خلاصة الكلام

لا إشكال في ولاية الفقهاء على الإفتاء والقضاء الشامل لإقامة الدولة الإسلامية بنظام خاضع بكل تفاصيله لأحكام الشريعة الإسلامية ، الخالية من التأويل والعناوين التي تخضع الموضوع لحكم من الأحكام الشرعية قهراً ، والخالية من الأحكام الولائية التي تخلق حكماً لم يكن موجوداً في الشريعة ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله أثناء البحث .

وإطلاق هذه الوكالة والولاية من قبل الإمام (عليه السلام) ظاهر في كل ما يحتاجون فيه إلى الإمام (عليه السلام)مما لا حكم فيه بالخصوص ، أو فيه حكم وليس من ينفّذه إلا الإمام (عليه السلام) ، فيكون تنفيذه بيد الفقهاء ، ولا يشمل ما يتمكنون من التصرف فيه .

ولا فرق في ذلك بين ما يكون الولاية فيه للناس أو بين الناس أو على الناس ، كل ذلك في غير الأمور التي لها أولياء شرعيّون كولاية الإنسان على نفسه وماله وزوجته وابنه الصغير وسائر أملاكه .

فالفقيه ولي فيما يحتاج إلى ولاية ، وهو في غير ولاية الأولياء الجبريين ، كالولاية على النفس والمال والعرض ، فإن هذه لا تحتاج إلى ولاية حتى مع التعارض مع المصالح العامة ، وإنما تحتاج إلى إعمال قواعد التزاحم بين المصالح والملاكات .

ولا فرق في ذلك بين أن تكون صلاحية الفقيه من باب الحسبة أو من باب الولاية الثابتة بالنص ، إلا في القيمومة التي يجعلها الولي فإنها تزول بزواله بناء على الحسبة كما تقدم ، ولا تزول بناء على الولاية .

هذا من الناحية النظرية الفقهية ..

وأما من حيث الممارسة والتطبيق : فنحن نؤمن بدين الإسلام لأنه عقيدة راسخة نقيّة ، ونظام شامل كامل للإنسان بكل شؤونه وحيثياته  في التعامل مع الله والكون والإنسان ، قال تعالى في سورة البقرة{آمَنَ الرَّسُولُ بٍمَآ أُنزِلَ إليهِ مِن َّربِّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ َومَلائكَتِهِ َوكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفِرقُ بَينَ أحَدٍ مّن ُرسُلِهِ ، وقَالُوا سَمِعنَا وَأطَعنَا غُفرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيكَ المَصيُر}([1]).

أنزل الإيمان والسمع والطاعة من حيث الماضي والحاضر والمستقبل والعبودية المطلقة لله تعالى في سياق النظام العام ، وهو خضوع كل موجودات الكون بما فيها الإنسان للخالق المبدع .

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ}([2])، { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}([3]).

وقد جاء في كثير من آيات القرآن الكريم التحدث عن الإتقان في موجودات هذا الكون التي أنعم الله بها على الإنسان ، والدقّة في نظامها المحكم ، وتنبيه الإنسان وحثّه على الاستفادة منها في تكوينه وفي سلوكه الاختياري ، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}([4]).

لأن الإنسان في أوضاعه التكوينية هو أحد موجودات هذا الكون لا يستطيع أن يدخل الفوضى في شؤون حياته ، ولا أن يتحكم في أي جزء من أجزاء هذه الحياة بما هي حياة من خلقه ونشوئه وتكوّن خلاياه وتفاعل عناصره وتدرّج قواه واحتياج ذلك كله إلى كل موجودات الكون الظاهرة فيها والتي لا نعرفها ، فإن ذلك كله يجري بصورة آلية محدّدة وضابطة  محكمة لا يتعداها ، شأنه في ذلك شأن سائر موجودات الكون ، وليس في وسعه أن يتخلف عن السنن الكونيّة ويتبع سواها ، وذلك لأن النظام سنّة من سنن الكون العامة ، تتساوى كل الموجودات في الإذعان لها ، وهذا أحد معاني عبادة الموجودات الكونية لخالقها ومبدعها : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }([5])، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}([6]).

وما كان الله تعالى الذي سخَّر هذه الموجودات لخدمة الإنسان وفائدته ، ليترك الإنسان كعاقل مفكّر ليكون بدعاً من هذه الموجودات ومحروماً من هذا النظام في سلوكه الاختياري ، لأن قانون الكمال والاستكمال الإنساني في الإنسان مثله في سائر الموجودات واحد لا يتعدد ، فكما خضع الإنسان في الاستكمال التكويني في حياته المادية البدنية إلى قوانين ثابتة ، كذلك في استكماله الاختياري في سائر شؤونه وتصرفاته ضمن موجودات الكون لا بد وأن يخضع إلى قانون ثابت يسير عليه بمحض اختياره ، وهو الذي دعا إليه القرآن الكريم باتّباع ما أنزل على رسوله وعلى الرسل قبله ، لأنه أنزل نظاماً كاملاً متناسقاً ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولم يترك الإنسان ليضع النظام لنفسه ، وإلا لكانت الفوضى في حياة الفرد الواحد فضلاً عن المجتمع والمجتمعات ، لأن هذا النظام يتبدل بين عشية وضحاها حسب الأهواء والغرائز والرغبات ، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }([7]).

ولذلك لا بد وأن يكون نظام الإنسان وشريعته في ممارسة حياته من صنع الخالق الذي يعلم بما يصلحه ويفسده {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}([8])،  لأنه خلقه على الفطرة ، فطرة الارتباط بخالقه .

فإذا غلبت هذه الفطرة وطغت عليها الشهوات والغرائز البشرية ، يشذّ هذا الإنسان وينجرف ، لأنه يشعر بفراغ عقله من العقيدة والنظام ، فيمارس في أعماله ما تمليه عليه رغباته وملذّاته المؤقتة الفانية حسب أدواره وأطوار حياته .

فلا بد من صحوة العقل والقلب وتنبيهه للرجوع إلى الفطرة والارتباط بالخالق في أوضاعه السلوكية كما في أوضاعه التكوينية ، فإذا آمن بما أنزل الله إليه ، ورجع إلى فطرته الأصيلة ، تهون عنده لذائذ الحياة وشهواتها المدمّرة أمام المثل العليا التي يطمح إليها الإنسان بفطرته والتي يريدها الله للإنسان ، لأن مسألة الإيمان بالله والرسالة والرسول ليست مسألة نظرية ليضع لنفسه القانون الذي يتوهمه من قبل نفسه ، بل هي مسألة عملية تعني مراقبة الخالق في كل حالاته وأعماله ، أي في مطابقة تلك الأعمال والتصرفات مع شريعة الله ونظامه المحكم، فيصبح الميزان في كل حالاته هو رضا الله والارتباط بأوامره ونواهيه، وهذا الارتباط هو الميزان والمقياس في حياته الثانية الأخروية التي هي الحياة الحقيقية المناسبة للإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}([9]) لأنها الحياة الأبدية الخالدة ، لأن حياة الإنسان في الدنيا التي خلق فيها وخلقت من أجله ليست هي عمر الفرد من الناس بل عمر البشرية جمعاء ، فالحياة الحقيقية للإنسان هي الحياة الخالدة ولا ينال الإنسان تلك الحياة بنعيمها لمجرد أنه عاش في الدنيا السنة والسنوات ، بل ينالها بما يقدّمه في الدنيا على مرّ العصور على أساس أن ما يقوم به في هذه الحياة من الأعمال والتصرفات هو دائم بدوام الدنيا في العطاء الدائم النافع ، وذلك لا يكون إلا بالتركيز على نظام واحد لا يتغير من حيث الجوهر والمضمون وتطبيق هذا النظام والقيام على تطبيقه .

وقد آتت تضحيات الأنبياء السابقين وجهادهم مع من تبعهم من أممهم نتائجها إلى حيث رسالة الإسلام وخاتم الأنبياء الذي جاء بالشريعة الجامعة الشاملة والمتضمنة لكل ما مضى من الأحكام والشرائع في الماضي ، لأن الله تعالى علم بأن هذه الشريعة تكفي لمعالجة البشرية إلى نهاية عمر الدنيا {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}([10])، ولم ينقطع عطاء هذه الرسالة برحيل الرسول (صلى الله عليه وآله)، لأن الله تعالى أوكل صيانة هذه الشريعة ونشرها وتطبيقها إلى المعصومين من أهل بيت الرسول (عليهم السلام)، وقد انقطعت صلة السماء بالأرض من حيث التشريع ، لأن الشريعة استوعبت كل ما علم الله احتياج البشر إليه، ولكنها لم تنقطع الصلة من حيث تبليغ ما خفي وتأخّر بيانه ، ليكون تبليغه على يد المعصومين من أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام)، وكذلك لم تنقطع هذه الصلة برحيل المعصومين (عليهم السلام)، لبقاء خاتمهم الحجة#إلى أن يأذن الله بظهوره ، ولم يكن غيابه ليؤثر على مسيرة الشريعة وتطبيقها بعد أن أبلغوها كاملة وبعد أن نصب الفقهاء لصيانة ما وصلهم من قبل المعصومين والقيام على رعايته وتطبيقه .

فكان الأئمة المعصومون (عليهم السلام)هم الكلمة الطيبة ، الذين شبّههم القرآن الكريم بالشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}([11]).

لأنه لا يوجد في علم الله وقدرته ماضٍ وحاضر ومستقبل ، بل الأمور كلها منكشفة لديه كما هي في واقعها التي كانت عليه والتي ستكون عليه والتي هي عليه ، لأنه تعالى هو عالم الغيب والشهادة ، فلا زالت كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله)وأهل البيت (عليهم السلام)في أقوالهم وأفعالهم وتعليماتهم تؤتي أكلها باستمرار وبازدياد على مرّ العصور ، مع تظاهر الزمان وأهله عليهم وعلى مبادئهم من جميع الجهات وعلى جميع المحاور ، ولا زالت تلك التشريعات والمبادئ التي طرحوها جديدة خلاّقة وكأنها وضعت في هذا العصر بالذات ، وقد جاء  في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)  : (هلك خزّان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم  مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة) ، ولذلك كانت المقولة المسلَّمة عند المسلمين : (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)([12])تأكيداً وتفسيرًا لقوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}([13])، فإن هذا المعنى غير محتمل في رسول الله (صلى الله عليه وآله)سيد الخلق المعصوم من كل عيب ونقص، ولكنه قضية شرطية على نسق قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}([14]).

فكانت هذه الآية وذلك الحديث المعروف ، تنبيهاً للخلق وللفقهاء وللمسلمين إلى أن لا يقبلوا إلا ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه (عليهم السلام)من حيث التشريع {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}([15])ولا يطيعوا غيره ، ومن حيث التطبيق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}([16]).

لأن الحجج المعصومين علموا الفقهاء على التوصل إلى أحكام الله حتى التي تخفى منها ، حيث وضعوا لهم القواعد التي نعبّر عنها بالأحكام الظاهرية ، وبعدما ركّزوا هذه الشريعة في قلوب الأوائل من الفقهاء ومارسوا معهم العمل من البداية وأثناء الغيبة الصغرى ، وقعت الغيبة الكبرى بعدما تمّت كفاءة الفقهاء بالطريقة التي رسموها لتكون لهم الولاية على استنساخ أحكام الشريعة ونشرها والقيام على تطبيقها والحكم بين الناس وعلى الناس وللناس .

وحيث إن الشريعة مستوعبة لكل ما يحتاجه الناس ، والمعصومون يعلمون بذلك كما علمهم الله ، فلا يرد أي احتمال لأن يكون لأي فقيه صلاحية خلق حكم أو إحداث حكم لم يكن موجوداً ، وقد أوضحنا ذلك أثناء البحث عن ما يسمى بالحكم الولائي بشكل مفصّل ، وقد بيّنا الوجه في نفوذ تلك الأحكام التي يتوهم أنها أحكام جديدة ولائية ، بل هي أحكام شرعية أصلية إما بنفسها أو بقواعدها العامة حسب ما تقدم .

فولاية الفقيه بالنحو الذي ذكرناه حكم واقعي صادر من الإمام بمقتضى ولايته العامة المطلقة في كل شؤون الشريعة ، ومتفرعة عن جانب وحيثية من حيثيات ولايته ، وليست بديلاً عن كل جوانب ولايته ، فإن ذلك يعني دعوى العصمة للفقيه عصمنا الله جميعاً من الزلل .

ونستخلص من ذلك أن الفقيه الولي الحقيقي من قبل صاحب الأمر (عجل الله فرجه)هو الذي يمارس عملية الجهاد في سبيل الله بأعلى مراتبها التي هي أفضل الجهاد كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (الجهاد الأكبر جهاد النفس) بالمفهوم الواسع الذي يتفرع عليه كل مصاديق الجهاد بمجاهدة النفس في المال والنفس والعناوين المضلّة من الرفعة والشهرة والتسلط والحكم، ولذلك كان جهاد النفس هو أفضل الجهاد ، لأن جهاد النفس كما نفهم من الكتاب والسنة وسلوك المعصومين والصالحين ليس مجموعة قيود وضوابط رادعة فقط ، بل هو قوة بنّاءة وحركة دائمة تدفع بالنفس الإنسانية إلى النمو المستمر والعطاء الدائم .

وهذه هي العبادة الحقيقية من جهة ، والتحرّر الحقيقي من عبودية الشهوات والغرائز المفسدة والمهلكة للبشرية والإنسان التي تجعله كما قال الله : {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}([17]).

هذا هو التحرير الحقيقي البعيد عن الدعايات والعناوين والمظاهر والتأويلات الفاسدة ، هذه هي العبادة الحقيقية والإخلاص الحقيقي الذي هو أخفى من دبيب النملة الخرساء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، والذي مثّله أمير المؤمنين (عليه السلام)  بإحجامه عن قطع رأس عمر بن عبد  ودّ لمدة لحظات ليهدأ فيها غضب البطل المحارب حتى لا تكون ضربة الآخرة ثأرًا لنفسه ، مع إنها ليست كذلك، ولكن ليعلم الذين يعملون ويجاهدون في سبيل الله بأن تكون كل حركاتهم لله وفي سبيل الله الذي  {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}([18]) ، فكانت ضربته لله محضًا كما تدل تصرفاته في كل حياته الشريفة المباركة ، وعلى هذا الأساس كانت كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله): (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه) والتي قال بعدها : (ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين) ، لأن العبادة والإخلاص بمضمونه ودوافعه، لا بكميته .

 

ونقول عوداً على بدء :

إن الذي يعمل بأحكام الشريعة، ويدعو إلى العمل بها من باب القيمومة بكل مراحل القيمومة المنصوص عليها في الشريعة، والشاملة لإقامة الدولة الإسلامية ، لا بد له من ملاحظة جميع الخصوصيات والسلبيات، والمقارنة بينها، فإذا ظلم  من حرّم الله ظلمه، والظلم قبيح بكل موارده ، أو سلب إنساناً حقّه المادي أو المعنوي ، أو قتل إنسانًا يرى ضرورة  قتله للتخلص من إزعاجه أو من باب الحقد والانتقام ، لا بد وأن يلاحظ كل هذه الدوافع ويمسح كل ما في نفسه من السلبيات التي تخصّ هذا الإنسان ، فقد أمر الله بأن لا تأخذكم عند إقامة الحدّ رأفة أو رحمة ، فإن النص على هذا بالخصوص يعني صفاء النفس من كل السلبيات وتوجّهها إلى الناحية الأخرى ، وهي أن يطبّق عليه أحكام الشريعة بلا رأفة ، فقد افترضت الآيات سلامة نفس الفاعل من كل السلبيات ، واشتراط خلوّها من الرأفة والأسباب الموجبة للعفو بعد أن ثبتت الجريمة في  حقّه ، ولم تشترط العقوبات بأن نبحث عن عناوين المصلحة والشعائر لنحكم عليه بموجبها ، لأن شعائر الله والمصلحة هي ما نصّ عليه الشارع المقدس ، وليست كياناً متميزاً محسوسًا جالساً على عرش عظيم لنصوّره بأوهامنا ومصالحنا ، بل إن الشعائر وتعظيمها من تقوى القلوب لا من صنع النفوس ، لأن مورد التشريع هو الإنسان ، والتشريع له وعليه ، ولذلك شرع الله الأحكام لجميع حالات الإنسان  على طبق المصالح والملاكات التي يعلمها وحده  ولا يعلمها الإنسان .

والأحكام الشرعية هي الضوابط والمؤشرات إلى تلك المصالح والمفاسد في فعل أو ترك، وهذه الأحكام هي التي تكبح النفوس الجامحة عن الاسترسال في شهواتها وسائر غرائزها ، وليست هي التي تؤجج نار العداوة والبغضاء بين الناس ، لأن النفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، بل الذي يغري بالعداء والبغضاء بين الناس هو الشيطان الرجيم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}([19]).

 

وختاماً نسأل الله أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وأن يتقبل أعمالنا ويعفو عن الخطأ  في أقوالنا إنه سميع مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير.

وقد وقع الفراغ منه في 10/ 12/2004م، الموافق 28/10/1425هجرية .

  

á  á  á


 

([1]) البقرة : 285 .

([2]) الحج : 18 .

([3]) الإسراء : 44 .

([4]) آل عمران :190 .

([5]) القمر : 49 .

([6]) فصلت : 11 .

([7]) النساء : 82 .

([8]) ق : 16 .

([9]) العنكبوت : 64 .

([10]) الأنبياء : 107 .

([11]) إبراهيم : 24-25 .

([12]) بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار، مؤسسة الأعلمي طهران: ج4 ص168، ب13 في أمر الكتب ح7 .

([13]) الحاقة : 44-45 -46 .

([14]) الأنبياء : 22 .

([15]) الحشر : 7   .

([16]) النساء من الآية 59 .

([17]) الفرقان من الآية 44 .

([18]) التوبة من الآية 111 .

([19]) فاطر من الآية 6 .