الله-تعالى-، وصلاح شأنهم من خلال تطبيق الشريعة التي آمنوا بها.

وإذا احتاجوا في شأن من شؤونهم الدنيوية التي لها في الشريعة حكم شرعي يحتاج إلى وليّ، فالفقيه هو الولي.

حتى لو لم يكن هناك فقيه، فالمؤمنون -بعد فرض عدالتهم- لا ينقصون في الأمانة عن الفقهاء، بعد فرض معرفتهم بالحكم.

والمقصود بذلك أن الفقهاء لا يشرّعون، ولا يزيدون في الأحكام، شأنهم في ذلك شأن العدول عندما ينحصر الأمر بهم.

ولا نعني أن (عدول المؤمنين) لهم سعة ولاية الفقهاء، بل هناك موارد ثبت في الشريعة أنهم يتولونها، وذلك لا يعني أن الولاية مقدمة على هذا الحكم الذي يتولونه، بل معناه أنهم (عليهم السلام) -مع ولايتهم- لهم كرامة من الله في الدنيا والآخرة، بأن يكونوا خدمًا لهذا الحكم وتطبيقه.

فإذا لم تكن للأئمة  (عليهم السلام) ولاية التشريع بعد اكتمال الشريعة من قبلهم، فكيف يمكن أن تكون الولاية التي يعطونها للفقهاء لها هذه السعة والصلاحية التي تتقدم على الأحكام الكلية الإلهية، أو تعطلها مع أنها جعلت لأجلها!!

وليست الحكومة بذاتها هدفًا للشريعة حتى تكون الولاية بهذا الشكل، بل الحكومة جعلت في التشريع الإسلامي لتحكم بالإسلام وأحكامه، لا باسم الإسلام فقط وإن عطّلت بعض أحكامه أو جلّها، فإن تفسير الولاية بالعناوين التي تؤهلها للحكم والحكومة بمعنى الدولة، سوف تتلاشى معها الأحكام بشكل تدريجي، وتضيع الفرائض بنسبة من الضياع، فتفقد تلك الأحكام قداستها وقيمتها، وتصبح القيمة لعنوان الدولة مهما كانت أحكامها ما دامت تحكم باسم الإسلام.

 

ونقول عوداً على بدء:

إذا لم تكن للولي المعصوم ولاية التصرف في تغيير وتبديل الحكم الذي حمله من قبل الله، فكيف يمكن أن يعطي هذه الصلاحية لإنسان يخطئ ويصيب، ويتأثر بالمؤثرات الخارجية، ويتأثر بقناعاته التي يعذر فيها إن كانت مخالفة، ولكن هذه القناعات عندما تكون في صميم الأحكام الشرعية، فلا يكون معذوراً عندما تكون نتيجة الأخطاء هو خفاء الأحكام، أو اضمحلالها وتلاشيها على مر العصور.

إذا كان المعصوم، الذي يعلم الغيب، ويعلم ما يريده الله وما لا يريده، لا يملك الصلاحية المدعاة في سعة ولاية الفقيه من التقدم على سائر الأحكام، مع أن ولاية المعصوم لو تقدّمت فهو معصوم، فكيف تكون ولاية الفقيه مقدّمة!

وكيف يمكن للأحكام أن تعطي الفقيه ولاية ليعطل أحكام الله إذا اقتضت المصلحة المفروضة غير مصلحة تطبيق الشريعة!

وكيف يكون في تعطيل الحكم الشرعي مصلحة للإسلام والمسلمين!

وهل مصلحتهم إلا في تطبيق الدين الإسلامي الذي يضمن جميع مصالحهم!

وكيف يمكن أن يعطي الإمام الولاية للفقيه ويضعه موضعًا قابلاً لأن يحكم بغير ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله ولسانهم (عليهم السلام)! فيكون بذلك مصداقًا لكثير من الآيات والروايات التي تلعن من يغيِّر أحكام الله ويحكم أو يفتي بغيرها.

فقد ورد -بالإضافة إلى آيات {ومن لم يحكم بما أنزل الله} المتعددة-: الروايات الدالة على ذلك من قبلهم  (عليهم السلام).

 

ونتيجة المسألة:

أن الفقيه له الولاية في الفتوى والقضاء، وفي سائر الشؤون العامة والخاصة التي تحتاج إلى الوليِّ وليس من يقوم بها، ومنها تنظيم أمور المجتمع المسلم، حتى بإقامة حكومة إذا كان الظرف مؤاتيًا لذلك، على أنَ تكون هذه الحكومة خاضعة بشكل كليِّ لأحكام الشريعة الإسلامية، حتى إذا كان ذلك أرش الخدش.

وبناء على هذا: فإنَّ حكم الحاكم حينئذٍ نافذ، ولا تجوز مخالفته، ولا يجوز نقضه من المجتهد الآخر، حتى لو كان هذا المجتهد الآخر هو المحكوم عليه.

وقد دلَّنا على ذلك قوله (عليه السلام) في ما تقدم من الروايات: (فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنما استخفَّ بحكم الله، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله وهو على حدِّ الشرك بالله).

فإن هذه الروايات صريحة في أنه إذا حكم الحاكم بحكم تجب إطاعته، ولا تجوز مخالفته لأنه حكم الله.

والمراد بحكمهم (عليهم السلام): هو الأحكام الواصلة إلينا من قبلهم (عليهم السلام) بالطرق المعروفة، وهي أحكام ظاهرية.

فحُكْم الحاكم: حُكْم ظاهري يجب العمل به، ويحرم نقضه، وهو نافذ على المجتهد الآخر أيضًا، فيما إذا كان حكمه مبنيَّا على وجود حق ثابت، أو حقيقة ثابتة يريد تنجيزها، فيحكم حينئذٍ، حتى تبلَّغ هذه الحقيقة لمن لا يعرفها، كالحاكم بالهلال.

فحُكْمه حكم ظاهري ينظر إلى تنفيذ الواقع، فيكون حجة ما لم يقطع بخلافه.


 

([1]) الحاقة: 44-45-46.

([2]) الوسائل ب5 أبواب صفات القاضي ح1.

([3]) الوسائل ب5 أبواب صفات القاضي ح2.

([4]) الوسائل ب9 أبواب صفات القاضي ح3.

([5]) الباب السابق ح13.

([6]) الباب السابق ح14.

([7]) الباب السابق ح16.

([8]) الوسائل ب10 أبواب صفات القاضي ح14.

([9]) الوسائل ب8 أبواب صفات القاضي ح11.

([10]) الباب السابق ح26.

([11]) الوسائل ب10 أبواب صفات القاضي ح13.