العدد العاشر / 2007م  / 1428هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

دور الخط العربي في تطوير وسائل الكتابة

د. محمد إسماعيل بغدادي

 

مقدمة

تعتبر اللغة العربية من اللغات الحية في العالم، وقد توجهت إليها أنظار الباحثين على مرّ العصور باعتبارها لغة القرآن الكريم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}([1]).

وكان العرب يفخرون بلغتهم لأنها تجمع بين الفصاحة والبلاغة وحسن التعبير، أضف إلى ذلك أنها لغة تعتمد على الحرف والتشكيل بالحركات.

وقد مرت هذا اللغة بمراحل عديدة من التطور، فأعجمت حروفها، ومن ثم أرسيت قواعدها الإعرابية ورتبت بحيث أصبح يسهل على المتعلم تلقيها، ثم اهتم العرب بكتابة الخط العربي وأنشأوا المدارس المتخصصة بتدريس هذا العلم وظهر الإبداع عبر التاريخ في اختراع العديد من الخطوط.

وكان الحكّام يعتمدون على الخطاطين والنسّاخ في حفظ التراث وتقدم الحضارة، واستعانوا بهم في مراسلاتهم وفي التدوين والترجمة، وكان الخطاطون في بادئ الأمر يكتبون على الجلد وورق النبات إلى أن تفتقت عبقرية الإنسان الصيني عن اكتشاف صناعة الورق، فاستفاد العباسيون عند فتحهم لتلك البلاد من هذه الصناعة ونقلوها إلى بلادهم، واعتبرت هذه الصناعة في حينها إنجازًا لا يضاهيه اليوم إلا ثورة الكمبيوتر والمعلوماتية، فازدهرت الكتابة وكثر التأليف خاصة بعد أن توصل العرب إلى سر صناعة الورق([2]).

وعلى هذا الأساس طوَّر الخطّاطون والنسّاخ أساليبهم وأقلامهم واعتمدوا على هيكلية جديدة للخط العربي تتسم بالمرونة والطواعية مما جعله قادرًا على التلاؤم مع الخامات الجديدة والمختلفة، وربما كانت هذه أول خطوة في طريق انتقال الخط العربي من طوره الأدنى إلى أطواره الوظيفية الجمالية الأعلى([3]).

نهضة الخط العربي

على أثر اختراع غوتنبرغ في القرن الخامس عشر الميلادي لحروف الطباعة انحسرت مهنة الخطاطين وحلّت مكانها الآلة التي استطاعت أن تواكب كثرة المؤلفات عند إدخالها إلى البلاد العربية، وكان موقف الخطاطين منها سلبيًا في بادئ الأمر لأنها قضت على مورد رزقهم وقلّصت دورهم، ولكن هذا لم يستمر طويلاً خاصة بعد أن بدأت بعض المعوقات في تطوير الخط العربي بالظهور، وتبين أن هذه الآلة لا تستطيع القيام بكل ما كان يقوم به الخطاط، فشكّل ذلك حافزًا لبذل الجهود ومضاعفتها من قبل الخطاطين، فسعوا لاكتشاف ما يناسب ويسهل أمور الطباعة بدل الوقوف في وجه هذا التطور.

ولم يتوقف الاعتراض عند الخطاطين الذين من حقهم الاعتراض، بل صدر أيضًا ولدواع خبيثة عن طريق بعض المتغربنين الذين بدأوا هجومًا على الحرف العربي بهدف بذل الجهود من أجل تغييره وتبديله ليلائم مهام الطباعة فلم يفلحوا.

واستمر السجال في هذا الموضع ردحًا من الزمن وظهرت بنتيجته مشاريع عديدة لتطوير الحرف العربي، وكان أخطرها شانًا على مستقبل اللغة تلك التي دعت إلى إلغاء بعض من حروف اللغة، لا بل جميعها واستبدالها بالحرف اللاتيني اقتداءً بتجربة أتاتورك في تركيا.

عقدة الحرف العربي المطبوع

قبل وجود الكمبيوتر، كان الحرف العربي يشكّل عقدة تقنية بالنسبة لعلميات صفّ الأحرف، استعدادًا للطباعة، وذلك ضمن ما يسمى "التنضيد"، في حين كانت البداية في تقليد يد الخطاط في كل تركيبات الحرف.

هذه العُقدة ساهمت في تعطيل الحرف العربي عن مواكبة التطوّر المطبعي بالسرعة التي شهدها الحرف اللاتيني، وذلك لأسباب عديدة، أهمها:

- اتصال الحروف العربية ببعضها في أكثر الأحيان، كما انفصالها في أحيان أخرى، فمثلاً كلمة "إجراءات" تتكون من سبعة أحرف، فيها ستة أجزاء منفصلة، وكلمة "فسنكفيكهما" فيها عشرة أحرف في جزء واحد متماسك.

- إن شكل الحرف العربي الواحد يتغيّر وفقًا لموضعه في الكلمة، ومن الناحية النظرية هناك أربعة أشكال يمكن لكل حرف أن يتخّذها، وهي معروفة لدى شركات الطباعة بالأسماء التالية:

الأولى (Initial) :  هـ /  بـ

الوسطى (Midial) : ـهـ / ـبـ

الأخير المتصل (Final) : ـه / ـب

الأخير المنفصل (Isolated) : ه / ب

 

الشكل (1)

- الكتابة المشكولة التي تقتضي وضع الشكل لحركات الإعراب على مختلف أوضاعها وأشكالها كما يرد في الشكل (2).

إن هذه العُقَد التقنية تحتاج الطباعة فيها إلى عدّة آلاف من الأشكال المختلفة حتى تعطي للكتابة العربية المنضدة حقّها.

"جرت محاولات عديدة لتخطي العُقد التقنية في تنضيد الحرف العربي، وكانت أبرز محاولة قام بها المستشرق الأميركي "غالي سميث" في بيروت عام 1849، إذ إنه استطاع - بمعاونة بعض الخطاطين المحليين - استنباط حرف طباعي أنيق محدود بعدد أشكاله التي لم تتعدّ الـ 900 شكل، اعتمدت كلها على تقليد خط النسخ"([4]).

ومهما كان من أمر تلك الحروف، المستنبطة، فإنها عجزت، إلى حدّ ما عن الاحتفاظ بمسحة الجمال المطلوبة التي يضفيها قلم الخطاط.

"إن التحدي الكبير الذي واجه المطبعة العربية بدأ مع أوائل القرن العشرين، عندما أخذت آلات التنضيد الميكانيكية تغزو مطابع الغرب، ولم تكن هذه الآلات تستوعب أكثر من 125 شكلاً، فكيف كان لها أن تستوعب مئات الأحرف الذي تتطلبه الطباعة العربية" ([5]).

ورأى الطباعيون العرب أنه لا مفرّ لهم من الابتعاد عن شكل الحرف التقليدي المخطوط ولو بنسبة ضئيلة.

وبعد جهد مضنٍ، توصّل - بل تجرّأ - الصحافي اللبناني المغترب "سليم مكرزل" إلى اختصار الحروف العربية إلى 122 شكلاً، بما في ذلك الأرقام والفواصل وغيرها، وقد صدرت جريدته النيويوركية "الهدى" أثناء الحرب العالمية الأولى، بالحرف الآلي المختصر الذي وضعه، ثم توصّلت شركة غربية إلى اختصار هذا الرقم إلى 96 حرفًا.

وقد توصّل صحافي لبناني آخر، وهو المرحوم "كامل مروة"([6]) إلى تنضيد جريدته البيروتية "الحياة" آليًا بواسطة 88 شكلاً فقط من أشكال الحروف العربية.

ولعل الشيخ إبراهيم اليازجي - الصحفي اللبناني - كان من الروّاد الأوائل الذين ساهموا أو تبنّوا قضية اختصار الحروف العربية، فقد صدر له كتاب في أواخر مراحل حياته، تحت عنوان "نجعة الرائد"، نُضّدت مادته بالحرف العربي.

الآلة الطابعة

بدأ الإنسان الكتابة، ولم يألُ جهدًا في تطوير الوسائل التي تساعد على تحسين وضعية الكتابة ومستوى أدائها، كانت اليد وما زالت الوسيلة الفعّالة للكتابة، رغم ما استحدثه الإنسان من آلات يضبط بواسطتها الكتابة.

ظهرت الآلة الكاتبة (type writer)، وقد كان لهذا الاختراع أثره الواضح على كل نشاطات الكتابة اليدوية، التي كان يقوم بها الخطاط.

ظهرت هذه الآلة كوسيلة مباشرة للعمل الطباعي في المطبعة، التي كانت - كما أشرنا - تعتمد على طريقة صف الأحرف وتنضيدها، وبذلك ساهمت هذه الآلة في تطوير أعمال الكتابة، واختزلت الكثير من الوقت.

سارت الآلة الكاتبة ردحًا من الزمن، وهي تستخدم بالطريقة اليدوية، ثم ارتقت إلى آلة كهربائية، وصارت إمكانية الكتابة السريعة موفورة وأكثر فاعلية من ذي قبل، كما أن هذا التطوّر الفعال في استخدام الآلة، سار خطوات حثيثة على مستوى تحسين النوعية والأداء، حتى لحرف النسخ ذاته.

مضى عصر الآلة الكاتبة قدمًا، إلى أن حلّ محل هذه الآلة التطوّر النوعي في عالم الاتصالات، عن طريق استخدام الكمبيوتر (الحاسوب) الذي كان له دور في وضع الأحرف الجاهزة عند بدايات وضعه في العمل.

ظهور الأحرف الجاهزة (letraset)

إن مسيرة تطور الخط العربي توقفت عند الأنواع الرئيسية الستة ([7]) التي كانت نتاج حقب مديدة من الزمن، واعتاد المتعلّمون للخط أن يحاكوا هذه الخطوط انطلاقًا من فكرة أنّ من يجيد هذه الخطوط يصبح خطاطًا وفنانًا في مجالات كتابته.

إن المتعلم لهذه الخطوط لا بد أن يمرّ بمرحلة التقليد والمحاكاة، تمامًا كما يبدأ الطفل المتعلم بالتدرب على أشكال الحروف وصور الكلمات، ولكن منطق التطور يفرض عدم الاكتفاء بالتقليد، وإنما محاولة الإبداع والابتكار.

فما السبب وراء هذا الجمود؟

ربما يمكن القول بأن معارضي استخدام الكمبيوتر اليوم لأغراض الخط العربي هم أنفسهم المحافظون على التقليديّ من الخطوط، عندما دعوا إلى التمسك بأساليب الكتابة بالريشة أو القصب الغزار([8]) فحسب، وأن يتجنبوا استخدام الكمبيوتر.

إن هؤلاء قد أضروا بالخط العربي حيث أرادوا النفع، لأن إرهاب الفكرة جعل معظم الموهوبين يبرمجون أنفسهم على إتقان المحاكاة والتقليد.

وقد يُعزى الإبداع إلى قمة الإبداع في الخطوط الستة، وخاصة في ميدان الخط الثلث ولوحاته الفنية.

وهنا تحضرني ملاحظة، عندما زرت أحد أبرز خطاطي زمانه في لبنان والعالم العربي، الأستاذ كامل البابا، عندما كان يقوم بإعداد وتحضير اللوحات الفنية لمشاهير الخط العربي ليضمّنها كتابه (روح الخط العربي).

لقد تناول الخطاط البابا ورقة كتبها الخطاط التركي الشهير حامد الآمدي، وفيها كتابة لآية قرآنية بالخط الثلث المتشابك، ودعاني إلى التأمل بها وملاحظة أوجه الإبداع فيها، مع أنه هو كتب لوحات خطية مشابهة وبالخط الثلث أيضًا!

إن التمسك بأقلام الخط الستة جعل ممتهني الخط يؤدون أعمالهم بشكل نمطي، وبصيغ متكررة لا تلقي بالاً إلى خصوصية كل حالة أو وظيفة، فكتبوا بها على كل شيء، من الورق وإلى الزجاج إلى القماش، إلى الرخام، إلى النحاس، وغيره، مما جعل البعض يتنكب الخطوط الستة المألوفة إلى الخطوط الجاهزة (letraset) أو في الحالات الأفضل إلى البعض من ذوي اللمسة الخاصة من الخطاطين على قلّتهم.

والخطوط الجاهزة كما تظهر في نموذجيها العربي واللاتيني، جاءت حلاً مرتقبًا إلى حينٍ، للاستغناء عن الخطاط من جهة، ولتوخي السرعة في العمل من جهة ثانية، لكن سرعان ما أثبت الواقع بطلان هذا الحل، ناهيك عن فقدان اللمسة الفنية التي يضفيها الخطاط على عمله، خصوصًا في كتابة مانشيت الصحف التي تخضع لعوامل التبدل والتغيّر في الحقول الإعلانية، بحسب الإثارة في الأحداث والتفاعل معها.

شكل رقم (3)

نموذج (letraset): للأحرف اللاتينية بحسب قياساتها وأنواعها المتعددة

 

شكل رقم(4)

نموذج (letraset): للأحرف العربية الجاهزة بحسب أنواعها المتعددة

لم تتوقف مسيرة تطور الخط العربي بشكل قاطع، والدليل على ذلك الأشكال الموجودة في الخطوط الجاهزة (letraset) على تشابهها، أو في تلك المستعملة في الكمبيوتر، وذلك بغض النظر عن مستوى جودة بعضها أو رداءة البعض الآخر.

إنما الذي توقف هو إيجاد أنواع جديدة من الخطوط غير تلك المعروفة منذ القدم، والنموذج المبيِّن للأحرف العربية الجاهزة يظهر تشعبات للخط الكوفي ما عدا الفرع الأخير، فهو متشعب عن خط النسخ بذي قاعدة عريضة.

والمرحلة السابقة كانت تمكّن الخطاط من ابتكار أو إبداع خط جديد لأنه كان متفرغًا كليًا لكتابة الخط، فقد كانت المؤسسة أو المملكة أو السلطان، تدفع راتبًا إلى الخطاط لقاء التفرغ على الخط، وكان طوال النهار يُجري الدراسات ويتابع الأفكار ليأتي بأشكال جديدة، إنما منذ فترة صار الخط مجرد حرفة يعتاش منها الخطاط، وصار متفرغًا للخط التجاري.

"... لكن الدراسة لإنجاز خط جديد تواجه مشكلة شكل الحرف الجديد الذي ستطرحه للناس الذين اعتادوا على رؤية حرف قديم، إذ سيبقى بعيدًا عن إدراكهم ورؤيتهم، إضافة إلى أن الحرف العربي "يواجه حربًا" لتعدد الأفكار والاتجاهات وتعدد النظر إلى الحرف، وتعدد الميول للحرف وتنوّعه، ذلك أن إتقان الحرف يحتاج إلى الكثير، ومن بعد ذلك تأتي مرحلة التطوير والابتكار"([9]).

بين الحروف الجاهزة وكتابة الخط

أشرنا فيما مضى إلى محاولات مضنية قام بها العاملون في الصحافة، للحد ما أمكن من الاعتماد على عمل الخطاط في كتابة خطوط الصحف والمجلات، وذلك لأسباب عديدة، أظهرها متابعة الخطاط لعمله الليلي، والكلفة الناتجة عن هذا العمل.

وإزاء هذه المحاولات صُممت حروف في معظم أنواع الخط العربي، فكانت حروفا مستقلة بجميع تركيباتها.

في البداية كانت الحروف مطبوعة على ورق لماع، يتم تركيب العنوان بها عن طريق قص الحروف المناسبة له وتلصيقها على ورقة أخرى بالترتيب المطلوب، وهذا العمل بحد ذاته يختص به - عادة - الخطاط، فهو أدرى الناس معرفة بتركيبات أنواع الخط العربي، بذا، لوحظ أن الوقت الذي يستغرقه الخطاط في تركيب عنوان ما بالحروف الجاهزة أكثر من تخطيطه بالقلم على الورق مباشرة، بالإضافة إلى عدم توافق الحروف مع بعضها بالآخر الذي قد يسببه قص الحروف.

شهدت الطريقة الأولى بعض التحسين، حيث طبعت على ورق شفاف لضمانة التوافق بين الحروف، ولكن الخطاط بقي هو المحور الرئيسي في إنتاج العنوان بهذه الطريقة.

فاتجهت أنظار الصحفيين إلى طريقة أخرى تلغي وظيفة الخطاط بالدرجة الأولى، والتي تتمثل في الابتعاد عن تركيبات الخط العربي التقليدي.

أولى البوادر ظهرت في الشام، فقد تم هناك اختراع الحرف العريض أو خط القاعدة، وهو خط أقيم على أساس من الخط النسخي، أضيفت إليه قاعدة عريضة موحدة، ويمكن للمُخرج الصحفي المنفذ - أو أي مصمم آخر - أن يقوم بهذا العمل، وذلك نظرًا لعدم احتوائه على تركيبات الخط العربي التقليدي.

ولوحظ أن طريقة الحروف الجاهزة - خصوصًا المضغوطة - كانت هي الملجأ الوحيد الذي توجه إليه صحفيو العصر، فنشطت حركة استنباط الحروف الحرة نشاطًا مطردًا، حتى باتت الصحف العربية - العالمية منها والمحلية - تعتمد عليها في كتابة عناوينها الرئيسية وأبوابها الثابتة، وهذا أتاح فرصًا عديدة لشركات الطباعة العالمية، التي فتحت صدرها للخطاطين المبدعين والمجددين، أن يقدّموا لها مشاريعهم، وهي تقوم بتبنّيها وطبعها على الورق اللادن، بالمواصفات الفنية، تمشيًا مع طريقة تركيب الحرف العربي، كل حسب نوعه.

هذه الثورة التقنية الجديدة التي قامت - أساسًا - على إلغاء القلم وتجميد المداد الأسود في محابره، أثارت الغيرة في نفس الخطاط الصحفي، فقام - من جانبه - بمحاولة التصدي لها، كانت نتيجتها ظهور الخطوط العريضة التي تشبه الحروف الجاهزة مع شيء من الأناقة.

وهكذا قامت معركة خفيّة بين الحروف الجاهزة والخطوط التقليدية، دامت سنوات طويلة، والغلبة في النهاية تكون دائمًا لكل ما يتصل بالتقنية الحديثة.

وتبقى مسألة الجودة هي وحدها القابلة للنقاش والجدل، فالواقع أن بعض مصممي الحروف الجاهزة قد أفرطوا في الفوضى غير المجدية، في تقديم خطوطهم المبتكرة، إذ استمالتهم الناحية التجارية أكثر من سواها.

"ولتعزيز تصديهم لهذه الثورة التقنية، استحدث الخطاطون الصحفيون والإعلاميون خطوطًا حرة على أساس الخط الرقعي، وهي خطوط مرنة ليس لها قاعدة، ونظرًا لمرونتها وعدم اعتمادها على قاعدة موحدة، صعب إدخالها في مجال الحروف الجاهزة، فبقيت - إلى جانب الخطوط التقليدية - السلاح الوحيد في أيدي الخطاطين يصدّون به هجمات التقنية المنهالة على أقلامهم بين الفينة والأخرى"([10]).

دور الكمبيوتر في حلّ عقدة الطباعة

"ثم جاء دور الكمبيوتر ليختزل الحروف العربية إلى أدنى حد ممكن، وقد أمكن تذليل العديد من الصعوبات مثل الحروف (س ش ص ض) التي كانت مكونة من ثلاثة أجزاء لكل حرف، فاختصرت على آلة التثقيب إلى حرف واحد لكل منها، إذ يقوم الكاتب بالضرب على مفتاح واحد لأي نوع من حروف السين - مثلاً - وعلى العقل الآلي أن يميز - حسب البرنامج - الحرف المطلوب، هل هو في أول الكلام أو في وسطه أو في آخره".

كان لا بد من استعمال الحاسبات الالكترونية، مع التصفيف الفوتوغرافي، الشيء الذي مكّن الطبّاع العربي من تقليد يد الفنان الخطاط الماهر في حركتها الحرّة الدقيقة، فقد رسم الخطاطون حروفًا أبجدية عربية كاملة، بأشكالها الأساسية ومركباتها الفنية، بمختلف أصنافها، لهذا العقل الآلي، وأعطوا لتناسق أجزاء كل حرف - منفردًا كان أم منفصلاً - أهمية كبرى من حيث القيمة الفنية المعروفة في خط النسخ.

ويرى الخطاط البرجاوي بأن التقنيات الحديثة المستخدمة في الكمبيوتر قد أثّرت بشكل كبير على الخط كمهنة أساسية في بعض القطاعات، كالصحف مثلاً([11]).

وقد حلّ الكمبيوتر محل الخطاط في هذا المجال بشكل كبير، ولكن لا ننسى أن هذا الجهاز مع ما يتمتع به من إمكانات كبيرة، فهو لا يستطيع إخراج الخطوط الفنية بشكل جيد، ونرى ذلك واضحًا في أغلب المطبوعات والصحف التي تصدر حاليًا في مختلف البلاد العربية.

والمعلوم أن الكتابة الصحفية سواء من قبل الخطاط أو من قبل الكمبيوتر، لا تتطلب جهدًا فنيًا إبداعيًا، لذلك يمكن للكمبيوتر أن يلبّي أغراض السرعة في هذا المجال، ولا قدرة له على جودة الإخراج أو أي أداء فني، وذلك كما ورد في مقابلة مع الخطاط جمال غلاييني الذي يعتبر بأن الكمبيوتر أثّر عمليًا على نوع من الخطاطين، وهم الخطاطون الصحافيون، أما الخطاط الكلاسيكي فلا يزال لديه إمكانية العمل وإظهار الإبداعات التي يعجز عنها الكمبيوتر.

هل الخلل في خطوط الكمبيوتر يعود إلى الكمبيوتر نفسه أم إلى الخطاط ؟

يجيب الخطاط بعيون: "السبب في الكمبيوتر، لأنه جمع للأحرف، وبسبب التقنيات، لأنه قبل استخدام الحرف الحالي للكمبيوتر كانوا يستخدمون أحرف (صف اليد)، وقد كان الحرف في غاية الجمال، لأن (سبّاك الحروف) كان يختار أحسن الخطاطين، وهو يفتخر أن الخطاط الفلاني قد كتب له، واليوم الكمبيوتر يحوّل الخط إلى أحرف تجارية، وقد كانت محاولات لإدخال الحرف (الديواني) إلى الكمبيوتر لكنها فشلت، ومن الصعوبة بمكان إدخال الديواني للكمبيوتر"([12]).

واعتبار ذلك صعبًا يعود إلى طبيعة الحروف الخاصة بالديواني التي يتصرف بها الخطاط كما يقتضيه ذوقه وفنّه، فإذا ابتعد عن هذا الاقتضاء يفقد الخط كثيرًا من ميزاته، وهذا ما لا قدرة للكمبيوتر على تدبيره.

أما ما يقال عن الخلل في الخطوط بسبب الكمبيوتر، فليس المقصود به كآلة، وإنما من اعتمد العمل بواسطته من المبرمجين والمهندسين.

وبرأي الخطاط محمود البرجاوي([13]): أنه ليس هناك من برامج للخط العربي في الكمبيوتر، وإنما هناك برامج تستطيع صناعة أشكال الحروف (عربية وغير عربية)، وذلك بعد أن تتم كتابة الحروف بمختلف أشكالها المفردة والمتصلة، ووصلات الحروف ونقاط الالتقاء بين الحروف كافة، وكذلك النقاط والفواصل وعلامات التشكيل والتزيين وعلامات التعجب والاستفهام.

وبعد ذلك يُصار إلى تصويرها على جهاز خاص (Digital Scanner) ومن ثم يقوم مهندس مختص بإعادة رسمها على شاشة الكمبيوتر بدقة متناهية، ولا بدّ من وجود صاحب الخط عند عميلة إتمام رسم الحروف، وذلك حتى لا يحصل تحوير في شكل الحرف فيأتي غير ذلك الذي قام الخطاط بكتابته في الأصل.

أما بخصوص برامج الخط العربي، فإن هناك بعض البرامج المصنوعة في مصر وإيران، قد حاولت أن تتجاوز هذه العقبات في بعض الخطوط، ولكن نسبة النجاح في هذه المحاولات ليست كبيرة، وبالتالي لا تعتبر هذه البرامج من الأهمية بحيث أنه يمكن الاعتماد عليها، ولا بد لمن يريد أن يستعمل هذه البرامج لكتابة عنوان فني بشكل صحيح من أن يكون خطاطًا، لذلك تنتفي أهمية استعمالها.

أهمية الارتقاء بالخط العربي

من البديهي القول بأن للخط العربي أهمية ذات بُعد حضاري، فضلاً عن الدور الوظيفي المشهور، الذي كان وسيبقى ما دامت يد الإنسان موجودة، إنْ من الناحية العملية أو من الناحية الفنية.

ولذلك يقتضي الأمر عدم الاكتفاء بتعداد مآثر أجدادنا، دون أن ندرك أن العقل والإرادة والبحث والسعي إلى التطور، بروح مبدعة وثّابة كانت وراء إنجازاتهم، كلٌ في مجاله.

وفي مجال الخط العربي، نرى لزامًا أن نكمل ما بدأه أسلافنا، لا أن نجترّ ما أنجزوه، وأن نستفيد من منهجهم الذي قام على الفرز المستمر والانتخاب والتوليد والاشتقاق والإضافة والابتكار، تبعًا للجماليات العامة وجماليات الوظيفة وخصوصياتها، وأساليب تنفيذها وأغراضها وغيرها من العوامل المؤثرة([14]).

إن العلم والثقافة والوعي هي ما نحتاج إليه إلى جانب الموهبة والفن، للارتقاء باستخدام الخط العربي لنلبي المتطلبات التي يطرحها التطور ومستجدات الحياة، بصيغ جمالية دائمة التطوّر، تشمل وظائفه كلها من أدناها إلى أرقاها، من الكتابة اليدوية إلى اللوحة الفنية، الأمر الذي سيضرّ حقًا بالنسّاخ ومهنة الخط العربي.

ولكن هذا الارتقاء سيفتح الباب واسعًا أمام الفنانين من الخطاطين ذوي الموهبة والثقافة والوعي، وعلى هؤلاء تقع مسؤولية تصميم الأشكال الملائمة لبرامج الكمبيوتر وتطويرها باستمرار.

"الكمبيوتر - ما من شك - إنجاز علمي، وموجة لا يمكن الوقوف في وجهها، وفي تطور مستمر، ولكن عالميًا، أما عربيًا فلا، فهناك آلاف (الموديلات) للحرف اللاتيني، وكله معتمد، ولكن الحروف العربية الموجودة على الكمبيوتر التي قد تبلغ الألف، لا يستخدم منها إلا ثلاثة أحرف أو أربعة أحرف، نراها أنا وإياك على الجريدة، على المانشيت، حرفًا مطبعيًا مكبرًا، وعلى المتن حرفًا صغيرًا وحسب. والحرف الطباعي مقروء، لكن دون روح"([15]).

إن الدعوة للارتقاء بالخط العربي موجّهة أولاً وأخيرًا إلى الخطاطين المبدعين القلائل، وذلك بأن يثبتوا دورهم وفاعليتهم في التجديد بدل أن يترك هذا الدور على عاتق المتطفلين ممن يمتهن العمل في برامج الكمبيوتر دون أن يكون لهم فيه أي باع ولا شأن.

إنها دعوة إلى الخطاطين المبدعين الذين عملوا ويعملون على تحسين صورة الحرف العربي عن طريق رسمه وملاءمته شؤون الطباعة في الكمبيوتر.

انتهى

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

[1] - يوسف الآية 2.

[2] - منير الشعراني، ليست المشكلة في الخط العربي أو الكمبيوتر، مجلة العربي، ع470، وزارة الإعلام بدولة الكويت 1998، ص164.

[3] - المصدر نفسه.

[4] - عبد العزيز الصويعي، الحرف العربي تحفة التاريخ وعقدة التقنية، الجماهيرية للنشر، ط1، 1989، ص171.

[5] - ورد ذلك في مقابلة مكتوبة مع الخطاط اللبناني محمود برجاوي عام 1999.

[6] - نقيب سابق للصحفيين في لبنان.

[7] - الكوفي - الثلث - النسخ - الديواني - الفارسي - الرقعة .

[8] - نبات من القصب الدقيق تُصنع منه أقلام الكتابة ، وغالبًا ما ينبت على ضفاف الأنهر ، ولا يستعمل إلا بعد يباسه ، واشتهر في هذا المجال الغزار الإيراني لجودته.

[9]- مجلة العهد ، بيروت ، الجمعة 18 جمادى الأولى 1421هـ، مع الخطاط محمود بعيون ص21.

[10]- عبد العزيز الصويعي، الحرف العربي ، ص198.

[11] - جاء هذا القول من ضمن مقابلة مكتوبة مع الخطاط محمود برجاوي، وهو خطاط جريدة السفير لفترة طويلة، وواضع حروف الكمبيوتر الذي تكتب به الصحيفة.

[12] - المصدر السابق نفسه.

[13] - المصدر السابق نفسه.

[14] - عبد العزيز الصويعي، الحرف العربي، ص168.

[15] - مجلة العهد ، بيروت ، مع الخطاط محمود بعيون ص21

أعلى الصفحة     محتويات العدد العاشر